من الأشياء التي لا تحظى بحكم واضح لدى جماهير المسلمين الفنون العامة والمسيقي بصفة خاصة, ولعل هذا هو الذي جر كثيرا من غير المسلمين الى الحكم المعمم والسريع بأن الاسلام يحرم الموسيقى, أو لا يقر الغناء والتنغيم. ورتبوا على هذا أن المسلمين العرب ليس لهم في هذا الفن شئ يذكر.
وقد حاولت الكاتبة أن تتناول هذه القضية من زوايتها الوضعية للواقع الموسيقى لدى العرب مصنفة موسيقاهم الى أنواع: الدينية, والفنية, والشعبية, مؤكدة تلاحم هذه الأنواع بشكل لافت للنظر, مبينه أثر تلاوة القرآن, والأذان للصلاة, والناشيد الدينية في كل من أنواع الموسيقى العربية سالفة الذكر.
كما ذكرت الكاتبة أن أهم سبب يعزي إليه عدم تكيف مجموع جماهير المسلمين مع الموسيقى الغربية هو ارتباطهم بموسيقى تلاوة القرآن وتسرب هذا مع غيره من الآداءات الدينية إلى وجداناتهم وطبعها بطابع خاص جعل غير هذه الانواع العربية لا يلقى كبير من اهتمام من جمهور العرب المسلمين.
وفي كل الذي ذكرت رصد لواقع الموسيقى لدي المسلمين العرب مما ينفي الحكم السريع العاجل الذي توط في القضاء بأمر ليس من واقع العرب المسلم في شئ بالنسبة لهذا الفن على وجه الخصوص.
إن الأنواع التي يضعها علماء الموسيقى ويشرحون التراث الموسيقى بمقتضاها … أى الموسيقى الدينية والموسيقى الفنية والموسيقى الشعبية … تبدو غير ملائمة على الاطلاق لوصف معظم الموسيقى العربية. وإذا تطبيقها, فإنها تكون ذات معني فقط من نواحي فطرية معينة. وتهدف هذه المقالة إلى شرح وتوسيع ذلك الحكم, وتقديم بعض الافكار في الختام من أجل دراسة الموسيقى والتغيير الموسيقى الذي اتضح في إطار دراستنا وتوصل إلى هذه النتيجة.
ويعالج القسم الأول من المقالة الانسجام الشامل بين كل من الموسيقى الدينية, والموسيقى الفنية التقليدية, والموسيقى الشعبية في المفهوم العربي. ففي حين أن تلك الانواع التي تقسم إليها الموسيقى تشير إلى اختلافات واضحة تماما بل وجوهرية, يقدم لنا هذا القسم من تراث الموسيقى العربية انسجاما شاملا متعدد الأبعاد وهو يشتمل على الانسجام الشامل في مشاركة المستمعين ومناسبات الأداء, والمؤذبيين الذين يقومون بغنائها وعزفها. بل إننا نستطيع أن نتحدث عن الشمول التاريخي لذلك الانسجام, لأننا نتعامل هنا مع مجموعة من الموسيقى التي أبدت درجة عالية من الانسجام الأساسي, إن لم يكن دائما تطابقا اصطناعيا, على مدى فترة طويلة من الزمان( دى ارلانجر 1949: 64, 1959: 4, والفاروقي 1974 الفصلان 3, 4). ونعالج جميع تلك الاعتبارت استخدام الموسيقى وليس وصف العناصر الموسيقية ذاتها.
وسوف يعالج القسم الثاني من هذه المقالة ما أسميته بلانسجام الشامل لنفس الأنواع الموسيقية الثلاثة. ومما يذكر هنا أن ثمة تطابقا في المواد الموسيقية ذاتها بالأضافة إلى استخدامها الثقافي, ولقد ذكرنا أسباب ذلك التطابق في هذه المقالة.
وثالثا تتحول المناقشة إلى الأنواع التي تتسم بالاختلاف – أي الموسيقى الشعبية التي تتسم بالصبغة الغربية والموسيقى الكلاسيكية الغربية التي تتسم بالصبغة العربية – اللتين تختلفان كلاهما في الاستخدام والجوهر عن الكيان الموسيقى الذي يصور الانسجام الشامل والمكثف.
ولقد حاولنا في القسم الختامي المختصر أن نجيب على السؤال: ما الذي تظهره لنا تلك المعلومات عن طبيعة الموسيقى والتغيير الموسيقى؟
1- الانسجام الشامل
لدينا كل الحق في الحذر عند تحديد الأنواع الموسيقية, وقد يجادل البعض في أن النوع أو الاسم ليس هاما, وأنه من الممكن استخدام الأسماء بحرية طالما يتم وضع تعريفات دقيقة وبالطبع ثمة قدر كبير من الصحة في هذه العبارة ونستطيع أن نجد الأمثلة حتى في الحياة الموسيقية الغربية التي تضع تعريفات أكثر دقة, بل حتى تعريفات جديدة, للأنواع القديمة الأساسية ( أنظر المقالات المختلفة في هام وأشياء أخرى 2975). ولكن عند مرحلة معينة من الاختلاف, تثقل الأنواع القديمة بالتعريفات الجديدة حتى أنها تصبح غير قادرة على القيام بدور ذى معنى ويصبح ذلك أكثر صحة عندما ننتقل إلى الحضارات الأخرى التي تعد تلك الأنواع غربية عليها ويبدو أن تلك هي الحالة بالنسبة للموسيقى العربية. ولذلك فإننا نقدم تنظيما جديدا للمواد الموسيقية الذي نأمل أن يزودنا بفهم أكثر صحة للأنواع العديدة للموسيقى, بل حتى للموسيقى في الأجزاء الأخرى للعالم الاسلامي.
أ- الموسيقى الدينية .
أولا, فلننظر إلى (( الموسيقى الدينية )) باعتبارها نوعا من التقاليد الموسيقة العربية المعاصرة . وهنا يجب أن تتضمن الأنواع التالية من الموسيقى: قراءة القرآن, والأذان, والذكر, الذي يعد نوعا من العبادة الخاصة بالاخوان الصوفيين, وغير ذلك من الأمثلة كالتكبيرات (تمجيد الله), والحمد (الشكر لله), والمدح (مدح النبي محمد) أو الدعاء (الابتهال) ومن الممكن تعريف الموسيقى الدينية باعتبارها موسيقى ترتبط بالطقوس الدينية والصلاة إلى جانب الموسيقى الموضوعة لقصيدة من الشعر أو الدراما ذات الموضوع الديني. وثمة خصائص معينة مثل بطء الايقاع, ورقة النمط الايقاعي, والصفة الشكلية … الخ, التي كانت تعتبر في وقت ما سمات ضرورية لمثل تلك الموسيقى, ولكنها لم تعد بمثابة مقاييسس صحيحة سواء في العرف الغربي, أو في إطار التجارب الموسيقية للشعوب المختلفة. وثمة ضروب واسعة من السمات الموسيقية توجد في الموسيقى الدينية للحضارات والعصور المختلفة, وتعتبر تلك الاختلافات علامات تعبر عن وجهات النظر الدينية المختلفة للحضارة في الفترة المعينة التي وجدت فيها ( الفاروقي 1974ب) ونظرا لأن سمات الموسيقى الدينية قد اختلفت إلى حد كبير فقد كان نوع (( الموسيقى الدينية )) واحدا لكنه يحاول وضع الحدود بالنسبة لطبقة من الأمثلة الموسيقية التي تشارك في تماثل الاستخدام أو الوظيفة الحضارية. وفي عبارة أخرى فان الخلفية الدينية للأداء تعد في المعتاد السمة الثابته للموسيقى الدينية.
ولكن الأمر ليس كذلك في العالم العربي! فإن معظم العرب لا يفكرون حتى في أن قراءة القرآن أو الأذان أو الفن الشفهي المتمثل في الذكر تعد موسيقي – وفي الحقيقة فإنه ليس ثمة أي من التعبيرات العربية التي تترجم عادة إلى الانجليزية في كلمة (( موسيقى )) يتضمن تلك الأمثلة وحتى في مفهومها الأكثر عموما فإن كلمة (( musiqa))التي اقتبسناها من اليونانين القدماء, تستثنى مثل تلك الموسيقى الدينية كتلاوة القرآن والأذان, إلى جانب الانشاد الخاص بالذكر والمدح والحمد. ونجد أن الموسيقى (( musiqa))أو ( الموسيقى) (( musiqa))في مفهومها الأكثر تحديدا, تتعلق فقط بفن الموسيقى النظري, في اختلافه عن فن الموسيقى الواقعي ( الغناء) ومما يساهم في زيادة ذلك التشوش أن الغناء يتم استخدامه أيضا للاشارة الى الموسيقى الغنائية, بأختلافها عن العزف, أو الموسيقى الغير دينية, بإختلافها عن الموسيقى الدينية, وثمة تعبير آخر وهو السماع الذي تتم ترجمته إلى الانجليزية أحيانا في كلمة (( موسيقى)), وإذا التزمنا بالدقة فهو يتعلق فقط بالانشاد والأداء الموسيقي الخاص باحتفالات الذكر للاخوان الصوفيين. وثمة تعبير آخر كان يستخدم في العصر الكلاسيكي, وهو اللهو تتم ترجمته أحيانا باعتباره (( موسيقى)), ولكن ترجمته الأكثر دقة هي (( تسلية)) وبمثل ذلك الأسلوب يكون ذا مضمون أكثر شمولا من كلمة (( الموسيقى)).
والأمر واضح أنه ليس ثمة مرادف دقيق للكلمة الانجليزية musicقي اللغة العربية.
وأيضا ليس ثمة تعبير يستطيع أن يصنف جميع الأنواع التي نعتبرها موسيقيى دينية تحت صنف واحد. بل إننا نجد بدلا من ذلك أن يحمل كل منها اسمه الخاص به.
وبالرغم من العوامل الدينية والمصطلحات الفنية التي تميز العناصر الموسيقية الدينية والغير دينية في الحضارة العربية – الاسلامية, فإن الأمثلة من كلا النوعين تتلائم بدقة مع التعريف الانجليزي (( للموسيقى)). وهناك تطابق كبير بين كليهما في السمات الموسيقية والاجتماعية. ومعضلة التطابق في الطبيعة الموسيقية إزاء عدم التطابق في التعريف الحضاري قد أدت إلى مشاكل شائكة وكثيرة من التشوش لدراسي الموسيقى العربية وغيرها من الموسيقى الاسلامية العالمية.
وقد يكون ذلك واحداًً من الأسباب التي أدت إلى تلك التعبيرات المشوشة, إن لم نقل المشوهة للسمعة بشكل مباشر, مثل (( أن الاسلام ليس لدية موسيقى دينية في مفهومنا المعتاد للكلمة)) ( فارمر1957: 438 – 439), وأن الاسلام ((يحرم الموسيقى)) (نتيل 1957: 77) أو أنه (( من الممكن الجدال في أنه ليس ثمة موسيقى في الشرق الاوسط في يومنا هذا … ويمكن تصنيفها أنها كلاسيكية))
(بيان تم تقديمة في ندوة برينستون حول (( وضع الموسيقى في الأمم المسلمة, 1979)).
