ما كتب عن أحداث تاريخنا الإسلامي كثيرا جدا. وبخاصة على المستوى السياسي والعسكري وبمجرد استعراض سريع لحشود مصادرنا القديمة يتبن لنا الحجم الضخم والكمية الهائلة لتفاصيل أحداث القرون الطوال, حتى أن حوليات بعض مؤرخينا القدامى كانت تستغرق الواحدة منها الجلد الكامل أو جزاء كبيرا منه, وحتى أن الواحد منا إذا أراد متابعة مسألة ما في عصر من العصور, مهما ضاقت مساحته, وجد نفسه يغرق في بحر من الروايات لا أول له ولا آخر, وأصبح العثور على النصوص التي يبتغيها بصدد المسالة أو النقطة التي يسعى للكشف عنها, أشبه بعملية البحث عن لؤلؤ نادر ثمين من بحر لحجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب إذا أخرج يده لم يكد يراها…
من منا لم يتعذب وهو يتعامل مع مجلدات الطبري الضخمة المترعة بالتفاصيل والجزئيات خلال كتابة هذا الموضوع أو ذاك؟ ليس الطبري وحده ولكنهم جل المؤرخين (الجماعين) الذين سعوا لالتقاط وتدوين كل ما بلغهم أو وقع تحت أيديهم من تفاصيل الوقائع والأحداث .. اليعقوبي .. المسعودي.. أبن الأثير. أبو الندا.. أبن كثير.. المقريزي.. أبن العماد.. أبن تغري بردي.. وغيرهم..
لابأس في ذلك.. بل أنها خصيصة تحسدنا عليها تواريخ الأمم والشعوب .. أن يقدم لنا مؤرخونا القدماء هذه الحشود الهائلة من التفاصيل والجزئيات والمياومات والحوليات .. ولكن البأس في أننا لا نجد مقابل هذا السيل الطامي ولو موطئ قدم نقف عليها لنتبين ملامح المنهج الذي يعيننا على الوصول إلى الحقيقة التاريخية .. وقليلة جدا هي الإشارات والوقفات عند هذا الموضوع الهام في معطيات أجدادنا.. نادرة جدا كالدر والياقوت في بحر الظلمات..
إنه ليس ثمة توازن على الإطلاق بين المادة المطروحة وبين سبل التعامل معها, للكشف عن معطيات تاريخنا كما تشكلت فعلا لا كما يراد لها أن تكون…
وكثيرا ما يحس الباحث بالمرارة أو يصاب بخيبة الأمل, أو بالازدواج, أو بما شئنا من تسميات وهو يتابع تفاصيل العصر الراشدي – على سبيل المثال – في حشود الروايات التي يقدمها الطبري أو اليعقوبي أو غيرهما فيجد البون شاسعا بين المثل التي طرحها الإسلام, وما يعهده عن صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم من سلوك يسامت القمم وقيم تتألق كالنجوم, وبين ما تصوره الروايات مما جاء به زيد وعمرو على أنه الواقع التاريخي, حتى أن المثقف المسلم يتساءل: هل من الممكن – لتجاوز هذه المعضلة – أن ندرس تاريخنا تجريبيا؟ أي أن نبدأ من نقطة الصفر فنلغي (الرواية) التاريخية المدونة, إلغاءها مادامت تحمل هذا القدر الكبير من الازدواجية والتناقض, وننظر مباشرة إلى ما حققه المسلمون الأوائل من إنجازات منظورة في الزمان والمكان: كتوحيد العرب الممزقين في إطار دولة مركزية واحدة وإسقاط الإمبراطورية الفارسية, وتدمير الإمبراطورية البيزنطية, وفتح مساحات واسعة في العالم القديم, وإقامة الكثير من النظم والمؤسسات, وإغناء الحركة الحضارية بالكثير من المعطيات… وقبل هذا وذاك تنفيذ كلمة الله في الأرض والانتقال بالحركة الإسلامية إلى العالمية.. وإنجازات أخرى كثيرة قد تحققت فعلا ولن يستطيع أحد أن ينكرها أو يشكك فيها لأنها بمثابة الوقائع التاريخية المنظورة.. هل نستطيع أن نقول – على سبيل المثال – أن الحركة الإسلامية مادامت قد حققت تلك الإنجازات وربحت المعركة خارج الجزيرة فمعنى هذا أن الأمة الإسلامية وقيادتها كانتا على درجة من التماسك والتوحد ما جعلها قادرين على تحقيق ذلك كله, الأمر الذي يضعف إلى حد كبير معطيات الرواة الذين جاءوا بعد اكثر من قرن لكي ( يدونوا) وقائع هذا العصر المبكر؟!
مهما يكن من أمر فإن مما زاد الأمر سوءا أن المؤرخين المحدثين في معظمهم استسلموا له1ا الذي تطرحه الروايات, واعتبروه أمرا مسلما به لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وراحوا يتسابقون فيما بينهم لكي يصوغوا منه مؤلفاتهم المتتالية التي تلقتها الأجيال تلو الأجيال فرسخت في أذهانها ونفوسها كل التناقضات التي قدمتها حشود الروايات المتضاربة, وانحفر في نفوسهم شرخ عميق ليس ردمة بالأمر اليسير, وهم يتعاملون مع مؤلفات بلغت معطياتها لشدة التكرار المستسلم الذي لا اثر فيه لنقد أو شك أو تجريح, حد اليقين.
