تقدمة:
أود في البداية أن أتقدم بالتقدير لجامعة الملك عبد العزيز ولكلية الاقتصاد والادارة بها أن انبعثت منهما فكرة هذا المؤتمر وأخذهما على عاتقهما اقامته والدعوة الية واستضافة أعضائة خدمة للاسلام وحبة للعلم. كما أود أن أتقدم بالشكر لمن أحسن بي الظن فدعانى الى المساهمة مع المساهمين في العمل على تحقيق الغرض النبيل من هذا الجمع الكريم.
ولا شك أن موضوع الزكاة – زكاة المال – من أى جانب ومن كل الجوانب يرتبط تماما بأهداف هذا المؤتمر, كما أنه لا يخفى على المهتمين بهذا الموضوع سبق البحث فية من لدن فقهاء وعلماء السلف والخلف, كل أدلى بدلوه من جانب تخصصه, الا أن الاحاطة بجوانب الموضوع وأعماقة لارساء قواعده المتكاملة واليقينية, الكلية منها والجزئية لم تزل تحتاج الى المزيد من الدراسة نظرا لما يتسم به موضوع الزكاة من خصيصة الاستقلال كنظام دينى قائم بذاته له قداسته الى جانب خصيصة ترابطة وتفاعلة مع غيرة من العلوم والأنظمة الأخرى في ميادين الحياة المتطورة على هذه الأرض مما يحدث عند الباحث نوعا من التريث الطويل في الفكر قبل أن يعلن عن رأية أو يفصح عما هدى الية… أن تشعب الموضوع بعد ما أصاب أمة الاسلام هذا التطور والتبدل في حياتها الاجتماعية عامة والاقتصادية خاصة بجانب القداسة الدينية التى يتسم بها ليثير الاشفاق عند فقية الشرع أو المتخصص في العلم بل وعند الفقية المتخصصر حين يتصدى بالرأى والفتيا, لأنها أمانه يخشى مسئوليتها خلفاء الله فى أرضة وأهل التقوى من العلماء.
ولست أتجاوز الحقيقة حين أقول اننى اليوم أحاول طرق جانب صغير في الموضوع الكبير لعلى أوفق في عرض ما تبين لى من أن لفكر الانسان دورا مثمرا يؤدية في تطبيق هذا الركن من شريعة الله, وبالتالى تتضح عظمة موضوع الزكاة اذا ما قورن هذا الجزء الصغير بذلك الكل الكبير.
وعن المراجع. فلا شك أن ما تركه لنا منها أئمة السلف كلها خير وكلها كنوز, فيها مبادئ وأصول ليست خافية على كل من له صلة عملية بالموضوع…, تراها وقد أشير اليها في صفحات مراجع علماء الخلف… تلك المراجع التى بدأ السمين منها يفرض وجوده بأسلوب العصر, أخص بالذكر منها المرجع القيم للدكتور يوسف القرضاوى في فقة الزكاة بجزاية. كما أذكره بالتقدير مؤلف الدكتور شوقى اسماعيل شحاته في محاسبة زكاة المال علما وعملا. فما نقلت عنهما شيئا اجتهدا فيه أو استندا الية من آراء السلف الصالح مما يدخل في نطاق هذا البحث الا وأشرت للأمانة العلمية الية في حينه وفي مكانه. يبد أن المراجع المتخصصة في الموضوع المعروض ليست متوفرة تماما… ذلك أن بحثى يعرض لاتجاه – أخالة مستحدثا – قائم على تمازج الفقة الأصيل بالفكر الحديث المتخصص, بادئا الطريق من حيث ما انتهى الية الفقة الإسلامى. وكلما تبين أمامى أن للفكر المالى والمحاسبى اتجاها معينا بذاته في المسائل التى يطرحها هذا البحث على نفسه, فاننى أشير الية ما دام له سند من راى في الفقة الاسلامى أو على الأقل غير متعارض معه, وهذا هو الجهد المتواضع للباحث سواء جاء اتجاه هذا الفكر يؤيد ما سبق أن ذهب الية من بحث قبلى أو يخالفة, او كان يعبر عن فكرة جديدة في مجال تطبيق الزكاة, لعلى بذلك أقيم الدليل على أن من شأن هذا الفكر أن يلقى بمزيد من الضوء الفنى المريح على الحكام الشرعية ليساعد أهل الاجتهاد على حسن تذوقها فقها وتطبيقا. ولئن جاء البحث موجزا ومركزا, فانما هى الطرقة الأولى على الباب حتى أذا ما أفلحت الدلرقة وانفتح الباب تكتشف رؤية المنطلق الفسيح, ولى مسافات أبعد.
