(أ) أصل نظرية الفساد عند الحنفية
إن التمييز بين الباطل والفاسد من عقود النكاح كان ولا يزال مدار اضطراب كبير في مباحث الفقه. فالعقد الباطل غير منعقد بإجماع المذاهب الفقهية، ولا تترتب عليه آثار الصحيح.
أما العقد الفاسد فإن المذهب الحنفي الذي أسس نظرية الفساد في العقود المالية من بيع ونحوه، واعتبرها محطة متوسطة بين البطلان والصحة، يعتبر العقد الفاسد في المعاملات منعقدا، وإذا تم تنفيذه رضاء أنتج، وهو فاسد، جميع آثاره المقررة له شرعا في حالة الصحة من نقل الملكية أو غيره، لكنه يقبل الفسخ، بل يجب فسخه حسبة بقوة القضاء إن لم يفسخه المتعاقدان اختيارا، وذلك ما لم يمنع من فسخه مانع كما لو باع المشتري بيعا صحيحا ما كان اشتراه شراء فاسدا حتى ترتب ببيعه الجديد حق مكتسب للمشتري الثاني. فإذا حصل مثل هذا المانع امتنع فسخ العقد السابق صيانة لحق الشخص الثالث. وهذا الامتناع هو من فروع نظرية صيانة الحق المكتسب رعاية للمصلحة في استقرار المعاملات.
هذا هو في قواعد المذهب الحنفي مبنى نظرية الفساد التي هي حنفية المنشأ في حدود نطاقها المحدود، لأن الفساد لا يجري في جميع العقود.
ونطاق نظرية الفساد عند الحنفية إنما هو العقود المالية التي تنشئ التزامات متقابلة وتنقل الملكية. كالبيع والصلح والإجارة والقسمة، والهبة.
ففي هذا النوع من العقود فقط يجري التمييز بين الباطل والفاسد منها بالفوارق التي أوجزناها آنفا.
ويخرج عن هذا النطاق التصرفات الفعلية كقبض المبيع، وتصرفات الإرادة المنفردة كالطلاق والوقف والوصية، لأن كل ذلك ليس بعقود.
ويخرج عنه أيضا العقود غير المالية كالزواج والوكالة.
فكل هذه التصرفات والعقود التي تخرج عن ذلك النطاق الذي حددناه لنظرية الفساد عند الحنفية ليس لها حالة ثالثة تسمى فسادا متميزة عن الصحة والبطلان من حيث الانعقاد والآثار كما تقدم بيانه، وإنما لها درجتا صحة وبطلان فقط، نظير العبادات من صلاة وصيام وحج، فلا فرق بين فاسدها وباطلها في شيء من الأحكام. فالفاسد فيها مرادف للباطل، وكلاهما غير منعقد.
(ب) الفساد والبطلان في عقد الزواج
ثم إن فريقا من فقهاء الحنفية أرادوا أن يستخدموا لفظ الفساد في التمييز بين أنواع النكاح غير المنعقد بغية ضبط الأحكام بألفاظ اصلاحية مميزة. ذلك لأنهم لحظوا أن عقد النكاح لا يشبه العقود المالية من حيث الأثر، لأن آثار العقود المالية إنما هي كلها حقوق والتزامات خاصة بالمتعاقدين. أما عقد النكاح فتترتب فيه ثلاثة أنواع من الآثار:
1- آثار هي حقوق لأصحابها، كالنفقة الزوجية والطاعة الزوجية، والتوارث.
2- وآثار فيها حقوق لغير المتعاقدين كنسب الأولاد.
3- وآثار فيها حقوق عامة للشرع هي من قبيل النظام العام كالعدة.
أ- فأما النوع الأول الخاص من هذه الآثار وهو الحقوق الخاصة المحضة فلا يثبت إلا في نكاح صحيح، وهو الزواج المنعقد.