ولا نعني بذلك الجدال أن الطقوس الاسلامية تتضمن أشياء مماثلة للحس الموسيقي المبني على رواية الانجيل لآلام المسيح الخاص بالقديس ماثيو أو موسيقى القداس, أو أنه لم يكن ثمة مشكلة بالنسبة لقبول بعض أشكال الفن الموسيقي في العالم الاسلامي, ولكننا يجب أن نوضح تماما أنه ليس ثمة أمر قرآني ضد الموسيقى سواءاًً في مفهومها الضيق ( الموسيقى اللادينية) أو مفهومها الأوسع ( أى كل من الموسيقى الدينية واللادينية), وفي الحقيقة فإن القرآن يأمرنا بتلاوته بترتيل ((( … ورتل القرآن ترتيلاًً)) المزمل 73/4).
ومن الممكن أن نجدفي الحديث – الذى يعد المصدر الرسمي التالي في الأهمية لممارسات وأفكار المسلمين – أشياء بعضها في صالح الموسيقى وبعضها ضدها. ولكن ذلك الدليل إلى جانب ممارسات المجتمع المسجلة في التاريخ الاسلامي لايمكنها إطلاقا تبرير قولنا أن الحضارة الاسلامية لم تنتج أي موسيقى دينية أو أن الاسلام قد حرم الموسيقى.
فالحقيقة هي أن كلا من الموسيقى الدينية واللادينية قد ازدهرتا في جميع عصور تاريخ المسلمين. فالاسلام لم يجرم أبدا أو يعترض على الموسيقى المتمثلة في القراءة والأذان والتكبيرات, والحمد, والدعاء, والمدح, بل إنه في الحقيقة قد عمل على نشرها بدون توقف بل انه في الحقيقة عمل على تأسيسها. أما بالنسبة للأنواع الأخرى من الموسيقى الدينية واللادينية. فإن الاسلام باعتباره مجتمعا قد اتخذ موقفا مختلفا. فبالنسبة لموسيقى الاخوان الصوفيين, وبالرغم من أنه ثمة بعض المسلمين الذين يمارسونها ويستمتعون بها, كان الآخرون ينظرون إليها بحذر نظرا لا رتباطها بالتطرف والسلوك الذي يفتقر إلى التفكير السليم والذي كانت أحيانا تؤدي إليه هي وغيرها من أعمال الذكر: أما بالنسبة للموسيقى الغير دينية, فكانت بمثابة أسلوب تسلية لهؤلاء الذين ينغمسون في الممارسات المحرمة ( مثل الخمر, والدعارة, والقمار). فعلى حين نجح بعض المسلمين في الفصل بين النتاج الفني والممارسات الاجتماعية الغير مرغوب فيها التي ترتبط به أحيانا (1), فثمة آخرون لم ينجحوا أو لم يرغبوا في فعل ذلك.
وفي الواقع بدلا من أن نقول أن الاسلام يحرم الموسيقى, يجب أن ندرك أنه في تلك المعارك الأيديولوجية التي تم شنها حول الموسيقى على مدى قرون من التاريخ الاسلامي, كان ثمة اتجاه ثقافي شرقي في الأسلوب الموسيقى كان له أثر حتى يومنا هذا.
وفي طريق إبعاد المجتمع عن الموسيقى الغيردينية حيث ليس من الممكن عزل كل من الاسلوب والشكل وتغيرهما عن التأثيرات الخارجية, كان المجتمع المسلم يحاول بناء والحفاظ على نوع من الوحدة الثقافية, والدينية والموسيقية بين الناس ذوي الاختلافات العنصرية واللغوية والثقافية الواسعة. وبمقتضى ذلك فقد جُذب ذلك المجتمع إلى نوع من التعبير الموسيقي كان يتصل بشكل وثيق ويتم تقريره بواسطة الأيديولوجية المركزية. ولعل ذلك واحد من أهم العوامل التي أدت إلى ذلك الانسجام الشامل المكثف الذي يوجد في ذلك التراث في الوقت الحاضر.
الانسجام الشامل في مشاركة جمهور المستمعين.. إن جمهور المستمعين للموسيقى الدينية في حضارات القرن العشرين يعتبر بصفة عامة جمهورا محدودا.. أي جمهور الكنيسة, أو معبد اليهود أو الحفلات الموسيقية الدينية التي تقام في بعض الاحيان. ويمكننا القول إن الجمهور المعتاد للأداء الموسيقي في تلك الحفلات يستمع الى تلك الموسيقى باعتبارها فنا أو موسيقى كلاسكية أكثر من كونها موسيقى دينية. وحتى إذا نجحنا في الجدال أن الشخض الكثير التردد على تلك الحفلات الموسيقية يعتبر جزاء من جمهور الموسيقى الدينية, فاننا نجد أن ذلك النوع من النتاج الموسيقى له جمهور محدود للغاية في معظم اجزاء العالم. أما في العالم العربي الاسلامي, نجد أن العكس تماما هو الحقيقي بالنسبة لذلك النوع, ونجد أنه بالنسبة لكل من المسنين والشباب, والمتدينين وغير المتدينين – حتى بالنسبة لغير المسلمين في الدول العربية – فإن تلاوة القرآن والأذان يعدان عناصر هامة لا يمكن تجاهلها.
وثمة كثير من المهاجرين من المسيحيين أو اليهود الذين نموا في الدول الاسلام يعتبرون تلاوة القرآن ودعوة المؤذن بعض العناصر الحضارية التي يتذكرونها تماما ويفتقدونها من عهد طفولتهم.
الأنسجام الشامل في مناسبات الأداء – نجد أن الموسيقى الدينية في العالم العربي الاسلامي, لا تقتصر على الطقوس الدينية أو الأداء الموسيقي في الحفلات التي تقام أصلا من أجل تلك الطقوس. فإنه ليس ثمة شئ كلي الوجود مثل الدعوة إلى الصلاة, التي تتكرر خمس مرات في اليوم من كل مسجد في القرية أو المدينة ويستمع إليها كل من التقي, وغير التقي, والمسلم وغير المسلم على السواء.
وإن تلاوة القرآن ليست مجرد جزء من طقوس الصلاة في المسجد أو المنزل, كما يتم الاستماع إليها أيضا في الراديو والتلفزيون, وفي كل إجتماع عام, بل حتى في حفلات الزفاف, والأعياد والجنازات.
وثمة أنواع أخرى من الموسيقى الدينية ( مثل التكبيرات, والحمد, والمدح, والانشاد الديني),التي تحتفظ بكثير من السمات الخاصة بأسلوب تلاوة القرآن والتي تستخدم أيضا باعتبارها مصاحبة موسيقية لنوعية كبيرة من المناسبات, ونجد نسجيلا مذهلا لتلك الحقيقة في الجزء العربي بشمال أفريقيا في فيلم تحت عنوان(( بعض نساء مراكش)) من إنتاج إليزابيث فيرينا. وهو يتضمن حضرة(2) للضيوف من السيدات في منزل مراكشى إحتفالا بعودة إبنة أهل ذلك البيت من كلية الطب وقد كان أسلوب التسلية لتلك الحادثة الاجتماعية يتركز في أداء الموسيقى الدينية والرقص الديني. ونجد أدلة بالنسبة لنفس ذلك الامتداد الوظيفي في الموسيقى الدينية لتونس, حيث تقوم الجماعات العيسوية الدينية بأداء حضراتهم من أجل الاحتفالات الدينية والعائلية إلى جانب المناسبات الدينية ( جولز1977: الفصل 2).
وفي حين أن موسيقى العرب التي يمكن تصنيفها كموسيقى (( دينية )) يتم تقديمها في نوعية واسعة من المناسبات وتحت ظروف كثيرة مختلفة, فإنه من الهام أن نلاحظ أن الحرية التبادلية بالنسبة لدخول الموسيقى الغير دينية للطقوس في المسجد لم تكن أبدا ممارسة في المجتمع العربي أو الاسلامي. ويمكننا القول أن التلاوة القرآنية والدعوة إلى الصلاة فقط هما الأجزاء الأساسية للطقوس الاسلامية, في حين أن التكبيرات, والحمد, والمدح, والدعاء تعد إضافات إختبارية وعرضية قبل أو بعد الصلاة.
الانسجام الشامل بالنسبة للمؤدين: نظرا لأن الموسيقى الدينية للحضارة العربية تبدي مستوى عاليا من الارتجال, فانه ثمة قليلا من الادراك في المجتمع بالنسبة لملحن الموسيقى الدينية باعتباره منفصلا ومختلفا عن المودي.
وفي الحقيقة فان ملحن الموسيقى في المفهوم الحالي لا يقوم بأي دور في تلك الموسيقى. ومن النادر أن يكون كل من القارئ والمؤذن بمثابة محترفين في المفهوم الحديث للكلمة. ففي الواقع أن أي عضو في المجتمع المسلم يستطيع تلاوة القرآن على العامة وهو يقوم بالفعل بتلاوته في الصلاة الخاصة به. ويجب أن يكون كل مسلم ملتزم أن يتعلم تلاوة القرآن, ليس معرفة وحفظ كلماته فحسب, بل مصاحبتها بالتنغيم الصوتي أيضا. وسوف يكون القارئ عامة في مسجد المدينة أو التجمعات العمة الكبيرة بمثابة شخص حاز على التدريب في الدراسات القرآنية في أحد المعاهد الاسلامية, ولكن أي طالب في القرية أو المدرسة الدينية سوف يكون لديه بعض التدريب في ذلك الفن الديني الجمالي منذ طفولته. وحتى القارئ الحاصل على التعليم الأزهري(3)لن يعتبر نفسه محترفا تم تدريبه لاستخدامه في تلك الوظيفة. ولكنه يكون بصفة عامة شخصا ذا تعليم ديني يتخذ مسئولية تلاوة القرآن والأذان من أجل الصلاة إلى جانب المناسبات الاجتماعية, بالاضافة إلى واجباته أو مهنته الأخرى. ويعد ذلك الشمول أيضا صحيحا بالنسبة للأنواع الأخري التي تنطبق عليها السمة الدينية, وهو يدعم المفهوم القائل أن مؤدى الموسيقى الدينية في الحضارة العربية الاسلامية يأتون من خلفيات اجتماعية, ودينية, وعلمية واسعة النطاق(4).
ويضع المجتمع نفس القدر من الاصرار على النقاء الديني لقارئ القرآن مثلما يضع بالنسبة لمقدرته الموسيقية. وينصح أي شخص يقوم بالتلاوة بان يعد نفسه إعدادا روحيا وبدنيا للتلاوة, سواء كان ذلك الشخص يقوم بالتلاوة استجابه لمتطلبات مهتنه, أو هوايته, أو باعتباره فقط مجرد عضو في المجتمع يقرآ القرآن لمناسبة معينة. ونظرا للاحترام الذي يشعر به المسلمون تجاه القرآن والصلاة, فإنهم يجدون من غير اللائق ومن غير المقبول أن يقوموا بتعيين مشرك أو غير مسلم ذى صوت جميل للمشاركة في إنشاد الموسيقى الدينية. فانه ليس من الممكن أبدا تطبيق مثل نجم الأوبرا اليهودي أو الكاثوليكي الذي يتم استخدامه كعازف منفرد للطقوس الدينية المسيحية في المفهوم العربي – الاسلامي.