وقد رفع بعض المؤرخين المعاصرين تحذيراتهم إزاء هذا الاستسلام غير العلمي لحشود الروايات المتضاربة.. فقال الدكتور عبد المنعم ماجد (( يجب الحذر في تلقي الروايات لأن الكتب عن الدولة العربية وصلتنا من العهد العباسي الذي كان في عداء مع العرب وعليه فان مؤرخ الدولة العربية الحديث عند ‘طلاعه على الكتب الأصلية مضطرا إلى تقبل تكرار أسماء الرواة وتحري صحة الحقيقة التاريخية بنفسه, لأن قصد مؤرخي الإسلام الأوائل لم يكن غير استيعاب الأخبار والمحافظة على كيفية اتصالها)) (1)…
وقال الدكتور فيصل السامر((… نظرا لبعد الكثير من الوقائع التاريخية عن فترة تدوينها فقد حدث فيها الكثير من الخلط والخطأ والنسيان والتحريف, ومن ثم يتحتم علينا أن نناقش كل ما وصل إلينا مناقشة منطقية جريئة على التحميص والاستقرار. وإني لأستطيع هنا أن أورد عشرات الأمثلة رواها مؤرخون ثقاة لا يمكن أن يقبلها العقل, ومع ذلك ظلت متداولة حتى آمن بها مؤرخون محدثون وثبتوها في كتبهم دون مناقشة. ففي سبيل إحياء تراثنا يجب أن نخضع تاريخنا . للنقد العلمي الذي هو لازم في الدراسات التاريخية ومن ثم نحول دون تسرب ما هو غير صحيح إلى كتبنا التاريخية)) (2)…
ونحن نستطيع أن نلتقي بالموقف نفسه, على مستوى النظرية والتطبيق, في المحاولات التي قدمها عدد من الباحثين المعاصرين, أبرزهم ولا ريب الشيخ صادق إبراهيم عرجون في مؤلفيه عن (خالد بن الوليد) و(عثمان بن عفان المفرى عليه), ومحب الدين الخطيب في العديد من مقالاته وتحقيقاته, وبخاصة تعليقاته القيمة على كتاب ( العواصم من القواصم) للقاضي ابن بكر العربي, وكذلك الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابيه ( أضواء على التاريخ الإسلامي) و(أضواء على تجربة) الذي يتصدى فيه لنقد المنهج المادي في معالجة عصر الراشدين ويكشف عن زيفه وتهافته..
هذا إلى أن تزايد المؤلفات الأكاديمية ( أطروحات الماجستير والدكتوراه) في العقدين الأخيرين بشكل ملفت للنظر, يمنح شيئا من الأمل في إغناء مكتبة التاريخ الإسلامي بمعطيات علمية ترفض الاستسلام للرواية القديمة , وترفض في الوقت نفسه التفريط المجاني بها.. فهي تناقش وتقارن وتحلل وتركب وصولا إلى الحقيقة التاريخية
ولكن يجب ألا تخدعنا هذه ( الكثرة) الظاهرة في المؤلفات الأكاديمية, فإن معظمها لا يعدو أن يكون غثاءا كميا – إذا صح التعبير – لا يضيف جديدا, إن على مستوى المنهج أو على مستوى الموضوع, فضلا عن أنه يكشف عن خواء مخزن في القدرة على التحليل والتركيب, وفي الخليفة الثقافية وقوة الخيال, وفي الأسلوب وطرائق التعبير.. ثم, وهو الأنكى والأمر, أن معظم الأطروحات هذه تجري وفق ما تريده لها الجامعة أو المؤسسة التي تنجز فيها, أو ما يريده لها الأستاذ المشرف, وليس وفق ربح الحقيقة التاريخية وحدها…
وهكذا يغدو التاريخ الإسلامي – على سبيل المثال – أمريكيا في جامعة برنستون… ماركسيا في جامعه موسكو.. إنكليزيا في جامعة أكسفورد أو لندن أو سانت أندروز.. مع هوى بني إسرائيل في الجامعة العبرية!!
ومن ثم فإن المكتبة التاريخية الإسلامية , بالمعنى الموضوعي المرتجى, لن تفيد من تيار الأكاديمية الصاخب إلا بمقدار وهي, بعد , بحاجه إلى الكثير من المحاولات الجادة لتنفيذ المنهج النقدي على قضايا وفترات ومعضلات كثيرة في تاريخنا المتشابك المزدحم الطويل….
(2)
الطرفان يتحملان المسؤولية… الأجداد والأحفاد… ما في ذلك شك.. ويغفر للأجداد جملة أمور منها:
أولا: أنهم قالوها صراحة: جئنا لكي نجمع ونحفظ كل ما يصل إلينا (( فالطبري مثلا, لم يقتصر في كتابه (تاريخ الرسل والملوك) على المصادر الموثوقة فقط, بل أراد أن يطلع قارئه على مختلف وجهات النظر, فأخذ عن مصادر أخرى قد لا يثق هو بأكثرها, إلا أنها تفيد حين معارضتها بالأخبار القوية وقد تكمل بعض ما فيها من نقص… وقد كان الطبري وكبار المؤرخين الأوائل لا يفرطون في خبر مهما علموا من ضعف ناقله خشية أن يفوتهم بإهماله شيء من العلم ولو من بعض النواحي))(3).
وثانيا: إن بعضهم أشعل الضواء الحمراء عند الطرق الملتوية في شعاب تلال الروايات التي يضيع في مسالكها ذوو الألباب.. إننا نقرأ – على سبيل المثال – هذه الكلمات للطبري, شيخ المؤرخين, في مقدمة مؤلفه الضخم (( فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين, مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف. له وجها صحيحا, ولا معنى في الحقيقة, فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قبلنا وإنما أوتي من بعض ناقليه إلينا .. وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ))
ثالثا: أن صدورهم كانت تتسع لا يراد أخبار مخالفيهم في الفكر والعقيدة وهو دليل على حريتهم وأمانتهم ورغبتهم في تمكين قرائهم من أن يطلعوا على كل ما في الموضوع, واثقين من أن القارئ الحصيف لا يفوته أن يعلم أن مثل أبي مخنف – الذي أكثر الطبري من النقل عنه على سبيل المثال – موضع تهمة هو ورواته فيما يتصل بكل ما هم متعصبون له, لأن التعصب يبعد صاحبة عن الحق, أما سعة الصدر في إيراد أخبار المخالفين فهي دليل على عكس ذلك, وعلى القارئ أن يستخلص الحق عندما يكون موزعا أو معقدا (4).
رابعا: أن العديد من المؤرخين المسلمين (( حملوا مشعل البحث التاريخي الحر في ظروف حرجه صعبة, ومع ذلك لم يثنهم خوف أو يستهوهم طمع… لقد كتب مسكويه تاريخه العظيم ( تجارب الأمم) في أيام سطوة البويهيين, فبرهن على النزاهة وعدم التحيز وكان الطبري يرفض قبول أية هدية ترده من ذوي السلطان خوف أن تكون ثمن نزاهته …وغير هذين كثيرون..)) (5).