ب- وأما النوعان الآخران من النسب والعدة فإنهما كما يثبتان شرعا في النكاح المنعقد يثبتان أيضا في بعض حالات النكاح غير المنعقد إذا أعقبه دخول، وهي الحالات التي يعتبر فيها وجود شبهة صالحة لنفي عقوبة حد الزنا الشرعي ولو كانت تقتضي استحقاق عقوبة تعزيرية أخرى. حتى إن النسب والعدة يثبتان في حالات الوطء بشبهة دون أن يكون هناك عقد زواج أصلا، وذلك كما إذا زفت إلى رجل امرأة غير زوجته المعقود عليها على ظن أنها هي زوجته، فدخل بها وهو لا يعرفها من قبل ثم تبين الأمر. ففي هذه الحال وأشباهها يثبت نسب الولد إن حصل حمل كما تثبت العدة، وتستحق المرأة مهر المثل رغم عدم وجود زواج أصلا بينهما.
هذا ما دعا بعض متأخري الفقهاء من الحنفية لأن يصفوا بعض حالات النكاح غير المنعقد بصفة الفساد، (وهي تلك الحالات التي توجد فيها شبهة ينتفي معها حد الزنا وتثبت بعض آثار النكاح الصحيح)، وأن يسموا النكاح في هذه الحالات نكاحا فاسدا، ناظرين إلى ثبوت بعض آثار الصحيح فيه إذا أعقبه دخول، تمييزا له عن الباطل الذي لا يثبت فيه أثر من الآثار، بل يعتبر الدخول فيه زنا محضا.
فالنكاح الذي سمي فاسدا هو درجة ثالثة بين الصحيح والباطل من حيث الآثار، فإنه لا تثبت فيه جميع آثار النكاح الشرعية منذ العقد كما تثبت في الصحيح المنعقد، ولا تنتفي كلها ولو وقع دخول كما في الباطل غير المنعقد.
لذلك رأوا أن هذه الدرجة المتوسطة في حالات النكاح تشبه الدرجة المتوسطة بين الصحة والبطلان في العقود المالية، من حيث كونها درجة ثالثة إلى ثبوت الآثار عند تنفيذ العقد، فسموها فسادا، وسموا عقد النكاح فيها فاسدا، استفادة من هذا الاصطلاح القائم في المعاملات المالية، وإن كان الشبه غير تام من جميع الوجوه، بل هناك مفارقات بين الفاسد من الأنكحة والفاسد من المعاملات المالية من النقاط التالية:
1- أن الفاسد من الأنكحة غير منعقد. أما الفاسد من المعاملات المالية فمنعقد.
2- أن نتيجة الانعقاد في الفاسد من العقود المالية كونه يترتب عليه عند التنفيذ (التسليم والتسلم) جميع الآثار المقررة له في حال الصحة، فتنتقل الملكية إن كان ناقلا لها، وتترتب جميع الالتزامات المقابلة لها. وكل ذلك يعتبر أثرا للعقد مستندا إليه لا إلى التنفيذ وإن كانت هذه الآثار يتأخر ثبوتها فيه إلى ما بعد التنفيذ، لأن الفاسد عرضة للفسخ بإرادة كل من الطرفين وإرادة القاضي، فلا يستعجل في إثبات آثاره منذ العقد كما في العقد الصحيح، بل تؤخر إلى التنفيذ لاحتمال فسخه قبله، وذلك خير من تعريض هذه الآثار للنقض بعد الثبوت إذا فسخ العقد قبل التنفيذ.
أما الفاسد من الأنكحة فلا تترتب عليه بالتنفيذ (الدخول) جميع آثار النكاح الصحيح من ملك المتعة والنفقة الزوجية والمتابعة والطاعة والتوارث الخ… وإنما يترتب عليه بالتنفيذ، وبصورة استثنائية، بعض الآثار التي هي من لوازم نفي عقوبة الحد الشرعي، وتعتبر من صميم النظام العام في نظر الإسلام، وهي (المهر، والعدة، ونسب الولد). وهذه الآثار تثبت في كل وطء بشبهة ولو دون عقد، ولذا تعتبر في الحقيقة هذه الآثار عند ثبوتها آثارا لتنفيذ النكاح الفاسد، لا آثارا للعقد نفسه. أي أنها تثبت آثارا للدخول المبني على عقد النكاح الفاسد باعتبار أنه دخول بشبهة وهذه الشبهة نشأت من وجود العقد الفاسد. ولذا انحصرت هذه الآثار في الأمور التي تثبت بالدخول بشبهة دون عقد.