مدخل البحث:
أدخل في الموضوع فاقول ان عنوان هذا البحث يتضمن ألفاظا ليس غائبا معناها عند أولى المعرفة والادراك. ومع ذلك, يود الباحث أن يشير الى الفكر على أنه من جانب البشر, والى التطبيق على أنه من مسئوليتهم. ولكون ذلك كذلك, فان تساؤلا في هذا المقام قد يثور عند البعض ليعبر عن نفوره من: أنى لأحكام ثابتة وضعها رب العباد للعباد, وشرح قواعدها رسوله الكريم علية أفضل الصلاة والسلام, ثم عمل بها واجتهد فيها من جاء بعده من خلفائه الراشدين القدوة الهداة, ثم طرق مذاهب تفسيرها وأصل لها ورثة النبى وأئمة الاسلام……
أنى لها أن تتعرض بعد أربعة عشر قرنا من الزمان لفكر يتبدل ويخطئ؟…. أسارع فاقول ان هذا لن يكون الا اذا كان دور الفكر هنا لايتعدى اجتهاد أهل الخبرة بالأمور الفنية كتلك التى تتعلق بالتنظيم الأمثل لمسائل الزكاة في قطاعات الحياة بشكلها الذى تعقد اليوم وتطور, أو باستنباط الأحكام الدنينة بالنسبة لما شاء الله أن يظهره اليوم لعباده من ألوان وأشكال مستحدثة في صور المال وظروف كسبة لم يعرض لها أئمة السلف الصالح في مذاهبهم, ويلزم اليوم اجتهاد أهل الخبرة من ذوى الفكر لاستخراج الأحكام الموفقة من بين الكنوز الكامنة في الشريعة كيما يقرها علماء الاسلام المعاصرون لتطبق على تلك الألوان والأشكال الحديثة.
ويلاحظ أنه يندرج تحت التنظيم الأمثل ما يقتضية الأمر اليوم من نظر أهل الخبرة من ذوى الفكر المتخصص الى ما ذهب اليه – على اختلاف ظاهرى فيما بينهم – أئمة السلف الصالح الذين قعدوا لمذاهبهم كي يصطفوا لأهل الاجتهاد من بين جزئيات هذه المذاهب نفسها ما يصح أن تتكون منه مجموعة القواعد المتناسقة والمتكاملة لأحكام الزكاة دون أن يكون في الأمر بدعة استحداث أحكام شرعية جديدة, بل هو تنظيم عملى , أو عملية تنظيم تحتاج الى تذوق فنى من الفكر البشري للشرع الالهى. ولا شك أن الجزئية التى تصطفى بعد ذلك لتوضع في مكان يستوى بها بيان الزكاة كله لهى اللبنة الصحيحة في مكانها الصحيح.
واذا كانت زكاة الاسلام ركن عبادة يتمثل في نظام مالى متكامل ومتوازن, ودور المحاسبة في هذا النظام هو أنها أداة القياس فيه, فمن الواجب أن يقدم أهل الخبرة من ذوى الفكر والنظر في علوم التنظيم المالى والمحاسبي أفكارهم من خبراتهم الفنية عند تطبيق الزكاة.
