مقدمة:
سأحاول في هذا البحث أن أتعرض لقضية أزمة المعرفة في واقع الأمة الإسلامية كسبب أساسي وجوهري ومسبق لأزمة وجود الأمة الإسلامية في العصر الحديث وأسباب ضعفها وتخلفها.
وسأحاول أن أوضح فكرة المعهد العالمي للفكر الإسلامي والدور المأمول له في علاج هذه الأزمة.
القضية: إسلامية المعرفة:
لماذا نطرح فكرة إسلامية المعرفة للبحث، هل هو بحث نظري وترف عقلي أم أن هناك قضية.
ولكن هذه القضية تأخذ أشكالا ومظاهر واهتمامات متعددة بحسب موقع الناظر والمتأمل.
فهناك قضية تخلف الأمة. وهناك قضية ضعف الأمة. وهناك قضية الاجتهاد لدى الأمة. وهناك قضية الغياب الثقافي للأمة. وهناك قضية الغياب الحضاري للأمة.
كل هذه القضايا والأزمات والمشاكل تعبر بشكل أو بآخر عن قضية المعرفة الإسلامية أو المعرفة لدى الأمة الإسلامية.
لا شك أن انحطاط المعرفة وجمودها وتخلفها لدى الأمة الإسلامية في الوقت الذي يمثل مظهرا فهو يمثل أيضا سببا أساسيا لضعف وجود الأمة وانحطاطها وغيابها الثقافي والحضاري في عالم اليوم وما يتبع ذلك من مآس وأزمات سياسية واقتصادية وعسكرية.
إننا حين نتحدث عن أزمة الاجتهاد في الفكر الإسلامي وحين نتحدث عن أزمة الهوة بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وحين نتحدث عن أزمة الهوة بين القيم والواقع، وحين نتحدث عن أزمة ضعف وضمور واضمحلال الوجود والشخصية الإسلامية.
حين نتحدث عن ذلك فإننا نتحدث ضمنا عن أزمة المعرفة الإسلامية (لدى الأمة) كسبب أساسي مسبق لكل هذه العلل وشرط جوهري لأي محاولة جادة لإصلاحها والخروج بالأمة من متاهاتها.
الصورة الكبرى:
من السهل دائما إدارة الحوار السفسطائي انطلاقا من الجزئيات والتفاصيل في غيبة الوعي عن الصورة العامة للمواقف والقضايا.
والمدرك للصورة الكبرى لتاريخ الأمة وتجاربها يسهل عليه إدراك موضع قضية المعرفة في أزمة الأمة وإصلاحها.
فالأمة الإسلامية على مدى القرون في تخلفها، لم تكن تنقصها الإمكانات المادية، ولم تكن تنقصها الإمكانات البشرية، ولم يكن ينقصها التاريخ، ولم تكن تنقصها القيم فالوحي والرسالة بقيمها ومبادئها الخالدة التي كانت ولا تزال بين يديها موثقة أفضل ما يكون توثيق المتون.
كذلك فإن الأمة الإسلامية على مدى قرون تدهورها وتخلفها حاولت الإصلاح على أسس تقليدية، حاولت في محدودية إعادة الصورة التاريخية ماديا على النحو الذي وعاه العقل التقليدي وقد تكرر ذلك على مدى القرون في بلاد المغرب والسودان والجزيرة العربية وبلاد السند وسواها من البلاد الإسلامية.
وانتهت كل تلك المحاولات إلى تحريك مبدئي لأبناء الأمة في الصحارى والبوادي. ولكن يقصر نفسهم وينقطع حبلهم ويقصر عطاؤهم في حواضر الأمة الإسلامية وأمام قضايا الوجود الإسلامي المتحضر الضال المريض في الأمصار الإسلامية الكبرى. وأمام القوى الثقافية والحضارية والفكرية والتنظيمية المعادية المناجزة.
كذلك حاولت الأمة الإسلامية في تجارب عديدة مريرة أخرى أن تستلهم التجارب الأجنبية غير الإسلامية على غير جدوى منها التجربة العثمانية التركية منذ عهد سليم الثالث وهي أقدمها وأشملها ومنها التجربة المصرية منذ عهد محمد علي وسواها من التجارب.
فجربت المحاكاة الفنية والتنظيمية والفكرية المتحررة والدستورية السياسية والقومية والعلمانية وسيطرة الدولة وتدخلها مما هو معروف.
وانتهت حتى الآن إلى الفشل وبقيت تركيا وبقيت مصر أشد عجزا ومرضا.
وإذا كان أسلوب المحاكاة التقليدي التاريخي وأسلوب المحاكاة الأجنبي لم يسفر أي واحد منهما على مدى القرون عن الغاية الموجودة فإن من الواضح أن الإصلاح ما يزال يكمن في تحديد أصيل مبدع لقوى الأمة الفكرية والثقافية والحضارية على أساس من قيمها ومبادئها ومنطلقاتها ودوافعها ونفسيتها وعلاقاتها وتاريخها، وتكمن قضية المعرفة وتحديدها في أساس ذلك كله.
كيف بدأت الأزمة: من المهم أن نعلم كيف كانت المعرفة سببا في ازدهار وإصلاح حال الأمة. فالإسلام عند ظهوره كان يعني ببناء كيان الأمة الإسلامية على أساس سليم من المعرفة التي ترتكز على هدى وتوجيه الوحي وعلى قدرة وفاعلية العقل.
وكانت حياة الرسول عليه السلام في الوقت الذي يوجهها فيه الوحي ويرسم خطوطها وتصوراتها وغاياتها ويهدي توجهها وخطواتها كانت ترتكز إلى العقل والتدبير والتخطيط والتفكير السديد وآيات القرآن الكريم في تكريم العلم والمعرفة والخبرة أكبر دليل على ذلك وأول لفظ أنزل من الوحي هو دعوة إلى العلم والمعرفة على أساس الغاية والهدي الرباني (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
ولم يكن أحد أكفأ قيادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم استشارة لأصحابه ولا تخطيطا ولا تدبيرا لأمره وأمر جماعة المسلمين في كل أمر وفي كل حال من سلم وحرب.
والغرب حين داهمته هجمة العثمانيين لم يتمكن من صد هجماتهم والتغلب عليهم إلا بعد أن حقق نهضة فكرية ثقافية سميت بعصر التنوير كانت أساس إعادة تنظيم قوى الغرب وتفجير طاقاته.
وإذا كان لنا من مقارنة فإننا نستطيع أن نقول إن الأمة الإسلامية حين دهمها تغير موازين القوى بالغرب ودهمتها هجماته منذ عدة قرون فإن رد فعل المسلمين كان في جوهره عسكريا وسياسيا ولم يكن ينقص الكثير من أبناء المسلمين الإخلاص والتضحية في الدفاع عن الأمة ومقدساتها ولكن باءت كل تلك الجهود وحتى اليوم بالفشل ولم تمثل سوى مزيد من الاستنزاف والتدهور والضعف والتمكين لأعدائهم في رقابهم ومقدراتهم ومقدساتهم ولا يجد الدارسون في جوهر تطور العلاقة إلا اتساع الهوة في خط بياني لا يزيد الوقت إلا تدني اتجاهه لغير مصلحة الأمة الإسلامية. وخلال هذه المسيرة يستطيع الناظر الموضوعي أن يرى في أساس هذه المواجهة بين المسلمين ومناجزيهم وأعدائهم تدهور المعرفة وضمورها وانحطاط النموذج المسلم وانحطاط نوعية ومصادر قدراته الفكرية والتنظيمية والثقافية والحضارية ويظل النموذج المسلم وإن كان لم ينقصه عنصر الإخلاص والتضحية إلى أنه تنقصه قاعدة المعرفة والقدرة ويبتدي فيه ضمور الشخصية والفكر والثقافة.
ولكن أين ذهبت تلك القدرة والطاقة والتألق والبادرة وانطلاقة الفكر وحسن المأخذ الذي عرفته الأمة الإسلامية على عهد الصدر الأول الذي حققت به تكوين الأمة وهزيمة قوى الهمجية وقوى الظلم والفساد وكسبت به قلوب العرب وأبناء الأمم وحققت الإنجازات في أقل من نصف قرن وأرست دعائم مجتمع وحضارة غطت جل سطح الأرض في زمانها وحقبا طويلة من التاريخ بعدها ما يزال الدارسون في حيرة من أمره وانبهار بمداه وإنجازاته.
أين ذهبت تلك القدرة… وكيف تبددت تلك الطاقة… وكيف انحسرت تلك الموجة… وكيف تضعضعت تلك الشخصية… وكيف انهار ذلك النظام.
انفصام القيادة إلى فكرية وسياسية:
إن النقطة الأولى لبداية التحول والسبب المادي المباشر كان هو انهيار دولة الخلافة الراشدة ونظامها في المدينة المنورة على يد جند القبائل العربية التي تغلغلت واستولت على الجيش في تطورات حركة الدفاع والفتح الإسلامي.
ولما لم يكن لرجال القبائل العربية تربية وفكر وجيش الأصحاب الذين بنوا دولة المدينة ونظامها.
لذلك كان لا بد لجيش القبائل العربية أن ينقلب على نظام الخلافة الراشدة وأن يقيم نظاما جديدا هو خليط من القبلية والجاهلية والإسلام كان بدءا لعصور الانحراف والتحول.
ورغم أن الهيئة الحاكمة بقي لها ذات الانتماء القبلي القرشي فإن الحجاز الذي يمثل القاعدة والعناصر الإسلامية الواعية لم تسلم للنظام الجديد بل ثارت وقاومت بالسلاح هذا الانحراف في ثورات وحروب أهلية طاحنة متوالية على عهد الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد ذي النفس الزكية وزيد بن علي وسواهم.
ولضعف التربية الإسلامية في جمهور المسلمين الجدد في الأمصار وبتوالي انطواء الأمم تحت مظلة الإسلام بكل رواسبها الجاهلية كان لا بد أن تنحصر الثورة والمقاومة المسلحة في الحجاز ولكن انتهت القيادة الفكرية الإسلامية إلى العزلة عن القيادة السياسية ومعارضتها ولذلك نجد أبا حنيفة يموت في السجن ولا يقبل تولي القضاء ويضرب مالك بن أنس صاحب فتوى طلاق المكره والشافعي الذي ترك بغداد إلى مصر هربا من بطش السلطة السياسية وابن حنبل صاحب المحنة وسواهم من أعلام الإسلام الذين بقوا على مر العصور سندا للحق والعدل ومعارضة لجور السلطة السياسية واستبدادها وعسفها ومظالمها.
وهذا الانفصام بين القيادة الفكرية والسياسية كانت له أضراره على القيادة السياسية وغشمها وعسفها وتدهور النظام الاجتماعي للأمة.
إلا أنه هو السبب المبدئي لضمور فكر الأمة وقيادتها الفكرية حيث انفصل الفكر عن الممارسة والخبرة والتجربة والتفاعل وكان لا بد أن يصبح بالمعنى السلبي مجردا ونظريا.