3- إن الفاسد من عقود المعاملات المالية عند الحنفية يمتنع فسخه فيستقر ويصبح كالصحيح إذا أعقبه عقد رتب حقوقا للغير (لشخص ثالث) كما تقدم بيانه، بخلاف الفاسد من الأنكحة فإنه لا يستقر بحال من الأحوال، بل يفرق القاضي بين الرجل والمرأة فيه متى علم باجتماعهما، كما يحول بين كل متخادنين، ويعاقبهما عقوبة التعزير لسقوط الحد بشبهة العقد.
وهذا أيضا نتيجة لكون العقد الفاسد في المعاملات منعقدا، وفي الأنكحة غير منعقد، وإنما هو صورة عقد صلحت لأن تعتبر شبهة تسقط عقوبة الحد عن حادثة الدخول غير المشروع بالمرأة، وتحولها إلى عقوبة التعزير.
أي أن عقد الزواج الفاسد هو عقد باطل مقترن بشبهة.
يتضح من كل ما تقدم:
أ- أن الباطل والفاسد من الأنكحة في نظر فقهاء الحنفية أنفسهم لا فرق بينهما من حيث الانعقاد وعدمه، فكلاهما غير منعقد.
ب- وأن الفرق بينهما إنما هو في وجود شبهة كافية لإسقاط عضوية الحد في أحدهما وعدم وجود هذه الشبهة في الآخر.
ففي الحالات التي ترافقها تلك الشبهة يسمى النكاح غير المنعقد فاسدا، وفي الحالات التي تتجرد عن الشبهة يمسى باطلا.
والنتيجة في الحالة الأولى (الفاسد) أن يعتبر الدخول الذي يعقبه دخولا بشبهة من نوع شبهة العقد، فتثبت فيه الآثار التي تثبت في كل وطء بشبهة، وهي: (المهر والنسب والعدة).
والنتيجة في الحالة الثانية (الباطل) أن يعتبر الدخول الذي يعقبه زنا محضا تجب فيه عقوبة الحد الشرعي، ولا يثبت فيه شيء من آثار النكاح أصلا.
وتسمية هذا بالباطل وذلك بالفاسد إنما هي لأجل الدلالة على ثبوت هذه الآثار المحدودة أو عدم ثبوتها، وليست هذه التسمية للدلالة على الانعقاد وعدمه كما في المعاملات المالية المستعار منها لفظ الفاسد.
هذا هو التحقيق الصحيح في التمييز بين فاسد النكاح وباطله عند الحنفية الذين ميزوا بينهما، وهو الذي تؤيده دلائل النصوص المعتبرة.
(ج) نصوص المذهب الحنفي في هذا المقام
1- قال الكمال بن الهمام في فتح القدير أوائل كتاب النكاح ج3/ ص102/ ما نصه: “الانعقاد هو ارتباط أحد الكلامين (الإيجاب والقبول) بالآخر على وجه يسمى باعتباره عقدا شرعيا ويستعقب الأحكام”.
ومفاده أن الذي لا يستعقب الأحكام لا يرتبط فيه الإيجاب بالقبول، فلا ينعقد. وكلام الفقهاء صريح مستفيض متونا وشروحا أن النكاح الفاسد الذي لا يثبت فيه شيء من الأحكام ولا يفيد الحل بمجرد العقد ولا يقع فيه طلاق، وإنما يثبت بالدخول فيه -باعتباره دخولا بشبهة- ثلاثة أحكام فقط: المهر، والنسب، والعدة، وهي التي تثبت في كل دخول بشبهة ولو دون عقد. والعقد الفاسد هنا هو الشبهة في حل هذا الدخول.
2- وقال صاحب الهداية في أوائل كتاب النكاح أيضا ما نصه: “ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور شاهدين عاقلين…الخ” وقد نقل ابن عابدين عن فتح القدير شرح الهداية للكمال ابن الهام التمثيل للنكاح الفاسد بأنه “النكاح بغير شهود، ونكاح زوجة الغير دون علم بأنها متزوجة، ونكاح المحارم مع العلم بعدم الحل عند أبي حنيفة. أما عند صاحبيه فإن نكاح المحارم مع العلم بعدم الحل باطل”.
