(1)
ما أكثر ما كتب عن أبن خلدون وقدمته من أبحاث ودراسات, في الشرق والغرب, طيلة القرنين الأخيرين, حتى أن هذه الكتابات تشكل اليوم, بحق, مكتبة غنية تزداد امتلاء يوما بعد يوم ولكننا بتصفح فهاري هذه الكتبة, بل بتصفح كل كتاب أو بحث مما تتضمنه, لا نكاد نعثر على بحث متكامل واحد يتناول البعد الديني في مقدمة أن خلدون. فبينما أشبعت بحثاً النواحي الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والسياسية والحضارية والفلسفية والأدبية والمقارنة والمنهجية, لم تنل المسألة الدينية أي اهتمام يذكر, على عنقها واتساعها في المقدمة, وعلى ارتباطها بهذه الجوانب آنفة الذكر جميعاً.
أكثر من ذلك, أن أحد الباحثين الغربيين وهو دي بوير T. J. DE BOER (الهولندي) يذكر (أن الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون – العلمية بقد ما أثرت الأرسطوطالية الأفلاطونية). ويشير باحث آخر هو ناتانيل شميت N. SCHIDT الأستاذ في جامعة كورنل بأمريكا أن أبن خلدون (إذا كان يذكر خلال بحثه كثيراً من آيات القرآن فليس لذكرها علاقة جوهرية بتدليله, ولعله يذكرها فقط ليحمل قارئه على الاعتقاد بأنه في بحثه متفق مع نصوص القرآن) !! وثمة مستشرق ألماني هو فون فيسندنك VONWESENDONK يقول أن أبن خلدون (تحرر من أصفاد التقاليد الإسلامية في درس شئون الدولة والإدارة وغيرهما, وأنه حرر ذهنه – كذلك من القيود الفكرية التي ارتبطت في عصره بالعقائد العربية الصحيحة ).
أنه إذا لتحد ذو طرفين يجد الباحث المسلم نفسه معه في وضع يحتم الرد عليه … سيل من الأبحاث والدراسات لا تتضمن أي التفات جدي صوب البعد الديني في مقدمة أبن خلدون وحشد من الشاهدات, تلك نماذج منها, تريد أن تبرز لنا أين خلدون كما لو لم تكن لمعطياته أية علاقة بالأرضية الدينية منهجاً وموضوعاً.. بل أننا لو توغلنا في قراءة الكثير من تكلك الأبحاث لرأيناها, بسبب من تشنجها المنهجي أو المذهبي, وجزئية رؤيتها ونسبيتها, تسعى لإخراج أبن خلدون من الدائرة الطبيعية التي عاش فيها وتحرك خلالها وتلقى عمله من مواردها, وبني قدراته ونزعاته في امدائها, وتقذف به بعيدا إلى أجواء غربية ما كان يعرف عنها شيئا وما خطرت له على بال .. أن بعضاً من هذه الأبحاث في أقصى حدتها, جعلته مفسرا ماديا للتاريخ لا يحسب للمؤثرات اللامادية : غيبيه وروحية, أيما حساب, بينما صورته أبحاث أخرى كما لو كان مفكراً علمانياً Secularism على الطريقة الغربية, يؤمن بالدين .. نعم .. ولكنه لا يقحمه في نظريته عن مجرى التاريخ البشري إلا لماما.
أنه انفصام غريب بين الرجل وبيئته, ذلك الذي سعت بعض تلك الأبحاث إلى تأكيده بالأدلة الناقصة, والمبتسرة حيناً, وبالقسر المتشنج حينا آخر.
ويبقى أبن خلدون رغم هذا كله, أبن الإسلام, وليد البيئة الإسلامية الشرعية, وتبقى مقدمته, على مستوى الفكر ومستوى الحياة, ثمرة ناضجة من ثمارها المترعة .. ومن وراء هذا وذاك يبقى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله عليه السلام المؤشران الأبديان اللذان يصوغان البيئات ويبعثان الرجال .. كما تبقى مسألة الانفصام الموهوم تلك كإسقاط الأجنة من أرحامها التي تؤويها وتغذيها وتكون شخصيتها, عملية غير أخلاقية وغير علمية في الوقت نفسه.
ولئن كان أبن خلدون غير ملم تماما بالنهج القرآني في تفسير الواقعة التاريخية بسيب من جدة هذا العلم : تفسير التاريخ, يومذاك وعدم اتسام المناهج التفسيرية للقرآن الكريم بالتكامل والشمول .. فإنه كان – من جهة أخرى – على إلمام تام بمعطيات كتاب الله في حقل التاريخ والاجتماع, وبالمواضيع المتشعبة المتشابكة الغزيرة التي تضمنها .. وها هنا على مستوى الموضوع, جاءت مقدمة أبن خلدون امتداداً للرؤية القرآنية في مساحات واسعة من فصولها والتزاما بها في الوقت نفسه.
(2)
إن الدراسة التي يجدها القارئ بين يديه هي جانب من محاولة متواضعة للرد على ذلك (التحدي ) ذي الطرفين .
عدت إلى المقدمة مرة أخرى ومرتين وثلاثاً وكنت قد مارست تدريسها لطبلة قسم التاريخ في كلية الآداب سنوات عديدة, ضمن موضوع (مناهج البحث وفلسفة التاريخ) وأخذت تتكشف لي يوما بعد يوم, المادة البنائية الغنية التي تعطي الدليل العلمي القاطع على أن أبن خلدون لم يكن ألبته ما قاد دي بوير (غير متأثر بالدين في آرائه العلمية) فسنرى بعد قليل حجم التأثير الديني في مقدمته, كما لم يكن ألبته, كما قال ناتا نيل شمت (يذكر خلال بحثه كثيراً من آيات القرآن دون أن يكون لذكرها علاقة جوهرية بتدليله, وإنما ليحمل قارئه على أنه يحثه متفق مع نصوص القرآن), وسنرى عما قريب مدى الارتباط العضوي بين الآيات التي يستشهد بها وبين صيرورة الوقائع التاريخية كما أنه لا يأتي بالنص القرآني تملقا لقرائه وإنما انبثاقاً عن رؤية عقيدية عميقة الجذور في فكره ونفسه .. كما أننا سنضع أيدينا على أكثر من دليل في تضاد كامل مع ما قاله فيسندنك من أن أبن خلدون ( تحرر من التقاليد الإسلامية في درس شئون الدولة والإدارة وغيرهما) وسنجد أبن خلدون ينطلق من هذه التقاليد المرنة, الحرة, في أساس تركيبها, لمعالجة شئون الدولة ولا إدارة وغيرهما, وإن ليس التيبس المزعوم في هذه التقاليد سوى إفراز مرضى يقذف به أناس لوعتهم المذهبية النصرانية أولا والموضوعية بأنماطها المختلفة ثانياً..
تكشفت لي المادة البنائية الغنية فجمعتها قدر الطاقة وأقمت منها دراسة مطولة هذا جانب منها فحسب.
(3)
وللوهلة الأولى يبدو للذين يمرون على مقدمة أبن خلدون مسرعين أو وهم يحملون تصميماً ذهنياً مسبقا على إخضاعها لتصورهم, أن حديث أبن خلدون عن دور الدين في المسائل التي عالجها إنما هي مسألة عرضية, تأتي متقطعة مقحمة هنا وهناك .. إلا أن النضرة المتجردة, المتمعنة في معطيات أبن خلدون ومنهجية تقودنا إلى شيء نقيض لهذا تماماً : إن أطروحاته عن الدين لهي جزء أساسي من رؤيته الشاملة للحركة التاريخية, وأنه يعود إليه من كافة الزوايا وعبر مختلف الاتجاهات, من أجل أن يستكمل بنية تفسيره التاريخي الذي إن كان قد حدثنا عن أبعاده الاجتماعية والجغرافية والسياسية والإدارية والثقافية فإنه ولا ريب فسح مجالا للبعد الديني .. مجالا واسعاً..
إنه حتى المسائل الاجتماعية, تبدو لذي النظرة السطحية, متقطعة, مبعثرة, هنا وهناك, ولكن جمعها وتمحيصها ومقارنتنا تقود الباحث إلى تكوين تصور واضح عن رؤية أبن خلدون لهذه المسألة .. وهذا يمكن أن ينسحب على المسألة الدينية أو أي من المسائل التي عالجها .. أن تقسيم مقدمته إلى أبواب وفصول ومقاطع صغيرة حتم عليه هذا الذي يبدو للوهلة الأولى تقطيعا وإقحاماً..
وليست معطيات أبن خلدون أفكارا مسطحة ذات وجه واحد, إنما هي تمتاز بطبيعتها التركيبية فما يقدر أحد على تبين دور ( العصبية) في بناء الدول تبين دور الدين مثلا, وبالعكس .. إن الرجل يرفض التفسير (الواحدي) للتاريخ, التفسير الذي يتشنج على عامل واحد فحسب, يسعى من خلاله لاحتواء الوقائع التاريخية كلها ويطرد من (الحضرة) سائر العوامل الأخرى.. كما فعلت, وتفعل اليوم, الكثير من المذاهب الوضعية في تفسير التاريخ ..