هذا الضمور والعجز والأسلوب النظري للفكر الإسلامي لا بد أن يزيد ويتفاقم بمضي الوقت وكان لا بد لمحصلة الفكر الإسلامي التاريخية أن تفقد صلتها ودلالتها المباشرة مع واقع الأمة وصور حياتها المادية المتطورة ومواقفها ومواجهاتها واحتياجاتها الأمنية المتفاعلة المتغيرة.
ومن ناحية أخرى فإن انحراف القيادة السياسية وفقد الثقة بينها وبين القيادة الفكرية صعب مهمة القيادة الفكرية في إقرار مبادرة فكرية من القيادة السياسية ومن أتباعها لما تخشاه من غايات وأهداف القيادة السياسية مما أدى وبشكل مفهوم إلى تصلب مواقف القيادة الفكرية دون اهتمام كبير بمخاطر السلبية النظرية في الفكر خوفا من تأصيل الانحراف والظلم مما كان من أسباب ما عرف بإقفال باب الاجتهاد واختزلت مهمة العلماء إلى المحافظة على التراث والمتابعة النظرية على مر القرون للنصوص والمتون.
ولكن هناك معركة أخرى كان لها أبعد الأثر –فيما أرى- في تحديد مسار المعرفة والثقافة الإسلامية في العصور المتأخرة أدت إلى قطع شرايين الإمداد الفكري لشجرة المعرفة والشخصية الحضارية الإسلامية وبتر جذور النماء في أصولها.
وهذه المعركة هي علاقة العقل بالنقل في أصول المعرفة والثقافة والحضارة الإسلامية.
فالدارس لعصر الصدر الأول لا يصعب عليه ملاحظة روح المبادرة والتفاؤل وحسن المأخذ في فكر الصدر الأول.
ولذلك نجد شجاعة الرأي وسداده والمبادرات والاجتهادات الكبرى تصدر عن الأصحاب والخلفاء في الصدر الأول عن روح الإسلام وغاياته بدءا بمفهوم أبي بكر عن معنى إسلام رجال قبائل العرب واستيعابهم لأركان الإسلام وواجباته ومن ذلك خضوعهم لولي الأمر وأداء الزكاة إليه ومنها اجتهادات عمر في الخراج وفي الطلاق وتمسك علي رضي الله عنه بحق الاجتهاد ورغم أنهم امتداد مباشر لعهد الرسول عليه السلام إلا أن ملامح عصرهم وإدارتهم كانت تنم عن الفهم المدرك لتوجيهات الوحي والشريعة وغاياتها والتزام هذه الروح في مواجهة الأحداث والقضايا والتغيرات التي كانوا يواجهونها.
أما روح القولبة الشكلية القانونية والانغماسات الأكاديمية المدرسية فتلك ظاهرة لم تكن معهودة فيهم ولكنها أخذت تتضح وتنمو بظهور العزلة بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية.
ولم يكن عجيبا أن تخبو روح المبادرة والاجتهادات والتشريعات والسياسات الإسلامية الكبرى بمضي الزمن بفعل تراكم عوامل العجز الفكري بدل أن تتوقد وتثرى بفعل الأحداث وغنى الخبرات وتباعد الزمن.
ففي ظل الخلافة الراشدة كانت القيادة ملتزمة بالقيم والغاية الإسلامية الكبرى وكانت موضع ثقة الأمة.
لذلك كانت حصيلتها من التجربة والفكر مجندة في خدمة المجتمع وتنظيماته المختلفة، ولم يكن هناك مجال للتناقض بين العقل الوحي يصدر أصلا عن التزام وفي حدود هذا الالتزام وفي خدمته.
أما بعد انفصام القيادتين فإن عنصر الالتزام لم يعد لدى القيادة السياسية قائما بالمعنى السابق وأصبح العقل والتجربة لا يصدران بالضرورة عن غايات الالتزام وفي خدمته.
ومن الناحية الأخرى فإن خضوع أمم الأرض المتحضرة للأمة الإسلامية العربية واتصالها بها في مصر وفارس وبلاد اليونان والرومان والهند. كل ذلك أدى إلى انبهار عقلي وحضاري غير كامل الالتزام لدى المسلمين في دوائر بلاطات الحكام والقيادات السياسية.
ولذلك نجد الترجمات والدراسات والمناظرات والاهتمامات لم تلتزم حدود الغاية والشخصية الإسلامية ووجدنا من ذلك ظهور بل رواج مباحث الكلام والفلسفة الإلهية والنزعات الباطنية والصوفية وقرب الحكام الفلاسفة والمتكلمين والمعتزلة وظهرت حركة أخوان الصفا والحركات الباطنية والصوفية المتطرفة.
وكان من الواضح أن الحركة الفكرية واستخدام العقل في هذه المرحلة ليس ملتزما الشخصية الإسلامية ومن أوضح الأمثلة أن البحث في الذات الإلهية ليس له مكان في الفكر الإسلامي لأن تعريف الذات الإلهية وفقا لمفهوم الالتزام ليس لها مثال (ليس كمثله شيء) (الشورى 42: 11) ولا يخضع لقانون السببية البشري (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) (الإخلاص 12: 3).
ولذلك كان رد الفعل ضد هذه الحركة العقلية غير الملتزمة عنيفا من علماء الإسلام مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي ولشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الذين أفنوا جهدهم في الرد على هذه الفرق والضلالات.
كانت حصيلة هذه التجربة الخاسرة مع الثقافة و العقل الوافد غير الملتزم أن يقف العلماء والمفكرون الإسلاميون الملتزمون موقف الشك والعداء من العقل في صور الفلسفة والمنطق وأن تميل المعرفة والدراسات الإسلامية على علوم النصوص الشرعية واللغة العربية والتراث الفقهي مما يؤدي إلى مزيد من فكر المتابعة والقولية النصية القانونية الجزئية التاريخية وأن تعجز وتغلق حلقات الدراسة الإسلامية أمام الاجتهاد وتدور في بطون المتون وترديدها والشرح النظري تلو الشرح عليها.
وبذلك أصبحت الإرهاصات والمبادئ وأساليب البحث العلمي التي قامت في أصول الفكر الإسلامي مثل الضرورة والمصلحة والاستحسان أقرب إلى التعطيل بما فرض عليها من ممارسات وقيود نظرية لا تتفاعل مع حصيلة الممارسة والحاجة السياسية الاجتماعية.
أزمة الفكر الإسلامي المعاصرة:
هي اليوم أعمق ما تكون ليس بسبب العزلة الطويلة التي أورثت هذا الفكر عجزا وضمورا.
ولكن التفكير في سبل إصلاح هذا الفكر لم يتبين التغير الذي طرأ على ميدان المعرفة والثقافة في العالم المعاصر ولم يدرك نقاط القوة في أصول المعرفة الإسلامية ولم يتبين الدروس من تجارب الماضي.
ولذلك كثر التأكيد على الحاجة إلى فتح باب الاجتهاد أو التأكيد على أنه لم يغلق قط ومع ذلك يظل الفكر عاجزا والاجتهاد مفقودا وإن بدت قبسات تظل استثناءات تلتصق بمصادفات التكوينات الخاصة بأصحابها دون أن تتحول إلى مدارس ومناهج في المعرفة والثقافة والفكر.
إن الأزمة تكمن في انفصام العقل والنقل في أصل المعرفة لدى الأمة الإسلامية.
الأزمة تكمن في طبيعة منهاج الدراسة الإسلامية التي تركز في علوم النصوص واللغة والمتون الفقهية الموروثة.
الأزمة تكمن في أن العقلية الإسلامية تتجه نحو الفقيه بمفهومه التاريخي لكي يحل أزمة المعرفة والثقافة الإسلامية ويقدم الاجتهادات والحلول والبدائل الإسلامية الحضارية للأمة في مواجهة أعدائها.
أسس الإصلاح:
إن أسس الإصلاح الفكري الإسلامي الذي يكون قاعدة المعرفة والثقافة والحضارة والمنطلق لتصحيح سير الحركة الإسلامية في التاريخ والخطوة الأولى في تقويم الشخصية وخطط العمل للدعوة الإسلامية يكمن فيما يلي:
أولا: تصحيح علاقة العقل بالوحي في الفكر الإسلامي.
ثانيا: إعادة رسم وفهم مجال المعرفة والاجتهاد ودور الفقيه في الصورة الجديدة للمعرفة والتفرقة بين الاجتهاد والإفتاء في الفكر الإسلامي المعاصر.
ثالثا: إعادة بناء خطة منهج التربية والتعليم الإسلامي بحيث تنتهي ازدواجية المعرفة العقلية والاجتماعية والذبذبة القانونية، وازدواجية القيادة السياسية والفكرية.
وفيما يلي توضيح ما سبق إجماله:
أولا: تصحيح علاقة العقل بالوحي في الفكر الإسلامي:
من الواضح أن المعرفة والفكر والثقافة الغربية المتفوقة هي معرفة وفكر وثقافة عقلية بحتة لا صلة لها بالوحي حيث أن الفكر الغربي ليس وسيلة للمعرفة الربانية بسبب ما أصاب الوحي في الرسالة اليهودية والمسيحية من تحريف وما لابس الممارسات اللاهوتية من انحراف.
ورغم النجاح الكبير الذي حققه الفكر الغربي في المجال العلمي التجريبي إلا أن علماءه لا يسعهم أن ينكروا التخبط الذي يعشه المجتمع والفكر الاجتماعي الغربي وذلك لصعوبة العمل التجريبي الناجح في المجال الاجتماعي الإنساني بل واستحالته في أغلب الأحوال من ناحية ولتحكم الهوى واللذة من ناحية أخرى ولأن العقل الإنساني ليس له أن يحقق الصواب والإدراك الكلي الاجتماعي بمفرده ومن هنا كان التخبط والتناقض والنظريات المتلاحقة التي لا تستقر ولا تنقطع ولا تقطع في أمر.
أما مصادر المعرفة الإسلامية فهي الوحي والعقل.
وليس في القول بأن الوحي أو العقل هما مصدر للمعرفة الإسلامية مشكلة ولكن المشكلة في تحديد العلاقة بينهما وضبطها.
فلا شك أن الوحي الإسلامي يمثل الغايات والضوابط ضد انحراف العقل وهوى النفس. ولكن القضية المهمة معرفة أنه دون العقل يحدث سوء فهم الوحي نفسه.
ولذلك فإن قصور العقل في المعرفة الإسلامية لا يعني ضياع العقل فقط بل ضياع الوحي معه وإذا كان يخشى على غير المسلمين من ضلال العقل أحيانا فإن المسلمين إذا لم ينتفعوا من العقل في مجال المعرفة عندهم فهم لا يفقدون الفائدة المرجوة من الوحي في تحديد الغايات وضبط مسيرة العقل فقط بل إنهم قد يستطيعون أيضا فهم الوحي على غير ما يقصد منه وقد يكون ذلك مصدرا إضافيا للضرر بدلا من النفع.
وأمثلة ممارسات العلماء من منطلق الجهل وغيبة التجربة والعقل في بعض الأمور كثيرا ما تنتهي بهم إلى مواقف مؤسفة غير معقولة ولا مقبولة، ضررها أكثر من نفعها وقد تصد عن سبيل الله.