(انظر رد المحتار باب العدة ج2/ ص 657/ الطبعة الأولى الأميرية ذات القطع الكبير).
ومفاد هذه النصوص أن النكاح الفاسد هو من حيث الانعقاد كالباطل غير منعقد، لأن صاحب الهداية يصرح بأن النكاح بغير شهود ليس بمنعقد، وشارح الهداية صاحب الفتح وابن عابدين يصرحان بأن النكاح بغير شهود هو من نوع الفاسد، فالنتيجة أن الفاسد غير منعقد.
ولا يخفى أن كتاب “الهداية” من عمد كتب المذهب الحنفي وصاحبها الإمام المرغيناني من المتقدمين المشهورين بدقة التعبير والصياغة، حتى إن له في عرض الآراء والأدلة عند اختلاف الفقهاء طريقة خاصة معروفة يستفاد منها رأيه في الترجيح دون تصريح. وشارحها الكمال بن الهمام صاحب فتح القدير هو معدود من رءوس المحققين والمرجحين في المذهب، وقد صرحوا بأنه بلغ رتبة الاجهتاد المطلق.
3- وقال صاحب الهداية أيضا ما نصه: “فإن تزوج حبلى من زنى جاز النكاح ولا يطؤها حتى تضع حملها”.
وقال أبو يوسف: “النكاح فاسد” وإن كان الحمل ثابت النسب فالنكاح باطل بالإجماع.
فإن تزوج حاملا من السبي فالنكاح فاسد، لأنه ثابت النسب. وإن زوج أم ولده وهي حامل منه فالنكاح باطل، لأنها فراش لمولاها، حتى إنه يثبت نسب ولدها منه من غير دعوة” الخ..
وقال الكمال ابن الهمام في شرحه فتح القدير تعليقا على قول الهداية: “فالنكاح باطل” ما نصه: “وذكر (الفاسد) فيما تقدم، ولا فرق بينهما في النكاح بخلاف البيع”.
أي لا فرق في عدم الانعقاد، لأن النسب والعدة والمهر هي أحكام مقرر في المذهب الحنفي ثبوتها بالدخول في النكاح الفاسد لا في الباطل كما هو معلوم.
وقال الشيخ أكمل الدين في شرحه “العناية على الهداية” تعليقا على ذلك أيضا ما نصه: “وإنما ذكر لفظ الفاسد في المسألتين المتقدمتين (1) ولفظ الباطل (2) هنا –وإن كان المراد بالفاسد هناك الباطل أيضا على ما ذكره فخر الإسلام- لأن الحرمة في المتقدمتين أهون”.
ثم بين صاحب العناية وجه هذه الأهونية (أي ضعف الحرمة في المسألتين المتقدمتين) بأن الحبلى من الزنا مختلف في جواز وطئها إذا تزوجت، كما أن الحبلى المسبية مختلف في جواز العقد عليها، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أن زواجها جائز ولكن لا يجوز لزوجها قربانها حتى تضع حلمها، أي أنها في ذلك نظير الحامل من الزنا وإن كان حمل هذه غير ثابت النسب وحمل المسيبة ثابت النسب.
وهذا النص، كما يفيد أن الفاسد والباطل من الأنكحة سواء في عدم الانعقاد، يبين أيضا منشأ التفريق بينهما في التسمية، وهو ضعف الحرمة وقوتها:
– فحيث تكون الحرمة أضعف وأهون، كما في الحالات المختلف في جواز النكاح فيها بين الفقهاء اختلافا مستندا إلى أدلة قوية معتبرة، يكون الفساد، ويسمى النكاح: فاسدا.
– وحيث تكون الحرمة أشد، كما في الحالات المجمع على عدم جواز النكاح فيها، أو التي فيها خلاف غير مستند إلى دليل قوي معتبر، يكون البطلان، ويمسى النكاح: باطلا.
ونقل ابن عابدين عن البحر عن المجتبي نظير هذا التفصيل في منشأ التمييز في التسمية بين الباطل والفاسد تبعا للاتفاق على الحرمة أو الاختلاف فيها:
فما كان مختلفا في حرمته فهو فاسد في نظر الحنفية الذين يقولون بالحرمة. وما كان متفقا على حرمته فهو باطل.