إن أبن خلدون يختار الطريق الآخر : الرؤية الشمولية للتاريخ, وتلك بحق – ميزة من أهم مميزات مقدمته, إنه يسلط الأضواء على الأسباب والدوافع كافة, تلك التي تلعب دورها, بشكل أو آخر, في بنية وصيرورة الواقعة التاريخية .. إنه يقلب هذه الواقعة ليشاهدها عن كثب من مختلف الزوايا, ولهذا نجده يعالج الموضوع الواحد – أحيانا – أكثر من مرة, ويعود إليه في أكثر من فصل أو باب .. وهذا أمر طبيعي يتساوى مع ضرورات منهجه الشمولي المركب الذي يرفض الرؤية الواحدة والتسطيح.
(4)
ومن أجل ألا نقع في مظنة المبالغة والتعميم يجب أن نعترف مقدما بأنه ليس كل ما قاله أبن خلدون صوابا سواء على مستوى المقدمة كلها أو على مستوى البعد الديني فيها.. فما أكثر الأخطاء التي تضمنتها مقدمته, وما أكثر الثغرات التي يمكن للنقد أن يتسرب منها إلى قلب المقدمة.
إن رفع الرجل إلى منزلة أكر من منزلته الحقيقية, والاعتقاد بأنه لم يخطئ أو ينحرف عن الجادة منهجاً أو موضوعاً .. لهو الضلال بعينه, لأنه ما من فكرة بشرى, سواء استمد من يصادر دينية أم وضعية غلا وهو معرض للخطأ والصواب وذلك هو التحدي الذي يدفع الفكر البشري دائماً إلى الحركة وإلا يستسلم للسكون.
إن مقولة توينبي عن سلفه المسلم في دراسته للتاريخ أمر جدير بأن يبعث الاحترام في نفوسنا للرجلين معاً (إن أبن خلدون _ يقول توينبي _ قد ألهم وصاغ فلسفة للتاريخ هي بلا ريب أعظم عمل من نوعه ابتكره أي عقل ي أي عصر وفي أي بلد ).. ولكن لا توينبي ولا أبن خلدون قد خطر في باله يوما من أن بمقدور عقل بشري تقديم (إنجاز) كامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. ذلك شأن معطيات الله سبحانه لا معطيات خلقه .
والحق أن كثيراً ممن درسوا أبن خلدون اتخذوا موقفا نقديا إزاء عمله الكبير هذا وعرفوا أن اتخاذ موقف الدفاع والتمجيد عمل خليق بالشعراء . أما العلماء لهم منهج آخر.. وهذا الموقف النقدي ينسحب على العد الديني في المقدمة كذلك . وقد وقف عند بعض الأخطاء والثغرات التي امتدت إلى هذا الجانب أو ذلك, وتركت للقارئ أن يخلص إلى بعضاه الآخر.
واستطيع أن أذهب إلى ما هو أبعد من هذا : أن رؤية أبن خلدون الدينية لا تمثل انعكاساً كاملاً وأمينا للمعطيات القرآنية, وأن هذه المعطيات المعجزة, ليست بمسئولة عن عما قد نجده في المقدمة من فجاجة أحياناً, وقصور في الرؤية أحيانا أخرى.. لأنه كما سبق وأن مر بنا لم تكن قد تواجدت بعد تفاسير شمولية للقرآن الكريم تتيح للباحثين الاستهداء الأكثر موضوعية وامتدادا من كتاب الله .. وما من شك في أن المعطيات العلمية والمنهجية للقرنين الأخيرين تطلعنا _ كأدوات _ على أبعاد في القرآن ما كانت الأجيال السابقة قد أطلعت عليها, وذلك مصداق الآية الكريمة “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” والآية الكريمة “بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله“.
إلا أن القول بخطأ أبن خلدون, وبعدم التطابق الكلي بين رؤيته الدينية ومعطيات القرآن شيء, واعتبار أن الرجل لم يتأثر بالدين ولم يكن لاستشهاداته القرآنية علاقة جوهرية بتدليله, وإنما لمجرد تملق القراء, وأن ذهنه تحرر من القيود الفكرية العقائدية, كما أدعى بوير وفنسدنك وشميت وغيرهم, شيء آخر..
إننا إذا أردنا أن نساير منطق العلم نفسه وجب أن ننزل بابن خلدون إلى موقعه الحقيقي ونعطيه حجمه المعقول على مستوى المقدمة كلها .. ووجب كذلك ألا نتصور معطياته الدينية إبداعاً كاملاً.. أما إذا تجازونا هذا كله وفرضنا على أبن خلدون بعد ستة قرون من وفاته, أن يغادر رحم أمه الحقيقي, وأن يتنفس في أرضه فذلك هو تجاوز لمنطق العلم, وقسر للحقائق على أن تتشكل لا كما أرادت لها الوقائع نفسها أن تكون في الزمان والمكان..
(5)
بتفحص المادة الدينية في مقدمة أبن خلدون يمكن أن نضع أيدينا على اتجاهات أو تيارات ثلاثة تحرك الرجل من خلالها, مع طرح التحفظ الضروري بصدد ارتباط وتشابك الرؤية عبر هذه الاتجاهات جميعاً..
ويتمثل أولها في أطروحاته عن دور الدين في الواقعة التاريخية : خلقا أو إضافة أو تعديلات أو توجهات, وذلك هو موضوع البحث الذي جده القارئ بين يديه لأنه يعد بحث أهم معطياته في هذا المجال بسبب من ارتباطه المباشر بالوحدة المنهجية التحليلية لمقدمته ولصيرورة الواقعة التاريخية ونموها في الزمان والمكان, وبسبب من علاقته المباشرة بفلسفة التاريخ.
ويتمثل ثاني هذه الاتجاهات في تفسيراته الدنية لعديد من وقائع تاريخنا الإسلامي بالذات, وهو الساحة التي انصبت عليها جل اختباراته ومارس فيها معظم جوانب استقرائه الذي قاده إلى صياغة قوانينه العديدة التي ضمنها مقدمته, وهو في هذا الاتجاه يمارس (تحليلا) للتاريخ يلقي المزيد من الأضواء على صيرورته وخصائصه.
أما ثالث الاتجاهات فيتبدى في تحليلات ابن خلدون للدين في آفاقه الشاملة .. الدين الموحى به من الله سبحانه إلى أنبيائه عليهم السلام, ويقترب أحيانا كثيرة من الحقل المسمى بفلسفة الدين, مبينا (ضرورة) التجربة الدينية للمجتمع البشري, والدور الكبير الذي تلعبه في سياسة المجتمعات مقارناً بين مصادر المعرفة التي تتبلور في الوحي والعقل, مؤكداً المكانة الفوقية للوحي, متحدثا عن الأخطاء المنهجية والموضوعية التي تتبلور في الوحي والعقل, مؤكدا المكانة الفوقية للوحي, متحدثاً عن الأخطاء المنهجية والموضوعية التي يمارسها العقل فيما يسمى بفلسفة الإلهيات, رافضا خرافة التنجيم وما يرتبط به من فعاليات لا تقاوم على الدين والعقل والمنطق, سارداً في نهاية الأمر لعدد من الممارسات والتجارب التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ, ولا يزال, مما يخرج عن دائرة المعقول والمحسوس, مميزا خلال ذلك, بحسه النقدي المعروف, بين الحق والباطل والعم والخرافة..
(6)
وبعد ..
فإن هذا البحث محاولة دفاعية, كما قد يتصور البعض .. أنها رد على التحدي .. تحدي (التجاهل) و (التعمد) .. ولم تكن الاستجابة للتحديات يوما مجرد عمل دفاعي بقدر ما هي تأصيل للذات بعرض الحقائق وحمايتها أولاً, بعيدا عن ردود الفعل التي كان يقودنا إليها _ يوماً ما _ هجوم فكري من الغرب من هذا الموقع أو ذاك, فنلجأ إلى مواقع الدفاع متنازلين حيناً مبررين حينا آخر, وقد يصل بنا الأمر حد التوسل بهم أن يكفوا عنا حينا ثالثاً..
إن الاستجابة للتحدي مسألة أخرى تماماً, وهو _ كما يؤكد توينبي _ علامة صحة وحيوية وعافية..
وما كان الفكر الإسلامي يوما بأكثر صحة وحيوية مما هو عليه اليوم بسبب ما هيأته له معطيات العلم الحديث ومناهجه من أدوات عمل وحصانه وإبداع .