فالمشكلة إذن تكمن في فهم معنى علاقة العقل بالوحي ومن الواضح أنها علاقة تلازم بالضرورة، فلا وحي دون عقل ولا عقل إذا انحرف عن التزام جادة الوحي.
فالمشكلة تتلخص في كيفية استخدام العقل لا في ضرورة العقل من عدمها.
لا بد من العقل كمصدر للمعرفة والفكر والثقافة الإسلامية ولكن لا بد من استخدامه بوعي في إطار الوحي وغايته أي لا بد من انضباط والتزام في استخدام العقل بحيث لا يجري ضد الغاية الإسلامية أو الإطار الإسلامي بما لا يضيف معرفة ولا نفعا ولكن يضيف تحوطا وممارسات نظرية ضالة كما حدث في ماضي الأمة والتاريخ الإسلامي.
ومعنى هذا هو استخدام العقل في مجال المعرفة الإٍسلامية بوعي وخطة وليس تخبطا وعشوائية وتناقضا وجهلا.
فليس من الإسلام البحث والحديث في أي أمر من منطلق الجهل، وليس من الإٍسلام إعنات الناس في غير فهم ولا رحمة باسم الإسلام.
وليس في الإسلام تجاهل الآثار والنتائج وحاجات الناس.
وليس من الإسلام العجز في أمر المسلمين أو لقاء مناجزيهم وأعدائهم.
كذلك فليس من العقل الإسلامي في شيء جهل غايات الإسلام وقيم الإسلام وحدود الإسلام.
ولعل في المثالين التاليين ما يوضح هذا المعنى:
المثال الأول: مسألة التسعير: لم يسمح للعلماء بالإصرار على عدم التسعير عملا بظاهر النصوص حين رأوا ما يقع على الناس من الظلم والغبن فليس قبول الظلم من العقل ولا من الإسلام في شيء، ولذلك كان العقل الإسلامي هو في التزام قيمة العدل وغاية العدل في العلاقة الإسلامية الاجتماعية.
وإذا كان العقل الإسلامي في هذا الموضع من القدرة بحيث تبين أولوية قيمة العدل إلا أنه للأسف لم يتمكن من تحليل الظاهرة وفهمها بما يكفي لإعادة بناء السوق والتعامل الاقتصادي بما يعيد التوازن العادل في التعامل واكتفى بالإجراءات الاستثنائية الوقائية لدرء الظلم والغبن الظاهر في التعامل.
المثال الثاني: الطهارة من نجاسة الكلب:
ما أورده صاحب “سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام” الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة 1182هـ في مناقشته نجاسة لعاب الكلب والسبل الشرعية لإزالتها حيث أخضع الموضوع للنظر العقلي وتوصل إلى النتيجة العقلية الممكنة لإدراك وعلوم زمانه في أن لعاب الكلب ليس أشد نجاسة من العذرة ولذلك إزالتها هي الغسل ثلاثا كباقي النجاسات، ولكن العقل الإسلامي لا يمكنه أن يقف عند النظر المجرد من ضوابط الوحي.
ولذلك كانت نتيجة بحثه أنه لا بد من غسل لعاب الكلب سبعا إحداهن بالتراب انصياعا للأمر الشرعي حيث لا حكمة ولا مصلحة إنسانية في تجاهل أمر الشارع.
وكان لا بد من مضي القرون ليتعرف العقل والعلم على أنواع من النجاسات آثارها أبعد وأسوأ من الروائح والمناظر الكريهة تسمى الجراثيم والفيروسات والميكروبات وإن من أسهل وأنفع الوسائل لإزالتها الدلك وجريان الماء بقدر كافٍ عليها كأسلوب صحي وقائي في ميسور كافة الناس في كل الظروف.
وهكذا يكون الجمع الواعي المنضبط بين حكمة الشرع والعقل في كل حالة بما يناسبها دون تعنت وشطط أو تفسخ وفساد.
لذلك لا بد أن يستقر بوضوح في الضمير والثقافة والمعرفة الإسلامية تلازم العقل والوحي، وإن أي تعارض أو اضطراب في هذه العلاقة يمثل ظاهرة مرضية خطيرة في جسد الفكر الإسلامي يجب تمحيصها وعلاجها ولا يستريح الضمير والفكر المسلم قبل أن يجد المخرج العملي القادر السليم الذي يوفق ويلازم بين مسيرة العقل ودفعه وفاعليته وبين غاية الوحي وتوجيهه وهدايته بعيدا عن حصيلة التجارب المتميزة المريضة والأفعال الطائشة والعشوائية وردود الفعل التلقائية المضادة.
ثانيا: إعادة رسم وفهم مجال المعرفة في مصادر الاجتهاد، ومعرفة حدود دور الفقيه وإمكانياته في تركيب دواليب عجلة المعرفة في العالم المعاصر، والتفرقة بين عمليات الإفتاء والاجتهاد ومصادرها في الفكر الإسلامي في عالم اليوم.
من الأخطاء التي يقع فيها الدارسون الإسلاميون نتيجة سيطرة التجربة التاريخية على أسلوب نظرهم إنهم ما يزالون ينظرون إلى الفقهاء من دراسي العلوم الشرعية في إطارها التاريخي من علوم النصوص ومتون الفقه وتراكيب اللغة على أنهم هم المسئولون عن تجديد المعرفة الإسلامية وتقديم الفكر والاجتهاد المطلوب لتنظيم ومواكبة الحياة المسلمة المعاصرة والاستجابة للتحديات التي تواجهها وتقديم البدائل الإسلامية لها في مواجهة التنظيمات الاجتماعية والحضارية المناجزة.
وهذا التصور خاطئ من أساسه حيث أنه يقوم على فرضية أساسية لا وجود لها في عالم المعرفة اليوم وهي أن الفقيه يملك المعرفة اللازمة في كل قضايا المجتمع وبذلك يكون قادرا على الفكر والنظر والاجتهاد وتقديم البدائل الإسلامية.
وهذا التصور كان إلى حد كبير صحيحا تاريخيا حين كان الفقيه تاجرا وفيلسوفا ورياضيا وطبيبا وكيميائيا وملما بكل علوم عصره بل مبرزا فيها أو في معظمها كما كان كثير من الفلاسفة والعلماء دارسين متمكنين للفقه والشريعة.
ولذلك كان منهج الدراسة الإسلامية شاملا وكان الفقيه مفكرا أيضا تنهل قدراته ومعارفه القانونية من قدراته ومعارفه العلمية الشاملة لمعطيات عصره الاجتماعية والعلمية والفنية.
ولكن الأمر المهم الذي يجب أن نتنبه له اليوم هو أن المعارف الإنسانية والاجتماعية والفنية قد اتسعت حتى ليصعب على الفرد الواحد الإحاطة بها بل بفروع العلم الواحد وإن القدرة المطلوبة للنظر المجتهد في أي باب من هذه الأبواب تحتاج إلى النظر المتخصص.
ولذلك فالعطاء والاجتهاد والتصورات والحلول والبدائل في أي مجال من مجالات المعرفة الاجتماعية أو العلمية لا يمكن أن تأتي وتصدر عن المختص بالدراسات القانونية وحده.
فمن المشاهد أن القانونيين وإن كانوا هم الذين يصوغون ويبوبون القوانين والتعليمات الخاصة بالاقتصاد أو السياسة أو الإعلام أو الصناعة أو البحث العلمي أو المرور فإن الفكر الذي تصدر عنه هذه القوانين والتعليمات لا يرجع إلى القانونيين.
ولذلك فإننا بحاجة إلى فهم خارطة المعرفة وتطوراتها المعاصرة فلا بد لمجال المعرفة الإسلامية من اقتصاديين وإعلاميين ومن سياسيين وإداريين وسواهم من أصحاب الاختصاص والمعرفة في شئون الحياة الاجتماعية والفنية كافة.
ولا بد لهؤلاء المتخصصين من وعي وإدراك مناسب للنصوص والغاية والقيم الإسلامية حتى يأتي نظرهم وممارستهم بتوجيه إسلامي وحتى يكونوا مصدرا للفكر والتصورات والممارسات الإسلامية كل في اختصاصه وموقعه.
ومن حصيلة فكر هؤلاء واجتهاداتهم ونظراتهم وما يطرحون من تصورات وبدائل تكون التراكمات التي يستقي منها القانونيون أعمالهم القانونية والفقهية التي يتطلبها تنظيم الممارسة الحياتية والاجتماعية والفنية للمجتمع المسلم.
وبذلك نعرف موضع الإفتاء والاختصاص القانوني في خارطة المعرفة والأداء الاجتماعي في عالم اليوم ولا نحمله فوق طاقته وبعيدا عن غايته.
وبذلك يكون التوجه الصحيح لحل معل الاجتهاد والفكر الأصيل والحلول والتصورات الإسلامية البديلة ليس بالنداء الضائع إلى الفقهاء لتقديم التصور التاريخي ولا إلى أصحاب اختصاص المعرفة والصياغة القانونية.
ولكن بالتوجه إلى إعادة رسم خارطة المعرفة على أساس الوجهة الإسلامية وبناء الكوادر العلمية والفنية القادرة على العطاء الاجتهادي.
وكذلك تنظيم هذه الكوادر في نظام يتكامل ويتساند ليوفر المعرفة ودليل العمل تتوزعها بأكثر من صورة ونظام المجامع العلمية العليا والمؤسسات النيابية التشريعية في النسق المسئول الموثق بما يحتاج إليه سير حياة الأمة ونظامها الاجتماعي وبذلك تتضح صورة الحياة الفكرية الزاخرة في المجتمع وما تعج به من الخواطر والتأملات والآراء والاجتهادات وما يجمع عليه جمهور الأمة ويعتمده من الفتوى والقانون اللازم للممارسة الإسلامية في حياة الفرد والجماعة.
ثالثا: بناء منهج التربية والتعليم الإسلامي بحيث تنتهي ازدواجية المعرفة الاجتماعية والدينية القانونية وازدواجية القيادة السياسية والقيادة الفكرية.
من الواضح أن ازدواجية القيادة السياسية والفكرية تاريخيا كانت خلف ضعف المعرفة والثقافة في المجتمع الإسلامي وخلف غشم وجهالة واستبداد القيادة السياسية.
وفي العصر الراهن بتأثير السيطرة العسكرية والسياسية والثقافية الاستعمارية الغربية ونتيجة الفراغ التاريخي قامت أيضا ازدواجية في المعرفة.
فهناك معرفة دينية إسلامية قانونية محدودة لا يزيد الزمن دائرتها إلا انحسارا حتى إن بعض دول المسلمين العلمانية لم تعد تستثني حتى قانون الأسرة والأحوال الشخصية من التغيير والتحوير.
وهناك معرفة علمانية اجتماعية فنية مستوردة تطغى وتمتد إلى جوانب الحياة كافة وتستجيب لمحاكمة العصر ومظاهر تطوره وتحدياته وتقوم على خدمتها ونشرها المعاهد والجامعات والمؤسسات.
ومن الواضح أن كلا الشجرتين عاجزة عن النمو، لانعدام أسباب النمو للأولى ولغربة الثانية عن أرض وشعب الإسلام وغاياته ودوافعه.