(انظر رد المحتار باب العدة ج2/ ص 607/ الطبعة السابقة الذكر)
وقد أورد ابن عابدين على هذا الضابط في التمييز بين الفاسد والباطل من الأنكحة ما يخدشه. والواقع أن الاختلاف في الحرمة هو أحد الأسباب في التمييز بين الفاسد والباطل وليس هو كل شيء هذا التمييز عند الحنفية. فهناك أيضا قوة الشبهة وضعفها، وقوة دليل الرأي المخالف أو وهيه.
4- وقال في باب العدة من “تنوير الأبصار” ما نصه: “وعدة المنكوحة نكاحا فاسدا الحيض للموت وغيره، كفرقة أو متاركة”.
وقال شارحه صاحب الدر المختار هنا: “فلا عدة في باطل”. وعلق ابن عابدين في حاشيته على قول الشارح “فلا عدة في باطل” ما نصه:
“فيه أنه لا فرق بين الفاسد والباطل في النكاح بخلاف البيع”. كما في الفتح والمنظومة المحبية.
(رد المحتار ج2/ ص 607- 608).
5- وقال أيضا في باب العدة من رد المحتار بمناسبة تحديد مبدأ العدة في النكاح الفاسد ما نصه: “ولنا أن السبب الموجب للعدة –أي في النكاح الفاسد- هو شبهة النكاح، وإن رفع هذه الشبهة بالتفريق”…الخ.
ومفاده أن النكاح الفاسد ليس عقدا منعقدا، وإنما هو شبهة عقد.
6- وقال أيضا في باب المهر من رد المحتار بعد ما نقل عن الفتاوى البزازية حكاية الخلاف في كون نكاح المحارم فاسدا أو باطلا ما نصه: “والظاهر أن المراد بالباطل ما وجوه كعدمه، ولذا لا يثبت النسب ولا العدة في نكاح المحارم أيضا كما يعلم مما سيأتي في الحداد. وفسر القهستاني هنا الفاسد بالباطل، ومثله بنكاح المحارم”.
(رد المحتار ج2/ ص 350).
7- ونقل الحصكفي في الدر المختار عن مجمع الفتاوى أن المسلمة إذا تزوجت غير مسلم فالنكاح باطل، فلا يثبت النسب منه، ولا تجب العدة.
ونقل ابن عابدين في رد المحتار عن الرحمتي تعليقا على ذلك بقوله: “فالوطء فيه زنى لا يثبت به النسب، بخلاف الفاسد فإنه وطء بشبهة فيثبت به النسب. ولذا تكون بالفاسد فراشا لا بالباطل”.
(رد المحتار ج2/ ص 350، 633).
ومفاد هذا النص ان نقطة الارتكاز في الفرق بين الفاسد والباطل من الأنكحة هي أن الفاسد يعتبر فيه شبهة وتترتب على الدخول فيه أحكام الوطء بشبهة. اما الباطل فللا يعتبر فيه شبهة فيبقى الدخول فيه زنا محضا.
أما من حيث الانعقاد فلا فرق بينهما في عدم الانعقاد، لأن تلك الأحكام الاستثنائية التي تترتب على الوطء بشبهة (وهي المهر والعدة والنسب) لا تستلزم الانعقاد ولا تتوقف عليه ما دامت تثبت في كل وطء بشبهة ولو دون عقد أصلا.
هذا ما يستخلص من النظر في مختلف النصوص الفقهية التي أوردناها.
ولكن بعضا من الأساتذة المعاصرين يتراءى من كتاباتهم أنهم يظنون الفاسد من الأنكحة منعقدا، قياسا على الفاسد من البيوع.