خامسا: وهو الأهم, أن معظم مؤرخينا القدماء كانوا يوردون كل خبر منسوبا إلى رواية ليعرف القارئ قوة الخبر عن طريق معرفة رواته الثقاة, أو ضعف الخبر الذى ينقله رواة لا يوثق بهم, وبذلك يري أولئك المؤرخون أنهم أدوا الأمانة ووضعوا بين أيدي القراء كل ما وصبت إليه أيديهم, وفي ذلك يقول الحافظ أبن حجر في (لسان الميزان) (( أن الحفاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم الأسانيد لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برأوا من عهدته وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده ))(6). لقد كان المؤرخون (( يجولون في أقطار الشرق والغرب بحثا عن الحقيقة, وتحريا لصحة الخبر, ونقد الرواة والتثبت من صدقهم… ومتى خلفوا لنا ثروة ضخمة من المعلومات المفصلة المؤقتة توقيتا دقيقا والمسنودة إلى مراجع عن الثقاة العدول )) (7).
هذا عن الأجداد .. أما الأحفاد .. حيث العلوم المساعدة ( او الموصلة ) قد نضحت وازدادت عمقا واتساعا, وحيث مناهج البحث قد بلغت في تكنيكها حدا كبيرا لم يحلم أجدادنا بعشر معشاره…. أما الأحفاد, والحال هذه, فلن يغفر لهم شيء… يقينا…
(3)
ثمة لمحات خاطفة, في مصادرنا القديمة, كأضواء الشهب المحترقة في الليالي الداكنة, تعيننا إذا أحسنا التقاطها والإفادة منها, على تبين ملامح – أو بعبارة أدق – وضع اليد على بعض مؤشرات تقود إلى المنهج…. وعلى المؤرخ المحدث أن يواصل الطريق لكي يفيد من أطروحات العلوم كافة, والمعطيات المنهجية خاصة, لكي يجعل منهج البحث في التاريخ الإسلامي قديرا على التوغل في هذا التاريخ وإعادة استكشافه وتركيبه بأكبر قدر من الدقة والأمانة.
في كتابي (العواصم من القواصم) للقاضي الأندلسي أبي بكر بن العربي و( المقدمة ) لعبد الرحمن بن خلدون نلتقي بمحاولات جادة لتقديم بعض اللمحات عن المنهج التاريخي … ولقد جاء العملان القيمان في كثير من صفحاتهما بمثابة ( محاولة اختبارية) لتنفيذ (قيم ) المنهج النقدي في البحث التاريخي , ذلك الذي يرفض الصيغة الاستسلامية في التعامل مع حشود الروايات التاريخية….
إن ابن العربي يرفع صوته في ثنايا كتابه المذكور, وبأعلى نبرة, محذرا وداعيا إلى اتخاذ موقف نقدي إزاء معطيات الأقدمين التاريخية, ورفضها إذا اقتضى الأمر… (( إنما ذكرت لكم لتحترزوا من الخلق, وخاصة من المفسرين والمؤرخين, وأهل الأدب فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين, أو على بدعة مقصرين, فلا تبالوا بما رووا ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث … فإن الرواة ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف والاستخفاف بهم, واختراع الاسترسال في الأقوال, والأفعال عنهم, وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا, وعن الحق إلى الهوى. فإذا قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول, سلمتم من هذه الحبائل… )) (8) وهو يفسر موقف الرواة هذا بأن الرؤساء وذوي السلطة ساعدوا (( على إشاعة هذه الكتب وقراءتها لرغبتهم في مثل أفعالهم حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا… )) ويخلص القول (( … وقد بينت لكم أنكم لا تقبلون على أنفسكم في دينار, بل في درهم, إلا عدلا بريئا من التهم, سليما من الشهوة. فكيف تقبلون في أحوال السلف وما جرى بين الأوائل ممن ليس له مرتبة في الدين, فكيف في العدالة ؟))(9).
وفي أماكن عديدة من كتابه يعلن الرجل رفضه التسليم بمعطيات المؤرخين, ويعترض على طرائقهم في تلفيق الروايات المتعارضة وقبول الأخبار الكاذبة التي تصل حد السخف!! ونحن نلتقي بين الحين والحين بعبارات كهذه (( وذكروا تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى استفعال رسائل واستخراج أقوال, وإنشاء إشعار, وضرب أمثال, تخرج عن سيرة السلف يقرها الخلف (الطالح) وينبذها الخلف (الصالح) … )) (10) ((هذا كله كذب صراح, ما جري منه حرف قط, وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة, ووضعته التاريخية للملوك (لاحظ دلالة هذه العبارة) فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع, وإنما الذي روي الأئمة الثقاة الإثبات )) (11)… (( وانظروا إلى الأئمة الأخيار وفقهاء الأمصار, هل أقبلوا على هذه الخرفات وتكملوا في مثل هذه الحماقات؟ بل علموا أنها عصيبات جاهلية وهمية باطلة, ولا تفيد إلا قطع الحبل بين الخلق وتشتيت الشمل واختلاف الأهواء, وقد كان ما كان, وقال الإخباريون ما قالوا, فأما سكوت وإما إقتداء بأهل العلم وطرح لسخافات المؤرخين والأدباء)) (12)… (( والناس إذا لم يجدوا عيبا لأحد وغلبهم الحسد عليه وعدواتهم له أحدثوا له عيوبا, فأقبلوا الوصية ولا تلتفتوا إلا إلى ما صح من الأخبار, واجتنبوا – كما ذكرت لكم – أهل التواريخ ( ويعني بهم الرواة الذين أمدوا المؤرخين الكبار برواياتهم) فانهم ذكروا عن السلف أخبار صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى رواية الأباطيل, فيقذفوا – كما قدمنا – في قلوب الناس مالا يرضاه الله تعإلى , وليحتقروا السلف ويهونوا الدين, وهو اعز من ذلك وهم أكرم منا… ومن نظر إلى أفعال الصحابة تبين منها بطلان هذه الهتوك التي يختلقها أهل التواريخ فيدسونها في قلوب الضعفاء)) (13).