ولذلك فإن إصلاح منطلقات المعرفة والثقافة الإسلامية وإعادة بناء كيانها إنما يقصد منه إعادة قدرتها على العطاء والنماء.
ولكي يكون لهذه القدرة ثمرة ومعنى فلا بد من إعادة بناء مناهج التربية والتعليم.
فالكوادر الملتزمة إسلاميا القادرة فنيا هي الجواب العملي الوحيد لإمكانية إعادة وحدة القيادات ووحدة المعارف.
لا بد من التزام الشخصية والقيم والغاية الإسلامية في تربية الكوادر الشبابية.
ولا بد من تزويدها بالأساس من النصوص والمعرفة الإسلامية وكيفية فهمها والتعامل معها بعد إعادة تبويبها وتبسيط مناهج دراستها.
ولا بد من توفير القدر الضروري من النصوص والمعرفة الدينية لكل اختصاص ليكون الموجه والمكون لعقلية الدارس ثم بعد ذلك لا بد من إقامة مختلف دراسات المعرفة والخبرة في كل الفروع الاجتماعية والفنية على أسس وغايات إسلامية وكأجزاء متكاملة متناسقة في وحدة المعرفة والثقافة الإسلامية فلا مجال بعد هذا إلى جامعة إسلامية وجامعة علمانية، ولا مجال لاقتصار الغايات والفكر والمنهج الإسلامي على دراسات قانونية لغوية بل هي دراسات إسلامية الغاية والضوابط والمنهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية..الخ.
وهذا يشمل المنهج الفني والخلق والالتزام المهني والغاية الاجتماعية في كل حقل بما يلائمه ويتطلبه الإسلام في المجتمع المسلم.
الأصول: المنهج التاريخي للفكر الإسلامي: من الضروري عند الحديث عن أسس الإصلاح التعرض لمنهج الأصول في الدراسات الإسلامية ومعرفة موقعه المحدد من عملية الإصلاح.
فقد لا تتضح الصورة للدارس بين كل ما سبق أن ذكرناه عن المعرفة وإعادة بناء كيانها ومنهجها وبين الأصول بمفهومها التاريخي والإصلاحات التي لا بد أن تشملها.
فالأصول القصد منها بشكل عام هو المصادر والمنهج للدراسات الإسلامية.
ومن الواضح مما سبق أن ذكرناه أن منطلق الإصلاح لا يبدأ من قضية الأصول بل يسبق ذلك إلى البدء بمصادر المعرفة الأساسية وهي الوحي والعقل وتوضيح العلاقة العضوية بينها كمنطلق للمعرفة الإسلامية.
كما سبق أن بينا شمولية المعرفة والفكر والاجتهاد الإسلامي إلى كافة مناحي الحياة ورفض محدودية المعرفة وازدواجيته في المجتمع الإسلامي في معرفة قانونية لغوية تاريخية ومعرفة علمانية اجتماعية فنية.
ولكي نتعرف على التوجهات اللازمة لإصلاح منهج الفكر الإسلامي لا بد من التعرض لعلم الأصول وتحليل مكوناته ومفاهيمه الرئيسية ومعرفة مجالات الإصلاح في ميدانه.
والأصول هي كلمة شاملة تجمع العديد من القضايا المتباعدة التي سمحت الظروف التاريخية بجمعها في وعاء واحد، أصبحت في تصوري اليوم مصدرا للتعقيد الفكري والمنهجي.
فالأصول تضم مادة الوحي والرسالة الإلهية والتطبيقات والتوجيهات النبوية القيادية، وهما القرآن والسنة.
كما تضم الإجماع وهو مادة تشريعية فكرية تمثل الإجماعات التي تنتهي إليها الأمة وهو منهج وأسلوب في الوصول إلى المادة التشريعية والفكرية.
كما تضم مناهج وأساليب في الدراسة والبحث للوصول إلى المادة والفكر الإسلامي كالقياس.
ولا بد من دراسة متأنية موضوعية لهذا الإطار وتتبع نموه والمؤثرات المختلفة في تكوينه حتى يمكن تطويره إلى الوضع الذي يخدم المعرفة والثقافة والتشريع الإسلامي بشكل فعال.
ورغم ضآلة بل انعدام الدراسات المتخصصة في المنهج الذي صدر عنه فكر الصدر الأول إلا أن من السهل لمس الفارق في الحيوية والمبادرة والشجاعة والنفاذ في فكر ذلك الجيل.
ومن السهل ملاحظة لمسة الركود والجمود والشكلية المدرسية التي أخذت تزحف على المنهج الإسلامي ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في مفهوم الإجماع عن الأصوليين.
ومن المهم إدراك أن الأصول بمفهومها الحاضر قد تمت بلورتها في فترة مبكرة وإنها بذلك قد استجابت للحاجة القائمة في ذلك العصر.
أما اليوم فيجب إعادة التبويب وملاحظة التطورات والتغيرات في الواقع الإسلامي لمعرفة التعديلات التي لا بد من إدخالها على منهج دراسة الوحي وخوض غمار المعرفة.
ومن أهم ما نلاحظه أنه نتيجة للتغيرات والتطورات الهائلة من صور الحياة الإنسانية وإمكاناتها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والتعليم والتربية والمواصلات والإنتاج وسوى ذلك لا بد من ملاحظة عنصري الزمان والمكان وتأثيرهما على فهم كل نص على حدة ومجموع النصوص ذات العلاقة وفي إطار غايات الرسالة والوحي.
فعلى سبيل المثال إذا حفلت الأحاديث النبوية والكتب الفقهية بتفاصيل دقيقة لكيفية جمع الزكاة من النبات والحيوان حيث كانت مصر الثروة في الجزيرة العربية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم التي يؤخذ منها حقوق الضعفاء والمحرومين وحاجات المحتاجين ونجد فيها الإعفاء والتجاوز للصناعة والتعدين والعقار لما كانت عليه حالة الثروة والإنتاج أسس
على عهد الرسول عليه السلام.
فإننا نجد اليوم ثروة الجزيرة في التعدين (البترول) بشكل غير معهود في التاريخ ومصادر ثروة الأغنياء من العقار ومستقبل الأمة يكمن في الصناعة.
كل هذه التطورات لا بد أن تلقى عناية وتركيزا واهتماما جديدا بما يحقق ذات الغايات السامية رعاية للمحرومين وأصحاب الحاجة في كل زمان ومكان.
إن تأثير الزمان والمكان لا بد أن ينعكس على دراسات المنهج خاصة في فهم جملة السنة النبوية المتعلقة بتوجيهات وتدبيرات الرسول عليه السلام لمجتمع المسلمين ودولتهم على عهده.
ولا بد أن تتطور دراسات السنة النبوية بوجه خاص على هذا الأساس إلى دراسات شاملة متكاملة لنصوص السنة في كل موضوع وفي علاقات المواضيع المختلفة بعضها ببعض في ضوء الغايات التي هدفت إلى تحقيقها في مجتمع المدينة والجزيرة على عهد الرسول عليه السلام، ولعل مقدمة الدراسة لنظرية الإسلام الاقتصادية التي نشرت ضمن مطبوعات اتحاد الطلبة المسلمين بالولايات المتحدة وكندا باللغة الإنجليزية “Contemporary Aspects of Economic and Social Thinking in Islam” وهو وقائع المؤتمر الثالث لمنقطة الساحل الشرقي عام 1968م تمثل نموذجا للدراسة المتكاملة لمجموعة من الأحاديث في الموضوع الواحد وهو هنا موضوع الربا وكيف تتضح الحكمة والغاية والسياسات النبوية التي قصدت إليها ولا يبقى نص من النصوص قلقا أو مهملا لقصور الدراسة.
كما أن تأثير الزمان والمكان بضرورة شمولية الدراسة للنصوص ذات العلاقة والموضوع في إطارها الزماني والمكاني سيجعل أهمية خاصة لأسلوب القياس الشامل للقضايا والصور المتكاملة باعتبار الغاية التي هي فوق اعتبارات الزمان والمكان وذلك في فهم ودراسة السنة النبوية والاستفادة منها.
وسيضع حدا للمعارك المستديمة للاستدلال الجزئي بالنصوص الجزئية والمتفرقة في غيبة الصورة الكاملة والمؤثرات المختلفة للواقع الحي المعاصر للنصوص والذي يمزق الأمة ويعيد طرح القضايا الثانوية والجزئية عودا على بدء لعجز المنهج أن يقول كلمته في مواجهة هذا المأخذ القاصر والضار في الدراسة والتوجيه.
إن القضية الجزئية مهما كان توثيقها ليست بالضرورة هي القضية الصحيحة وقد تكون النقيض لصحة القضية الكلية إذا لم تلاحظ الكليات. ومن مؤثرات الزمان والمكان على تلك القضية مفهومها والغاية المطلوبة منها.
إن الأمل عندي كبير في إعادة النظر في منهج المعرفة والدراسة الإسلامية بحيث يأخذ العقل موضعه السليم إلى جانب الوحي وفي خدمته وتوجيه منه وبتكامل الاستنباط والاستقراء في خدمة المعرفة الإسلامية وبحيث يأخذ القياس الكلي والنظر الشامل وعنصر الزمان والمكان مكانه في منهج الدراسة الإسلامية حينئذ يعاد بناء منهج التربية والتعليم بحيث تتوحد القيادة وتتوحد المعرفة.
إسلامية العلوم الاجتماعية:
وإحدى الخطوات نحو الإصلاح الاجتماعي وإحدى الثمار لإصلاح بناء المعرفة والمنهج الإسلامي في المعرفة هو إصلاح العلوم والدراسات الاجتماعية والإنسانية.
وإلى جانب كل ما سبق ذكره من الجهود المطلوبة لإصلاح بناء المعرفة والثقافة الإسلامية. فإن هناك جهودا إضافية محددة لتحقيق تلك الغاية وهي جهود أسلمة العلوم الاجتماعية.
وحين ناديت بإقامة جمعية علماء الاجتماع المسلمين في إطار نشاطات اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا كان ذلك امتدادا لاهتمامي بأمر تجديد المعرفة والثقافة الإسلامية في جهود الاتحاد ونشاطاته ومطبوعاته الفكرية والثقافية.
وكانت من أهم الغايات عندي لإقامة تلك الجمعية هي تجنيد الإسلاميين الملتزمين من علماء الاجتماع للعمل على إسلامية تخصصاتهم في العلوم الاجتماعية حيث يتوفر لهم الالتزام والخبرة والدراسة الفنية بالمنجزات العلمية والمنهجية العقلية، والمطلوب هو تجنيد جهودهم وتنسيق معلوماتهم والتزامهم الإسلامي وتوفرهم للعمل والدراسة في حقول تخصصاتهم للبحث والتنقيب والنقد والتحليل فيما لديهم من مناهج ومعارف في ضوء القيم والغايات والقواعد الإسلامية.
وحين توليت أمر بناء الأمانة العامة للندوة العالمية للشباب الإسلامي بقي الجانب الثقافي وترقية نطاق ومناهج المعرفة والتربية الإسلامية غاية لي.