وقد ساعد على الوقوع في هذا الخطأ تصريح فقهاء الحنفية بأن النكاح الفاسد يفسخه كل من الطرفين كما يفسخه أيضا القاضي حسبة أن لم يفسخه أحدهما. ذلك لأن الفسخ يستلزم سبق الانعقاد، فغير المنعقد باطل والباطل لا يفسخ فسخا لأنه كالمعدوم. والواقع ان تعبير الفقهاء موهم، ولكن مرادهم بالفسخ هنا غير مرادهم بالفسخ في البيع الفاسد، يعرف ذلك الراسخون والمتمرسون في فهم كلام الفقهاء. فقد جاء في باب المهر في “تنوير الأبصار” وشرحه “الدر المختار” أثناء الكلام عن النكاح الفاسد ما نصه:
“ويثبت لكل واحد منهما فسخه ولو بغير محضر من صاحبه… وتجب العدة بعد الوطء لا الخلوة من وقت التفريق أو متاركة الزوج”….الخ.
وقال العلامة ابن عابدين في رد المحتار نقلا عن العلامة الحلبي تعليقا على قوله: “من وقت التفريق” ما نصه: “أي تفريق القاضي، ومثله التفرق، وهو فسخهما أو فسخ أحدهما”.
(رد المحتار ج2/ ص 351).
ومفاده أن فسخ النكاح من قبل الطرفين أو أحدهما هو المراد بالتفريق أو المتاركة اللذين يعبر بهما الفقهاء أيضا في هذا المقام، ويقولون أن العدة في النكاح الفاسد تبدأ منذ التفرق أو المتاركة. ففسخ القاضي معناه التفريق الاجباري بينهما بأمر القاضي إن لم يتفرقا من تلقاء أنفسهما، فهو بمعنى الحيلولة المادية لمنع استمرار الاجتماع غير المشروع، وليس بمعنى حل العقد المنعقد، ولذا اعتبروا هذا التفريق بينهما، إن لم يتفرقا، واجبا دينيا حسبيا على القاضي لأنه إزالة لمعصية الاجتماع غير المشروع (انظر الدر المختار وحاشيته في المكان السابق).
(د) ملاحظات في ضوء ما تقدم
بناء على كل ما تقدم بيانه يجب أن يلحظ عند تقنين أحكام النكاح ما يلي:
1- أن النكاح الفاسد والنكاح الباطل هما سوءا في عدم الانعقاد، وهما مختلفان في الأحكام.
2- أن نقطة الارتكاز في الفرق بين الفاسد والباطل من الأنكحة هي الشبهة، فإن الفاسد، رغم عدم انعقاده، هو الذي فيه شبهة كافية لدرء عقوبة الحد إذا أعقبه دخول. أما الباطل فليس فيه هذه الشبهة.
3- إن وجود الشبهة النافية للحد في النكاح الفاسد هو الذي يجعل الدخول فيه من قبيل الدخول بشبهة، ويرتب عليه تلك الأحكام الاستثنائية (المهر، والعدة، ونسب الولد) رغم أنه باطل من حيث الانعقاد، لأنه غير منعقد
ومن المألوف في النظرين الشرعي والقانوني أن يترتب على العقد الباطل، في بعض الحالات الخاصة، بعض أحكام العقد الصحيح استثناء من القواعد.
4- إن استعمال لفظ (الفساد والفاسد) في باب النكاح بغير معناه الاصطلاحي المعروف في باب المعاملات المالية، وذلك للدلالة فقط على ثبوت بعض الأحكام الاستثنائية لبعض حالات بطلان النكاح، قد أدى إلى اضطراب كثير في تحديد طبيعة النكاح الفاسد وتحقيق معناه المقصود، ولا سيما مع وجود عبارات للفقهاء ذات دلالات متنافية إن لم تحمل كل منها على جهة، وذلك كقولهم: “إن الفاسد والباطل في النكاح سواء” (والمقصود بذلك أنهما سواء في عدم الانعقاد)، وقولهم: “إن الفاسد يثبت فيه النسب والعدة والمهر دون الباطل” وقولهم: “إن الفاسد يفسخه القاضي وجوبا” مما سبق بيانه وإيضاح معانيه المقصودة.
وهذا الاضطراب ناشيء من أن التعبير بفساد النكاح عند فقهاء الحنفية له معنى غير معناه لديهم في المعاملات المالية، وأن للفقهاء الأوائل الذين استخدموا لفظ الفساد في النكاح للدلالة على تلك الحالات الخاصة من البطلان وتمييزها بأحكام استثنائية لم يوضحوا المراد بهذا اللفظ في باب النكاح منذ بداية استعماله، فنشأ هذا الاضطراب.