وأود أن أخلص كل مؤمن مما قد يعتربة من الشك أو القلق أو الخوف أن تصور أعمال هذا الفكرهو لون من ألوان الحكم بغير ما أنزل الله …ذلك أن أطلاق الفكر هنا – غير مقيد الابسلطان الدين – أنما يكون بهدف الاحكام في تطبق الاحكام خاصة متى تعلقت الأخيرة في تفصيلاتها وفرعياتها بصناعات الحياة ونظمها الفنية مما قد لا تتطرق اليها عادة أحكام الدين من جوهر العقائد وقواعد المعاملات.
واذا كان اعمال الفكر والنظر يفتح باب العلم, فان الخبرة هى العلم بالتحربة, أو هى المعروفة بالمشاهده. وأصحاب الخبرة هم المجتهدون الذين بدأوا طريقهم بالفكر وانتهو فيه الى المعرفة. ولئن كان الشرع الحكيم قد حدد لنا الشروط التى تلزم مراعاتها للأجتهاد وفيمن يتصدى له, فليس مؤدى ذلك – والحمد لله – فقل بابه ونحن أحوج ما نكون الية حيث لا تزال – في الميدان التطبيقى – أمور تفصيلية فنية لم يكشف عنها بعد, أو مختلف في الحكم عليها لم يستقر بشأنها رأى لأهل لاجتهاد من فقهاء المسلمين.
الزكاة والضريبة:
وقبل أن أتطرق الى الأمثلة التطبيقية التى رأى للفكر المالى والمحاسبى دورا فيها, أستحسن – في هذا المقام – ان أبدا فأقرر أنه اذا كانت الضريبة أقرب موضوع الى الزكاة من حيث توافر الوصف المالى والمحاسبى في كل منهما, فان الزكاة ليست ضريبة على الاطلاق. ولئن كان ثمة أوجه تشابة في الصورة بين الاثنتين, فلا يعد ذلك قرينة على تماثل أو تشابة الجوهر في كل. ولست في مجال استعراض عام لأوجة التشابة والتباين, فهذا من الأمور التى تسبق هذا البحث, وانما يكفى – في نظرى – للتدليل على أختلاف الجوهر بينهما أن الزكاة ركن عبادة خاصة بالمسلمين تتمثل في صورة تصرف مالى وتتسم بالدوام والصواب لا تتبدل أحكام الله فيها بتبدل الظروف الزمانية والمكانية وبالتالى لا تستخدم لأهداف توجيهية موقوته وانما تتحقق بها أهداف ثابتة مخصصة روحية ومادية, في حين أن الضريبة نظام مالى تصيب فيه الدولة وتخطئ فهو من فكر البشر تتبدل أحكامة بتبدل الظروف الزمانية والمكانية وتتحقق به في الأساس أهداف مادية بحته ومختلفة حتى وان راعت الضربية بعض المعانى في مبادئها تدعيما لتحقيق تلك الأهداف, وان الحكم في كل ما يتصل بالضريبة الى تقديرهم لمصالحهم, ويأتى هذا التقدير عن فكرهم المتطور بحيث أن ما يرونه اليوم عدلا قد يحكمون غدا أنه الجور. مما تقدم يتضح التباين بين الضريبة والزكاة: الزكاة أحكام عقيدة للاتباع سواء عرفت حكم الله فيها أو لم تعرف وتلك هى الطاعة من بعد الايمان, ذلك أمر يختلف عما في علم الضريبة.
ولقد يبدو أنه مادام الأمر كذلك, فان الفكر المالى والمحاسبى في الزكاة يختلف من حيث الجوهر عنه في الضريبة, ولا محل للألتزام بالمبادئ المالية والمحاسبية للضربية في ميدان الزكاة …. ذلك ان الفكر في الزكاة انما يتأثر بالأحكام الجوهرية الثابتة للعقيدة والمعاملات فيصطبغ بها دون أن يتعدى دوره ازاءها مجرد التامل والدراسة والفهم والاستنباط كما أمرنا الخالق الكريم, أن يضيف في هذا المجال أصلا ولا جوهرا بخلاف الفكر الضريبى. ومع ذلك, فليس في اختلاف الجوهر بين الزكاة والضريبة ما يمنع من توحيد الفكر أو تقاربه من حيث تنظيم الأساليب وتخطيط المسالك الموصلة الى ميدان كل منهما.