(7)
والآن .. ما الذي يريد ابن خلدون أن يقوله عن دور الدين في صيرورة الواقعة التاريخية المتمثلة _ عنده _ بتحول الجماعات البشرية من البداوة إلى الحضارة ونشأتها دولا, واستقرارها في الأمصار, وممارستها نشاطا معاشيا ومعرفيا ينتقل بها خطوات واسعة في ميدان العمران .. لكنها ما تلبث _ بفعل عوامل السلب بالمقابل : الترف والسكون وتفكك أواصر العصبية والفساد الأخلاقي بمفهومه الواسع _ أن تؤول إلى التفكك والانحلال والزوال؟
ابتداء .. ما من دولة (كبيرة) إلا وأصلها الدين (أما من نبؤه أو دعوة حق) والدول الكبيرة التي يسميها البعض بالإمبراطورية ويسميها ابن خلدون (الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك) هي الدول الأكثر ثقلا وتأثيراً في حركة التاريخ, ليس فقط مجرياته السياسية, بل في نموه الحضاري, وهذا هو الأهم.
كيف يفسر ابن خلدون ذلك؟ “إن الملك _يقول الرجل_ إنما يحصل بالتغلب, والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالب, وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعرفة من الله في إقامة دينه, قال تعالى ” لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم)[1]. وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس ونشأ الخلاف, وإذا انصرفت إلى الحق وفضت الدنيا والبطل وأقبلت على الله, اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة.[2]
إنه يتحدث هنا عما يمكن تسميته بالمعامل العقائدي, ذلك الذي يشد طاقات الجماعة البشرية الواحدة التي تنتمي إلى عقيدة ماو يوجهها صوب هدف واحد .. بؤرة واحدة, فتزداد قدرتها على الفعل التاريخي, تماما كما تزداد قدرة أشعرة الشمس على الإحراق من خلال تجميعها بالعدسات اللامة. فالدولة الكبيرة _ إذا هي تعبير تاريخي عن قدرة أمة ما على الفعل الموحد الذي صاغته ووجهته صوب هدفه الواحد, عقيدة حيوية آمن بها الجميع. وبعكس هذا و فإن غياب الدين يعني تبعثر الفعل وتشتته صوب أهداف متغايرة متضاربة ومن ثم تضاؤل دوره التاريخي فليست الجماعة التي لا تربطها عقيدة بقادرة على أن تمتد في الزمان والمكان وإذا حدث وأن امتدت فعلا, فإن هذا يجيء استثناء للقاعدة, ولا يحكم عليه, ومصيره أن يتلاشى لأول تحد يبرز له في الطريق.. ولن يؤخذ بوما بالاستثناء.
في الانتماء الديني ثمة حقيقة أخرى يشير إليها ابن خلدون تزيد فاعلية هذا الانتماء ..إنها رفض الانقياد للباطل والإقبال على الله .. تلك هي حجر الزاوية في قدرة الإنسان الفرد والجماعة البشرية على التجرد الكامل في مواجهة التاريخ بأقصى قدر من التوتر والفاعلية والتناغم أن القرآن الكريم يصف المؤمنين مراراً بأنهم (يسارعون في الخيرات) وأنهم (لها سابقون) فيكشف ها هنا البعد التاريخي في حركة الإنسان المؤمن في العالم لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنجاز في أقل حيز زمني..
وابن خلدون يختم مقولته تلك بهذه العبارة ذات الدالة (.. اتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة ).. فالكلمة, كما هو معروف لا تتحول إلى فعل تاريخي إلا بالإيمان الذي يحيلها إلى طاقة حركية تعبر عن نفسها من خلال الجماعة المؤمنة وتكون نتيجة هذا التعبير : دولة عظيمة .. وكذلك كانت دولة الإسلام الأولى في أعقاب فتوحاتهم الأولى التي اختزلت الزمن والمكان .. وكذلك كانت الدول الكبرى في التاريخ.
وإذا كان ابن خلدون قد أكد مراراً على مفهوم العصبية, باعتباره أساساً لقيام الدول, فإنه لم يغفل عن أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت له من عددها كما يقول في إحدى فصول الباب الثالث من مقدمته .. لماذا؟ وكيف ؟ السبب في ذلك كما يقول (أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتماسك الدس في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوي عندهم وهم مستميتون عليه وأهل الدولة التي هم طالبوها, وأن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل, وتخاذلهم لتقية الموت حاصل, فال يقاومون وإن كانوا أكثر منهم, بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم ن الترف والذل كما قدمناه. وهذا كما وقع للعرب في صدر الإسلام في الفتوحات, فكانت جيوش المسلمين في القادسية واليرموك بضعا وثلاثين ألف في كل معسكر, وجمع فارس مائة وعشرين ألفا في القادسية, وجمع هرقل _ على ما قاله الواقدي _ أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم. واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة [3] ودولة الموحدين [4], فقد كان بالمغرب من القائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم, إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه, فلم يقف لهم شيء).
ويواصل ابن خلدون تحليله قائلا (واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين وفسدت, فيغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة. واعتبر هذا في الموحدين مع زناته (القبلية البربرية ) لما كانت زناته أبدي من المصامدة (الدين قامت دولة الموحدين على أكتافهم) وأشد توحشا, وكان للمصامدة الدعوة الدينية بأتباع المهدي (بن تومرت) فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيتهم بها فتغلبوا على زناته أولا واستتبعهم, وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم, فلما خاروا عن تلك الصبغة الدينية انتقضت عليهم زناته من كل جانب وغلبوهم عل أأمر وانتزعون منهم..)[5].
إن ابن خلدون هنا (يحيد) العصبية في حالة دخول الدين في الصراع, فإذا ما غاب الدين كان للعصبية, كقوة عددية واجتماعية أنت تلعب دورها. أما مع الدين فتكون أشبه بأداة, أو عامل مساعد, كما سنرى وهذا الموقف خطير لأنه رغم تأثيرات ابن خلدون المتكررة على العصبية, وإقامة أقسام واسعة من نظريته على قواعدها فإنه هنا يفوق الدين عليها ويجعله صاحب الفاعلية الأولى في الغلبة السياسية, والفعل التاريخي عموماً.
فإذا ما استرجعنا الآن عباراته الدقيقة ذات الدلالة والتي وردت في ثنايا مقولته, لم ندهش لتأكيد ابن خلدون على دور الدين, فهو الذي أدرك بعمق أبعاد هذا الدور( إذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء, لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه) . ومن ثم ينهار منطق الأعداد في الصراع التاريخي, ينهار حتى منطق الارتباط النسبي بالعصبية والقوة والبدائية المجردة التي تنبثق عنه لكي بحل محلها جميعا (استبصار) ديني لوقف الإنسان بالعالم وعلاقته بالله خالق الكون والحياة والإنسان, عند ذاك يتحول الإنسان المؤمن إلى طاقة حركية متقدة لا يقف لها والتي وجهها الإيمان الديني والاستبصار صوب الهدف الواحد, تقلب المقاييس الظاهرية للصراع وتفعل المعجزات.
وبرجوع متبصر إلى معجزة الفتوحات الإسلامية من التجارب التي شهدها التاريخي الإسلامي كتجربتي المرابطين والموحدين في المغرب, يمكن أن نعثر على النموذج التاريخي التطبيقي الذي أجد عليه ابن خلدون واستشهد به.
وبالمقابل (فإن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم ) كما يؤكد ابن خلدون ف فصل آخر من الباب الثالث نفسه, ويسعى للتدليل عليه بحشد من الأدلة المنطقية والأحاديث الصحيحة والوقائع التاريخية .. ( إن كل أمر تحمل عليه الكافة لابد له أمن العصبية . وفي الحدث الصحيح (ما بعد الله نبا إلى في منعه من قومه) وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد, فيما ظنك بغيرهم؟ ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية ؟). إنه يشير ها هنا إلى قدرة الأنبياء عليهم السلام على تجاوز التحديات التاريخية فوق العادة, كما حدث لكثير منهم لكنهم مع ذلك يعملون في التاريخ في صياغة أبعاد جديدة مستمدة من سدى زمانه ولحمة مكانه, فلابد لهم إذن من الالتجاء إلى أسبابه الذاتية للانقلاب عليه.. وحديث الرسول (ص) هنا يبدو متساوقا مع معطيات الحركة الإسلامية كلها, تلك التي جاءت لكي تنقلب على التاريخ من خلال التاريخ نفسه, على ضوء برنامج إلهي فوقي هو مثابة دليل على أو (استبصار), إذا اعتمدنا تعابير ابن خلدون في هذا الانقلاب.
ومن أجل مزيد من القناعة يقودنا الرجل إلى عديد من الشواهد التاريخية..