ويتعلم كل من الرجال والنساء التلاوة, ولكن يتم عزل جمهور المستمعين في أجزاء معينة من العالم العربي بالنسبة للقارئات من النساء, طبقا للتقاليد الاجتماعية المحلية وليس تماما للضرورة الاسلامية. وفي حين أن النساء في المشرق الأدنى وشبه القارة الهندية عادة يتلون القرآن للنساء فحسب, فان النساء في جنوب شرقي آسيا يتلون القرآن في الاجتماعات العامة التي يكون فيها الجمهور خليطا من الرجال والنساء كما يقمن بتلاوته للجمهور من النساء, وفي حين نجد الرجال أكثرة شهوة واكثر انتشارا بصفتهم مقرئين في الشرق الأوسط وشبة القارة الهندية, فاننا نجد أن من كانوا يحوزون على الجوائز في مسابقات تلاوة القرآن التي تقام في ماليزيا غالبا يكن من النساء.
إن الموسيقى الدينية تعد بصفة أساسية عملا منفردا, غير مصحوب بعزف على الآلات في العالم العربي الاسلامي, ومن ثم لا توضع أية قيود على استخدامها الشامل بسبب توافر أو عدم توافر المؤدين الذين توجد حاجه اليهم من أجل الأداء الصوتي أو الآلاتي الموحد. وتعد كل من تلاوة القرآن والأذان دائما أداءا صوتيا منفردا, غير مصحوب بالعزف على الآلات. ويتم أداء الموسيقى الأخرى الموضوعة لقصيدة دينية أو التلاوات الدينية التي يمكن تعريفها كموسيقى دينية بواسطة المؤدي المنفرد أو الجماعات, بمصاحبة أو بدون مصاحبة العزف على الآلات, ولكن الجماعة المؤدية دائما تكون صغيرة, ويقوم الموسيقيون بالغناء أو العزف في انسجام أو بتغاير.
ومن الواضح أن (( الموسيقى الدينية )) في المفهوم الموسيقى الغربي لذلك التعبير, تمثل نوعا هاما في المجتمع: نظرا لقدوم جمهورها من جميع طبقات المجتمع, والمناسبات المختلفة العديدة التي يتم فيها, إلى جانب المؤدين المتضمنين فيها, نظرا لأن كل مسلم يعتبر بمثابة مؤد ممكن.
ب- الموسيقى الفنية التقلدية:
إن النوع المتمثل في (( الموسيقى الفنية )) ليس بأقل إشكالا من الموسيقى الدينية للعرب المسلمين فيما يتعلق بتعيين الحدود. ونجد في المغرب اصطلاحات: مألوف, أو صنعة أو عالة تستخدم للتعبير عن التراث الكلاسيكي الأندلسي, الذي يضاهيه البعض مع (( الموسيقى الفنية)). وفي المشرق(5), فإن أوثق الاصطلاحات النظرية المتوفرة, أي التراث, يدل أكثر على التراث التاريخي في الموسيقى أكثر من دلالته على نوع منفصل ومعرف بدقة للموسيقى التي يمكن مقارنتها مع التعبيرات الانجليزية مثل (( الموسيقى الفنية)) أو (( الموسيقى الكلاسيكية)). وعلى سبيل المثال, قد يبدو لنا أن التعبيرات المغربية قد تثبت الحاجة لمضاهاة التراث الموسيقي الندلسي السائد مع التراث المشرقي للأداء بدلا من الحاجة لمضاهاة الموسيقى الفنية في حد ذاتها مع الموسيقى الدينية أو الشعبية. وطبقا للدراسة الحديثة لموسيقيي العيسوية بتونس فإن الآداء الموسيقي في المناسبات المختلفة (أى الحج, والزفاف, والأعياد, وغير ذلك من الحفلات والمهرجانات) لا يختلف كثيرا تبعاًً للمناسبة ( جونز 1977: 56).
ويقوم هارولد يورز – في مقالته التمهيدية المثيرة التي قدمها في ندوة برينستون عن (( وضع الموسيقى في الأمم المسلمة)) (1979) – بالبحث عن (( تقليد عظيم )) في الموسيقى فيما يطلق عليه (( صميم العالم المسلم)) أي, في بلدان الشرق الاوسط حيث يتحدث الناس بالتركية, والفارسية أو العربية. وفي نشداته حلا لتلك المشكلة, فهو يسأل إذا ما كان التراث الموسيقي الكلاسيكي لتلك المنطقة يعتمد علي معيار نظري يتسم بالفعالية على مدى قرون من الوجود الحضاري, إذا تم توفير مؤدين كفاءة وتدريب عال, ويسأل اذا ما كان الأفراد والجماعات من النخبة الحاكمة التي تدين بالخبرة تستمع به وتؤيده. فان جميع ذلك يعد تجهيزا للتراث الموسيقي الكلاسيكي.
وبمقتضى وجود المشكلة الخاصة بملائمة تلك السمات للظواهر الموسيقية في المنطقة في الوقت الحالي, يمكننا أن نجيب في الحال(( بالنفي)) على الأقل بالنسبة للأخير من تلك التساؤلات, ونختبر الاثنين الأولين بجدية, ونستنتج أن حضارة تلك المنطقة ليس لديها تراث للموسيقى(( الفنية)) أو (( الكلاسيكية)) مثلما يوجد في الحضارات الاخرى. واذا كانت كلمة (( كلاسيكي)) طبقا لتعريف الموسيقى الكلاسيكية التركية المقدم في ندوة برينستون تعني (( النبخة)) و(( مجموعة الرموز)) و(( المهني)) و(( التي يستمتع بها الجمهور المنفعل)) فإنه يكون من الأكيد أنه ليس للعرب مثل ذلك الفن.
وقد يبدو ذلك حلا سهلا لمشكلة مثل تلك الحقائق الغير قابلة للمجاراة, ولكنه يعد في الواقع مجرد جزء صغير من الاجابة اللازمة لايضاح الوضع الموسيقي. إنه في الواقع بيان جزئي يفشل في أن يأخذ في اعتباره السمات الفريدة للحضارة الاسلامية التي حالت دون نمو مثل تلك الظواهر الموسيقية كما توقع العلماء الموسيقيون المختصون بالأجناس المختلفة للتراث الموسيقي, والتي مهدت الطريق لمركب من الظواهر الموسيقية يختلف بشكل مذهل.
ويكمن المفتاح لفهم ذلك التراث الموسيقي الخاص بالعالم العربي في حقيقة الحضارة الاسلامية التي لا تعد ذات تأثير في البيئة العربية فحسب, بل إنها تخللت الشرق الأوسط وفيما وراءه بتوسع كبير, مع نشر الأيديولوجية الاسلامية. تلك الحقيقة هي أن الاسلام والمسلمين ينكرون تقسيم الحياة قسمين أي الدينية والدنيوية. فان الأفعال الدينية بالنسبة للمسلم لا تتكون من مجرد الصلاه وأداء أعمدة (أو واجبات) الاسلام.
وبالاضافة الى ذلك, فان كلا من أسلوب إدارة المسلم لأعماله, وأسلوب تنشئته لأسرته, وأسلوب تحيته لجاره, والطعام الذي يأكله, بل حتى أسلوبه في الخلق الفني والتعبير عن نفسه من الناحية الجمالية تعد جميعها أعمالا دينية هامة يجب أن تنبع من المثل العليا الدينية وتتلاءم معها.
إستجابة لتلك الظروف الأيديولوجية, فلا يجب أن نتوقع من الموسيقي في بيئة إسلامية أن تنتج ذلك التراث الكلاسيكي الدنيوي العظيم الذي تنتجه في البيئات الاخرى. والحقيقة هي أننا نجد قليلا من سمات ذلك النوع من التراث في(( قلب العالم المسلم)) الذي كان للأيدلوجية الاسلامية فيه أعمق تأثير بالنسبة لتشكيل النمط الحضاري. وفي الحقيقة أن الثراث العظيم في تلك البلدان هو تراث الموسيقى الدينية. فان التراث الموسيقي الذي كان ولا يزال له أكبر الأثر ليس في المجتمع المتحدث بالعربية فحسب, بل أيضا بالنسبة للشعوب المتحدثة بالتركية والفارسية هو قراءة القرآن. وذلك النوع من الموسيقى الدينية هو الذي يجب أن نركز عليه انتباهنا إذا أردنا أن نتبين ذلك التراث الموسيقي العظيم الذي أثبت المعايير الموسيقية النظرية, وأثبت يقظته بالنسبة لأسلوب الآداء (6). وأثره على الأنواع الموسيقية الأخرى في الحضارة, وخبرة جمهور مستمعيه, ونظامه للرعاية… التي تعد جميعها سمات تقليدية للموسيقى الفنية أو للموسيقى الكلاسيكية. ولكن هناك كثيرا من التباين بين ذلك التراث القرآنى أو الديني العظيم وبين التراث الخاص بأي فن دنيوي أو موسيقى كلاسيكية.
ومن أهم تلك الاختلافات التي تشتق من المبدأ الاسلامي الأساسي الذي ذكرناه بالفعل – الافتقار إلى التمييز بين تلك الأنواع المألوفة التي يقوم العلماء الموسيقيون المختصون بالأجناس العنصرية المختلفة والعلماء الموسيقيون عامة بمقتضاها بتقسيم وشح التراث الموسيقي.
الانسجام الشامل في مشاركة جمهور المستمعين…لقد كانت النظرة المتعادة إلى الموسيقى الفنية التقليدية هي أنها نوع من الموسيقى يتطلب تدريبا خاصا بالنسبة للمستمعين حتى يستطيعوا تقديرها وإن (( الموسيقى الفنية التقليدية)) للعرب, إذا ما افترضنا وجود مثل ذلك النوع, لاتتطلب مثل ذلك التدريب بالنسبة للمستمعين. سواء كانت من النوعية المرتجلة أي نثر النغمات او من النوعية المعتادة أي نظم النغمات, فانه يتم فهمها والتمتع بها بواسطة كل من الطبقة الأريستوقراطية والطبقات الدنيا. وبلاضافة إلى ذلك, فان التفرغ المعتاد الحضاري – الريفي الثنائي الشعب يعد غير ملائم هنا لفصل الموسيقى الفنية عن الأنواع الأخرى وبالرغم من أنه قد تكون للقروي فرص أقل للاستماع إلى مؤدين ذوي مهارة, فإنه يحصل على نفس نوع الموسيقى مثل ساكن المدن.
وبلاضافة إلى التلاوات والأغاني الدينية, فإن ساكن كل من القرية والمدينة يستمع لنوع مماثل من الموسيقى مع كلمات دنيوية أو دينية مستورة, مصحوبة بازدياد ملحوظ لمشاركة الآلات. وتلك الموسيقى التي يسميها الغرباء (( بالموسيقى الفنية)). وإذا كان استخدام الآلات أو تغيير الكلمات يمكنه خلق النوع الجديد, فإنه يكون لدى العرب تراث مستقل للموسيقى الفنية. ولكننا يجب ألا نغفل عن إدراك التطابق الهائل بين ذلك النوع وبين الموسيقى الدينية , أو تسهو عن تأثير الأخيرة بالنسبة لتطور الأولى.