وقد كان من نتائج ذلك أن قانون حقوق العائلة العثماني، وكذا قانون الأحوال الشخصية الذي حل محله في سورية عام 1953 قد خرجا من هذا الاضطراب بحصر البطلان في حالة واحدة فقط هي زواج المرأة المسلمة بغير مسلم، واعتبرا كل حالة أخرى تختلف فيها بعض شرائط الزواج من قبيل النكاح الفاسد وهذا فيه تسهيل لتمييز الفاسد عن الباطل من الأنكحة، ولكنه قد أدى إلى نتيجة نابية غير مستساغة، وهي أن نكاح الرجل لأحدى محارمه مها كانت قرابتها قريبة وحرمتها واضحة (كأمه أو بنته أو أخته)، يعتبر فاسدا لا باطلا مع أنه جريمة أشنع شرعا وعقلا وقانونا من الزنا بالأجنبية، رغم صورة العقد.
(هـ) المنهج الجديد الواجب الاعتماد في هذا الموضوع عند تقنين أحكام النكاح
فلجميع هذه الملاحظات ينبغي الخروج من هذا الاضطراب الذي جعل من موضوع فاسد النكاح وباطله مشكلة عويصة في الدراسة والتشريع والتطبيق، وأن يرد الأمر إلى جادته الأصلية باصطلاح وتقسيم جديدين يجمعان بين الوضوح والانسجام مع واقع الأمر في الأحكام. وذلك بأن يقسم النكاح من حيث الصحة وعدمها إلى نوعين: صحيح وباطل فقط، أي منعقد وغير منعقد، باعتبار أن الفاسد غير منعقد، وأن تسميته في الأصل بالفاسد إنما هي لتمييزه ببعض الآثار فقط لا بالانعقاد.
وهذا التقسيم يتمشى مع سائر المذاهب الاجتهادية التي لم تأخذ بنظرية الفساد الحنفية، والتي ليس عندها للعقود كافة سوى مرتبتي صحة وبطلان.
ثم يقسم الزواج الصحيح إلى نافذ وغير نافذ، كما يقسم النافذ إلى لازم وغير لازم، وتحدد مفاهيم النفاذ واللزوم وعدمهما وآثارهما وفقا لترتيبها ولمعانيها المقررة لها في العقود المالية عند الحنفية، لعدم وجود فارق بين تلك المفاهيم والآثار في العقود المالية عنها في عقد الزواج.
هذا، وقد ثبت بما أوضحناه أن وجود الشبهة هو العامل الوحيد في تمييز الفاسد عن الباطل من الأنكحة عند الحنفية كما سبق بيانه، بدليل أن جمهرة المذاهب الاجتهادية التي لا تقول بفرق بين الفساد والبطلان لا في النكاح ولا في المعاملات المالية تقرر، كما يقرر الحنفية، نفي عقوبة الحد، وتثبت الآثار الثلاثة وهي المهر والعدة والنسب في حالات الشبهة المعتبرة رغم بطلان النكاح، كمن تزوج إحدى محارمه وهما غير عالمين بالقرابة، وكما لو زوجت المرأة نفسها دون ولي عند الشافعية والحنابلة.
قال في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج أوائل كتاب النكاح: “ولا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين للخبر الصحيح: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل. وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل”.
وقال أيضا أوائل فصل “من يعقد النكاح” ما نصه: “والوطء في نكاح بلا ولي يوجب مهر المثل لا المسمى لفساد النكاح”.
“ولا يوجب الحد وإن اعتقد التحريم، لشبهة اختلاف العلماء في صحة النكاح لكن يعزر معتقد تحريمه”.
وقال موفق الدين بن قدامة المقدسي من فقهاء الحنابلة في المغني شرح مختصر الخرفي ما نصه:
وينعقد –أي النكاح- بشهادة عبدين. وقال أبو حنيفة والشافعي لا ينعقد “….. ولا حد في وطء النكاح الفاسد سواء أعتقد حله أو حرمته. وعن أحمد ما يدل على أنه يجب الحد بالوطء في النكاح بلا ولي إذا اعتقد حرمته، وهو اختيار السمرقندي من أصحاب الشافعي… ولنا أن هذا مختلف في اباحته فلم يجب به الحد كالنكاح بغير شهود، ولأن الحد يدرأ بالشبهات… وإن أتت بولد منه يلحقه نسبه في الحالين (فصل) فأما الأنكحة الباطلة كنكاح المرأة المزوجة أو المعتدة أو شبهه فإذا علما الحل والتحريم فهما زانيان وعليهما الحد، ولا يحلق النسب فيه”.