وقد سعى ابن العربي في كتابه (العواصم) إلى اعتماد منهج نقدي صارم في دراسة احدى الفترات الخطيرة في التاريخ الإسلامي: عصر الراشدين ومطلع العصر الأموي.. فنخل حشود الروايات التاريخية المتراكمة عن الفترة المذكورة, واختبرها اختبارا دقيقا وضرب بعضها ببعض, وأحال معطياتها على مصادر معرفية أخرى, وبخاصة القرآن والحديث ورفض أن يستسلم لتيارها الصاخب لكي ما يلبث أن يقدم صورة عن العصر قل ما نجدها في مصدر تاريخي آخر.
وهذا (نموذج) للمنهج النقدي الذي اعتمده الرجل في تعامله مع الروايات, نلتقي به في عرضه للفتنة التي أطاحت بالخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان( رضى الله عنه)… يقول ابن العربي (( قالوا متعدين, متعلقين برواية كذابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير منها:
1- ضربة لعمار حتى فتق أمعاءه.
2- ولأبن مسعود حتى كسر أضلاعه, ومنعه عطاءه.
3- وابتدع في جمع القرآن وتأليفه, وفي حرق المصاحف.
4- وحمى الحمى.
5- واجلى أبا ذر إلى الربذة.
6- وأخرج من الشام أبا الدرداء.
7- ورد الحكم بعد أن نفاه رسول الله صلي الله عليه وسلم.
8- وابطل سنة القصر في الصلوات في السفر.
9- 12 وولى معاوية وعبدالله بن عامر بن كريز ومروان وولي الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس من أهل الولاية.
13- وأعطى مروان خمس أفريقية
14- وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا.
15– وعلا على درجة رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد انحط عنها أبو بكر وعمر.
16- ولم يحضر بدرا, وانهزم يوم احد, وغاب عن بيعة رضوان.
17- ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان (الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة وحرضه على عمر حتى قتله.)
18- وكتب مع عبده على جملة كتابا إلى أبن سرح في قتل من ذكر فيه))(14).
يقول أبن العربي مناقشا هذه التهم (( هذا كله باطل سندا ومتنا… أما قولهم جاء عثمان بمظالم ومناكير فباطل.
1-2 وأما ضربة لابن مسعود ونعه عطاءه فزور وضربه لعمار أفك مثله ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا, وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن تشتغل بها لأنها مبنية علي باطل ولا يبنى حق على باطل…
3- وأما جمع القرآن فتلك حسنته العظمى وخصلته الكبرى, وإن كان وجدها كاملة لكنه أظهرها ورد الناس إليها وحسم مادة الخلاف فيها. وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه… روى الأئمة بأجمعهم أن زيد بن ثابت قال: أرسل إلى ابو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال ابو بكر: أن عمر أتانا فقال: أن القتل قد أستمر يوم اليمامة بقراء القرآن وإنى اخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن واني أرى أن تجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال عمر: هذا والله خير, فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر (ثم يستعرض أبى العربي تفاصيل جمع القرآن وحرق النسخ غير المعتمدة… مما هو معروف)…
4- وأما الحمي فكان قديما فيقال أن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية, واذا جاز اصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجه.
5- وأما نفية أبا ذر فلم يفعل , كان أبو ذر زاهدا, وكان يقرّع عمال عثمان ويتلو عليهم ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا, فينكر ذلك عليهم, ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم, وهو غير لازم. قال أبن عمر وغيره من الصحابة: ( إن ما أديت زكاته فليس بكنز) فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام, فخرج إلى المدينة فاجتمع إليه الناس فجعل يسلك تلك الطرق, فقال له عثمان: لو اعتزلت. معناه أنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس, فإن للخلطة شروطا وللعزلة مثلها. ومن كان على طريقة ابي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه, أو يخالط ويسلم لكل احد حاله مما ليس حرام في الشريعة. فخرج إلى الربذة زاهدا فاضلا, وترك جله فضلاء وكل على خير وبركة وفضل, وحال أبي ذر أفضل, ولا تمكن لجميع الخلق, فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل. وعن عجب أن يؤخذ عليه في أمر فعله عمر فقد روي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استشهد فأطلقهم عثمان, وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن يقوله في زمان عمر, فاعلم معاوية بذلك عثمان وخشي من العامة أن تثور منهم فتنه فإن أبا ذر كا ن يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم, وإنما هي مخصوصة ببعضهم, فكتب إليه عثمان أن يقدم المدينة, فلما قدم اجتمع إليه الناس فقال لعثمان: أريد الربذة, فقال له: أفعل. فاعتزل, ولم يكن يصلح له إلا ذلك لطريقته.
6- ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام, وكان أبو الدرداء زاهدا فاضلا قاضيا لهم فلما اشتد في الحق وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوه عزلوه, فخرج إلى المدينة .
وهذه كلها مصالح لا تقدم في الدين ولا تؤثر في منزلة احد من المسلمين بحال. وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب, وعثمان بريء اعظم براءة واكثر نزاهة, فمن روى أنه نفى وروى سببا فهو كله باطل.
7- وأما رد الحكم فلم يصح. وقال علماؤنا في جوله: قد كان أذن له فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقال [ أي عثمان ] لأبي بكر وعمر, فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه. فلما ولي قضى بعلمه في رده.
وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلي الله عليه وسلم, ولو كان أباه, ولا لينقض حكمه.
8- وأما ترك القصر فاجتهاد, إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر, وفعلوا ذلك في منازلهم فرأى أن السنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة فتركها خوف الذريعة. مع أن جماعة من العلماء قالوا: أن المسافر مخير بين القصر والإتمام, واختلف في ذلك الصحابة.
9- وأما معاوية فعمر ولاء, وجمع له الشامات كلها, وأقره عثمان. بل إنما ولاه أبو بكر الصديق رضى الله عنه, لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له, فتعلق عثمان بعمر وأقره, فانظروا إلى هذه السلسلة ما اوثق عراها.