واليوم حين ناديت بإقامة المعهد العالمي للفكر الإسلامي وشاركت فيه مع رفاق أفاضل يشاركونني في عمق الإيمان بهذه القضية وأهميتها وأولويتها في هذه المرحلة من مراحل الأمة نحو العطاء والبناء.
فإن المأمول أن تثمر هذه الجهود مع ما يمكن أن توفره من اهتمام وتعاون ومشاركة من الرجالات والمؤسسات الإسلامية كافة لتحقيق غاية إثراء وإنماء دوحة المعرفة الإسلامية وصقل الشخصية الإسلامية وإسلامية العلوم الاجتماعية.
غايات المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومنهاجه في العمل:
غايات المعهد هي العمل في المجال الفكري والثقافي الإسلامي والمساهمة في إنماء المعرفة الإسلامية وإعادة بناء كيانها ومناهجها وإعطائها الأولوية التي تستحقها في هذه المرحلة كشرط ضروري مسبق لاندماج الجهود الإسلامية في إعادة البناء ومتابعة المسيرة. والغاية تقديم تصورات متكاملة للمعرفة ومصادرها الإسلامية.
والغاية تأصيل المنهج السليم في فهم المبادئ والقيم الإسلامية حتى تستقيم التصورات والعلاقات ومناهج التربية وتصقل الشخصية وتصبح النظم تثمر الجهود الإسلامية فكثيرا ما تؤدي جزئية النظرة إلى نشوء التصورات والقيم والشخصية الإسلامية وتأتي ثمار الإخلاص والالتزام بعكس ما هو مرغوب أو مطلوب للقيادة والإصلاح الاجتماعي والإسلامي.
والغاية تجنيد جهود الباحثين والعلماء الملتزمين والمخلصين وتنسيقها لإعادة بناء كيان المعرفة الإسلامية وأسلمة العلوم الاجتماعية على وجه الخصوص وتوفير المادة العلمية والكتب المدرسية الجامعية في هذه المجالات.
والغاية إصدار عدد من الدوريات المعنية للباحثين الإسلاميين مثل دوريات التعريف والنقد الموضوعي للكتاب الإسلامي وتلخيص قضاياه الأساسية للقراء.
والغاية إصدار الدوريات والموسوعات المختصرة لتقديم الجديد في باب المعرفة والمنهج الإسلامي.
والغاية التدريب والندوات واللقاءات العلمية بين العلماء والمفكرين والكوادر القيادية الإسلامية في سبيل مجتمع مسلم أفضل.
الغاية هي أن تصبح المعرفة والاجتهاد والقدرة الإسلامية منهجا ومدرسة وليست استثناءات عملاقة تباعد بين أفرادها الأجيال والقرون.
والنشرة التعريفية بالمعهد متوفرة باللغتين العربية والإنجليزية وفيها تعريف بالمعهد وغاياته ومهماته بمزيد من التفصيل في الموضوع لمن أراد المزيد.
إننا لا نريد للإسلام أن يقبع منطويا في الزوايا والأروقة ولا نريد للإسلام وهدي الإسلام أن ينحسر كلما امتد من الصحراء إلى ميدان الحواضر وتحدياتها.
ولا نريد للإسلام أن يظل معزولا خلف حجب الزمان والمكان.
إن هذه الغايات أكبر من المعهد ومن أية مؤسسة لوحدها مهما كانت… إلا بالإخلاص والتعاون بين العاملين المخلصين الإسلاميين ومؤسساتهم حيثما كانوا في أرجاء الأرض.
عنوان المعهد: 323 Bent Rd, Wyncote, Pennsylvaina. 19095 U.S.A
فبالإخلاص والتعاون بين المخلصين العاملين المستنيرين وبين مؤسسات الريادة العلمية الإسلامية كل في موقعه، وكل في اختصاصه، وكل حسب إمكانياته يصبح كل ذلك ممكنا ويصبح كل ذلك سهلا بإذن الله.
وإن هذه الندوة ما هي إلا إحدى النماذج التجريبية التي نأمل أن تنمو وجوه التعاون على غرارها، بين مؤسسات التعليم والثقافة الإسلامية، وننتظر من ورائها الخير كل الخير إن شاء الله.
إسلامية العلوم السياسية: وإذا أخذنا ميدان العلوم السياسية كنموذج للقضايا والمصاعب الذي واجهها الفكر الإسلامي مما سبق أن أشرنا إليها والتي تواجه الدارس المعلم في ميدان المعرفة والثقافة في هذا العصر نجدها واضحة وملموسة.
فهذا العلم علم اجتماعي لم يوله المسلمون عظيم اهتمام كأثر مباشر لانفصام القيادة الفكرية عن القيادة السياسية للأمة تاريخيا لأن انعدام الخبرة بميدان السياسة والحكم من ناحية وسيطرة الفكر النظري القانوني الشكلي كان له أسوأ الآثار السلبية في ميدان الدراسة السياسية الإسلامية وقدرة الفكر الإسلامي على تقديم التصورات والتغيير في بناء وإمكانات وتحديات المجتمعات الإسلامية عبر حركة الزمان والمكان والتاريخ.
ولعل من المفيد تصوير آثار هذا القصور في مجال العلوم السياسية بأن نضرب مثلين لفقيهين من الفقهاء الأجلاء أصحاب القدرة والباع في اختصاصهم الفقهي ولكن آثار المنهج حين يتعرضون لقضايا الفكر السياسي لا تخفى على نظر المختص.
والمثل الأول هو للفقيه القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي في كتابه الجليل في الفقه الإسلامي المقارن “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” في باب الجهاد حين تعرض لخلاف الفقهاء حول جواز قطع الشجر في الحرب وكان السبب لهذا الخلاف هو نشوء الظن أن أبا بكر رضي الله عنه حين منع قطع الشجر قد خالف فعله فعل الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ثبت أنه حرق نخل بني النضير، وكان وجه التوفيق حيث أنه “لا يجوز على أبي بكر أن يخالف الرسول مع علمه بفعله إنما كان على أحد وجهين أولهما الظن بأن فعل أبا بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم والثاني إن ذلك الفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام إنما كان خاصا ببني النضير لغزوهم”.
ويعقب ابن رشد على ذلك بقوله فيما يراه الفقهاء في الأمر “ومن اعتمد فعله عليه الصلاة والسلام ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال بتحريق الشجر”.
ومن هذا المثال الذي يتعلق بسياسات ومعارك حربية تمت في أوقات ومواضع مختلفة بكل ما تمثله المعارك العسكرية والسياسية من ديناميكية وحركية تستوجب على القيادة التيقظ والمبادرة على مقتضى الحال، وهذا لا يعني عدم الالتزام الخلقي والإنساني بمفهوم الإسلام ودم التصرف بروح الشريعة إلا أننا نجد الفكر النظري القانوني الشكلي غير المختص يقيم قضايا ويعقد مقارنات وهمية ويلجأ إلى الفرضيات والظنون للوصول إلى حل التعارضات الوهمية التي أوجدها.
إن فكرة البحث عن النصوص والكلمات عند النظر في طبيعة المواقف والسياسات التي تأخذ بها القيادات أمام المشاكل والتحديات والمعارك السياسية والعسكرية التي يواجهونها هو في حد ذاته تفكير نظري لا تستطيع القيادات القولبة في إطاراته.
إن التفكر الموضوعي العملي يوجب الانطلاق في كل حالة وقضية من معطياتها المتكاملة وظروفها الزمانية والمكانية الخاصة لمعرفة التصرف والسياسة الإسلامية المسئولة السليمة التي يقتضيها الموقف.
ولو انطلقنا من هذا المنطلق العملي الكلي الشامل لرأينا أنه لا مجال للمقارنة والموازنة بين موقعة بني النضير على بداية قيام دولة المدينة أو ما أسميه العهد المدني الأول والمسلمون قلة يحيط بهم الأعداء وبين معارك جيوش الفتح على عهد أبي بكر رضي الله عنه في بلاد العراق والشام.
فمعركة بني النضير تمت والمدينة محدودة القوة يحيط بها الأعداء في كل الجزيرة العربية وبنو النضير قبيلة يهودية متماسكة مزارعة في منطقة المدينة التي تتميز بالآبار الكثيرة والمياه السطحية وتتوفر للقبيلة من زراعتها التمور التي تتميز بقدرتها على البقاء وصلاحها للأكل لمدد طويلة، ومعنى كل ذلك عسكريا حصار طويل مرهق ومجمد لقوى جيش الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولذلك فإن الأمر بقطع النخيل الذي يأخذ نموه وإثماره عددا من السنين فيه القضاء على موارد رزق وعيش قبيلة بني النضير وبذلك كانت خطة سديدة محكمة أنهت المعركة لصالحهم دون خسائر للمسلمين وطلب بنو النضير الخروج من المدينة بأنفسهم والمنقول من متاعهم.
أما جيوش أبي بكر فإنها خرجت تقارع جيوش الإمبراطوريات المعاصرة في فارس والروم التي تهدد سلامة الدولة الإسلامية وتقبع في العراق والشام على أطراف الجزيرة العربية تهدد المسلمين وتتحكم في رقاب أبناء العراق والشام وتستنزف خيرات بلادهم وثمارهم.
ولذلك كانت خطة أبي بكر انطلاقا من روح الإسلام في مقاومة التعسف والاستبداد وتوفير حرية العقيدة للبشر، خطة سديدة جعلت من جيوش الفتح جيوش تحرير وحماية يتعاطف لهم بمثابة جيوش إنقاذ وتحرير، أما لو أن تلك الجيوش الفاتحة قد دمرت موارد عيش أبناء تلك البلاد فلا شك أنهم كانوا سيقفون إلى جانب جلاديهم من الفرس والرومان لأنهم سيكونون أرحم بهم على أي حال من جيوش الغزو والتدمير.
وهكذا فإن المشكلة الأساسية هنا هي مشكلة في منهج النظر والدراسة أكثر منها في أي أمر آخر.
والمثال الثاني هو ما أورده العالم الجليل الفقيه المعاصر الذي يلقي كتابه قبولا في الدائرة الإسلامية وتعتبر من أفضل المعروض في ميدانه وهو الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة في باب الجهاد حين يتحدث في فصل من فصول الكتاب عن “التبييت” وهو مهاجمة العدو ليلا.
ويتطرق الأستاذ الفاضل للموضوع من وجوهه المختلفة والأسباب التي تستدعي الهجوم والتي يخشى منها كقتل أسرى المسلمين أو من لا يقصد قتله بسبب الظلام ويستشهد بأقوال السلف من العلماء توضيحا وتوثيقا ودعما لما يصل إليه من الرأي والذي قال به في النهاية وهو جواز التبييت.
والقضية التي يواجهها الدارس المختص والقارئ من القيادات السياسية أو العسكرية في موضوع الجهاد والسياسة والحرب في الإسلام هي ليست في سلامة ما أورده العالم الفاضل في حد ذاته وتوثيقه ولكن في إطار الدراسة الشاملة وعلاقة الموضوع ومنهج تناوله ودراسته فيما يختص بعمل هؤلاء وما يواجهونه من قضايا وتحديات.