وبناء على كل ما تقدم ينبغي في تأصيل هذا الموضوع (أي بطلان النكاح وفساده) أن يستبعد منه لفظ الفساد لأنه هو مبعث المشكلة، وأن يقسم الزواج الباطل، أي غير المنعقد، إلى نوعين:
أ- باطل مشتبه، وهو الذي فيه شبهة كافية لدرء الحد وثبوت الآثار الاستثنائية المذكورة. (وهذا الذي كان يسمى سابقا بالفاسد).
ب- وباطل غير مشتبه، وهو الذي يعتبر في حكم الزنا المحض، ولا يترتب على الدخول فيه أي أثر منآثار الزواج الصحيح. (وهذا الذي كان يسمى سابقا بالباطل).
ومزية هذا التقسيم وهذه التسمية:
1- أنه يدل على عدم الانعقاد في كل من النوعين المشتبه وغير المشتبه بمقتضى أن كلا منهما باطل، والبطلان يدل بوضوح على معنى عدم الانعقاد شرعا وقانونا، بخلاف لفظ الفاسد، فيزول الغموض الذي يكتنف التمييز بين فاسد النكاح وباطله في الفقه الحنفي وفي التقنيات التي أستمدت منه هذا الاصطلاح في باب النكاح.
2- إن اسم (الباطل المشتبه) يعبر تعبيرا واضحا عن مناط الأحكام الاستثنائية التي تثبت في بعض حالات بطلان النكاح، تلك الحالات التي كان يعبر عنها بالفساد. وهذا المناط هو وجود الشبهة الكافية لدرء عقوبة الحد.
وسبقت الإشارة إلى أن قانون الأحوال الشخصية السوري، وقبله قانون حقوق العائلة العثماني، قد حصرا بطلان الزواج في حالة واحدة هي زواج المسلمة بغير المسلم، واعتبر أن كل ما سواهما هو من نوع الفاسد الذي تترتب على الدخول فيه الأحكام الاستثنائية الثلاثة.
فدخل في الفاسد نكاح المحارم مهما قربت وقويت المحرمية كنكاح الرجل أمه أو بنته أو أخته ولو كانا عالمين بالحرمة.
وهذا، وإن كان يتمشى مع المنقول عن أبي حنيفة، هو خلاف مذهب صاحبيه المفتى به في حالة العلم بالحرمة، وخلاف ما عليه جمهور المذاهب الاجتهادية الأخرى، كما أنه من الفظاعة والبشاعة بحيث يبدو نابيا عن الطبيعة الإنسانية ومنطق التشريع.
لذلك ينبغي توسيع دائرة البطلان غير المشبته في تقنين أحكام النكاح حتى تشمل المحارم اللاتي تعتبر حرمتهن لا شبهة فيها لأحد يعيش في وسط اسلامي، وهذا هو رأي الصاحبين فيما إذا أقدم رجل على نكاح إحدى أصوله أو فروعه أو أخته أو خالته أو عمته، فيكون هذا النكاح باطلا غير مشتبه، أي في حكم الزنا المحض لا يترتب على الدخول فيه أي أثر، كزواج المسلمة بغير المسلم.
وهذا لا يمنع ثبوت نسب الولد من الرجل إذا ادعاه الرجل بصورة مطلقة دون أن يضيفه إلى هذا النكاح الباطل، وفقا لقواعد ثبوت النسب بالإقرار كما هو مقرر في المذهب الحنفي.
ويؤخذ برأي أبي حنيفة فيما سوى هؤلاء المحارم من درجات القرابة، فيكون نكاحهن من نوع الباطل المشتبه (المسمى سابقا بالفاسد)، فيترتب على الدخول فيه تلك الآثار الاستثنائية الثلاثة: المهر، والنسب، والعدة.