10- وأما عبد الله بن عامر بن كريز فولاه – كما – قال – لأنه كريم العمات والخالات.
11-12 وأما تولية الوليد بن عقبة فان الناس – على فساد النيات – اسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات, فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به, قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي, وإنما وليته لأنه أبن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلي الله عليه وسلم وتوأمه أبيه. والولاية اجتهاد, وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة…
13- وأما إعطاؤه خمس أفريقية لواحد فلم يصح. على أنه قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الأمام يرى رأيه في الخمس., وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده, وان أعطاءه لواحد جائز, وقد بينا ذلك في مواضعه ( أي في مؤلفاته الأخرى).
14- وأما قولهم أنه ضرب بالعصا, فما سمعته ممن أطاع أو عصى, وإنما هو باطل يحكى…
15- وأما علوه على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما سمعته ممن فيه تقية. وإنما هي إشاعة منكر .. قال علماؤنا: ولو صح ذلك فما في هذا ما يحل دمه. ولا يخلو أن يكون ذلك حقا فلم تنكره الصحابة عليه إذ رأت جوزاه ابتداء أو لسبب اقتضى ذلك. وإن كان لم يكن فقد انقطع الكلام.
16- وأما انهزامه يوم حنين, وفراره يوم أحد, ومغبيه عن بدر وبيعة الرضوان فقد بين عبد الله بن عمر وجه الحكم في شأن البيعة وبدر وأحد. وأما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقى ممن مضى في الصحيح, وإنما هي أقوال, منها أنه ما بقى معه إلا العباس وأبناه عبد الله وقثم فناهيك بهذا الاختلاف, وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة, وقد عفا الله عنه ورسوله, فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون… وقد أخرج البخاري أن رجلا سأل عبد الله بن عمر: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: فهل تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال نعم. قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعه الرضوان فلم يشهدها قال: نعم. قال: الله أكبر: قال ابن عمر : تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فاشهد أن الله عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه عن بدر فانه كان تحته بنت الرسول صلي الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه. وإما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه بمكانه, فبعث الرسول صلي الله وعليه وسلم عثمان, وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة فقال الرسول الله صلي الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان, فضرب بها علي يده فقال: هذه لعثمان…
17- وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان فإن باطل, فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون والأمر في أوله. وقد قيل: أن الهرمزان سعي في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه. وكان قتل عبد الله له وعثمان لم يل بعد. ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقا, لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله. وأيضا فإن أحدا لم يقم بطلبه وكيف يصبح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح؟
18- وأما تعلقهم بأن الكتاب وجد مع راكب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل حامليه فقد قال له عثمان: إما أن تقيموا شاهدين على ذلك, وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت. وقد يكتب على لسان الرجل, ويضرب على خطه, وينقش على خاتمه … )) (15).
وهو – أي أبن العربي – يناقش مسألة التحكيم بين علي رضى الله عنه ومعاوية ويرفض التسليم بها ويعتبره (سخافة!) ويطرح – بدلا منها – ما يراه الأقرب إلى الحقيقة التاريخية من تلك القصة المحبكة التي رتبها الدساسون يقول (( تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله. وإذا لاحظتموه بعين المروءة – دون الديانة – رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين وفي الأقل جهل متين والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدار قطني: أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة الف والشامية في سبعين أو تسعين ألفاً نزلوا على الفرات بصفيين, اقتتلوا في أول يوم, وهو الثلاثاء, على الماء, فغلب أهل العراق عليه. ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [سبع وثلاثين ] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت, ورفعت المصاحف من أهل الشام ودعوا إلى الصلح وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق, فكان من جهة علي أبو موسي, ومن جهة معاوية عمر بن العاص. وكان أبو موسي رجلا تقيا تقفا فقيها عالما أرسله النبي صلي الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ وقدمه عمر وأثني عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعا في القول وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت المثال بدهائه تأكيدا لما أرادت من الفساد اتبع في ذلك بعض الجهال بعضا وصنفوا فيه حكايات. وغيره من الصحابة كان أحذق منه وأدهى. وإنما بنوا ذلك على أن عمر لما غدر أبا موسي في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر, وقالوا: أنهما لما اجتمعا بأذرع من دومة الجندل, وتفاوضا, اتفقا على أن يخلعا الرجلين. فقال عمر لأبي موسي: أسبق القول, فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت عليا عن الأمر, وينظر المسلمون لأنفسهم, كما خلعت سيفي هذا من عنقي – أو من عاتقي – وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فاثبت معاوية في الأمر كما اثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده. فانكر أبو موسي, فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجميع على ذلك الاختلاف)) (16).
ويرد أبن العربي (( هذا كله كذب صراح, ما جرى منه حرف قط. وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة, ووضعته التاريخية للملوك, فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر, في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه, عزل عمرو معاوية. ذكر الدار قطني بسنده إلى حصين بن المنذر: لما عزل عمرو معاوية جاء – أي حصين بن المنذر – فضرب فسطاطه قريبا في فسطاط معاوية فبلغ نبأه معاوية فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا [ أي عن عمرو ] كذا وكذا فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه؟ فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسي كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال النسا في ذلك ما قالوا والله ما كان الأمر على ما قالوا. ولكن قلت لأبي موسي: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضي. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن لم يستعز بكما ففيكما معونة, وإن يستغن عنكما فطالما أستغنى أمر الله عنكما. قال: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه. فأتيته فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيله فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدو الله؟ أين هذا الفاسق؟
(( قال أبو يوسف [ الفلوسي رواى هذا الخبر عن السود بن شيبان عن عبد الله بن مضارب عن حصين ] أظنه قال ( انما يريد حوباء نفسه) فخرج عمرو إلى فرس تحت فسطاط فجال في ظهره عريانا, فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول: إن الضجور قد تحتلب العلبة, يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة (17). فقال معاوية: أجل وتربذ الحالب فندق انفه وتكفا إناءه))(18).