فالتبييت ولا شك قضية هامة وكبرى في حروب العصور الماضية التي يحارب فيها السيف والرمح وعلى ظهور الخيل وتظل ضحاياها في حدود العشرات أو المئات.
أما في الحروب الحديثة وإمكاناتها الهائلة وطبيعة أسلحتها الواسعة التدمير التي لا تعرف استخداماتها ليلا ولا نهارا ولا رجلا ولا امرأة والتي تعد ضحاياها بالألوف ومئات الألوف والتي يتقرر مصيرها في الساعات والدقائق والتي تستهدف المواقع لأهميتها الاستراتيجية وليس لنوعية النازلين أو العاملين أو المحيطين بها فلا معنى ولا علاقة لهذا النوع من المعارك والحروب. والمشكلة هنا أيضا مشكلة منهج ومنطلق في الدراسة والبحث والعرض والفكر والنظر. ولعله بعد هذا لا يصح قياس القاضي الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” عقد الخلافة على عقد النكاح في انعقاده باثنين أمرا مستغربا.
قصور الدراسات السياسية الإسلامية:
وإذا أدركنا طبيعة المشاكل التي يعاني منها الفكر الإسلامي في المنهج أصبح من السهل علينا معرفة السبب خلف قصور الدراسات الإسلامية السياسية وما يبدو عليها من التعارض والبساطة والمحدودية رغم جلال وسمو المبادئ التي تقوم وترتكز عليها هذه الدراسات في الخلافة والشورى والعدل والمسئولية.
ولعل من المفيد أن نتناول هنا بعض القضايا الهامة التي تطرح نفسها في مجال الدراسة السياسية الإسلامية ويقصر المنهج في تناولها وتوجد بذلك أزمة فكر سياسي لدى الأمة تحول بينها وبين التنظيم السليم والمشاركة العامة من الأمة في تبني قضاياها الهامة وبذل الجهد المطلوب لإنجاحها.
ووجوه القصور التي تعاني منها الدراسات الإسلامية السياسية مرجعها إلى نوعين من القصور:
الأول: هو قصور ينعكس على فهم النماذج والنصوص الإسلامية الأولى التي تعتبر مصدرا للغاية الإسلامية وموجها للفكر والاجتهاد الإسلامي.
الثاني: هو قصور ينعكس في فهم مبسط غير مختص في الفكر السياسي الغربي والأجنبي تدفعه الرغبة في مقاومة هذا الغزو الأجنبي والانبهار به لدى جمهور المثقفين وينتهي في كثير من الأحيان إلى تبني مصطلحات ونظم لا تعكس حقيقة الغاية والمفهوم الإسلامي وتترك ساحة الفكر الإسلامي أكثر اضطرابا وبلبلة وتزيد من صعوبات الخلاص ووضوح الرؤية.
الفرد المطلق والمستبد العادل:
ففي المجال الأول: نرى مفهوم كثير من الدارسين والكتاب في حقل الدراسة السياسية الإسلامية للخلافة الراشدة على أنها نظم حكم فرد مطلق حتى جاء من القيادات الفكرية الإسلامية من يتحدث عن المستبد العادل وتركزت الدراسات الإسلامية على شكليات الشروط فيمن يتولى الخلافة وولاية العهد والبيعة وواجبات السلطان في اتباع الشريعة وحتى طاعته على الرعية.
أما جوهر العملية التنظيمية والسياسية والعوامل والقوى المؤثرة في بنائها واستقرارها وإجراءاتها في اختيار كوادر القيادة السياسية والاجتماعية وتحديد أدوارها ونقل السلطة من قيادة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر وأسلوب اتخاذ القيادة لقراراتها وأسلوب وحدود ممارسة القيادة لسلطاتها والرقابة عليها.
كل ذلك لا نجد له صدى ولا عناية في هذه الكتابات كما سبق أن قلنا لانعدام الخبرة والاختصاص وبالتالي النظر السطحي المبسط للأنظمة والتاريخ.
ولأهمية الخلافة الراشدة في الفكر الإسلامي ولتباعد الزمن مع عهدها وتغير الظروف تغيرا كبيرا كانت دراستها وحسن فهمها وفهم مدلولات مكوناتها أمرا غير يسير على غير المختص المجرب.
ومن المعروف في دراسة الأنظمة السياسية أنه لا يمكن الاكتفاء بدراسات المؤسسات والوثائق الرسمية لنظام الحكم ولذلك لا بد من دراسة تشمل الأنظمة والأجهزة والعوامل المؤثرة في نظام الحكم الرسمية وغير الرسمية حتى يمكن فهم النظام وأسلوب عمله.
والخلافة الراشدة سيجد الدارس لها الحد الأدنى من المؤسسات والأنظمة الرسمية والمكتوبة.
وليس ذلك عن نقص فيها ولكن طبيعة البيئة العربية البدائية البسيطة التي نشأت فيها والتي لم تقم بها حكومات أو إمبراطوريات أو نظم معقدة ولكن كانت قبائل مبعثرة متناثرة لا يجمعها نظام ولا دولة قبل الإسلام ولأن حكومة الخلافة الراشدة كانت تواجه تحديات هائلة في عالمها المعاصر مع ضآلة الإمكانات البشرية.
ولأن الأصحاب بقيادة الرسول عليه السلام هم الذين أنشئوا دولة المدينة وهم الذين مارسوا العمل حول الرسول عليه السلام طيلة ثلاثة وعشرين عاما.
لذلك لا يجد الدارس تنظيما أو إجراءات لاختيار القيادة وتحديدها فالأصحاب هم القيادة كأمر واقع بحكم إنشائهم للدولة والنظام الاجتماعي.
كذلك لن يجد الدارس تنظيما ولا إجراءات لتحديد أدوار القادة لأن قدراتهم ومواقعهم محددة على عهد الرسول عليه السلام ويعرف الأصحاب قدرات بعضهم البعض ولذلك فاختيارات الخليفة على أي الأحوال لم تكن اعتباطية ولا عشوائية.
أما الرقابة فكانت تتم تلقائيا من خلال الباب المفتوح في المسجد بين كوادر القيادة وبينهم وبين الرعية ولطبيعة التربية المتينة للأصحاب.
أما تنظيم وإجراءات نقل السلطة من جيل القيادة جيل الأصحاب إلى الجيل الذي يليه من أبناء الأمة وعلى أساس من الغاية الإسلامية في الالتزام والكفاءة فللأسف فإن انهيار الخلافة الراشدة وهي ما تزال في دائرة الجيل الأول لم تسمح بقيام تلك الإجراءات وبلورتها.
ولهذا فإن دراسة الخلافة الراشدة ومعرفة طبيعتها وأساليب عملها لا بد فيه من النظر المختص المثمن قبل القفز من الوهلة الأولى إلى القول بالفرد المطلق والمستبد العادل رغم أن القرآن ينفي في أول ما أنزل من الوحي “إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” 96: 51 وقبل القول بإجراءات وتصورات أخرى في التنظيم والشورى والسلطات والرقابة وسواها من شئون الحكم في مجتمع أو آخر قياسا واستلهاما واقتداء بنظام الخلافة الراشدة.
الشورى والردة: ومن قضايا المجال قصر مفهوم الشورى الإسلامية في علاقات الحكم على مجرد سماع الخليفة أو السلطان للآراء وإن قرار حرب الردة الذي اتخذه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان مجرد إنقاذ لمفهوم حكم النص في قتال المرتد.
وتتلخص النظرة بهذا الأسلوب في أن أبا بكر قد اتخذ القرار وأصر عليه رغم اعتراض عمر بن الخطاب ومن أيده في ذلك من الصحابة.
والعجيب أن القائلين بهذه الآراء لا يرون من الأمر إلا نصوصا أو نتفا من نصوص جاءت ضمن جدال وحوار بين الأطراف.
ولا يرون القضية في صورتها الكبرى، وكيف أن قضية إخضاع القبائل العربية الوثنية الهمجية البدائية قد كان موضوع وحي وقرارات نبوية توجب إخضاعهم للسلطة والنظام الاجتماعي الإسلامي وإظهار شعائر وأداء واجبات الإسلام بغض النظر عن إيمانهم (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) 14: 96 فلا يقبل منهم إلا خضوع للإسلام وسلطة الدولة الإسلامية وإلا فالحرب والقتال والإذعان عنوة للسلطة الإسلامية.
وعجيب ألا يروا قدر أبي بكر وهو صاحب العقل الراجح والجنان الثابت والرأي المتزن السديد والقلب الرحيم الذي ما كان ليتخذ قرارا خطيرا كهذا في غمرة أحداث لا جديد فيها حيث إن الردة والعصيان قد ظهر قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لظهور مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي دون فكر ولا روية.
وعجيب ألا يدركوا الوقت والجهد والأدوار التي تمر بها القرارات السياسية عموما والهامة على وجه الخصوص قبل أن يتم تبنيها وإقرارها.
ونستطيع أن نرى في قضية الردة قضية سياسية هامة في نبأ المجتمع والسلطة وتنظيم الجزيرة العربية وليس مجرد صراع لغوي قانوني حول الكلمات والعبارات والنصوص كما نستطيع أن نرى فيها صورة حية لاتخاذ القرارات السياسية ومعاناتها وشروط حمل المسئولية القيادية السياسية ولذلك يهدد عمر بن الخطاب أبا بكر بترك المسئولية والرئاسة إذا لم يتخل في النهاية عن آرائه التي لم تتقبلها الجماعة كما نرى الخليفة أبا بكر يبسط وجهة نظره ويوضحها ويدافع عنها وفي النهاية تقتنع الجماعة برأي الخليفة وترى رؤيته وتقر قراره ويأتي التصويت بالثقة من عمر ذاته قبل سواه بعد أن سمع لأبي بكر وهو أعرف الناس بقدراته وحكمته ويرجع إلى نفسه ليقول والله ما أن رأيت إصرار أبي بكر حتى شرح الله صدري وتابعت القيادة وتوجه الجيش إلى أداء المهام الموكولة إليه طواعية وقناعة ضميرية لم يكن لأبي بكر سلطان عليها سواها خاصة بعد أن سمعنا عمر وهو يقرر وجوب تنحي الخليفة إذا لم يذعن للجماعة وقد علمنا التاريخ من قولة الأعرابي لأبي بكر “والله لو رأينا فيك اعوجاجا قومناه بسيوفك”.
فكيف يمكن للدارس أن لا يرى معنى الشورى ومداها في الممارسة الإسلامية على عهد الخلافة الراشدة وكيف له أن يرى في ذلك مجالا للاستبداد أو إطلاق السلطة.
لا بد أن تهتز رؤية الدارسين غير المختصين حين يفكرون في شئون الحكم لا يفرقون بين الشئون التنفيذية والإدارية التي تحتم تحديد المسئولية وبين القرارات الكبرى وشئون الرأي والسياسات العامة التي تكون مجال الشورى ويكون للشورى فيها فائدة تمحيص الرأي واكتماله وسداده بإضافة الآراء التي بعضها كما هي إجراءات تعليمية للأمة وقياداتها بشأن هذه السياسات والقرارات كما أنها تعني الانتماء إلى هذه القرارات وبالتالي الحرص على إنجاحها وتقديم التضحيات اللازمة لها عن رضا وقناعة.