وقد لوحظ (بمقتضى التجارب الشخصية في مشاهدة الاذاعات المسجلة بالتلفزيون لأداء أم كلثوم, ونيتل 1975: 197) أن جمهور الموسيقى الفنية التقليدية في البلدان العربية يتكون غالبا من الذكور. ولكن تلك ليست بعلامة تؤكد أن النساء لا يشاركن في تقدير تلك الموسيقى, وإن الحفلات الموسيقية الرسمية – كما سوف نرى فيما يلي – ليست المناسبة الوحيدة, أو حتى الأكثر أهمية من الناحية الاحصائية للاستماع إلى الموسيقى الفنية التقليدية. فان كلا من اجتماعات النساء والاجتماعات العائلية والحفلات تعد مناسبات تتكرر كثيرا بالنسبة لمثل ذلك الأداء, ويحضرها كل من الرجال والنساء. ولذلك يجب أن ننظر إلى تكون جمهور الحفلات الموسيقية في الشرق الاوسط غالبا من الذكور باعتباره عاملا ذا أهمية اجتماعية وليس ذا أهمية من الناحية الموسيقية. وإذا نظرنا للأمر باعتباره نتيجة لسلوك اجتماعي يهدف الى تدعيم دستور اخلاقي مقربه, فانه من الممكن رؤية تلك العادة أيضا باعتبارها حقيقة موسيقية تحثها الناحية الدينية.
الانسجام الشامل في مناسبات الأداء:في حين تعتبر الموسيقى الفنية أنها تنتمي بصفة عامة إلى الصالونات الخاصة أو قاعات الحفلات الموسيقية العامة, فإن ذلك الوصف مرة أخرى لا ينطبق على كثير مما يسمى (( بالموسيقى الفنية )) للعالم العربي. ولكننا لا نعنى بذلك أنه لا يتم أبدا أداء هذه الموسيقى في قاعات الحفلات الموسيقية. وفي الحقيقة, أنها في السنوات القليلة الماضية قد حازت على عدد متزايد من تلك الحفلات في المناطق الحضرية, لعل ذلك نتيجة لصعود نجم المؤدين منذ التطور التكنولوجي بالنسبة للتسجيل والاذاعة في هذا القرن. ولكننا يجب ألا يضللنا الاعتقاد بأن ذلك هو المكان الوحيد, أو حتى النموذجي, لتلك الموسيقى. فإن الاحصائيات بالنسبة لعدد الحفلات وعدد المستمعين المعنيين سوف تظهر لنا أن العكس تماما هو الصحيح. ويجب أن نتذكر أنه حتى في مصر التي تعد أكثر الدول العربية تصنيعا وسكانا, فإنه ثمة مدينتين فقط ذاتى حجم كبير: وهما القاهرة والاسكندرية وفي هذين المركزين ثمة حوالي 25% من إجمالي سكان مصر أما الخمس والسبعون في المائة الباقون فيعيشون في المناطق الريفية, في القرى أو في بيئات المدن الصغيرة التي تكون فيها التأثيرات والعون الأجنبي بالنسبة للأحداث العامة, والمهنية, والثقافة محدودة للغاية بالمقارنة بما في المدن الكبيرة.
ولقد قام بعض الكتاب أيضا (أبو لغود 1970) يطرح السؤال بالنسبة لمدى اختلاف الحياة في بعض أقسام المدينة حقيقة عن الحياة في القرية, حتى أن مجرد اعتبار تلك الخمس والعشرين في المائة من السكان الذين يعيشون في المدينة أنهم حضريون تماما يعد غير حقيقي.
وفي الدول العربية الأخرى, تعد النسبة المئوية لسكان المدن أصغر حتى من ذلك. ولذلك فإن حياة المدينة والحفلات الموسيقية العامة تعد شيئا نادرا, لو أنه قد تمت تجربته على الاطلاق, بالنسبة لمعظم الناس.
ولا يعني ذلك حرمان الناس تماما من الاستماع إلى تلك الموسيقى التي يصنفها العلماء الموسيقيون (( كموسيقى فنية)) فإن العرب يستمعون إليها في المناسبات الاجتماعية المعدة لأهداف أخرى عدا المناسبات العامة والموسيقية البحتة فلعلها تكون بمناسبة حفل خطوبة, أو زفاف, أو اجتماع للاحتفال بعودة أحد الحجاج, أو عودة طالب, أو زيارة قريب لاجيء. وسوف نتذكر أن تلك هي نفس أنواع المناسبات التي تستخدم فيها الموسيقى الدينية بالاضافة إلى دورها الشعائري ويزودنا ذلك بأدلة أكثر لذلك الانسجام الشامل الذى تشارك فيه القطاعات العديدة للفن الموسيقى العربي.
الانسجام الشامل بالنسبة للمؤدين…إن الموسيقى الفنية بين العرب تدين باهتمام بالارتجال الذي يجعل الشخصية الفردية للأداء أكثر أهمية من أي لحن أصلي أو مجموعة من الألحان يضعها الملحن. وتعد كثير من الألحان في الواقع تقليدية وتعد هوية ملحنيها مفقودة في التاريخ, وتلك سمة تعزي فقط بصفة عامة إلى الأدب الشعبي وليس إلى الموسيقى الفنية وفي حين أن أهمية الملحن والتكوين ذاته في بعض تراث الموسيقى الفنية ترفض ما يعد أكثر من مجرد تغييرات سطحية للغاية للنتاج الأصلي عند الأداء, فإن الموسيقى الفنية للعرب تسمح بأقصى الحرية في أداء مقطوعة موسيقية, مع الالتزام بالمواصفات الدقيقة لوزن الالحان (عندما يكون ممكنا), والأسلوب اللحني والقواعد التقليدية للتغيير في طبقة الصوت.
وهكذا, بالرغم من أن المؤدي لا تكون لديه الحرية التامة, فإنه تكون ثمة مجموعة مختلفة من القيود على أدائه بالاختلاف عن مؤدي الموسيقى الكلاسيكية أو الموسيقى الفنية طبقا للتقاليد ذات الاتجاه الشرقي. وبالتمشي مع ذلك الاختلاف في القيود, فإن التسجيل الدقيق مع تنويب الأداء أو التكوين الأصلي لم يكن أبدا بمثابة عامل هام في التراث الموسيقى للعرب. بل أنه طبقا للبعض قد يعتبر بمثابة شيء ((ضار)) لأنه يحجر على ما يجب أن يكون بمثابة ابداع فني حي متغير. ونجد أن المنؤت حتى في مصر المعاصرة بمثابة موظف صغير ذي مقام ضئيل يقوم بعمل ميكانيكي من النسخ على الأوراق من أجل مجموعة العازفين والذي يقوم بالعمل إما من مقطوعة مسجلة من اللحن أو من خلال إرشادات الحافظ الذي يتذكره من الحفلات الموسيقية السابقة ( سلوى الشوان, تقديم شفهي في الاجتماع السنوي لجمعية العلماء الموسيقيين المتخصين بموسيقى الأجناس , سانت لويس,1978). وفي كثير من الحالات يكون التنويت مجرد إرشاد مختصر أكثر مما يكون بمثابة ارشاد توجيهي أو وصفي.
وبالرغم من تلك الاعتبارات التي تضفي الأهمية الموسيقية على عازف الموسيقى ,فإن المجتمع العربي الاسلامي يضفي قليل من القيمة الاجتماعية على المطرب أو العازف المحترف. لكن كانت هناك بعض الاستثناءات لذلك مثل, سامي الشوا, وأم كلثوم, وعبد الوهاب, ومنير بشير, وفريد الأطرش, ولكن الموسيقي المحترف عامة, لو لم يصل إلى شهرة قومية أو عالمية يواجه بعض الصعوبات في إثبات نفسه وسط المجتمع ولكن ذلك لا ينطبق على الموسيقي الهاوي الذي يبدو أنه ينأي بنفسه عن الجدال حول الموسيقى وجدارتها بلاحترام ولعل ذلك هو السبب في أن ثمة عددا قليلا فقط من العازفين أو المغنيين الماهرين للغاية الذين يختارون التخلي عن جميع المهن الأخرى حتي يكونوا عازفين لكل الوقت فهم يفضلون اتخاذ مركز الهاوي الذي يجوز على قيمة اجتماعية أكبر, وتلك حقيقة من حقائق الحياة الموسيقية في كثير من الدول المسلمة الأخرى التي تتسم بالتزمت.
وازدياد أهمية الموسيقى الهاوي عن الموسيقي المحترف في العالم العربي قد خلق سلسلة مستمرة واسعة من المؤدين المشاركين في الموسيقى الفنية التقليدية. وبالرغم من أن بعضهم قد يجوز على التدريب في مدرسة موسيقية أو بمقتضى علاقة خاصة مع موسيقي أكبر, فإن كثير من هؤلاء المؤدين لبعض الوقت قد دربوا أنفسهم من خلال الاستماع إلى الراديو أو التسجيلات. ومثل ذلك التدريب يعد بالطبع متوفرا بالنسبة لجميع السكان ومن ثم يؤدي إلى خلق العازفين من جميع طبقات المجتمع. وغالبا ما يوجد العازفون والمطربين ذوو القدرات الأعظم في المدن حيث توجد فرص دفع مرتبات اكبر. وبالطبع ليس من الممكن أن ننظر إلى عازف الموسيقى الفنية باعتباره ظاهرة مدينية كما قد يوحي ذلك إلينا.
ونظرا لأن تلاوة القرآن كانت تفهم على أنها التراث العظيم للتعبير الجمالي الشفهي وأنها كانت ذات تأثير عميق للغاية على جميع الظواهر الموسيقية الأخرى, فقد كان ثمة قليل من الاهتمام أو الجهد الذي تم تكريسه بصفة خاصة في العالم العربي الاسلامي لتدريب عازف الموسيقى الفنية أو الموسيقى الشعبية.
والحقيقة أن الحكومة قد ابتدأت فقط في العقود القليلة الماضية استجابة لظهور الأيديولوجيات القومية في افتتاح وتدعيم المدراس والبرامج الموسيقية. وبدلا من ذلك وضع العالم العربي الاسلامي أقصى جهوده في تدريب المؤدين في التجويد (أي علم قراءة القرآن بطريقة صحيحة) وتم وضع عدد لا يحصى من الكتب والمذكرات حول ذلك الفن, وقامت كل مدرسة إسلامية بتقديم التدريب العملي لطلبتها وحتى تلميذ الحضانه يقوم (( بغناء)) درسه الدينى محاكيا تلاوة معلمه. وليس ثمة صلاة يومية أو حادثة اجتماعية لا تقدم لنا (( دروسا)) في التلاوة القرآنية, ومن ثم في التعبير أو الأداء الموسيقي. وبالرغم من أن المسلم لا يعتبر مثل تلك العادات بمثابة تدريب للمؤدي أو تدريب موسيقي, فإن أثر تلك العادات المقررة دينيا على التراث الموسيقي يعد هائلا. وحتى في السنوات الاخيرة فان من المعروف أن بعضا من أكثر المؤدين المحترفين شهرة قد عكفوا على التدريب على تلاوة القرآن. وعلى سبيل المثال, فقد كانت الفقيدة أم كلثوم تعمل مع أبيها على مدى سنوات في تلاوة القرآن قبل أن تتحول تدريجيا إلى العالم الموسيقي الدنيوي. ويجب أن نعتبر أن صقل صوتها في ذلك التراث الموسيقي الديني كان ذا أثر عميق على أسلوبها الغنائي فيما بعد وعلى التقدير الواسع لفنها في معظم أنحاء العالم الاسلامي.