(( قال الدار قطني – وذكر سندا عدلا – عن ربعي بن حراش العبسي الكوفي عن أبي موسي أن عمرو بن العاص قال: والله لئن كان ابو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غُبنا ونقص رأيهما. وأيم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي. ولئن كانا أمرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا. وأيم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا. (19)
(( فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه فاعرضوا عن الغاوين… ))(20)
وما هاتان المسألتان اللتان استشهدنا بهما سوى نموذجين فحسب لمنهج أبي العربي, إذ أن الكتاب كله ميدان لهذا النمط من النقد وعدم التسليم الذي قد يخطئ وقد يصيب…
(4)
أما ابن خلدون فإنه كتب مقدمته أساسا من أجل وضع معايير بيد المؤرخ يعتمدها في معالجة الوقائع التاريخية لتبين ما يحتمل الصدق ويمكن قبوله والتسليم به وبالتالي, مما لا يحتمله فيرفض ويحسب على خط الكذب والتنزيف, وهو يلتقي مع ابن العربي في الدعوة إلى عدم التسليم بمعطيات مؤرخينا القدماء لكونها قد أصابها الخلط وامتزج فيها الحق بالباطل. وقد أكد ابن خلدون هذه المعاني والح عليها في التمهيد الذي سبق مقدمته, وعاد لكي يؤكدها في أكثر من موضع في المقدمة نفسها.
(( إن في التاريخ – يقول ابن خلدون – من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركايب والرحال… وهو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول… وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكاينات ومباديها وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها… وأن فحول المؤرخين في الإسلام أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وخلطها المتطفلون بدسايس من الباطل… وزخرف من الروايات المضعفة …. واقتفي تلك الأثار الكثير ممن بعدهم وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولا رفضوا ترهات الاحاديث … فالتحقيق قليل… والغلط والوهم نسيب للأخبار والتقليد عريق في الآدميين … والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد … والعلم يجلو لها صفحات الصواب))…(21) ويقول: (( … إن الأخبار اذا اعتد فيها مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني, ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب, فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في حكايات الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا, ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباههما ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار, فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط…)) (22).
ويعرض ابن خلدون للدوافع التي تقود إلى طرح الأكاذيب في الخبر التاريخي من أجل تشخيص مواطن العلة وتجنيب الباحثين قبول الأخطاء والأوهام فيقول: (( لما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته وله الأسباب تقتضيه فمنها: التشيعات للآراء والمذاهب فان النفس اذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه, واذا خامرها تشيع لرأى أو نحله قبلت ما يوافقها من الخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيع غطاءاً على بصيرتها من الانتقاد والتمحيص فيقع في قبول الكذب ونقله, ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد, فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع, وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب, ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الواقع لأجل ما يداخلها من التلبس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق نفسه, ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك, فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة, فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة, ومنها الجهل بطبائع الأحوال في العمران… فاذا كان السامع عارفا بها إعانة ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب )) (23).
ويصل ابن خلدون في تمهيده أخيرا إلى الهدف من وضع مقدمته : صياغة القانون أو المنهج, الذي يمكن الباحثين من التوصل إلى الحقيقة التاريخية الخالصة برفض ما يستحيل وقوعه أو ما لا يتحمل التصديق, لهذا السبب أو ذاك من أسباب الاجتماع البشري ومقولاته وقواعده, وقبول ما ينسجم وهذه الأسباب والقواعد (( … فالقانون في تمييز الحق من الباطل من الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته, وبمقتضى طبعه, وما يكون عارضا لا يعتد به, ومالا يمكن إن يعرض له, واذا فعلنا ذلك كان لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق والكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه. فاذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا)) (24).
(5)
وقد نفذ الرجل النقدية في ( المقدمة ) عبر شتي المجاملات المعرفية: العلمية والإنسانية, بما فيها دائرة التاريخ التي تهمنا في هذا البحث, فسعى لتنقية جوانب من التاريخ الإسلامي وسير عدد من رجالاته أحاطت بها وبهم الكثير من الشوائب والأكاذيب. فهو يناقش ويفند – على سبيل المثال – مسألة العلاقة بين العباسة أخت الرشيد وجعفر بين يحيى بن خالد (البرمكي) وانها كانت السبب وراء نكبة الرشيد للبرامكة, ويؤكد أن الدافع الحقيقي لتلك النكبة هو (( استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه, فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه)) (25).
كما يناقش ويفند أكذوبة انكباب الرشيد على الخمر واقتران سكره بسكر النامي (( فحاشي لله – يقول ابن خلدون – ما علمنا عليه من سوء, وان هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة, وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمر ومكاتبته سفيان الثوري وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه, وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها. حكى الطبري وغيره أنه كان يصلي من كل يوم مائة ركعه نافلة وكان يغزو عاما ويحج عاما)) ثم يتطرق ابن خلدون بعد ذلك, إلى ما كان عليه خلفاء بني العباس الأوائل من بعد عن الترف والتزام بالدين وفهم لمتطلبات الشريعة, وكيف أدرك المهدي أباه المنصور (( وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال)) وكيف كان (( يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان من ثياب عياله .. فكيف يليق بالرشيد, على قرب العهد من هذا الخليفة وأبوية, وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته والتخلق بها, أن يعاقر الخمر ويجاهر بها؟ وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة … وكان شربها مذمة عند الكثير منهم, والرشيد وآباؤه على ثيج – أي في القمة – من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم, والتخلق بالمحامد وأوصاف الكمال ونزعات العرب)). وما يلبث بعد طرح مزيد من الوقائع أن يصل إلى القول ((بأن أولئك القوم كلهم كانوا بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين (26) التي لم يفارقوها بعد, فما ظنك بما يخرج من الإباحة إلى الحظر وعن الحلية (أي التحليل) إلى الحرمة؟ لقد اتفق المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق والسيوف واللجم والسروج وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد. وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم, فما ظنك بمشاربهم؟ ويتبين ذلك بأتم من هذا اذا فهمت طبيعة الدولة في أولها من البداوة والغضاضة )) (27).
