وقفه المرحلة الأنتقالية
شريعة الإسلام هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم….
أما فقه الفقهاء فهو تطبيق هذه الشريعة في زمان معين ومكان معين…
ومنذ عفل المسلمون عن هذه الحقيقة وتركوا الاجتهاد بدأ عصر التقليد وانحطاط الفقه وتخلفه عن ركب الحياة…
ومازلنا منذ عدة قرون نعيش هذا التخلف, وإن كانت بوادر فجر اجتهاد جديد تلوح في الأفق منذ صيحات المجددين في القرن الماضي ومحاولات بعض المعاصرين وضع معالم الاجتهاد المعاصر سواء في أصول الفقه أو في فروعه …
ورسالة هذه المجلة الأساسية هي الإسهام في هذا المجال:
فمنذ العدد الافتتاحي أطلقت صيحة التجديد في أصول الفقه كمفتاح لحركة التجديد الكبرى في الفقه ذاته… وتنبت منذ سنوات مشروع موسوعة أصول الفقه التي نرجو أن ترى النور خلال هذا العام بإذن الله.
وفتحت آفاق البحث في فروع جديدة كالاقتصاد وعلم النفس والتربية والسياسة والادارة والإعلام والفنون ….
وأسهمت وما زلت في تأصيل وتحطيط وتعميق البحث في هذه الفروع وغيرها إيمانا منها بضرورة معالجة مشاكل العصر في ضوء شريعة الإسلام.
ولم تكن هذه الجهود شتاتاًً متناثراًً, وإنما خطوات في إطار خطة علمية مرسومة طرحت وطورت على صفحات المجلة وفي ندوات ولقاءات ومؤتمرات أولت هذا الموضوع حقه أو بعض حقه من العناية…
وما زالت الخطوات الرئيسية الكفيلة بنقل هذه الفكرة إلى غايتها النهائية تفتقد الرجال والمال اللازمين لإقامة مؤسسات البحث التي ترعى النبته الناشئة حتى تثمر. الفقه المعاصر الذي افتقده المسلمون منذ أغلاق باب الاجتهاد…
لقد مرت على ذلك قرون وتعاقبت أجيال من المسلمين وهم يعيشون الغربة في ديارهم وبين أهليهم, ويشعرون بالضياع في ظل حكومات تستحي من الانتساب إلى الإسلام أو تعلنه كلاماًً ولا تعمل به على أي حال.
ولا شك في وجود صحوة إسلامية عامة وفي قيام بعض الانجازات في طريق إعادة الحياة الإسلامية إلى واقع المسلمين المعاش, ولا يدري إلا الله متى يرى هذا الأمل النور, ودونه
ولا شك الكثير من الصعاب سواء في مجال العمل العلمي أو الاجتماعي أو السياسي وقد عالجت الأعداد المبكرة من هذه المجلة بعض هذه الأمور.
قد تمضي عشرات السنين قبل أن يرى هذا الأمل النور, وواجبنا على كل حال أن نحث الخطى ونبذل المزيد من الجهود والله مولانا وهو نعم المولى ونعم النصير.
****
منذ أن شعر المسلمون بالتناقص بين واقعهم المعاش ومثل الإسلام وتعاليمه, وهم يتساءلون كيف يمكن أن يعيشوا إسلامهم في هذه المسألة أو تلك .
وتتنوع الفتاوى في إشباع حاجة السائلين وفقا لتنوع الصعوبات التي تعترض طريق تطبيق الإسلام.
ففي مجال الحياة الخاصة – وحيث للفرد حرية الاختيار – فلا يجد المسلم – إذا عرف حكم الإسلام وصدقت نيته في العمل به – صعوبة تذكر في أن يحيا حياته الخاصة وفق ما جاء به الإسلام.
أما في مجال الحياة العامة, أو حتى في مجال الحياة الخاصة حين تتدخل القوانين في تنظيمها, فلا يكون الأمر بهذه البساطة, ومن ثم تكون الفتاوي غالباًً بعيدة عن واقع الحياة المعاشة إذ يكتفي المفتي ببيان حكم الإسلام (( نظرياََ )) أي ما ينبغي أن يكون عليه الحال في ظل مجتمع إسلامي متكامل تحكمه شريعة الإسلام وتقوم حكومته على رعاية الشريعة وحمايتها.
وهذا النوع من الفتاوي يعين المسلم على تصور الحياة في ظل الإسلام, ولكنه لا يسعفه في بيان كيف يعيش حياته الآن قبل أن يقوم حكم الإسلام, وقد يتأخر قيامه عشرات السنين.
هذا إذا كان رأي الإسلام (( النظري )) واضحاًً معلوماََ, أما إذا تعلق الأمر بمسالة مستحدثه, فإنه يصعب على المفتي أن يعطي رأي الإسلام قبل أن تصل الجهود العلمية إلى انضاج (( الفقه المعاصر)) الذي أشرنا في بداية هذه الكلمة إلى ما يستلزمه انضاجه من خطوات وجهود قد تستغرق عشرات السنين.