ج- الموسيقى الشعبية
إن ذلك الانسجام الشامل الذي ينطبق على قطاع كبير من التراث الموسيقي العربي ينطبق أيضا على الموسيقى الشعبية للعرب. ونجد أن الموسيقى الشعبية للعرب تتعدى الحدود غالبا ما توضع بالنسبة لها باعتبارها ظاهرة ريفية, وعرقية تنتمي إلى الاقليات, وتتم ممارستها بواسطة, ولأجل غير الحاصلين على ثقافة رفيعة وغير المتعلمين, أو بأفضل وصف,للسذج.
الانسجام الشامل في مشاركة الجمهور.. إن جماهير الموسيقى الشعبية تعد واسعة مثلها مثل قسمي الموسيقى العربية الآخرين اللذين عالجناهما بالفعل, فإن تلك الموسيقى تجذب كل من ساكني القرية والمدينة, والمهذب والمتعلم, إلى جانب غير ذوي الثقافة الرفيعة والأميين وحتى رجل الاعمال العربي الذي يبدو ذا نزعه غريبة لأقصى درجة لن يستطيع مقاومة ابتسامة الاعجاب عند استماعه إلى أداء لحن تقليدي معروف, وقد يزداد جماسه إلى حد طقطقة أصابعه والتحرك مع الموسيقى.
الانسجام الشامل في مناسبات الأداء..إن مناسبات أداء تلك الموسيقى تتماثل تقريبا مع مناسبات ما يسمى (( بالموسيقى الفنية التقليدية)) و (( الموسيقى الدينية )) في وظيفتها غير الشعائرية: مثل الأعياد القومية أو الدينية واحتفالات العائلات, والمناسبات الاجتماعية للأصدقاء والأقارب.
الانسجام الشامل بالنسبة للمؤدين…إن من يقومون بأداء الموسيقى الشعبية مثلهم مثل النوعين الآخرين, وغالبا ما يكونون مؤدين لبعض الوقت أو مؤدين من الهواة, مع وجود نسبة مئوية أكبر قد تدربوا تدريبا ذاتيا أكثر مما نجد بين مؤدي الموسيقى الفنية التقليدية.
ومرة أخرى نجد أن الملحنين يقومون بدور صغير إذا قاموا بدور على الاطلاق في خلقها, فإن معظم الألحان تكون مرتجلة أو مجمعه من تراث تقليدي مجهول.
وقد يقوم الجدال في أن السمات الأخرى لتلك الموسيقى تظهر أنها تتطابق أكثر مع التعريف المعتاد للموسيقى الشعبية. وعلى سبيل المثال, فإن الموسيقى الشعبية العربية تعد بمثابة مجموعة من المواد الموسيقية التى تنتقل من جيل لجيل شفهيا, وعادة بشكل غفل من الاسم, ولكن ذلك ينطبق أيضا على تراث الموسيقى الدينية والموسيقى الفنية للعرب! وهي إلى حد بعيد تراث غير مدون يسمح بكثير من الارتجال والتعديل من جانب المؤدي ولكن ذلك ينطبق أيضا على تراث الموسيقى الدينية والموسيقى الفنية للعرب! وهي تعد موسيقى لجميع الناس, بالنسبة إلى المؤدين وذلك ينطبق أيضا على تراث الموسيقى الدينية والموسيقى الفنية للعرب!
وإن واحدة من السمات القليلة التي تختلف فيها الموسيقى الشعبية للعرب عن أنواع التعبير الموسيقي الأخرى, تتمثل في النسبة المئوية العالية للتعبيرات العامية التي تستخدم في كلمات الأغاني الشعبية. أما الموسيقى الدينية والفنية فتقوم على أساس القصائد التي تستخدم اللغة الأدبية ومع هذا فهناك أنواع مثل الدور والموال التي – بالرغم من استخدامها للغة العربية العامية – قد تتخطى الهوة بين النوعين. فهما في بعض الأحيان يتم أداؤهما واعتبارهما جزءا من نوع الموسيقى الفنية التقليدية وفي أحيان أخرى يقعان في طبقة الموسيقى الشعبية.
2- الانسجام المكثف
أثبتنا أن هناك انسجاما شاملا بالنسبة لمشاركة الجمهور ومناسبات الأداء والمؤدين المتضمنين في الثلاثة أنواع من الموسيقى في العالم العربي التي أسميناها بالموسيقى الدينية, والموسيقى الفنية التقليدية, والموسيقى الشعبية. والآن نود أن نتحدث عن نوع آخر من الانسجام, أي الانسجام المكثف الذي يدمج تلك الانواع الثلاثه من الموسيقى طبقا لتمثيلها في البيئة العربية, ويميل إلى طمس التميزات التي قد التي قد ينشد الباحث إيجادها بينها. ونحن هنا نعالج الانسجام الذي يمكن اكتشافه في النتاج الموسيقي ذاته, وليس في استخدامه في الحضارة.
وثمة مستوى عال للغاية للانسجام الأسلوبي في جميع تلك المجموعات الموسيقية حتى أنه من الصعب فصل أو تمييز تلك الأنواع. ففي حالة الموسيقى الدينية المستخدمه في مناسبة اجتماعية مثلا, في أي مرحلة تتوقف عن كونها موسيقى دينية وتصبح بدلا من ذلك موسيقي شعبية؟ وإذا كانت مقدمة بأسلوب جمالي وماهر, فهل يجب أن تسمى بالموسيقى الفنية بدلا من ذلك؟ وفي أي موضع في السلسلة المتصلة بين الموسيقى الفنية والموسيقى الشعبية نضع الموسيقى الغنائية والآلتية لمناسبة اجتماعية في القرية؟ وماهى التغييرات في الوضع الموسيقي أو أسلوب الأداء التي تحولها إلى نوع الموسيقى الشعبية؟ من الواضح أمام أي دارس للموسيقى العربية أن عددا كبيرا من الحفلات الموسيقية تكون حالات وسطا بين أنواع الموسيقى الدينية, والفنية, والشعبية, والوطنية الشعبية. فبدلا من معالجة أي نوع من تلك الموسيقى باعتباره وحدة منفصلة للمواد الموسيقية, فإننا نكون ملتزمين أكثر بالواقع لو أننا أظهرنا أوجه التشابه, التي أطلق عليها الانسجام المكشف للمواد الموسيقية.
ولكننا لا نعنى بذلك الانسجام المكثف بين الأنواع العديدة أنه ادعاء لتماثل جميع الموسيقى في العالم العربي فإن هناك بالطبع اختلافات اقليمية يستطيع الشخص العادي من أبناء البلدة إدراكها وليس المتخصص فقط.
وعلى سبيل المثال, فإن الفلسطيني أو التونسي يستطيع بسهولة التعرف على أذاعة موسيقية بأنها سودانية, أو مغربية أو عراقية أو بدوية. ومع إدراكه في نفس الوقت الاختلاف في اللهجات الموسيقية المحلية, فإنه يجد صلة جمالية بالنسبة لكثير من موسيقي الأقاليم المختلفة في العالم العربي. ومن الممكن أن يتم تدعيم ذلك التقدير المتبادل بين الأقاليم في المستقبل لأن كل من الأفلام, والراديو, والتسجيلات والتلفزيون تقوم ببناء الروابط بين الدول العربية العديدة. وقد تكون الإضطرابات السياسية والضغوط الإقتصادية التي تؤدي إلى حركات الشعوب عاملا ذا أهمية مماثلة في هذا الصدد في العقود المقبلة. ولعله مما يعد ذا أهمية في ذلك التماثل الموسيقي الخاص بجميع العرب عوامل الانسجام المكثف في الموسيقى فانها, تلك العوامل التي نشعر بها ولكننا نادرا ما نقوم بتوضيحها, وتلك العناصر البنيائية والأسلوبية العميقة في الموسيقى تميل إلى التفوق على الاختلافات الإقليمية بين تلك الموسيقى حتى عندما يتم إدراك المستمع للإختلافات السطحية بالنسبة للأساليب التلحينية المفضلة, والأساليب الإيقاعية, والأساليب الزخرفية والتعبيرات العامية في المضمون اللفظي..
إذا, ما هو الشيء الذي يجعل المراكشي يستجيب لأم كلثوم, والمصري يتأثر بأداء المقام العراقي, والتونسي أن يقول (( الله )) عند تلاوة القارئ الدمشقي؟ وفي عبارة أخرى, ماهي السمات الأساسية للموسيقى الدينية, والموسيقى الفنية التقليدية والموسيقى الشعبية للعرب التي تجعل التأثير الجمالي ممكنا عبر الحدود القومية والمسافات الواسعة؟
إن الزمان والمكان لا يسمحان لنا بوصف مفصل لتلك السمات الجوهرية التي تم تناولها بالمناقشة المطولة في أماكن أخرى (الفاروقي 1974). ولكن يوجد كثير من الدراسات التي قد أوضحت السمات اللحنية, والإيقاعية والبنيانية التى تقدم الدليل على ذلك الجوهر الموسيقي في الأقاليم التي يسكنها العرب بل وحتى فيما وراءها ( سبيكتور1967 : 434 – 438, توما 1971: 38 – 48). وثمة آخرون قد أصيبوا بالدهشة لذلك الإنسجام الشامل بين أنواع الموسيقى في إقليم واحد(7). فإن جميع أنواع الموسيقى الوطنية تبدي نفس نوع الإنسجام الشامل الذي يوجد في أمثلة من الفنون المرئية, مثل الأعمال الخشبية الهندسية للماليك في مصر, والجص المحفور بمراكش وخط اليد الزخرفي للعراق. وإن كلا من الفنون المرئية والموسيقية للعالم العربي تبدي نفس المضمون التجريدي, ونفس التأكيد على الأسلوب اللامسرحي, ونفس التقسيمات إلى وحدات منفصلة ولكنها متصلة, ونفس الأنماط المتعددة واللانهائية, ونفس التأكيد على عديد من الصور المعراجية المصغرة العديدة بدلا من واحدة منفردة شاملة. ولذلك فإن من الممكن لجمهور واسع في إقليم معين, الإستجابة لجميع تلك الأنواع من الموسيقى, بصرف النظر عن الخلفية الإجتماعية, أو التعليمية, أو الإقتصادية لأعضائه من الأفراد.
ومن الممكن أيضا لأفراد منطقة جغرافية واسعة أن يتأثروا جماليا بنفس النوع والأشكال للمواد الموسيقية.
كبف يمكننا أن نعلل تلك الوحدة الجمالية؟ لقد أرجع لوماكس التوافق في الأسلوب الموسيقي إلى العوامل الإجتماعية في المجتمع (لوماكس 1959,1962). ولقد أرجعه روثتشيلد إلى العوامل الجعرافية (روثتشيلد 1960: 66 وما يلي, أنظر أيضا في ريبد 1951 : 52 وما يلي,66,ولوماكس 1962: 442 وما يلي).