وينتقل ابن خلدون ليناقش ويفند ما أشيع عن أحد رجالات الدولة العباسية – على سبيل المثال – وهو يحيى بن اكثم قاضي المأمون بأنه كان يعاقر الخمر ويميل إلى الغلمان, ويبين كيف أنه وخليفة المأمون كانا يلتقيان على الحق والتزام أوامر الشريعة وكيف انهما كانا يصليان الصبح جماعة. وقد ذكر لأحمد بن حنبل (خصمه الفكري) ما يرميه به الناس فقال (( سبحان الله, ومن يقول هذا))؟ وانكر ذلك إنكارا شديدا وأثنى عليه إسماعيل القاضي, فقيل له ما كان يقال فيه فقال: معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد. وقال أيضا: يحيي بن اكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما كان يرمي به من أمر الغلمان. ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله لكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق فرمي بما رمي به. وذكره (المحدث الجليل) ابن حبان في الثقات وقال: لا يشتغل بما يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه, كما خرج عنه الترمذي في كتابه الجامع, وذكر الحافظ المزي ان البخاري روى في غير الجامع الصحيح.
(( فالقدح فيه – يقول ابن خلدون – قدح في جميعهم … وهم عليه من تحرز في أخذ الحديث عن غير ذوي الأمانة والدين)).
ويضع ابن خلدون يده على بعض الأسباب التي تمكن وراء اتهامات باطلة كهذه ((فهم يستندون في ذلك إلى أخبار القصاص الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه – أي أعداء اكثم – فإنه كان محسودا في كماله وخلته للسلطان. وكان مقامه من العلم والدين منزها عن مثل ذلك )). (28)
وبعد أن يستعرض إحدى الأقاصيص السخيفة التي لفقت على المأمون وصورته كما لو كان
( أحد عشاق الأعراب)(29), يمضي ابن خلدون, بموقفه النقدي الصارم في البحث عن أسباب الوضع والاختلاق في الرواية التاريخية إلى القول (( وأمثال هذه الحكايات كثيرة وفي كتب المؤرخين معروفة وإنما يبعث على وضعها والحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة, وهتك قناع المحذرات, ويتعللون بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين. ولو ائتسْوا بهم في غير هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم, المشهورة عنهم, لكان خيرا لهم لو كانوا يعملون. ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أنباء الملوك في كلفة بتعلم الغناء وولعه بالأوتار وقلت له: ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك, فقال لي: أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي ( الخليفة العباسي) كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين في زمانه؟ فقلت له: يا سبحان الله, وهلا تأسيت بأبيه أو بأخيه؟ أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم؟ فصم عن عذلي وأعرض, والله يهدي من يشاء)) (30)
وابن خلدون يذكرنا هنا بالتحذير الذي اطلقه ابن العربي قبل ذلك بثلاثة قرون والذي أوردناه في صدر هذا البحث من أن أحد أبرز الدوافع لاختلاق روايات كهذه وتسليط الضوء عليها هو رغبة الخلف في تبرير ممارساتهم اللاأخلاقية وإشباع شهواتهم بحجة أن السلف كانوا قد اقترفوها.
(6)
ويتساءل المرء لمَ لمْ ينفذ ابن خلدون منهجه النقدي هذا في معظم مساحات مؤلفه الضخم (العبر وديوان المبتدأ والخبر… ) الذي يعرض فيه لوقائع التاريخ البشري عامة والإسلامي خاصة, من بداياتهما الأولى وحتى عصره؟
ويجد المرء نفسه مضطرا إلى موافقة المؤرخ الإنكليزي (روبرت فلينت) بقوله (( اذا نظرنا إلى ابن خلدون كمؤرخ وجدنا من يتفوق عليه من كتاب العرب أنفسهم وإما كواضع نظريات في التاريخ, فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان)) والسبب ربما يكون واضحا لدرجة قد تقوده إلى الخفاء…. ان أحداث التاريخ التي دونها ابن خلدون في مؤلفه التاريخي غزيرة جدا تتضمن كميات هائلة من الوقائع, وان محاولة تنفيذ المعيار النقدي عليها جميعا أمر فوق طاقة الإنسان حتى لو كان هذا متفرغا لمهمة مستحيلة كهذه, فكيف بابن خلدون الذي كانت مشاغل الحياة, وزحمة الأعمال الوظيفية, والانغمار الذي عهد عنه في سياسات العصر وتقلباته, فضلا عن كثرة تجواله في حقول المعرفة المختلفة..؟ من أين له الوقت الذي يمكنه من تحقيق هذه المهمة العسيرة؟
ومع ذلك فإن الرجل قدم لمسات على المستوى النقدي في بعض قضايا التاريخ الإسلامي وأجرى (( تحقيقات علمية هامة على تراث أسلافه من المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ العرب والإسلام كابن هشام وابن سعد والواقدي والبلاذري وابن عبد الحكم والطبري والمسعودي وابن الأثير, فاستبعد بعضها على أنه محض اختلاق غير ممكن الحدوث بحسب طبائع الأشياء وقوانين العمران, وشك في صحة كثير منها على أنه موضع ربية)) (31).
هذا إلى أن ابن خلدون نهج في تنظيم مؤلفة (العبر) نهجا جديدا يختلف عن نهج كثير ممن كتبوا في التاريخ قبله. فقد كان الغالب في المؤلفات التاريخية الإسلامية, قبل عصره, أن توضع في صورة حوليات تاريخية مرتبة وفق السنين, وتجمع حوادث كل سنة في حولية واحدة على الرغم من تباعد مواطنها وعدم ارتباطها بعضها ببعض. ولكن ابن خلدون عدل عن هذه الطريقة إلى طريقة أخرى أدنى إلى الدقة والتنسيق. فقسم مؤلفه إلى كتب وقسم كل كتاب إلى فصول متصلة, وتتبع تاريخ كل دولة على حدة من البداية إلى النهاية مع مراعاة عناصر الاتصال والتداخل بين مختلف الدول. ورغم ان ابن خلدون ليس أول من ابتدع هذه الطريقة فقد سبقه إليها منذ القرنين الثالث والرابع عدد غير يسير من المؤرخين كالواقدي والبلاذري وابن عبد الحكم والمسعودي, إلا أنه يمتاز عن هؤلاء ببراعة التنظيم والربط, وحسن السبك, كما يمتاز عنهم بالوضوح والدقة في التبويب.(32)
لا ريب ان ابن خلدون, وابن العربي من قبله, ليسا وحدهما في الميدان وان هناك آخرين … ومن يدري ؟ فقد يكشف المستقبل عن أعمال أخرى لا تقل شأنا … وليس من المعقول ألا تنبت الأرض الإسلامية – على مداها – إلا الواحد والاثنين ممن اعتمدوا المنهج النقدي, وليس من المعقول أيضا أن ينمو فكر ابن خلدون أو سلفه الأندلسي في الفراغ…. هذا إلى أن مؤرخينا القدماء أنفسهم كانوا يقدمون في ثنايا مؤلفاتهم لمسات نقدية هاهنا أو هناك, كانت تضيع في معظم الأحيان في غمار حشود الروايات السياسية والعسكرية .. فما يميز ابن خلدون وسلفة اذا أنهما قدما عملين يتسم كل منهما بقدر من النضج والتكامل والإقناع…. ولذا سُلطت عليهما دون غيرهما الأضواء.