(.. وقع هذا لابن حسي شيخ الصوفية, ثار بالأندلس داعيا إلى الحق وسمى أصحابه بالمرابطين, قبيل دعوة المهدي (بن تومرت زعيم الموحدين) فاستتب له الأمر قليلا لشغل لمتونة (الصنهاجية التي قامت دولة المرابطين على أكتافها) بما دهمهم من أمر الموحدين . فلم تكن هناك عصائب ولا قبائل بدفعونه عن شأنه, فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب, أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقله بحصن اركش وأمكنهم من ثغره, وكان أول داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته تسمى ثورة المرابطين. ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيرا من المنتحلين للعابدة وسلوك طرق الدين يذهبون للقيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه, والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله, فيكثر إتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء[6], ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك, وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلى الله عليه وسلم (من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه) . وأحوال الملوك والدولة راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه . وهكذا كان حال الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب, وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء, لكنه أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب فكان فيه محقا قصر به الإنفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك وإما أن كان من الملبسين بذلك في طلب الرياسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتتقطع به المهالك, لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ولا شك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة)[7].
إن ابن خلدون يؤكد أكثر من مرة على أن الحركة في التاريخ حتى ولو تزعمها الأنبياء عليهم السلام, لابد لها من أدارة لتحقيق فعلها وإجراء تغييراتها وإلا ما استطاعت أن تفعل شيئاً.. إن حديث الرسول (ص) الذي اعتمده هنا يؤكد هذا المعنى بوضوح وهو يطلب من أتباعه في كل مكان وزمان أن يمارسوا عملية التغيير وأن يعتمدوا أسبابها التي يقف تغيير اليد في قمتها لأنه, ولا ريب, أكثرها فاعلية. أما حينما تصل إرادة التغيير إلى مجرد رفض مكتوم في القلب فإنها غير قادرة على أن تفعل شيئاً, لكنها _ على الأقل _ تحمي صاحبها من الانحراف في تيارات الخطأ والضلال.
وابن خلدون لا يتهم هنا دعوات الأنبياء عليهم السلام ولا حركات الجماهير ويحم بفشلها بقر ما يريد أن يؤكد على أن دعوات وحركات كهذه لا يمكن أن تنجح ما لم تتجمع حول نواة طليعية تسوقها إلى النجاح.
وهو يطرح تحفظه الذي في هذا المجال : إن الأنبياء عليهم السلام مؤيدون من الله بالكون كله لو شاء لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله عليم حكيم.
إن الله سبحانه قادر, حيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء على حمل رسله بكلمته التي لا راد لها, إلى آفاق الانتصار النهائي.
لكن حكمته سبحانه, وعلمه المسبق بمصائر الدعوات, في الوقت نفسه, شاءت أن يتحرك رسله في قلب العالم في صميم التاريخ.. أن يعانوا من أثقاله وعوائقه وأن يتجشموا وأتباعهم عناء تحدياته وإرهاقه وألا يبلغوا النصر النهائي إلا باتخاذ الأسباب التي تمكنهم من الصراع القاسي الذي لا يرحم أحداً. وذلك هو ما يعنيه ابن خلدون (سيجري الأمر على مستقر العادة) .. أي سنن التاريخ ونواميس الكون.
وهو يضرب مثلا تاريخيا آخر يستمده من الأحداث التي شاهدتها بغداد بعد مقتل الأمين حيث شادت الفوضى وقط السبيل وكثر السلب والنهب وعجزت السلطات المحلية عن مجابهة الفساد (.. فتوافر أهل الدين والصلاح على منع الفساق وكف عاديتهم وقام ببغداد رج ليعرف بخالد الدريوس ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والني عن المنكر ..) ونجحت حركته حيناً من الدهر في مجابهة المفسدين والتنكيل بهم, والأمر الذي دفع رجلاً آخر من سواد أهل بغداد يدعى سهيل بن سلامة الأنصاري, إلى القيام بحركة شعبية أخرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,وتبعه الناس من شتى الطبقات غنيهم وفقيرهم, شريفهم ومغمورهم, بعيدا عن ضروريات انتماءاتهم الطبقية كما يريد التفسير المادي دائماً أن يقسر التاريخ على قبوله, .. وأبلى الرجال بلاء حسنا في مجابهة الفساد, وتجاوز موقف رفيقه بإعلانه أنه سيقاتل كل من خالف الكتاب والسنة وسيقف بوجه السلطة كائنة ما كانت . فما كان من إبراهيم بن المهدي الدس قفز إلى الخلافة في العراق إلا أن جهز له العساكر (فغلبه وأسره _ عام 201 هـ وانحل أمره سريعا)[8].
لذلك أنه لم يستند في حركته تلك إلى عصبية تحميه وتشد أزره وتمكنه من مواصلة طريق الصراع القاسي حتى النهاية .. (ثم اقتدى بهذا العمل, بعده, كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية, ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم) ويصل الأمر بابن خلدون أن يعلن استنكاره لزعامات لا تعرف أوليات النجاح ويطلب مداواتهم (إن كانوا من أهل الجنون) أو قتلهم وضربهم إن كانوا من دعاة الفتنة, أو السخرية بهم إن كانوا من الكاذبين أدعياء الزعامة[9].
خرج بالسوس في المغرب الأقسى في مطلع القرن الثامن الهجري (رجل من المتصوفة يدعى التوبدري, عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك وزعم انه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هناك وأن م ذلك المسجد يكون أصل دعوته, فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش, ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة فدس إليه كبير المصامدة يومئذ, عمر السكسيوي, من قتله في فراشه).
وفي نفس الفترة خرج في غمارة بالمغرب رجل يعرف بالعباس, وادعى مثل هذه الدعوة, واتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأغمارهم, وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخل عنوة ومضى في الهالكين الأولين). ويعلق ابن خلدون على ذلك بقوله (وأمثال ذلك كثير, والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها, وأما إن كان من التلبيس _ أي من الكذب والادعاء _ فأحرى ألا يتم له أمر وأن يبوء بإثمه)[10].
ذلك إذن هو التقابل الفعال في ابن خلدون : الدين والعصبية .. الرؤية أو الاستبصار الإيماني والأداة التاريخية .. إن العصبية بدون دين لا تحقق شيئاً كبيراً والدين بدون عصبة لا يتحرك وقتاً طويلاً.. لابد من اقتران الجانبين .. وإذا كانت رؤية ابن خلدون للعصبية محدودة في نطاق الروابط القبلية يومذاك, فإنها قد تنسحب في الفترات اللاحقة, وفي القرن العشرين, على التنظيمات البشرية التي تعتمد القوة والعصبية الحزبية, وتحل فيها رابطة الولاء محل رابطة النسب.. والأمر سواء..
ولا يقف ابن خلدون عند هذا الحد, بل إن رؤيته الدينية لا تفارق وهو يطرح مقولاته في أبواب مقدمته الست عن مسائل مختلفة تتعلق بصيرورة الواقعة التاريخية ونشاط الجماعات البشرية وعوامل تكونها ومؤثرات ملوكها التاريخي.
(9)
وهو إذ يتحدث في الباب الأول من مقدمته عن جغرافية العالم وعن تأثير الظروف الجغرافية على تكون الجماعات البشرية ونشاطها العمراني, وال ينسى أن يؤكد في أكثر من موضع على سبب تمركز الأديان السماوية ف المنطقة المعتدلة الممتدة بين جزيرة العرب والهلال الخصيب ومصر .. (فالإقليم الرابع _ الذي تنتمي إليه هذه المنطقة _ أعدل العمران والذي بمحاذاته من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال .. فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه, بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال . وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألوانا وأخلاقاً وأدياناً . وحتى النبوات فإنما توجد _ في الأكثر _ فيها. ولم تقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكلم النوع في خلقهم وأخلاقهم. قال تعالى :(كنتم خير أمة أخرجت للناس)[11]. وذلك ليتم القبول لما ياتيهم به الأنبياء من عند الله)[12].
ويبدو أن اهتمامه في تتبع تأثيرات البيئة الجغرافية على الجماعات البشرية, ونزول الأديان في أكثر هذه الجماعات اعتدالاً ورشداً, أنساه الالتفات إلى بعد جغرافي آخر لا يقل أمية في تفسير تمركز الأديان في هذا المناطق ذلك هو موقعها من خطوط المواصلات العالمية وتوسطها الفعال لهذه الخطوط الأمر الذي يسهل لها أداء مهمتها العالمية في تبليغ الرسالات إلى مشارق الأرض ومغاربها, بغض النظر عن اعتدال سكانها أو انحرافهم, فالدين جاء لكي يخاطب نبي آدم كافة أبيضهم وأسودهم, أحمرهم وأصفرهم ويقودهم جميعاً إلى جادة الصواب.
وهو إذ يتحدث, في الباب الخامس م مقدمته عن المسائل الاقتصادية وأن (الكسب هو قيمة الأعمال البشرية ) ينطلق من رؤية دينية واضحة (إن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ومونه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره (والله الغني وأنتم الفقراء)[13]. والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه فقال ( وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه) [14] ( وسخر لكم البحر)[15] (وسخر لكم الفلك)[16] وكثير من شواهده .. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض. فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طيور الضعف سعي إلى اقتناء المكاسب لينفق ما أتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعراض عنها قال الله تعالى (فابتغوا عند الله الرزق)[17].
وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله إلا أنها إنما تكون معينة ولابد من سعيه فتكون له تلك المكاسب معاشا إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة ورياشا ومتمولا إن زادت على ذلك ثم أن ذلك الحاصل أو المقتني أن زادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه على مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقاُ. قال صلى الله عليه وسلم (إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت). وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه وحاجاته فال يسمى بالنسبة إلى المالك رزقا والتملك منه حينئذ بسعي العبد وقدرته ليس كسباً . وهذا مثل التراث فإنه يسمى بالنسبة إلى المالك كسباً ولا يسمى رزقا إذا لم يحصل به منتفع بالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقا هذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة : ثم إن الكسب يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه قال تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق) والسعي إليه يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه فالكل من عند الله فلابد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر, وإن كان مقتني من الحيوان والنبات والمعدن فلابد فيه من العمل الإنساني كما تراه وإلا لم يحصل ولم يقع به الانتفاع.[18]
فهو هنا يؤكد على أن الحاجات الاقتصادية إنما تستمد (قيمتها) من مدى ما بذل فيها من عمل, الأمر الذي ذهبت إليه بعض النظريات المعاصرة في عالم الاقتصاد والعلاقات الإنتاجية وهو يرجع لتأكيد مقولته هذه إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام كما كان يفعل في الكثير من المواقف الأخرى.
وهو عندما يتحدث في الباب الرابع عن الأمصار والمنجزات المعمارية الكبيرة للجماعات البشرية يقف طويلا عند الأماكن المقدسة التي لها في نفوس المسلمين خاصة والمؤمنين عامة مكانة كبيرة ويطيل الحديث مبتدأ إياه بقوله ( أعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمي بها الأجور وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفا بعباده وتسهيلا لطرق السعادة لهم. وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين وهي: مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يفرد الصفحات الطوال لكل واحد من هذه البيوت[19].
(10)
وعندما يتحدث في الباب الثاني عن أن (معاناة أهل الحضر للأحكام – أي الخضوع لقوانين السلطة والتزام تشريعاتها – مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنفعة عنهم) لا ينسى أن يقف عند تجربة صحابة رسول الله صلى الله التي كسروا بها هذه المقولة بما امتلكوه من وازع ديني امتد إلى أعماق نفوسهم وحماهم من السقوط في وهدة الضعف والتفكك والإحساس السلبي والانقياد والخضوع (.. لا تستنكر ذلك – يقول ابن خلدون – يما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم, بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صلى الله عليه وسلم لما أخذ المسلمون دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلي عليهم من الترغيب والترهيب ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه الملقاة نقلا يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة – كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم . قال عمر رضي الله عنه ( ومن لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله) حرصا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد) ويمضى ابن خلدون إلى القول أنه ( لما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام ثم صار الشرع علما وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم. فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي وأما الشرعية غير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما يؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وضعف الشوكة منهم والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب[20].
إن الدين عندما يتفجر حيا في النفوس من خلخل دعوة حركية حيوية شاملة بعيداً عن تكلف (التعليم الصناعي) وجفاف (التأديب التعليمي) كما يسميه ابن خلدون فإنه ينشئ رجالا يملكون في نفوسهم حصانة دائمة تحميهم من فقدان بأسهم بالانحناء الدائم والانقياد الذليل. أما الأحكام الوضعية فإنها إذ لا تسعى ابتداء لخلق الوازع الديني في النفوس كأنها تتحول بمرور الوقت إلى سوط إذلال ينزل على ظهور (التابعين) فيفقدهم صولة البأس وإرادة الرفض ويحولهم إلى قطعان من الأغنام تساق بمن هو أقدر منها ولا تستطيع – هي – أن تسوق شيئاً أو تصنع تاريخاً.
وليست هذه هي المرة الوحيدة التي حرص ابن خلدون فيها على أن تكون استنتاجاته متساوقة مع المعطيات الدينية الإسلامية نظرية وتطبيقا فهو حينما وجد تناقضاً ظاهريا أعمل جهده لتحقيق الوفاق, أو فسر لنا – بسبب من نزعته الموضعية – أسباب هذا التغاير بين بعض أنماط التجربة التاريخية الواحدة .. أنه عامل الإيمان الديني الذي كثيراً ما يتجاوز رتابة الوقائع التاريخية لكي يحقق الطفرات العظيمة والقفزات النوعية في التاريخ.
فهي عندما يتحدث في أحد فصول الباب الثالث عن أن (الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة), أي بالصراع الطويل المدى لا بالحرب المباشرة السريعة, ويسرد العديد من الأمثلة ما يلبث أن يقف عند ظاهرة الفتح الإسلامي التي خرقت هذا القاعدة ويقول (.. ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية, وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (ويشير إلى بدء فتوحاتهم) وأعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم.
سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبصارا بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل, فكان ذلك خارقا للعادة المقدرة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة .. والمعجزات لا تقارن عليها الأمور العادية ولا يعترض بها[21].
وهو عندما يتحدث في أحد فصول الباب الثاني عن (أن الرياسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم) يقول (.. وال تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين (محمد بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية بالمغرب) ينسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت الرياسة في (قبيلة ) هرغة قومه, وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين ودخول قبائل المصامدة في دعوته وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم[22].
(11)
إن الحضور الإلهي الفعال في الواقعة التاريخية ملمح أساسي من ملامح مقدمة ابن خلدون وأن رؤيته الدينية المستمدة من كتاب الله وسنه رسوله عليه السلام, ومعطيات صحابته الكرام رضي الله عنهم تفرض نفسها في مساحات المقدمة جميعاً وبأكثر من شكل وصيغة.
يقول في تمهيده للمقدمة (اعلم أن فين التاريخ فن عزيز المذاهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى نتم فائدة الاقتداء في ذلك في كل الأحوال الدين والدنيا)[23]. منذ اللحظات الأولى تبرز جدوى علم التاريخ كأداة تستهدف خدمة الجماعات البشرية وترقية أحوالها دينا ودنيا, بجعلها تتحرك على هذين المستويين معا وهي أكثر إدراكاً وتجربة بما يمنحه التاريخ إياها من قيم وتعاليم.
ونعبر أبواب المقدمة جميعاً لكي نصل إلى بابها الأخير, فهنالك أيضاً كما في أي باب آخر يمكن أن نلتقي بالحضور الإلهي والرؤية الدينية . فهاهنا حيث يتحدث ابن خلدون عن (الفكر الإنساني) يقول “أعلم أن الله سبحانه وتعالى ميز البشر عن سائر الحيوانات بالفكر الذي جعله مبدأ كماله ونهاية فضله على الكائنات وشرفه .. وذلك أن الإدراك وهو شعور المدرك في ذاته بما هو خارج عن ذاته هو خاص بالحيوانات فقط من بين سائر الكائنات من الموجودات فالحيوانات تشعر بما هو خارج عن ذاتها بما ركب الله فيها من الحواس الظاهرة..
ويزيد الإنسان من بينها أنه يدرك الخارج عن ذاته بالفكر الذي وراء حسه .. والفكر هو التصرف بالصور التي وراء الحس وجولان الذهن فيها بالانتزاع والتركيب وهو معنى الأفئدة في قوله تعالى (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) [24]
وبين التمهيد والباب الأخير شواهد عديدة أخرى تؤكد ما ذهبنا إليه[25].
ومما يؤكد الرؤية الدينية الأصيلة عن ابن خلدون وكونها مسألة أساسية في منهجه ذلك الحشد من الاستشهادات المستمدة من كتاب الله حيناً وسنة رسوله عليه السلام حينا آخر, وأقوال ومعطيات صحابته الكرام حينا ثالثاً, والتي طالما اعتمدها لتعزيز وجهات نظره وجعل استدلالاته أكثر حجية وصوابا وإقناعاً.
ولنا الآن أن نستعرض على سبيل المثال أهم الاستشهادات القرآنية نظرا لارتباطها الوثيق بالموضوع, مشيرين إلى المواضيع التي ورد فيها كل منها : (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً)[26].بصدد الحديث عن فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها[27].
(أعطي كل شيء خلقه ثم هدى)[28], يصدد الحديث عن ضرورة الاجتماع الإنساني[29].
(كنتم خير أمة أخرجت للناس)[30], بصدد الحديث عن تأثير الهواء في ألوان الشر والكثير من أحوالهم[31].
(لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون)[32] بصدد الحديث عن أن سكن البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية [33].
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [34]. بصدد الحديث عن أبن البيت والشرف للموالي إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم[35].
(إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز)[36]. بصدد الحديث عن أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء[37].