شرح لدور الفكر المالى والمحاسبى في مجال البحث:
وبناء على ما تقدم, وفيما لا يخالف جوهر الزكاة صبغة وقيودا, يجوز للفكر البشري – بل عليه – أن ينطلق في بحث كافة المسالك الفرعية – والأساليب الفنية – ومن بينها تلك ذات الصبغة المالية والمحاسبية المتخصصة – للمساعدة على معرفة حقيقة وجوهر هذه الزكاة, مستعينا في بحثه بتذوقاته الفنية وخبراته. واذا كان قد سبق وتوصل هذا الفكر بهذه الخبرات و التذوقات في ميدان كالضريبة الى مفاهيم معينه, فان وجود بعض التشابة الفنى بين الزكاة والضريبة في تلك المسالك والأساليب يدعو الى البحث في امكانية الاستفادة من بعض تلك الأفكار في الضريبة كما هى أو معدلة وفق الأصول الاسلامية ان هى – أى تلك الأصول – غايرت الأفكار الوضعية وذلك لانارة الطريق الى حسن الفهم وحسن التطبيق لنظام الزكاة…. ذلك هو دور الفكر المالى والمحاسبى في ميدان الزكاة وهو الفكر المتخصص في مجالات علوم المالية العامة والقانون والمحاسبة باعتبارها علوما تنظيمية ذات طابع فنى تخدم الجانب التطبيقى للتشريع الالهى في هذه الفريضة.
نخلص من كل ما تقدم الى أن للفكر المالى والمحاسبى اليوم دورا يؤدية وبشكل ملح بالنسبة لموضوع الزكاة في أمور يقف على قمتها:
1- التنظيم العلمى الأمثل للزكاة عند تطبيقها استنادا الى الأفكار المالية والمحاسبية. واذا كان المولى – عز وجل – هو الذى يشرع لنا أحكامنا فانما نحن مسئولون عن تنظيم التطبيق الحسن بعد فهمنا للتشريع الفهم الحسن, وهو الفهم الذى يدوعونا لاصطفاء – من بين الأحكام التى ذهب اليها الأئمة على اختلاف ظاهرى فيما بينهم – ما يصلح به بنيان الزكاة ويكتمل التناسق في قونونها المالى ان جازت التسمية بلغة العصر. وقد يتم اصطفاء اليوم بصورة قد يرى معها مجتهدو الغد اصطفاء مغايرا وفق مصالحهم, ولا باس من ذلك, فمرونة الأحكام الشرعية والاختلاف الظاهرى بين الأئمة انما هو دليل على عمومية الأحكام الأصلية للدين الرحيم. فجميعهم قد هدى الى الصراط المستقيم, وما نهلوا الا من نفس المنهل الواحد.
2- القاء الضوء عند تحليل الألوان المستحدثة في صور المال لاستنباط حكم الشريعة في مدى خضوعها للزكاة من عدمه وكيفية ذلك, اذ أن تخالط العلوم الاجتماعية ونظمها في حياة اليوم قد يلقى ظلالا على تلك الصور تؤثر في وضوحها والحكم عليها.
ثم انتقل الان – وعلى سبيل الايضاح – لاستعراض وتحليل بعض المجالات أو الميادين التى للفكر المالى والمحاسبي دور فيها عند تطبيق الزكاة.