ولقد طرح فيشر وآخرون للمناقشة أن التقرير الجمالي يتم بمقتضى الآراء السياسية (فيشر 1961). وحتى الأساس الإقتصادي للمجتمع قد تم اعتباره بمثابة عامل مقرر بالنسبة للأسلوب الفني ( إتينجهاوسين 1963: 252). ورغم أن جميع تلك العوامل قد تكون ذات أثر على الأسلوب الجمالي, فقد تكشف كثير من التناقص في كل من النظريات, حتى عندما يتم تطبيقها بشكل منفرد في إقليم معين في المنطقة المعينة. وإذا إضطررنا حينئذ إلى تفسير عناصر التوافق الموسيقي في منطقة ثقافية أوسع, مثل حالة العالم العربي أو الشرق الأوسط ككل, فإننا تكون في حاجه إلى مقرر ذى مغزى أكثر عمقا, بالرغم من أنه قد يحظى برسالة رمزية أقل تحديدا وأقل موضوعية.
ويجب إيجاد اتجاه جديد من خلال استقصاء التأثير المقرر للأنماط الأدبية التي ترجع إلى تاريخ الشرق الحديث منذ أوائل عصر شعوب العالم الميسويوتامي – أي السومربين – وإذا قرأنا وصف الأدب السومرى ( كرامر 1963: 170 – 171), أو الأدب الخاص بالشعوب التالية في تلك المنطقة ( أوبنهيم 1977: 250 ومايلى)… البابليين, والأشوريين, واليهود والعرب القدماء – فإننا سوف نجد سمات ذات مضمون, وبنيان, وأسلوب يميزها جميعا بشكل لا يحظئ باعتبارها منتجات التفكير السامي. وفي العصور الأكثر حداثة, كان الوحي القرآني رابطة أخرى في تلك السلسلة للتطابق الأدبي الجمالي. وهذا النموذج القرآني هو الذي يعتبر على نحو واسع بمثابة المعيار الشعري, وفي إطار أسلوب تلاوته يجب أن يمنح التقدير الذي يستحقه باعتباره المعيار الموسيقي للشعوب العربية, سواء كانوا مسلمين, مسحيين أو يهود, أي سواء كانوا تابعين للتعليمات الدينية للكتاب أو يشاركون فقط في تقريره الجمالي.
وهذا النمط للتفوق الثقافي والجمالي, الذي ينمو على أساس نماذج الألف عام السابقة, هو الذي كون الطابع البنياني لكل من التعبيرات الموسيقية المعاصرة والتاريخية في المنطقة. وهذا النموذج ومشتقاته الدائمة التطور في الشعر, وفي كل الغناء والعزف, إلى جانب الفنون المرئية, هو الذي يثير مشاعر العربي, سواء كان يعيش ببغداد أو القاهرة أو الرباط. ولقد نشر هذا النموذج الغنائي الأصلي نفوذه مع أكبر الأثر على الأنواع الموسيقية الدينية الأخرى, سواء كانت تقتصر على الغناء أو مصحوبة بالعزف الموسيقي ( أنظر الرسم البياني ص 123).
وبتأثير أقل قليلا, نجد تأثير تلاوة القرآن في تلك الموسيقى الفنية التقليدية التي تدخل ضمن نوع نثر النغمات أو (( النثر الموسيقي )) (بحث غير معين المصدر 1939 :233 – 235, أنظرأيضا في الفاروقي 1974أ, ص 43 – 49). ويتضمن ذلك النوع للمواد الموسيقية جميع تلك الأنواع التي تعتبر – مثلها مثل التلاوةالقرانية – أمثلة للعمل المنفردة, والأسلوب الإرتجالي( مثل, التقسيم, والليالي والقصيدة).
وإن الحلقة الأخرى من التأثيرات الأقل وضوحا والتي تنبع من الصميم القرآني لتتضمن نوعي نظم النغمات أو (( الشعر الموسيقي)) ( بحث غير معين المصدر 1939: 233 – 235, والفاروقي 1974أ : 48 -49). وأمثلة تلك المقطوعات الإيقاعية والمنظمة تتضمن مثل تلك الأنواع الغنائية والآلاتية مثل الموشح, والبشرف, والدولاب, إلخ. وإن كلا من المقام العراقي الغنائي – الآلاتي والتحميلة الآلاتية (أو القد) تكسر الحدود بين دوائر نشر ونظم النغمات نظرا لتضمنها لكلا الأسلوبين. وثمة أنواع لا تزال بعيدة عن المعيار القرآني ولكنها تبدي التأثر به, (مثل الموال, والطقطوقة, والدور, إلخ) التي تشارك أحيانا باعتبارها أنواعا من الموسيقى الكلاسيكية العربية أو الموسيقى الفنية, وفي بعض الأحيان تتخطى تلك الحدود لتدخل في إطار الموسيقى الشعبية.
وبالإنفاق مع جارجي أنه (( ثمة نطاق غير مصور بدقة بين الفن والموسيقى الشعبية)) (جارجي 1978 : 82), فإننا نجد حقيقة للموسيقى الشعبية العربية أسلوب تداخل ذا وجهين مع الأشكال الفنية الخاصة بكل من نوعي نشر ونظم النغمات ومع بعض أشكال الموسيقى الشعبية (مثل, النوعيات العديدة للموال, أنظر في الرسم البياني ص 123). ويمكن الشعور بوجود ذلك التأثير حتى فيما يسمى بالموسيقى الشعبية)) للمنطقة باعتبارها عناصر للأسلوب بل حتى الأنواع عبر الحدود. ولكن هذا النوع, أي الموسيقي الشعبية, هو الذي يعد معبرا بين الشرق والغرب, بين تلك الموسيقى التي تبدي صلة جمالية مع جذورها السامية القديمة والموسيقى المستوردة من الحضارة الغربية. وإنه في تلك الموسيقى حيث تعد الروابط الثقافية على أضعف ما يكون, قد تم شن الغزوات الموسيقية والجمالية في العقود الحديثة, كما سوف نرى في القسم التالي.
شكل يصعب رفعه على الموقع
3- مواضع الاختلاف الموسيقى
الأمثلة الموسيقية التي تشارك في الإنسجام الشامل والمكثف لا تشمل جميع أداء الموسيقى العربية المعاصرة. فشمة أنواع أخرى من الموسيقى التي تخفق في إبداء التوافق الوثيق مع النموذج القرآني الذي أظهرته كل من الموسيقى الدينية, والموسيقى الفنية التقليدية, والموسيقى الشعبية.
وفي تلك الأنواع من الموسيقى إستطاعات التأثيرات الخارجية والاحتكاك بالثقافات الأخرى أن يكون لها أقصى النفوذ على الموسيقى العربية وأحدثت تغييرات كبيرة في السمات الموسيقية إلى جانب مشاركة الجمهور, والمناسبات والمؤدين الذين يقومون بالعمل.
أ- الموسيقى الشعبية
في حين أنه ثمة نوعيات من الموسيقى الشعبية التي تعد وثيقة الصلة مع الفن الديني والموسيقى الشعبية للعرب حتى أنه لا يمكن تمييزها تقريبا عنهما, فإنه ثمة نوعيات أخرى, في الطرف الآخر من السلسلة المتصلة تحتوي على عناصر ذي نزعة غربية, تعتبر بمثابة تأثير وغزو أوربي أو أمريكي على المنطقة. وإن الصلة الوحيدة بين الأمثلة الأخيرة وبيئتها العربية تتمثل في جمهورها العربي, ومؤديها ولغة أغانيها الشعبية.
وهناك أمثلة أخرى تحظى بمواضع أخرى في النطاق الداخل فيما بين الموسيقى الشعبية التقليدية والموسيقى الشعبية ذات الصبغة الغربية. وإن جمع تلك الأنواع الموسيقية المتباينة في مجموعة منفردة, أي الموسيقى الشعبية, يجب ألا تحجب اختلافاتها الأسلوبية الكثيرة, فإنه من الممكن حتى بالنسبة للمستمع غير المتمرس أن يدرك الاختلافات الملحوظة بين الأنواع الفرعية. ويعد الافتقار إلى الانسجام الشامل والمكشف في ذلك النوع من الأمثلة الموسيقية واضحا تماما.
لكن أنواع الموسيقى الشعبية في العالم العربي التي تتسم بصبغة غريبة أكبر تحظى بجمهور صغير بالمقارنة مع جمهور الثلاثة أنواع الموحدة للموسيقى التقليدية التي عالجناها حتى الآن. فإنه يعد جمهورا يعكس هو ذاته نفوذا مع أوربا وأمريكا. وكما هو الأمر في الغرب, فإن جمهور ذلك النوع من الموسيقى يوجد بصفة أساسية بين الشباب في المدينة. وحتى في تلك الجماعة الصغيرة المحدودة من الناس, فإن الشباب ذوي الثقافة الغربية العالية هم الذين يحوزون على أقصى التأثر باعتبارهم مؤدين أو مستمعين. وعندما ننتقل في السلسلة المتصلة تجاه نوعيات الموسيقى الشعبية التي تغلب عليها السمة التقليدية, نجد أن إشتراك الجمهور يزداد حتى يتضمن جماعة أوسع نسبيا من ناحية السن والطبقات الإجتماعية.
وبدلا من الإنسجام الشامل بين الأمثلة الموسيقية واستخدامها, فإننا نجد هنا نوعا واحدا ينقسم إلى أقسام, وكل قسم الى فروع عديدة من الأساليب الفرعية المباينة. ويجوز كل أسلوب فرعي على مؤيدية المخلصين. وعلى سبيل المثال, فإن موسيقى الديسكو المنقولة من الغرب يتم تقديرها بواسطة جماعة معينة من المستمعين العرب, أما الموسيقى الراقصة الفرنسية أو الايطالية فلها جمهور آخر, وأما أغاني فريد الأطرش وعبد الوهاب فلها جمهور ثالث أيضا.
إن مناسبات الاستماع إلى أشكال الموسيقى الشعبية الأكثر اعتناقا للسمة الغربية قد ازدادت إلى حد كبير مع إزدياد التسجيلات الترانزيستور, ولكنه توجد فرص – قليلة نسبيا – للإستماع إلى تلك الموسيقى على الهواء.
ونظرالتقدير السياح لها, فإنها يتم أداؤها بصفة أساسية في تلك المقاهي, والمطاعم أو الفنادق التي يتواجد بها الأجانب والتي تعد محظورة على معظم السكان المحليين بسبب الناحية الإقتصادية.
ويختلف مؤدو تلك الموسيقى طبقا لوضعها في السلسلة المتصلة التقليدية من ناحية تطبيق السمة الغربية. فيوجد هؤلاء الذين تختلف الآنهم, وأساليبهم وطرقهم الإبداعية قليلا, إذا اختلفت على الإطلاق, عن مؤدي وملحني الغرب. وثمة آخرون يؤدون تلك الموسيقى التي تقترب من الناحية التقليدية على السلسلة المتصلة تجاه الموسيقى الشعبية, والذين يعدون وثيقي الصلة في أسلوبهم وأدائهم مع هؤلاء الذين يقومون بأداء الموسيقى الدينية, والموسيقى الفنية التقليدية, والموسيقى الشعبية. وإن هؤلاء المغنيين والعازفين, بالطبع ينتقلون بحرية من الموسيقى الشعبية إلى أنواع ومناسبات الأداء التي تتسم بسمة تقليدية أكثر.