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)[38]. بصدد الحديث عن أن الغاية التي تجري إليه العصبية هي الملك[39].
(إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها)[40]. بصدد الحديث عن أن من عوائد الملك حصول المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم[41].
(وإذا أراد الله بقوم سوءاً فال مرد له)[42]. بصدد الحديث عن أن علامات الملك التنافس الخلال الحميد وبالعكس[43].
(ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)[44]. بصدد الحديث عن أن إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع[45].
(لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم)[46]. بصدد الحديث عن أن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين[47].
(لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا)[48]. بصدد الحديث عن أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد[49].
(حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)[50], بصدد الحديث عن أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص[51].
(فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)[52], بصدد الحديث عن الموضوع السابق[53].
(والله يقدر الليل والنهار)[54] بصدد الحديث عن الموضوع السابق[55].
(سنة الله في الذين خلوا من قبل)[56](أفحسبتم أنا خلقناكم عبثاً)[57] (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض)[58] (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)[59] (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا)[60], بصدد الحديث عن معنى الخلافة والإمامة[61].
(ولن تجد لسنة الله تبديلاً) [62]بصدد الحديث عن أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة[63].
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)[64] بصدد الحديث عن أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وإنها مؤذنة بفساده [65].
(والله الغني وأنتم الفقراء)[66] (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)[67] (وسخر لكم البحر )[68] (وسخر لكم الفلك)[69] (والأنعام خلقها لكم)[70] (فابتغوا عند الله الرزق)[71] بصدد الحديث عن حقيقة الرزق والكسب وإنه قيمة[72] الأعمال البشرية.
(ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون)[73] بصدد الحديث عن أن السعادة والكسب إنما يحصل غالبا لأهل الخضوع والتملق[74].
(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)[75] بصدد الحديث عن الفكر الإنساني[76].
(إني جاعل في الأرض خليفة)[77], بصدد الحديث عن أن علام الحوادث العقلية إنما يتم بالفكر[78].
(إنما أن بشر مثلكم يوحي إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه)[79] بصدد الحديث عن علوم الأنبياء عليهم السلام[80].
(اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم)[81] بصدد الحديث عن أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب[82].
(فلا يظهر على غيبه أحد) [83] بصدد الحديث عن وجه الصواب في تعليم العلوم[84].
ليس هذا فحسب بل أن ابن خلدون يؤكد رؤيته وحسه الدينيين من خلال صيغة أخرى تميزه بها مقدمه بشك يلفت النظر, تلك هي اختتام كل فصل أو مقطع من فصول مقدمته ومقاطعها بعبارة دينية أو آية قرآنية أو جزء من آية مثل (والله أعلم) (والله يحب المتقين) ( الله سبحانه أعلم وبه التوفيق) ( والله يخلق ما يشاء) (والله الموفق للصواب) ( والله وارث الأرض وما عليها) (والله عالم الغيب والشهادة) (والله بكل شيء عليم) ( والله ورسوله أعلم) (سنة الله في خلقه) (والله يؤتي ملكه من يشاء) (والآخرة عند ربك للمتقين) (والله العليم الحكيم وبه سبحانه وتعالى التوفيق) (البقاء لله وحده) (والله قادر على خلقه وهو الواحد القهار لا رب غيره) (والله قاهر فوق عباده وهو الواحد القهار) (والله قادر على ما يشاء وهو بكل شيء عليم) وهو حسبنا ونعم الوكيل) (وبه التوفيق لا رب سواه) (سنة الله التي خلت في عباده) (والله غني عن العالمين ) (والله الخلاق العليم) ( وقل رب زدني علما وأنت أرحم الراحمين) (والله ولي المؤمنين وهو على كل شيء وكيل) (وبيده ملكوت كل شيء) …
وأحيانا تتخلل هذه التعابير والمقاطع القرآنية ذات المغزى صميم فصوله فلا يكتفي بأن يضعها في نهاية كل فصل بل يدخلها في ثنايا معطياته حيثما اقتضت الحالة وفي هذا مزيد دلالة على تصور ابن خلدون لمدى الحضور الإلهي في التاريخ ومن مثل (ما شاء الله) (والأمر لله) (والله أعلم) (حتى بأذن الله) (والله حكيم عليم) (والله غالب علي أمره) (ويأذن الله منها بالفناء الذي كتبه على خليقته) (بما جعل الله من ذلك في خليقته) (والله خير الماكرين)..
وللوهلة الأولى يبدو أن طريقة ابن خلدون هذه لا تعدو أن تكون مسألة تقليدية قد لا تعنى شيئاً لكن المتمعن في التكرار المقصود, وفي النماذج التعبيرية التي ينتقيها الرجل يتضح له أن الأمر أبعد من هذا .. أبعد حتما من مجرد دلالته على عمق الإحساس الديني لدي ابن خلدون فالرجل, فضلا عن ذلك, يرى في حركة التاريخ, وقائع وسننا انعكاساً لمشيئة الله سبحانه وقدره في العالم.
(12)
ونريد أن نقف قليلا عد مسألتين أساسيتين في نظرية ابن خلدون طالما أكد عليهما وعلى ارتباطهما الوثيق بصلب هذه النظرية وهما الترف وحتمية السقوط. إذ لا نعتقد أنه كان بمعزل عن معطيات القرآن والسنة وهو يتحدث عن هاتين المسألتين اللتين كان لهما في المصدرين السابقين مكان واسع.
وفي الباب الثالث من مقدمته الذي يتحدث فيه عن قيام الدول ونموها ثم تدهورها وسقوطها, يورد تأكيدات مستمرة, ومن خلال زوايا رؤيته مختلفة ومتكاملة عن الدور الذي يلعبه الترف في دمار الدلو وتفككها وانحلالها, هذه بعضها : (فصل في أن من طبيعة الملك الترف) (فصل في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون), (فصل في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم).
وعبر أماكن أخرى عديدة, من هذا الباب والذي يليه, يقف ابن خلدون لكي يقلب مسألة الترف على وجوهها ويتبين دورها في التفكك والسقوط. ومراراً يسير – من خلال تحليله لمسألة الترف – إلى العلاقة المتبادلة بين الترف والالتزام الديني والأخلاقي, وإلى النتائج السالبة التي تترتب على ذلك. فهو يؤكد – على سبيل المثال – على (.. أن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هو عين الفساد, لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته, أما عجزاً لما حصل له من الدعة, أو الترف وكلا الأمرين ذميم . وكذلك لا يقدر على دفع المضار بما فقد من خلق البأس بالترف والمربي في قهر التأدب والتعليم, فهو لذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه . ثم هو فاسد أيضا في دينه غالباً, بما أفسدت منه العوائد وطاعتها, وما تلوثت به النفس في ملكاتها كما قررناه إلا في الأقل النادر وإذا فسد الإنسان في قدرته ثم في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقية. وبهذا الاعتبار كان الذين يتقربون في جند السلطان إلى البداوة والخشونة أنفع م الذين يربون على الحضارة وخلقها, وهذا موجود في كل دولة..
لقد وقف القرآن مراراً عند مسألة الترف, ومن خلال زوايا مختلفة سلط عليه الأضواء لكي يفضح الدور المدمر الذي تلعبه هذه الظاهرة في تاريخ الجماعات البشرية وهو تتأرجح بين الاستقامة والضلال.. (وَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ) [85] (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِر * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ )[86] (وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا )[87] (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ العَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ )[88].
(فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِى الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[89], (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ *لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ )[90] (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) [91].