الفلسفات والمصطلحات الأجنبية:
ومن قضايا المجال الثاني التي يعاني الدارسون والكتاب الإسلاميون منها خوضهم في قضايا الأنظمة والمصطلحات السياسية الأجنبية بدراية محددة وبمعيار قانوني شكلي ولعل ذلك بتأثير مزدوج من منهج دراستهم أصلا من ناحية ولعدم تمكنهم من الإلمام الشامل بخلفيات وأسس تلك الأنظمة.
وفي غمرة الحاجة إلى الملاحقة والاستجابة للضغوط الحضارية تأتي الدراسات والفوائد قاصرة عن المطلوب بل مصدرا إضافيا لضباب الرؤية واضطراب الفكر وصعوبة التمييز.
الديمقراطية والسيادة:
هذان المصطلحان هما من المصطلحات ذات الأصول الأجنبية والتي تناولتها اهتمامات الكتاب الإسلاميين وتبناها بعضهم كمفاهيم توافق طبيعة الإسلام ويتوجب تبنيها في الفكر والنظم الإسلامية.
ولا شك أن هناك أسبابا من التشابهات الظاهرة بين هذه المصطلحات والغايات والمفاهيم الإسلامية إلا أن المؤسف أن لهذه المصطلحات والمفاهيم جذورا وجوانب خاصة لم يتنبه له هؤلاء الكتاب ولم يعيروها الاهتمام الكافي مما أورث الفكر الإسلامي مزيدا من القضايا الفكرية الزئبقية المتلونة التي الجانب الظاهر منها جوانب وقضايا غير مرغوبة ولا مطلوبة ولا مفهومة ولكنها تؤدي إلى اضطراب الفكر وعتمة النظر.
فالديمقراطية مبدأ ومفهوم وإجراءات في جذور قديمة في التاريخ والفكر والفلسفة الغربية لا تقف عند كونها –من الناحية العامة- قضية إجرائية في اختيار القيادات السياسية في الغرب ولكنها في الواقع الترجمة العملية السياسية للفلسفة المادية الفردية التي تؤله الفرد وتجعله غاية وهواه قانونا للوجود وكل شيء وسيلة لهذا الوجود.
ولذلك كانت الديمقراطية في النهاية ائتلافا وتجمع أفراد ينالون قوة الأغلبية ليحكموا فكرتهم ومصالحهم الخاصة بالحد الأدنى المناسب من التنازلات في مواجهة الأقليات.
ولا شك أن لهذه الأسس والخلفيات الفلسفية والتاريخية والنفسية آثارها على بناء الأنظمة والإجراءات والممارسات الغربية.
ولمثل هذه الأسباب يأتي التخبط في الفهم وفي التطبيق عند المسلمين من محاكاتهم لنظم ومصطلحات وتجارب غيرهم دون أن يدركوا تلك الأسباب ولا تلك المؤثرات.
إن الشورى ليست الديمقراطية رغم أنها تهدف إلى اختيار وانتشار القيادات والوصول إلى القرارات التي يقبل بها ويساندها جمهور الأمة.
ولكن الفرق أن الشورى كما يدل اسمها تصدر عن فهم فلسفي مغاير ينبني على إيمان المسلم بأن الحق والعدل حقيقة موضوعية يسعى إلى بلوغها بغض النظر عن هواه وميله الخاص وإن عملية الشورى هي إجراءات يجلسون فيها إلى بعضهم بغرض تبين وجه الحق واتباعه دون حتمية شرط ولا فرض مسبق من مصلحة بعينها ولا عدد من الأصوات بعينه، وليس من بأس من التصويت والأغلبية والأقلية إذا كان الأمر مجال رأي وتفضيل لا يهضم حقا، أو إذا غمت الرؤية ولا مناص من مقياس لاتخاذ القرار المطلوب.
إن مفاهيم الخلفية الفلسفية إذا تركز الوعي عليها فلا شك إنها سوف تترك آثارها على طبيعة التنظيم الإسلامي السياسي وإجراءاته في أسلوب الوصول إلى القرارات وتنفيذها على غير ما يجري في المجتمعات والأنظمة الأجنبية.
وكذلك مصطلح السيادة فرغم أن بعض الكتاب قد تبناه على أساس أن البيعة إنما الغربية الديمقراطية فإن البعض قد رفضها على اعتبار أن الوحي هو شريعة المسلمين ولا مجال للتشريع من قبل أحد من المسلمين فذلك مرده إلى الله.
والقضية التي يثيرها مثل هذا المصطلح في الفكر الإسلامي بالرفض أو القبول قضية زائفة لا تزيد الرؤية الإسلامية إلا تعتيما واهتزازا.
فالسيادة مصطلح غربي له جذوره التاريخية في الصراع على من يستند إليه القرار السياسي في المجتمع وقد استخدم هذا المصطلح ليضع سلطة القرار السياسي ومن ذلك القرار التشريعي في يد الملك ضد السادة الإقطاعيين كقوة موحدة في إبان نشأة الدول القومية، ثم استخدم بعد ذلك ليضع القرار السياسي والتشريعي في يد ممثلي الشعوب باسم الأمة إن اتسعت دائرة المشاركة السياسية ونمت قوة الطبقات الجديدة صاحبة القوة في المجتمعات التجارية الصناعية الجديدة.
وتبني قضية مصطلح السيادة أو رفضه إنما يعني أن الوعي بالطبيعة الدستورية للمجتمع الإسلامي غير واضح وأن التفرقة بين مختلف مستويات القرارات في النظم الإسلامية غير واضحة.
فغير صحيح أن سلطة المجتمع المسلم في الشئون التشريعية مطلقة كما أنه غير صحيح أن المجتمعات والسلطات الإسلامية التشريعية لا وجود لها.
من المهم أن نعلم أولا طبيعة المستويات التشريعية حتى يمكن أن نحدد الاختصاصات في المجتمعات المسلمة.
فالقيم والمبادئ والتشريعات الدستورية الأساسية كما جاءت في الوحي ليست موضع جدل ولا اختصاص لأحد فيما وراء ما نزل منها.
أما التشريع على المستويات الدنيا وفيما لم يرد فيه وحي ولا نص ولا توجيه فهو اختصاص الأمة بحسب الحال وإلا فيم كان الاجتهاد والرأي والترجيح؟ وإذا لم يكن هذا من الناحية الفنية قرارا وتشريعا فماذا يكون؟ إن كثيرا من الحقوق والدماء تتقرر في مثل هذا الاختصاص وبسبب هذا الاجتهادات والترجيحات التشريعية.
إن الإطار الإسلامي على هذا المستوى ليس فيه صراع على تحديد مصدر القرار ولا مجال فيه للانتصار بفئة على فئة.
وإن هذا الخلط وهذه المحاكاة لن تؤدي إلا إلى صعوبة تحديد الاختصاصات بمفهوم إسلامي وفق المنطلق والإطار الإسلامي.
ولذلك فإما إنكار لكل القرار على الأمة وإما وضع مطلق القرار في يدها على غير ما يقضي بها بناؤها الإسلامي.
إن مصطلح السيادة لا مجال له في الإطار الإسلامي التنظيمي السياسي فهو في مدلول الاختصاصات التشريعية الأساسية مستقر.
والمشكلة ليست في تحديد مصادر القرار هل هو الوحي المنزل أو الأمة.
ولكن القضية التي يفرضها الإطار الإسلامي هي الكيفية التي تنظم ممارسة الأمة لاختصاصاتها وسلطاتها بالشكل السليم الذي يمثل الغاية والروح الإسلامية.
الدين والدولة والخلافة:
ومن القضايا التي يقع فيها المسلمون في غمرة ضيعة المعرفة الإسلامية الناضجة في مجال العلوم السياسية قضية هل الإسلام دين ودولة؟ وما في المطالبة بإقامة نظام الخلافة في العصر الراهن في بلاد المسلمين من حرج.
وهاتان القضيتان تمثلان نجاح الفكر المعادي في إرباك فكر الكتاب المسلمين.
فطرح قضية الدين والدولة بغض النظر عن التفاصيل والنصوص التي يتبادلها الأطراف لإثبات وجهة نظر كل منهم من مؤيد ومعارض يجعل القضية تمثل نجاحا في إرباك الفكر الإسلامي وخلطه للقضايا الأساسية وصرف النظر عن القضايا الهامة لضياع المنهج السليم.
فالنظر الكلي إلى الإسلام يرفض أصلا وجود قضية دين ودولة في الإسلام لا لنقص في النصوص التفصيلية والجزئية ولكن لأن مفهوم الإسلام أصلا وقضاياه الأيديولوجية الكبرى في الذات الإلهية والخير والشر والآخرة إنما يقصد منها السلوك الإنساني في الحياة والمجتمع ولا معنى ولا إسلام ولا إيمان إذا لم يكن للالتزام الإسلامي انعكاس على السلوك والتنظيم الاجتماعي للإنسان.
ولكن خلط مفهوم الدين بالمعنى المسيحي من ناحية وإحساس المسلمين المستمر في العصر الراهن بأزمة الأنظمة الاجتماعية الإسلامية ورغبتهم في مخرج سهل من الأزمة جعلهم ينصتون ويشاركون في حوارات فكرية سياسية من هذا النوع.
وانتهى الأمر بالعدوان أن بلغ غايته في صفوف كثير منهم بدعوى تمجيد الإسلام كتراث وقبوله كمسلمات غيبية تتجاهل توجهاته الاجتماعية ليملأ بعد ذلك فكره ولبه بمفاهيم الاستعلاء والعنصرية والقومية والتنظيمات العلمانية واليسارية المنافية للإسلام وغايات الإسلام ومبادئه وقيمه.
أما قضية الخلافة فهي قضية تمثل الخلط بين الإسلام كقيم وغايات ومثل ومبادئ وبين التطبيقات التاريخية المادية في حياة المجتمعات الإسلامية التاريخية.
ولما كان من الصعب –إن لم يكن من المستحيل- إعادة تطبيق النظم التاريخية بحذافيرها وإذا عرفت الخلافة بأنها الصورة المادية للتنظيمات السياسية الإسلامية فإن إعادة تطبيقها والأمل في تبنيها أكثر صعوبة بغض النظر إذا كان قد تم تبني هذا النوع من التعاريف بشكلٍ واعٍ كما هو الشأن ببعض المستشرقين أو كان بشكل غير واعٍ ولا مقصود إذا تم من بعض الكتاب والدارسين المسلمين..
إن الخلافة ليست إلا مصطلحا إسلاميا قصد منه إقامة النظام الاجتماعي السياسي عند المسلمين على أساس الإسلام وإقامة شريعة الإسلام خلافة لدور الرسول عليه السلام في قيادة المجتمع الإسلامي لتلك الغاية.
ولذلك فالخلافة فكرة وغاية لطبيعة النظم السياسية الإسلامية.
وأي نظام مهما كان تركيبه إذا التزم الحدود والغاية والقيم الإسلامية وقصد إلى رعاية شئون الأمة الدينية والدنيوية على أساس الشريعة ووفقا لها فهو نظام خلافة.