ب- الموسيقى الكلاسيكية الغربية المعربة
ثمة نوع آخر من الموسيقى يختلف تماما عن أي نوع من الأنواع الأخرى التي عالجناها حتى الآن. ذلك هو الموسيقى الكلاسيكية الغربية المعربة التي يتم تلحينها وأداؤها في قليل من مدن العالم العربي. وتلك الموسيقى محاولة في العقود الحديثة لنسخ نوع مطابق للموسيقى القومية الخاصة بالقرن التاسع عشر من أجل العرب والتي – من خلال الإستفادة من لحن محلي, أو موضوع أدبي, أو آلة تقليدية, أو مقياس شكلي – تحاول خلق موسيقى فنية جديدة تعبر عن روح قومية وثقافية. ونجد أن نتاج الفن الأوربي الغربي بالضرورة يحظى بتقدير جمهور محدد يتكون من المثقفين, وأبناء المدن, والأريستوقراطيين وذوي الثقافة الغربية الواسعة. وكما نستطيع أن نتخيل الأمر, فإن تلك الطبقة من المجتمع تكون أقلية ضئيلة في أي من الدول العربية. ولقد شهدت كل من القاهرة وبيروت أكبر المجتمعات لأداء وتقدير تلك الموسيقى. ولكن حتى في تلك المراكز, فإن الأعداد (بما في ذلك الأجانب المقيمين الذين يناصرون تلك الأحداث) لم تتعد ما يسطتيع أن يملأ قاعة صغيرة للحفلات الموسيقية. ولقد كانت الحكومات القومية, التي تضع نفسها على نمط نظم أوربا والتي لم يكن لديها أي شعور داخلي بالنقص, دائما سخية في تأييدها لتلك الجهود (مثل مصر, ولبنان, وتونس, والعراق), آملة بمقتضى ذلك أن تخلق نفوذا قويا يدعم استقرارها السياسي, وقوتها وايديولوجيتها. ولكن الارتباط بالجذور الأصلية والتراث الموسيقى العربي كان دائما ظاهريا وسطحيا وحتى أنه قد تم إبراز قليل من النجاح بواسطة تلك الحركات تجاه تحقيق بعض الأهداف الفنية أو السياسية. ونحن نشعر بأن تلك الجهود حتى الآن كانت بمثابة ممارسة عقيمة, وهناك عصور كل من موزارت, وبيتهوفن وبوردين وبعض من الملحنين العرب مسجلة في الأدب لمراجعتها, مثلها مثل الفترات المختلفة للأساليب الفنية العينية المتوفرة بمتحف الفنون الحديثة بالقاهرة. ولكن (( إضفاء تلك الصفة العالمية )) (8) على الفنون العربية يعد غربيا تماما على التقاليد حتى أنها تواجه بنزاع كبير عندما إلتماس قبول الناس لها ككل. (( 9))
الملخص:
هكذا, نجد الموسيقى الدينية والموسيقى الفنية التقليدية والموسيقى الشعبية للعالم العربي تعد منسجمة إنسجاما شاملا بالنسبة لمناسبات الأداء والمؤدين, وتحظى بتقدير أعداد كبيرة من السكان, مثلما تؤثر عليهم.
وبالإضافة إلى ذلك, فإن هذه الموسيقى تبدي انسجاما شاملا في بعض السمات الأساسية لأسلوبها الموسيقى. وهي تكون التراث الموسيقى الأساسي لشعوب العالم العربي من مراكش إلى بغداد بل حتى أبعد في أقاليم غير عربية حيث أدى النفوذ الإسلامي إلى نقل التقاليد الجماية العربية.
وبالاختلاف عن ذلك الكيان الموسيقي التقليدي المتجانس, فإننا دائرة أخرى من الأمثلة الموسيقية التي تحتوي على عناصر هامة من اعتناق السمة الغربية. وتنقسم تلك الموسيقى الغربية أو التى تطبق السمة الغربية إلى قسمين يوازيان في كثير من الأحيان نظيريهما في الحضارة الغربية. وإن واحدا من هذين القسمين هو الموسيقى الشعبية التي تحوز على الصبغة الغربية, أما النوع الآخر فهو الموسيقى الكلاسيكية الغربية التي تحوز على الصبغة العربية. وبدلا من الاستخدام الشامل والوحدة الموسيقية المكثفة, فإننا نجد هذين القسمين أهمية ضئيلة بالنسبة لمشاركة الجمهور, ومناسبات الآداء والمؤدين, كما نجد توافقا محددا للسمات الموسيقية من نوع, أو نوع فرعي, لآخر
الاستنتاجات:
ما الذي تخبرنا به تلك الحقائق عن دراسة الموسيقى بصفة عامة وعن طبيعة التغيير والاستمرار الموسيقي؟
1- ليس ثمة شيء لما يسمى بالمجتمع المتحجر, أو التراث الموسيقي المتحجر. ولكنه في أي حضارة موسيقية, فإن ثمة كلا من عنصري التغيير واللا تغيير. وبالاضافة إلى ذلك, فإن هناك معدلات مختلفة تماما للتغيير في المجتمعات المختلفة, بل حتى في المجتمع الواحد في نواح معينة أو أنواع معينة من الموسيقى. ومثل تلك المعلومات بالنسبة لأي حضارة تعاوننا في إبداء نواحي ونزعات أساسية في الحضارة المعينة.
ولذلك, إذا أردنا فهم حضارة موسيقية, فإننا يجب أن نوجه اهتمامنا إلى الأشياء التي لا تمر بأي تغيير بنفس القدر الذي نوجهه إلى الأشياء التي تمر بتغيير, وأن نوجه اهتمامنا إلى ذلك الجزء الذي يتغير من الكيان الموسيقي بنفس القدر الذي نوجهه إلى التغيير المعين ذاته. فلعله ذلك الذي لا يبدي أي تغيير يفوق كثيرا في الأهمية بالنسبة للقالب الحضاري عن ذلك الذي يمر بتغيير عنيف. فإن الأمر يبدو كما لو وضع المجتمع طابعة الخاص بالأشياء الضرورية على الأول, والغير ضرورية على الثاني. ويظهر ذلك بوضوح في حالة الموسيقى في العالم العربي الإسلامي, حيث تمت حماية التلاوة القرآنية بشكل مثابر لا يكل على مدى قرون من أن تتأثر بالابداع والأشياء الفريدة التي تمييز كل منطقة. ومن الواضح أنه بالنسبة للانحرافات التي تعد بعيدة للغاية عن النموذج, فإن الشعور القوي لا يسود بالنسبة لوجوب حماية وعزل التراث الموسيقي. ولهذا السبب, فإنه قد تم الاحتفاظ بكثير من الممارسات الموسيقية المحلية في تراث شعوبها.
ويشرح ذلك أيضا لماذا كانت بعض نماذج الموسيقى الشعبية, أو الموسيقي المستوردة مثل الموسيقى الكلاسيكية الغربية ذات الصبغة العربية قادرة على إدماج بعض الأفكار الجديدة الهامة من الحضارات الأخري في حين يبدو أن أنواع كل من الموسيقى الدينية, والموسيقى الفنية والموسيقى الشعبية قد مرت بتغيرات ضئلية للغاية على مدى القرون.
ولعل تلك الحقائق تقوم أيضا بدور لتفسير (( الاردراء)) أو الكراهية الفطرية أو اللامبالاة في الثقافة تجاه الموسيقى الفنية العربية التي لاحظها يورز في ندوة برينستون. وإذا أقررنا, إلى جانب الحضارة, موضع التلاوة القرآنية باعتبارها أسمى أنواع الفن والمثل (( الموسيقى)) (10) , وإذا أقررنا الأهمية الهائلة لكشف ذلك النموذج… وذلك التراث العظيم… للعيان فاننا يجب ألا نندهش اذا ما تم وضع الأنواع الأخرى من الموسيقى في مواضع تابعة فيما يتعلق بالعرض والتقدير.
وليس ثمة حضارة تعطي تأكيدا أكبر أو تبدي اهتماما أكبر بموسيقاها مما يعطية العرب المسلمون (( لموسيقاهم)) القرآنية. وتعد لامباتهم بالنسبة لبعض أشكال الموسيقى الفنية نتيجة أنها لا تمثل التراث العظيم لحضارتهم. وإنه لتمثيل خاطئ تماما أن تعزي اللامبالاة الموسيقية في حد ذاتهاإلى الشخص الذي يستمع يوميا الى التلاوة القرآنية, في صلاته وخلال كل من الاجتماعات الدينية والاجتماعية, وفي دروسه بالمدرسة الابتدائية, وفي الصباح والمساء, وفي وقت الحرب, ووقت السلام, وفي كل مرحلة هامة من مراحل حياته, ويمكننا القول أن الإجابة الصحيحة للمسالة التي تم طرحها في ندوة برينستون تتضمن معرفة السؤال (( أين يمكن التأثير الموسيقي؟))
ولكن ذلك لا يفني احتمال وجود المثقفين العرب في كل من الشرق والغرب, الذين يعدون على جانب قليل من الادراك سواء بالنسبة للموسيقى الفنية أو التراث القرآني.
وفي بعض الحالات فان هؤلاء العرب الذين قد نشأوا في بيئة عربية – فإن الذين نشأوا في بيئة غريبة تماما يعدون بالطبع خارج نطاق اعتبارنا نظرا لأننا لن نتوقع منهم الاستجابة كعرب أو مسلمين – قد حازوا علي سمات غربية للغاية بمقتضى تعليمهم, أو ظروف معيشتهم حتى أنهم يفشلون في الإستجابة بالأسلوب المقربه حضاريا. أما الآخرون, الذين عانوا من الاذلال على مدى عشرات السنوات من التدهور السياسي, والاقتصادي, والاجتماعي والفني في العالم العربي, فقد تأثروا بمثل ذلك الشعور بالنقض الثقافي حتى أنهم لم يعودوا يستطيعون ادراك النتاج الفني لحضارتهم بعين أو أذن واعية أو متعاطفة.
2- ثمة حاجة للاحتراس من التأثر بواسطة العناصر الظاهرة السطحية للتغيير الموسيقي, على حساب تجاهل تقاليد مستمرة أكثر أساسا وأكثر أهمية. ويعد كل من التغيير في التلحين أو التوزيع الموسيقي للأوركسترا وزيادة حجم مجموعات الموسيقيين والمغنيين أمثلة لتلك التغييرات الحديثة التي تبدو واضحة للغاية ولكنها على المدى الطويل قد تبدؤ ذات تأثير ضئيل على عملية تأليف الموسيقى الأساسية في العالم العربي إذا استمر النموذج القرآني في ممارسة نفوذه.
3- إن أنواعا مثل الموسيقى الدينية, والموسيقى الفنية التقليدية, والموسيقى الشعبية لاتعد ممثلة لكيان موسيقي منفصل ومميز في جميع الحضارات. ويجب علينا أن نحذر من فرضها, بدون تمييز, على موسيقى الحضارات الأخرى. ولم تكن تلك الأنواع الغربية ذات أهمية في مصطلحات واضعي النظريات الموسيقية العرب قبل أن يصبح التغلفل الأوروبي الثقافي في العالم العربي ذا اهمية . وحتى عندما يمكن فرضها, فانها تكون في حاجة للتوضيح الشامل بل حتى اعادة التوضيح حتى تكون ذات معنى مناسب.
4- ثمة أشياء قليلة مشتركة من الناحية الجمالية أو الموسيقية فيما بين الموسيقى التقليدية للعرب وموسيقى العالم الغربي.