أما ماهي ملامح المنهج (المعاصر) الذي يتوجب اعتماده في كتابة تاريخنا الإسلامي أو إعادة كتابته… فقد سبق وأن عرضت له في اثنتين من الدراسات المركزة, أولاهما بعنوان (حول مشروع كتابة تاريخ العرب والإسلام) (33) وثانيتهما بعنوان (اقتراحات في التدريس والمنهج التاريخي) (34) وليس ثمة مبرر للتكرار. ولكن لابد من الإشارة – أخيرا – إلى أن الدعوة لا عادة كتابة التاريخ الإسلامي لا تعني – بالضرورة – البدء من نقطة الصفر, أو الرفض المطلق للصيغ التي قدمه بها مؤرخونا القدماء, ومحاولة قلب معطياتهم رأسا على عقب .. ومن يخطر على باله أمر كهذا فهو ليس من العلمية في شيء … والمقصود شيء آخر يختلف بالكلية: منهج عدل يتعامل مع معطيات الأجداد بروح علمية مخلصة فيتقبل ما يمكن تقبله ويرفض مالا يحتمل القبول, ويقدر عطاء الأجداد حق قدره, دون أن يثنيه ذلك عن متابعة آخر المعطيات المنهجية التي يطلع علينا بها العصر الحديث وأشدها صرامة…
موقف وسط.. يرفض الاستسلام للرواية القديمة ويأبى إلغاءها المجاني من الحساب …
رؤية موضوعية تستحضر (البيئة ) التي تخلقت في أحضانها وقائع التاريخ الإسلامي… وتعتمد في الوقت نفسه معطيات العلوم المساعدة كافة: إنسانية وصرفة وتطبيقية من أجل كشف أشد إضاءة لهذه البيئة وفهم أعمق لوقائعها وأحداثها… تاريخ الطبري … والكمبيوتر .. تلك هي باختصار معادلة المنهج المطلوب وشعاره أيضا…
الهوامش:
1- التاريخ السياسي للدولة العربية: جزء 1 ص21 (مكتبة الأنجلو المصرية, القاهرة – 1956).
2- مجلة الثقافة الجديدة: مقال (نحو تاريخ جديد).
3- محب الدين الخطيب: المرجع الأولى في تاريخنا, مجلة الأزهر المجلد 24جزء, 2صفر 1372ه.
4- المرجع السابق.
5- فيصل السامر: المرجع السابع
6- انظر محب الدين الخطيب: المرجع السابق.
7- فيصل السامر: المرجع السابق.
8- العواصم من القواصم ص247 – 248 (تحقيق محب الدين الخطيب, الطبعة الثانية الدار السعودية, جدة 1387ه).
9- المصدر السابق ص251 – 252.
10- نفسه ص163.
11- نفسه ص177 – 178.
12- نفسه ص234.
13- نفسه ص 244 – 245.
14- نفسه ص61- 62.
15- نفسه 62 – 110.
16- نفسه ص172 -176.
17- الضجور : الناقة اتي ترغو وتعربد عند الحلب . و(قد تحلب الضجور العلبة) مثل ومعناه أن الناقة التي ترغو قد تحلب ما يملأ العلبة, يضر بونه للسيء الخلق قد يصاب منه الرفق واللين, والبخيل قد يستخرج منه المال (المصدر السابق, هامش 2ص179).
18- الربذ: خفة القوائم في المشي وخفة الاصابع في العمل. وفلان ذو ربذات أي ذو فلتات وكثير السقط في كلامه ( المصدر السابق هامش 4ص 179).
19- أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه وتذكيرها بسيرة السلف ( المصدر السابق هامش 2 ص180).
20- المصدر السابق ص 177 – 180.
21- المقدمة, جزء 1 ص 1 -3 (تحقيق كواترمير, باريس – 1858م).
22- نفسه جزء 1 ص8 -9.
23- نفسه جزء 1 ص56-58
24 – نفسه, جزء 1 ص61.
25 – نفسه, الصفحات 374 – 378 (طبعة لجنة البيان العربي تحقيق د. علي عبد الواحد وافي, القاهرة, 1958 – 1962)
26- يقصد بها الفطرة السليمة والوضع الصحيح الطبيعي الذي لم تشبه شائبة (نفسه, هامش 68ص 374, طبعة لجنة البيان العربي).
27- نفسه الصفحات 378 – 381 (طبعة لجنة البيان العربي).
28- نفسه ص 382 – 383 (طبعة لجنة البيان العربي).
29- نفسه ص 383 – 384 (طبعه لجنة البيان العربي).
30 – نفسه ص 285 (طبعة البيان العربي).
31- علي عبد الواحد وافي: ابن خلدون: حياته وفكره ص233 – 234 (سلسلة أعلام العرب).
32- نفسه ص 235 – 236.
33- انظر كتاب (مع القرآن في عالمه الرحيب) للمؤلف, دار العلم للملايين, بيروت – 1979.
34- انظر كتاب ( في التاريخ الإسلامي: فصول في المنهج والتحليل), للمؤلف, المكتب الإسلامي بيروت – 1981.