وقد سبق أن حللنا موقف القرآن الكريم من الترف[92] والذي نريد أن نشير إليه هنا هو أن ابن خلدون في تأكيده المستمر على دور الترف في تاريخ الدول والجماعات لابد أنه استمد اهتمامه هذا من القرآن الكريم الذي كثيراً ما كان يلجأ إلى آياته ليؤكد وجهات نظره وعزز مقولاته هذا فاضلا عن ثقل النتائج التي قاده إليها واستقراؤه لتاريخ الدول والجماعات حيث كان الترف يبدو كنذير السوء. وهو في إحدى تعليقاته على ظاهرة من ظواهر الترف, وهو ظاهرة (التكاثر الشيئي) يطرح كلماته وكأنه يعاين ما يجري في قرننا العشرين هذا ( .. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية, تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا في دنياها . أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها ..)[93] ونحن نتذكر هنا بآيات سورة التكاثر التي تحذرنا من هذا المصير (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) كما نتذكر ما يجري في زمننا هذا من تكاثر بالأشياء يكاد يخنق الإنسان المعاصر ويسحق مطامعه الروحية, فضلا عن امتصاصه لقدراته المادية, وعجزه عن سداد متطلبات هذا التكاثر الذي لا يستطيع الفكاك منه بسبب تحله – بمجرد الوقت – إلى عادة تطالب بالوفاء باستمرار, كما يقول ابن خلدون وكما نقرأ في المقدمة القيمة التي كتبها الدكتور محمد إسماعيل الموافي لمسرحية (كل شيء في الحديقة) للكاتب الإنجليزي جايلز كوبر, والتي تعالج هذا الموضوع فيما تعالجه من مواضيع (أن الثورة على مادية الحضارة الحديثة ليست بالشيء الجديد فقد حمل لواءها سلسلة طولية من أعلام الفكر والأدب في كل جيل من أجيال هذه الحضارة.. ثورة على تسخير النشاط الإنساني كله أو جله في تحقيق مغانم مادية وقصر السعي على توفير أسباب الراحة والمتعة والاستكثار من أدوات الزينة والترف والتضحية في ذلك بالقيم الفنية وأخطر من ذلك بالقيم الخلقية وإذا كانت الحضارات القديمة وقد سمحت بمثل هذا الانحراف لفئة محدودة, فإن الحضارة الصناعية بما أوجدت من رخاء و وبما استحدثت من أسباب الترف ووسائل الإغراء بالترف, قد جعلت الانحراف ميسرا أما الفرد العادي) . وهو يقتبس العبارة التالية من كتاب (هذا العالم الأمريكي)[94] الذي يقول فيه ( .. حيث اقتناء الأشياء عقيدة ودين يصبح تقديمها للناس فريضة . وللإعلان (عن الأشياء) شريعة, كعلم أصول الدين . فإغراق الجمهور بسلع لا تفيد وخلق طلب غير طبيعي عليها والتخلص من شيء وهو لا يزال بعد صالحاً للاستعمال و وشراء الأكثر جدة ولو كان أقل متانة. وجعل المودات في حركة دائمة. تلك هي الأهداف التي ينشدها الإعلان بحماس لا يقل عن حماس المبشرين . واستسلاماً منا لضرورات الوسائل العلمية في الإعلان نضحي بغرائزنا الأساسية تماما التضحية. بل وبحواسنا الخلقية في غالب الأحيان. ويقول في مكان آخر من مقدمته تلك وكأنه يتحدث بلسان ابن خلدون (.. يبدأ الشخص بمقاومة مكروه أو رذيلة, ولكن لا تلبث ممارسته لها أن تضعف المقاومة فالاعتياد مميت والإحساس قاتل للشعور … ولقد أصبح تكوين العادة من الأصول التي يعتمد عليها في الإعلام الحديث في ترويج سلع قد يراها الناس في بادئ الأمر غير ضرورية, أو حتى ممجوجة ولكنها لا تلبث بحكم العادة والإلف أن تصبح مستساغة بل من اللزوميات ..)
(13)
أما المسألة الثانية التي تتوجب الإشارة إليها, والتي ترتبط بسابقتها ارتباط النتيجة بأسبابها فهي ما يؤكده ابن خلدون من حتمية سقوط الدول وهو يطرح بوضوح في الباب الثالث فصلا بعنوان (أن الهدم إذا نزل بالدولة لا يرتفع) وإذا كان الهدم نفسه أمرا طبيعياً يحدث في عالم الدول كما يحدث في عامل الطبيعة الحية, كما سنرى تبين لنا أنه ما من دولة في نظرية ابن خلدون, إلا وهي مسوقة إلى الشيخوخة والسقوط .. نفس موقف أزوالد اشبتغلر إزاء التاريخ .. إن الدولة كالأشجار والحيوانات والناس تماما مكتوب عليها أن تجتاز رحلة العمر صوب الشيخوخة والذبول .. ما من تجربة في العالم إلا وهي تتحرك ضمن هذا الإطار المقفل : الميلاد والموت..
قد قدمنا – يقول ابن خلدون – ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحد (وهو يعالج هذا في فصول عديدة سابقة ولاحقة, ليس هذا المجال بحثها بطبيعة الحال) بينا أنها تحدث للدولة بالطبع وأنها كلها أمور طبيعية لها كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني . والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها (أي زوالها), لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية والأمور الطبيعية لا تتبدل, وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة, فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظن انه ممكن الارتفاع, فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم, ويحسب أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم. وليس كذلك فإنها أمور طبيعية للدولة (لاحظ تأكيده المستمر على الطبيعة ) والعوائد هي المانعة له من تلافيها, والعوائد منزلة طبيعية أخرى فإن من أرك مثلا أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والراكب ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات أفلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزى والاختلاط بالناس, إن العوائد حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه .. وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التأييد والنصر السماوي .. وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس, فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة, فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر .. وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها أيماضة الخمود, ما يقع في الذبال المشتعل, فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضه توهم أنها اشتعال وهي انطفاء) وما يلبث ابن خلدون أن يلتقي ذهب إليها (فاعتبر ذلك, ولا تغفل سر الله تعالى وحكته في اطراد وجوده على ما قدر فيه (ولكل أجل كتاب)[95] [96].
هل هي رؤية دينية مسالة السقوط المحتوم هذه ؟ نرجع إلى كتاب الله فهناك ستجد آيات عديدة تمنحنا الجواب (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ )[97], (وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِى الكِتَابِ مَسْطُورًا) [98] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)[99] (يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[100].
وشهادات القرآن بهذا الصدد كثيرة, ولكن أكثرها مساساً تلك التي تقول (وتلك الأيام نداولها بين الناس)[101] . وهو بهذا, بقد صيرورة التجارب التاريخية إلى الزوال, بقد رما يكسر الحلقة المفرغة لحتمية السقوط ويوجهها توجيها آخر أكثر داينامية وأعماق أملا وأبعد عن النزعة التشاؤمية التي تسود موقف ابن خلدون وعديد من فلاسفة التاريخ, ومن ثم فإنه يخرج من هذه المسألة الصعبة إلى طرح معادلة تصل في عمقها وتوازنها ومنطقيتها حد الإعجاز, ولا بأس أن تقتطع هنا مقطع من كتاب (التفسير الإسلامي للتاريخ) لنبين أبعاد مفهوم المداولة التي يطرحها القرآن.
( .. إن المداولة ) توحي بالحركة الدائمة وبالتجدد, وبالأمل, وتقرر أن الأيام ليست ملكا لأحد, ومن ثم لا داعي لليأس والهزيمة, فمن هم في القمة الآن يتنزل بهم حركة (الأيام) إلى الحضيض, ومن هم في القاع ستصعد بهم الحركة نفسها – ومن خلال فعلهم الحر وحركتهم واختارهم – إلي القمة . إن (المداولة) القرآنية تحمل كافة جوانب إيجابيتها التاريخية : حركة العالم المستمرة, وتمخض الصراع الفاعل وديمومة الأمل البشري الذي يرفض الحزو والهوان (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
(تكاد الحياة الدنيا تبدو من خلال الموقف الإسلامي أشبه بالناعور. والشجاع الشجاع الذي يحصل على (صعدة ) أكثر في تاريخ هذه الحياة التي تدور فيها الموافق ولا تستكين لأحد, من أجل أن يرى البشرية صوراً من حقائق التطبيق الصحيح للمبادئ السماوية .. إن هذه الوضعية الداينامية أشبه – أيضاً – برجل كتب عليه أن يحيا في مدينة ما, وأتيح له أن يغادرها إلى أي مكان مرتحلاً, طالما إمكاناته وإرادته الأولى .. والإنسان كلما كان ذا إرادة أقوى, وعزيمة أمضى, وإيمان أعمق وجهد وإبداع أشد تركيزاً لكما أبيح له السفر إلى منطقة أبعد لاكتشاف مزيد من المجاهيل في الطبيعة والعالم.
إن كلاً منا هو هذا الرجل, ومن مجموعنا كجماعة ننتمي إلى هذا المبدأ أو ذاك نستطيع أن نرحل دائماً ونعلم البشرية أن ترحل معنا إلى الآفاق البعيدة الرائعة فإذا ما (حتم) علينا أن نعود لأن حكمة الله سبحانه تقتضي بأن نسمح للآخرين كي يرحلوا بدورهم, لأن من حقهم أن يرحلوا بعد أن ضعفت إرادتنا وقويت إرادتهم وخارت عزيمتنا ومشت عزيمتهم وتسطح إيماننا وتوغل إيمانهم, وتفكك جهدنا وإبداعنا وتركز جهدهم وإبداعهم .. إذا ما حدث هذا وهو لابد أن يحدث إذا ما أريد للعدل الكوني أن يأخذ مجراه, فلابد وقف منطق المداولة نفسه وديناميته, وما يحمله من شحنات الأمل, أن نبذل محاولات ثانية وثالثة من أجل إعادة الكرة والتهيؤ لمرحلة أكثر غنى وعطاء وشمولاً, وهذا لا يعني أن المنجزات الحضارية عموماً تصاب بنكسات (دورية) على العكس, إنها تبقى في الأغلب الأعم, صاعدة عل سلم لا ترجع عنه إلى الوراء, إلا إذا مارست الأمم القوية لعبة الدمار الشاملة التي يستبعد أن تحدث أساساً.. هذا فيما يتعلق بالإبداع المادي للحضارة, أي ما يصطلح عليه باسم (المدنية) .. أما القيم والمبادئ وقواعد السلوك الفردي والجماعي والدولي والممارسات الأخلاقية والعاطفية والروحية, ومعطيات الفكر والوجدان, فيما يسمى بحقل (المعارف الإنسانية ) أدباً وفلسفة وفناً وأساليب تفكير ومواقف نفسية واجتماعية فهي التي تتعرض للانتكاسات, وهي التي لا تستقيم إلا بانتصار المبدأ الأقوى والأكثر انسجاماً مع بنية الإنسان ودوره في الكون ولن يتأثر هذا إلا بأن يتولى زمام القيادة الحضارية الشاملة ويكون في القمة رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر (ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً), وإلا في ان يتسلم المسلمون مكانتهم (الوسط) في قلب العالم ليكونوا (شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيداً).