وفي كلتا الحالتين – سواء كان الحكم الشرعي معروفاََ ولكنه (( نظري )) أو لم يكن معروفاََ بعد – فإن المسلم يظل في حيرة من أمره …. ماذا يفعل اليوم في هذا الأمر أو ذاك.
ولنضرب بعض الأمثلة.
1- قد يقول المفتي ان فوائد البنوك حرام وانه يمكن قيام بنوك لا تتعامل بالفائدة .
وحتى تقوم هذه البنوك اللاربوية يحتاج المستفتي إلى الاجابة على أسئلة ملحة عاجلة:
هل يتعامل مع البنوك الربوية بالاقتراض منها, وإذا جاز ذلك على أساس الضرورة فما هي حدود الضرورة في هذا المجال؟
وهل يجوز له التعامل مع البنوك الربوية بالإيداع فيها, وإذا جاز ذلك فهل يأخذ الفوائد من البنك أو يتركها له, وإذا أخذها هل يضمها إلى ماله أو يتبرع بها في وجوه النفع العام؟.
2- قد يقول المفتي أن التاََمين حرام وأننا لسنا بحاجه إليه إذ يقوم بيت مال المسلمين بسد حاجة من تحل به مصيبة أو تصيبه ضائقة.
وحتى يقوم بيت المال بهذه الوظائف يحتاج المستفتي إلى الإجابة على أسئلة ملحة وعاجلة:
هل يؤمن على سيارته؟
هل يؤمن على بضاعته المستوردة من الغرق أو المخزونة من الحريق؟
هل يؤمن على منزله من الحريق؟
هل يؤمن على حياته لصالح زوجته وأولاده؟
3- قد يقول المفتي أن حد السرقة يعطل أثناء المجاعه, وان واجب الدولة إتاحة العمل وتوفير حد أدنى من الحياة الكريمة, وإن للجائع أن يأخذ – ولو قسراََ – ما يسد حاجته.
ويسأل السائل: إذا كان هذا الحد الأدنى غير متوافر لغالييه الناس, فما حكم السرقة والرشوة للفقير المحتاج؟.
4- قد يقول المفتي أنه لا يجوز قتال المسلمين, وإذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والنقتول في النار.
ويسأل السائل: ما حكم المجند في جيش دولة إسلامية يدفع دفعاََ إلى محاربة المسلمين في دولة إسلامية أخرى؟
هل يتمثل للأمر طاعة أولى الأمر, أم يعصيه امتثالا لأمر الله ويتحمل عقوبة الفرار من الجندية وعصيان الأوامر العسكرية؟
5- قد يقول المفتي ان على الدولة أن ترعى العلماء وأنه يجوز كتمان العلم أو تقاض أجره عليه.
وحتى تقوم الدولة بواجبتها في هذا المجال يسأل السائل عن حكم حقوق التأليف والملكية الأدبية والفنية والصناعية, هل يلزم إنكارها وإهدارها, ومن أين إذن يرتزق العلماء؟.
6- يقول المفتي ان النقود هي الذهب والفضة, وقد يقول ان النقود الورقية تقاس عليهما وتأخذ حكمهما.
ويسأل السائل – وقد أبطل التعامل بالذهب والفضة كنقود وأصبحا بضاعة تباع وتشتري – هل يستمر حكم إجراء النقود عليها وقد توقفت عن أداء هذه الوظيفة, أم نجري عليها حكم البضاعة؟
7- سنت البلاد الإسلامية (( قوانين تمنع الطلاق إلا بحكم من القاضي))
ويسأل السائل : هل ينصاع لهذا القانون في حالة الحاجه إلى الطلاق؟ أم يوقع الطلاق بالصورة الشرعية, وما حكم علاقته بمطلقته في هذه الحالة والقانون يعتبرها غير مطلقة؟
والأمثلة لا تنتهي….
وفي معظم هذه الحالات لا يسعف السائل الرأي (( النظري )) لأن الحالة التي يستغني فيها لاتتوافر فيها شرائط تطبيق الحكم الشرعي, ويلزم لها رأي استثنائي يراعي الواقع للحالة المستفتي فيها.
كما أنه في بعض الحالات – في مجال الأمور المستحدثة – فإن الرأي (( النظري )) ذاته لم يتوافر بعد, وفي كلتا الحالتين نشعر بالحاجة الماسة إلى ما يمكن تسميته (( فقه المرحلة الأنتقالية )) إذ لا يمكن للسائلين الانتظار ريثما يفرغ المجتهدون من اخراج (( الفقه المعاصر)) أو ريثما تقوم (( الدولة الإسلامية )) وقد يتأخر هذا وذاك عشرات السنين.
بل تنقضي أجيال لا تستطيع أن تحيا الإسلام جملة وتفصيلا, فلا أقل من أن نعينها أن تتقي الله ما استطاعت, إذ (( لا يكلف الله نفساًً إلا وسعها )).