ولا يمكن للمسلم أن يسلم بإقامة النظام السياسي في مجتمعه على غير ذلك الأساس ولا لتلك الغاية.
إن نظام الخلافة غاية إذا جردنا ذلك المصطلح من سوء الفهم الذي يجعلنا نقصد من ورائه صوراَ مادية تاريخية أو من سوء الغاية التي ترمي إلى تنكرنا لشخصيتنا ونفض اليد من البحث في ذاتيتنا لبدء مسيرة قادرة أصيلة.
واقع الدراسات الجامعية السياسية الإسلامية:
ولكي تخطو محاولات إسلامية العلوم السياسية خطواتها بنجاح علينا أن نعرف واقع هذه الدراسات فهي في مجملها لا تعدو أن تكون مجموعة من الكتب عن الآراء والتصورات والاجتهادات والفردية والكتابات الوصفية التاريخية والقانونية الدستورية الشكلية لأنظمة الحكم والإدارة في الإسلام أو في السير وأحكام الحرب والسلام.
ومن الواضح أن مجالات الدراسة التحليلية في ميادين الفكر السياسي وتتبع الظاهرة السياسية في التاريخ الإسلامي وطبيعتها واهتماماتها وقضاياها ومصطلحاتها والأصيل منها والوافد عليها والثابت والمتغير فيها وكذلك مفهوم العلاقات الدولية في الإسلام والعوامل المؤثرة على مسيرته التاريخية وكذلك دراسات نظم الحكم وحصيلة تجاربها والدروس المستفادة منها في سبيل تنظيم مجتمع أفضل إلى جانب دراسات التاريخ السياسي الموضوعية للأمة. كل هذه الدراسات غائبة في محيط الجامعة في البلاد الإسلامية.
وليس بالمستغرب أن يتخرج الطالب من معاهد الدراسات الجامعية السياسية في البلاد الإسلامية مؤهلا في العلوم السياسية وهو يجهل الوجه والغاية والإنجاز والواقع الإسلامي في كل هذه الحقول إلا النزر اليسير إن تيسر له وفي الغالب في مجال نظم الحكم والإدارة بمفهومها الوصفي القانوني التاريخي المحدود الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
والمطلوب هو العناية والالتفات إلى وجوه النقص الهائلة في هذه الميادين وميادين العلوم الاجتماعية وتكوين المراكز والحلقات والوحدات الدراسية للبحث والدرس في هذه المجالات من قبل أصحاب الاختصاص.
وهذه الجهود لا بد أن تكون مضيئة في البداية حيث تمتد إلى دراسة واعية شاملة تحليلية للتاريخ والتراث الإسلامي في كافة مصادره من قرآن وسنة وكتب الفقه والتاريخ والأدب حيث تعالج هذه القضايا بتبويب ومسميات ومصطلحات غير ما ألف الدارسون المعاصرون.
كما إن عليهم النظر الشامل فيما بين يديهم من قدر هائل من العلوم والمناهج الأجنبية مع كل ما تمثله من قدرة وإنجاز فيه قدر عظيم من الفائدة إلا أنه يصدر عن منطلقات وغايات ومصالح وعلاقات ولا تنطبق على منطلقاتنا ولا غاياتنا ومصالحنا وعلاقاتنا ودوافعنا النفسية والمعنوية.
ولذلك لا بد من البحث والتنقيب والنظر الثاقب المحلل قبل بلوغ الهضم والعطاء.
ولقد مضى وضاع وقت طويل وعلى مؤسسات التعليم والمعرفة الجادة أن تضع هذا النوع من العمل والإنجاز على رأس قائمة أولوياتها وأن توفر له الموارد الضرورية وتفرغ له الكوادر العلمية المؤهلة الملتزمة القادرة حتى يتغير وجه المعرفة والمنهج الإسلامي في هذه العلوم بما يعيد إلى المسلمين قدرتهم ويضع حدا لغيابهم الثقافي والحضاري القيادي في العالم.
خاتمة: لا يزال الخير في اتباع غاية الإسلام:
وفي نهاية هذا البحث أود أن أقدم مثالين للآمال الإنسانية التي ترتجى من بعث الإسلام حيا قياديا في حياة البشرية منقذا لها من الآفات والمخاطر الرهيبة التي تتهددها بانفتاح آفاق العلم المادية المثمرة والمدمرة في آن واحد.
النظم السياسي ونظام الأسرة الإسلامي:
إذا تأملنا في واقع العالم الإسلامي وواقع العالم الغربي للفت نظرنا ظاهرتان متناقضتان للأمن والاستقرار مع انعدام الأمن والاستقرار في كل من العالمين.
ففي العالم الإسلامي نجد الحياة على المستوى الفردي آمنة مطمئنة بشكل عام لا يقلقها ولا يفزعها العنف والجريمة على عكس ما يحدث في البلاد الغربية حيث أن الحياة على مستوى العلاقة الفردية تتسم بالعنف والخوف وانعدام الأمن.
أما على المستوى السياسي ففي الوقت الذي ينعم الغرب الديمقراطي بالأمن والاستقرار في النظام والحكم وممارسة السلطة والمعارضة وتوارثها، إلا أننا نجد العالم الإسلامي الذي تتسم نظمه السياسية بالاستبداد يعاني من العنف والخوف وعدم الاستقرار.
وإذا نظرنا إلى كلا المجتمعين لوجدنا أن العالم الإسلامي على المستوى الفردي يتمسك بشكل عام بنظام الأسرة وقانون الأحوال الشخصية الإسلامي رغم تعاقب الأزمان (وهو قانون يتسم بالعلاقة الأخلاقية وروح المسئولية والتكامل والتعاون المتين بين أفراد الأسرة) بما يحقق إحساسا بالرضا والاحترام والتعاطف بين أفراد المجتمع ولا يدع مجالا لروح الحقد والضغينة وأمراض الطفولة النفسية بالنمو، ولذلك حتى تشتد الحاجة في بعض المجتمعات الإسلامية بالأفراد نجد ظاهرة السرقة بالنشل شائعة ولا تكاد تعرف السرقة المصحوبة بالعنف والدماء.
أما في الغرب حيث يتسم نظام الأسرة بالانحلال وعكس كل ما يمثله نظام وقانون الأسرة الإسلامية وما يستتبع ذلك من انعدام روح المسئولية وما يستتبع ذلك من انعدام روح المسئولية والتكافل وما ينتج عنه من تفكك الأسرة وتفشي الأمراض النفسية لدى الأطفال والشباب كانت النتيجة هي الحقد والجريمة والعنف وانعدام الأمن في شوارع الحواضر الغربية الكبرى.
أما على مستوى النظام السياسي فإننا نجد العكس فإن العالم الغربي قد التزم في نظامه السياسي مفهوم الانتخاب والاختيار للقيادات السياسية مما أشارع الرضا والاستقرار في العلاقات السياسية ووفر الأمن ولذلك فإن الصراع السياسي لا مجال له في تنظيم اختيار تحسمه الأمة في صناديق الاقتراع ولا يحسمه السلاح في ميادين المعارك
أما في العالم الإسلامي الذي يقوم بمفهومه في التنظيم السياسي واختيار القيادة على الالتزام الإسلامي والكفاءة والذي انحرفت مسيرتها عنه بانهيار الخلافة الراشدة والتزم بذلك نظام الملك المستبد الذي يقوم على الاستئثار بالسلطة لأصحاب القوة والعصبية لذلك انعدم الاستقرار السياسي وأصبحت مقاليد السلطة والحكم تحسم على حد السلاح وليس في ضمير الأمة واختيارها للعناصر الملتزمة المؤهلة.
إن من الواضح أن التزام الأمة للنظام الإسلامي في الأحوال الشخصية أورثها أمنا كما أن انحرافها عن النظام الإسلامي في الميدان السياسي والحياة العامة أورثها الاضطراب والعناء.
وليس للغرب في رأيي من سبيل إلى السلام على المستوى الفردي إلا بإصلاح نظام الأسرة فيه على نسق المفهوم والنظام الإسلامي للأسرة.
كما لن يحقق العالم الإسلامي السلام والاستقرار في حياته ونظامه السياسي ما لم يعد إلى مفاهيم وغايات الإسلام في التنظيم السياسي في الشورى والاختيار على أساس الالتزام الإسلامي والكفاءة الوظيفية.
فلسفة السلام العالمي:
من الواضح أن الإنسانية بإمكانات الدمار الذرية ودروس التاريخ البشري تواجه خطر الدمار الشامل.
ومن الواضح أن فلسفة الغرب المادية بشقيها القومي وصراع الطبقات الماركسي هي فلسفات مواجهة ومناجزة ولا يمكن الاطمئنان إلى نظام دولي تقوم نظرة أعضائه ومفهومهم للحياة على المواجهة ولا تمدنا التجربة البشرية إلا بخبرة حتمية الحرب بين المتواجهين المتناجزين المتعادين مهما طال الزمن ومهما حكم العقل في مضمار الحرب ومخاطرها ولم تغن المؤسسات الدولية قط في درء الحروب حين تتوفر أسبابها في العداء والخوف وانعدام الثقة.
والإسلام يقدم مفهوما أساسيا في النظرة والعلاقة بين البشر انطلاقا من وحدة أصلهم من نفس واحدة وأن تفرغهم شعوبا وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم هو لغاية إيجابية لإيجاد الظروف البشرية الموضوعية للتفاعل والتعارف فيما بينهم، كما أن رعاية حق العشيرة والأقارب وأهل الجوار واجب وغاية يتطلبها الإسلام من الإنسان بل ويتطلب الإسلام من المسلم العدل والإحسان إلى غير المسلم الذي تربطه به صلة السلم.
أما المعتدي فعلى الجميع صد عدوانه وللمعتدى عليه حق رد العدوان بمثله وإن كان الإسلام يدعو إلى الصفح والعفو ما كان ذلك ممكنا وفي طاقة المعتدى عليه.
وهذا المفهوم وهذه الفلسفة هي قانون وإلزام رباني للمسلم بحكم إسلامه لا خيار له فيه ولا رجعة عنه.
وهذه الفلسفة وهذا المفهوم الذي يشبه علاقات الدوائر المتداخلة يمثل فلسفة ونظرة إنسانية أصيلة للسلام في المجتمع الإنساني المعاصر ويمثل نظرة إيجابية ترتكز على وحدة الوجود والمصلحة الإنسانية المشتركة ودون هذه الفلسفة وهذا الالتزام لن يكون أمل وقاعدة حقيقية للسلام الإنساني تنمو وتزدهر عليها مختلف الجهود والتنظيمات الدولية الوظيفية.
إن في نماء وازدهار الفلسفة والأيديولوجية والمفهوم الإسلامي الرباني في الحياة الإنسانية أملا وغاية نبيلة ليس لمصلحة وترقية ما يزيد على خمس البشرية فقط بل ولمصلحة الإنسانية جمعاء بنظرة إنسانية مستقبلية واعية.
والله أسأل أن يكلل جهود العاملين المخلصين بالنجاح وأن يثيبهم خير الثواب وأن يوفق المسلمين إلى جادة الحق والصواب وأن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم.
وبالله التوفيق وعليه قصد السبيل.