إن الذي يفرق الموقف الإسلامي ويميزه إذن, هو أن يطرح إزاء مسألة سقول الدول والتجارب والحضارات, ما يمكن تسميته (الحتمية التفاؤلية) .. إنه يقرر حتمية الانحلال والسقوط ولكنه يقرر – في الوقت نفسه – إمكانية أية أمة أو جماعة أن تعود باستمرار لكي تنشأ دولة أخرى أو تمارس تجربة جديدة أو تتولى زمام القيادة الحضارية والعقائدية, بمجر أن تستكمل الشروط اللازمة لذلك وأولها علمية التغير الداخلي) التي أكد القرآن علي حدها الإيجابي بقوله (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )[102] وأكد على حدها السلبي بقوله (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[103], هذا التغير الذي يمتد إلى مكانة المساحات الأخلاقية و وسائل المكونات النفسية الأساسية, وكل العلاقات الداخلية مع الذات ومع الآخرين, والتي تمكن الإنسان فرداً وجماعة من مواجهة حركة التاريخ ..[104].
والواقع أن معظم مذاهب التفسير الوضعي للتاريخ تكاد تجمع – كذلك – على القول بحتمية سقوط الدول والحضارات بشكل أو بآخر. فهيغل في مثالية يرى الناس والمجتمعات والدول في ممارساتهم وتجاربهم التاريخية كأدوات مرحلية يستخدمها العقل الكلي في فترة زمنية محدودة ثم لا يلبث أن يطيح بها صوب الفكرة الأحسن لكي يجيء ذلك اليوم الذي يكون التاريخ فيه, بشتى معطياته, تعبيراً كاملاً متجلياً لهذا العقل.
وماركس يخضع لحركة التاريخ, بدولها وحضارتها وتجاربها, لحتمية تبدل وسائل الإنتاج وانعكاسه على (الظروف), وأن كل وضع تاريخي مآله الزوال بمجرد هذا التبديل الديناميكي الدائم. ثم ما يلبث ماركس أن يقع في تناقض أساسي مع نظريته عندما يقرر الدوام والثبات لمرحلة حكم الطبقة العاملة (البروليتاريا) حيث لا زوال بعدها . وهذا يشبه – في إحدى جوانبه – الديالكتيك الهيغلي الذي يؤول بحركة العالم إلى السكون وعدم التغير بمجرد بلوغها مرحلة (تجلي المتوحد).
أما تو[1]ينبي فقد سرد لنا في دراسته في التاريخ مصير أحدى وعشرين حضارة من مجموع ست وعشرين تضمنت كل منها العديد من التجارب السياسية والدلو – وانتهي بها الأمر إلى التدهور والسقوط لأنها جميعاً كانت تجد نفسها في نهاية مسيرتها عاجزة عن الاستجابة للتحديات الداخلية أو الخارجية التي قابلتها بين الحين والحين فتطوي صفحاتها .. وأما شبنغلر,الذي يمثل حلقة الوصل بين ابن خلدون وتوينبي, فقد ألمحنا إلى موقفه قبل قليل.
[1] – سورة الأنفال , آية 63
[2] – المقدمة 3/ 466
[3] – دولة المرابطين التي قامت على أكتاف قبيلة لمتونة الصنهاجية من بربر المغرب.
[4] – التي قامت على أنقاض المرابطين واعتمدت عصبية قبيلة بربرية أخرى هي الصمامدة.
[5] – المقدمة 3/467 – 468
[6] – هكذا يسمى ابن خلدون الطبقات العامة, وهو في هذا يحذو حذو الكثير من المؤرخين الذين سبقوه .. ونرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فلا نجد ايما وصف مستهجن لهذه الطبقات : على العكس أن التقييم ينصب لعيها, ويؤخذ على الكفار أنهم ينظرون إلى هذه الطبقات نظرة ترفع واحتقار. ولنتذكر- على سبيل المثال – مواقفهم من نوح ومحمد عليهما السلام .
[7] – المقدمة 3/467 – 472
[8] – المقدمة 3/468-472
[9] – نفسه
[10] – نفسه
[11] – سورة آل عمران آية 110
[12] – المقدمة 1/486 وانظر 1/490
[13] – سورة محمد 38
[14] – سورة الجاثية 13
[15] – سورة الجاثية 12
[16] – سورة إبراهيم 32
[17] – سورة العنكبوت17
[18] – المقدمة 5/893-896
[19] – أنظر المقدمة 4/840-855
[20] – المقدمة 2/419-421
[21] – المقدمة 2/419-421
[22] – المقدمة 2/431 وانظر الباب الثاني نفسه ص 414 – 418 فثل (في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر)
[23] – المقدمة ص 362
[24] – سورة الملك 23
[25] – أنظر التمهيد ص 349-350,417- 418 والباب الأول ص 420 -422, 424 والباب الثالث ص 687, 709, 711 والباب السادس ص 976, 978-979, 983-984, 1225, 1237-1238.
[26] – سورة لقمان 6
[27] – المقدمة ص 367
[28] – سورة طه 50
[29] – المقدمة1/423
[30] سورة آل عمران 110
[31] المقدمة 1/486
[32] سورة يوسف 14
[33] المقدمة 1/422
[34] سورة الحجرات 13
[35] المقدمة 2/433
[36] سورة فاطر 16-17
[37] المقدمة 2/436
[38] سورة البقرة 51
[39] المقدمة 2/440 وكذلك 6/917
[40] سورة المائدة22
[41] المقدمة 2/442
[42] سورة الرعد 11
[43] المقدمة 2/447
[44] سورة الصف 9
[45] المقدمة 2/448
[46] سورة الأنفال 63
[47] المقدمة 3/466
[48] سورة الأنبياء 22
[49] المقدمة 3/480
[50] سورة الأحقاف 15
[51] المقدمة 3/485
[52] سورة النحل 61
[53] المقدمة 3/487
[54] سورة المزمل 20
[55] المقدمة 3/488
[56] سورة الأحزاب 33
[57] سورة المؤمنون 115
[58] سورة الشورى 53
[59] سورة النور 40
[60] سورة الروم 7
[61] المقدمة 3/517 – 518
[62] سورة الأحزاب 62
[63] المقدمة 3/708
[64] سورة الإسراء 16
[65] المقدمة 4/878
[66] سورة محمد 38
[67] سورة الجاثية 13
[68] سورة الجاثية 12
[69] سورة إبراهيم 32
[70] سورة النحل 5
[71] سورة العنكبوت 17
[72] المقدمة 5/893-894
[73] سورة الزخرف 32
[74] المقدمة 6/910
[75] سورة تبارك 23
[76] المقدمة 6/975
[77] سورة البقرة 30
[78] المقدمة 6/977
[79] سورة فصلت 6
[80] المقدمة 6/983
[81] سورة العلق 1-5
[82] المقدمة 6/984
[83] سورة الجن 26
[84] المقدمة 6/1212
[85] سورة الأعراف 90
[86] سورة الزخرف 22-23
[87] سورة سبأ 34-37
[88] سورة الواقعة 41-56
[89] سورة هود 116-116
[90] سورة الأنبياء 11-14
[91] سورة الإسراء 16-17
[92]انظر كتاب (مقال في العدل الاجتماعي ) .. القسم الثاني للمؤلف (مؤسسة الرسالة بيروت – 1977)
[93] المقدمة 4/876
[94] ي . أ . مووار ص 97
[95] سورة الرعد 38
[96] المقدمة 3/692 – 693
[97] سورة الحجر 4-5
[98] سورة الإسراء 58
[99] سورة الأعراف 34
[100] سورة نوح 4 , وأنظر هود 8 ,48 والحجر 24 والاعراف 34
[101] سورة آل عمران 140
[102] سورة الرعد 11
[103] سورة الأنفال 53
[104] التفسير الإسلامي للتاريخ للمؤلف 259-261 الطبعة الثالثة دار العلم للملايين 1981م.