ونظرا لأنه من المعروف أن يتم تسهيل التبادل الثقافي عندما تكون الحضارتان اللتان تحتك كل منهما بالأخرى لديهما تشابهات أساسية ( مريم 1964 : 417), فقد كان من الممكن توقع أن الموسيقى العربية التقليدية سوف تتأثر قليلا بالنزعة الغربية وأن التبادل الثقافي سوف يتم فقط في مجالات معينة من الأداء الموسيقي.
ولقد كانت تلك هي الحالة في الواقع, فإن الأنواع المزدرعة المقتبسة ( أى بعض أنواع الموسيقى الشعبية والموسيقى الكلاسيكية الغربية ذات الصبغة العربية) هي التي تعد أساسا المجالات الرئيسية للتعديلات الموسيقية نتيجة لذلك الاحتكاك.
5- إن الافتتان المعاصر بالتغيير باعتباره ميدانا للبحث في كل مجال وفرع من المعرفة في الثقافة الغربية ليعد دليلا على تلك الحركة الفكرية الغربية المعاصرة كما أنها حقائق اجتماعية, أو سياسية, أو فنية أو موسيقية يتم استكشافها بواسطة العلماء المعاصرين. ولقد شهد التاريخ الفكري الغربي تغييرات عنيفة في الأيديولوجية على مدى القرون. وقد أوجد كل من تلك التغييرات مجموعات من الرموز في فنون تلك الأيديولوجيات الجديدة. ولم يكن ثمة معدل تغيير في أي حضارة من حضارات العالم أوتى أي فترة من الوقت يمكن مضاهاته بذلك المعدل. ومع وجود ذلك العهد الطويل من التغيير, فإن انشغال علمائنا الحالي بذلك العامل لا يجب أن يقابل بالدهشة. ولكننا يجب أن ندرك أن الثقافات الأخرى قد لا تشارك في نفس تلك التعاليم الخاصة بالتغيير.
وبالرغم من أنه ليس من الممكن لأي حضارة أن تكون متحجرة تماما وتستطيع البقاء, فإن العناصر التي تمر بالتغيير, وتكوين أي حركة في المجتمع باعتبارها مجرد تغيير للنظام, أو على العكس باعتبارها تغييرا جوهريا, تختلف إلى حد كبير من ثقافة لأخرى. وبادراكنا تلك المسائل الدائم تكرارها وهي (( العودة إلى القرآن)) , (( العودة الى السنة)) , و(( العودة إلى عهد الخلافة الراشدة)) , يمكننا توقع أن التغيير في الحضارة الإسلامية … سواء كنا نعالج الحقائق الإجتماعية أو الجمالية أو الموسيقية … سوف يحوز على درجة من السرعة خاصة به, وقوة دافعة خاصة به. وإن اكتشاف الأشياء التي تمكننا من معرفة طبيعة تلك القوة الدافعة بالتفصيل وتعريف النواحي الني تحوز على أكبر الأثر للتغيير في العالم العربي الاسلامي من الممكن أن يكشف لنا بعمق عن العرب وثقافتهم ويزودنا بالخطوط المرشدة للتنبؤ بالتطورات المعاصرة والمقبلة.
الهوامش المرقمة
1. أنظر في الاحياء للغزالي (1901 – 1902) بالنسبة للدفاع عن الموسيقى عند استخدامها في مفهوم ملائم وبمصاحبات ملائمة.
2. في الاجتماع من أجل غرض الذكر أي ذكر الله, تتضمن الحضرة مشتركين من كل من المحترفين والهواة في واحد أو أكثر من النشاطات التالية: الصلاة, وتلاوة الانشاد الديني, والشعر والموسيقى, والحركة أو الرقص.
3. ان كلمة الأزهري هي صفة تشتق من إسم الازهر, وذلك هو اسم أكثر المعاهد التعليمية الاسلامية شهر وقدما, وهو بمثابة جامعة تم انشاؤها في القاهرة في القرن العاشر الميلادي.
4. إن ذلك الاهتمام الواسع بالأداء بالاضافة إلى مشاركة الجمهور تم اثباته بواسطة تقرير وضعه المؤلف عام 1976 فيما بين المسلمين الوطنيين والمهاجرين في شمال أمريكا. ولقد أقيمت تلك الدراسة تحت رعاية اتحاد العلماء الاجتماعيين المسلمين.
5. إن المشرق ( أي الشرق) ينطبق على ذلك الجزء من العالم العربي من مصر إلى العراق وهو يستخدم لتمييزه عن الأقاليم الواقعة تجاه الغرب في شمال افريقيا ( من لبيا إلى المحيط الاطلس), التي تعرف بالمغرب, أو (( الغرب )).
6. لقد قام عدد لا يحصى من المؤلفين على مدى قرون بالكتابة عن جمال التلاوة القرآنية وأسلوب حمايتها من التغيير أو الفساد بمقتضى التأثيرات الخارجية, ويستمر ذلك الاهتمام حتى وقتنا هذا. مثل, المصحف المرتل للبيب السعيد, 1967, وتسجيلات المجلس الأعلى للشئون الاسلامية في مصر.
7. انظر في جونز 1977: 61 حيث يتحدث المؤلف عن (( التشابة الموسيقى والبنياني الضروري الذي يوحد مجموعة الأحداث والمجموعات, والأقاليم)). وفي المشرق يبدوأن كلا من الموسيقى الدينية والفنية تتداخلان سويا بأسلوب يؤدي إلى – طبقا لآمنون شيلوه (ندوة برينستون) – تشابهات أكثر من الأختلافات.(( انظر ايضا في جونز 1977 : 4.
8. ذلك تعبير يستخدم بواسطة الفنانة اللبنانية والمؤرخة الفنية هيلين خال للتعبير عن إتجاه لتطبيق النزعة الغربية في الفنون المرئية للعرب وهي تأمل بمقتضى ذلك ان تحجب الطبيعة الحقيقية للعملية وتزودها بقدر من الاحترام.
9. بمناقشة التعبير والتقدير الموسيقي العربي المعاصر, يكتب جاك بيرك: (( إن الاغلبية العظمى تبقي مخلصة لاتجاه الذوق حيث تعد مشدودة تماما إليه لدرجة أنها لا تستطيع الارتباط بالغرب بنفس القدر من الحرية مثلما تستطيع من الناحية العينية.
((وإن الأمر ليس هو أن الموسيقى الغربية غير قادرة على التأثير على العرب…. بل إن صميم الذوق الموسيقي يظل مخلصا لمناخه الوطني)) ( بيرك 1974 : 212).
10. لقد استخدمت التعبير (( موسيقى )) بمفهوم تعبير جمالي شفهي يرمز إلى أعمق الافكار أو الأيديولوجية الخاصة بالناس.
المراجع المذكورة
أبو لوغود, جانيت
1970 (( تكيف المهاجر لحياة المدينة : الحالة المصرية,قراءات في مجتمعات وحضارات الشرق الاوسط)) المحررون عبد الله م. لطيفة وتشارلز وتشرشل, هوج, باريس : موتون, 664 – 678.
بحث غير معين المصدر
1939 في بارون رودولف دي ايرلانجر, الموسيقى العربية. باريس: المكتبة الشرقية بول جيوثنر, الجزء 4.
بيرك, جاك
1974 التعبير الثقافي في المجتمع العربي في الوقت الحاضر, أوستن: دار النشر جامعة تكساس.
دي ايرلانجر, بارون رودولف
1949 الموسيقى العربية. باريس: المكتبة الشرقية بول جيوثنر الجزء5.
1959 الموسيقى العربية. باريس: المكتبة الشرقية بول جيوثنر الجزء6.
اتينجهاوسن, رينشارد
1963 (( سمة الفن الاسلامي )) التراث العربي, المحرر نبيه أمين فارس نيويورك : شركة راسل وراسل
فارمر, هنري جورج
1957 (( موسيقى الاسلام )) تاريخ اكسفورد الجديد للموسيقى, الجزء1: الموسيقى القديمة والشرقية, المحرر ايجون ويليز. لندن : دار نشر جامعة اكسفورد, 421 – 477.
الفاروقي, لويس ابسين
1974أ (( طبيعة الفن الموسيقي للحضارة الاسلامية: الدراسة النظرية والعملية للموسيقى العربية )) رسالة دكتوراه, جامعة سيراكيوس, سيراكيوس, نيويورك.
1974ب ((ما الذي يجعل الموسيقى الدينية دينية؟ دراسة مقارنه وتاريخية)) مقالة لم يتم نشرها تم تقديمها في الاجتماع السنوي لأكاديمية الدين الامريكية, واشطن د.س 26 اكتوبر, 1974.
فيشر, ج.ل.
1961 (( الأساليب الفنية باعتبارها رسما تفصيليا يمكن إدراكه للحضارة)) الأنثروبولوجي الأمريكي 63 : 79 – 93.
الغزالي, أبو حامد محمد ابن محمد
1901 احياء علوم الدين ترجمة دونكانب.
ماكدونالد ك (( الشعور العاطفي في الاسلام وتأثره بالموسيقى والغناء))
جريدة الجمعية الآسيوية الملكية, الجزء1, 195 – 252, الجزء2, 705 – 748, والجزء3 1-28.
هام, تشارلز, وأشياء أخرى
1975 الموسيقى المعاصرة والثقافات الموسيقية. نيوجرسي: شركة برينتس هول.
جولز, لوراجفران
1977 (( العيسوية بتونس وموسيقاهم)) رسالة دكتوراه, جامعة واشنطن, سياتل, واشنطن
كرامر, سامويل, نواه
1963السومريون: تاريخهم وحضارتهم وشخصيتهم شيكاغو ولندن: دار نشر جامعة شيكاغو.
لوماكس, آلان
1959(( أسلوب الاغنية الشعبية)) الأنثربولوجي الأمريكي 61 – 927 – 954.
1962 (( بنيان الاغنية والبنيان الاجتماعي)) الاثنولوجيا 1: 425 – 451.
مريم,آلان ب.
1964 انثروبولوجيا الموسيقى. ايفانستون, الينوي: دار النشر الجامعه الشمالية الغربية.
نيتل, برونو: (( دور الموسيقى في الحضارة : ايران أمة تطورات حديثا )),
1975 الموسيقى الحديثة والثقافات الموسيقية تأليف تشازلر هام, وأشياء أخرى, نيوجرسي : شركة برينتس هول, 71 – 100.
أوبنهيم, أ. ليو
1977ميسوبوتاميا القديمة: صورة الحضارة البائدة. شيكاغو ولندن: دار نشر جامعة شيكاغو, نشرت أولا عام 1964.
رييد هربوت معنى الفن. لندن : فابر وفابر, المحدودة
1951 روتشيلد , لينكولن
1960 الأسلوب الفني: ديناميكيات الفن باعتباره بمثابة تعبير ثقافي, نيويورك: توماس يوسكلوف
السعيد, لبيب
1967 الجمالي الصوتي الاول للقرآن الكريم, أو المصحف المرتل. القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
سبيكتور, جوهانا
1967 (( العرف والابداع الموسيقي)) وسط آسيا, المحرر إدوارد ألوورث. نيويورك: دار النشر جامعة كولومبيا.
توما, حبيب حسن
1971 (( ظاهرة المقام: أسلوب إرتجالي في موسيقى الشرق الأوسط )) علم الموسيقى الخاص بالأجناس 15 (1): 38 – 48.
1977 الموسيقى العربية, ترجمة كوتستين هيتير باريس: طبعات بوشيت / كاستل.