أولا – ميدان التنظيم عند الفكر المالى والمحاسبى:
التنظيم – بتعبير بسيط – هو وضع أجزاء الشئ الواحد وخطوطه في شكل مرتب ومتناسق داخل اطارها بحيث تتجه مع بعضها نحو تحقيق الهدف الواحد المقصود. وكلما كان الجزء أو الخط أقرب الى الاستقامة وغير متضارب مع غيره كان أوضح في الرؤية وبالتالى أحرى بلاتباع بلا انحراف. ولكن الخط المستقيم هو اقصر الخطوط فهو أقل في التكلفة المالية والتضحية الجسمية والعبء النفسي. وتلك بعض مقومات نجاح التنظيم تجدر مراعاتها مع كل خط يحتل مكانه داخل النظام. ولا يزعجن أحدا أن يتسع حجم الشئ موضوع النظام أو تتنوع محتوياته وتتعدد, فان التنظيم الادارى الأمثل هو الكفيل بمعالجة مثل هذه الظواهر بأساليبة العلمية, وهذا ميدان ليس محل هذا البحث. ولسوف ينتهى التنظيم الادارى الى ضرورة تنظيم التقاضى فيما ينشأ من أنزعة بين طرفى العلاقة المالية, وهذا أيضا ميدان بعيد عن البحث المعروض.
وموضوع التنظيم المالى والمحاسبى في ميدان الزكاة له ثقلة تماما عند التطبيق لتحقيق الحكمة من فرض هذه الشعيرة, وهذا مالا ينكره مفكر. وان التطبيق ليكون حسنا اذا سبقه الفهم الحسن, وان انكشاف الحكمة أمام الباحث يعين كثيرا على التطبيق الذى يحقق هذه الحكمة.
فلابد من الاستكشاف قبل التنظيم والاستقراء المدروس قبل التطبيق.
في التنظيم المالى:
أن الذى يبحث بفكره الحر يتهدى الى ان المسلم يلتمس بآيتاء الزكاة تطهيرا لنفسه وماله, كما يلتمس انماء لهذا المال ذاته. وهذان أمران يطيبان نفسه حين يلزمها بالزكاة طاعة لله وقربى. على أنه من جانب آخر سوف يرى الباحث في الزكاة نظاما ماليا تلتزم به الدولة الاسلامية ويكون من مسئولياتها السياسية, تقنن له التنظيم الملزم بأحكامه الكلية والجزئية, وتنشئ له أجهزة التطبيق تنفيذا ورقابة على الجباية والانفاق, وتقيم سلطة القضاء للفصل في المنازعات التى تنشأ حوله…. مراعية في كل ذلك ما جاء به الاسلام الحنيف من التمسك بقواعده العدالة عند التمويل. واذا كان التمويل يلزمة التحديد اليقينى للالتزام, وتيسير الوفاء به على المكلف, وبأقل كلفة على الخزانة العامة – وتلك هى بعض الخطوط المستقيمة التى تكون أهم مقومات النظام الناجح – فان العدالة في الفكر المالى, وهي الشغل الشاغل لهذا الفكر, تقوم على حقائق الأشياء تحديدا أو قديرا وليست على الشكل ولا على الظن, كما تقوم على عمومية الأشخاص المكلفين وعمومية الأموال الخاضعة دون استثناء(1) تأييدا للفقة القائل بتعميم الاخضاع للزكاة على الوجه الوارد في مواطن كثيرة بالقرآن الكريم. وان ذلك يؤدى بنا الى النظر في بعض تلك الحالات نذكر منها علي سبيل المثال زكاة الزروع والثمار, لنجد اختلافا بين الأئمة (2) في تعيين ما يخضع منها للزكاة هل هى أشياء معينة بذاتها مما يقتاته المسلمون أم هى كل ما يصلح قوتا لهم أم هى كل ما يزرع ويستنبت من الأرض؟… ان البديل الاخير هو الذى يحقق معنى العمومية, فترى الفكر المالى يتجه نحو هذا البديل من بين البدائل المعروضة.
واذا كان الفكر المالى في الضريبة يمتدج نظام تجميع ايرادات الممول فى وعاء واحد(3) لما في ذلك من مزايا العدالة ووضوح صورة النتيجة المالية صافية حين تمتص خسارة نوعية أخرى…. فان الامر يختلف في الزكاة حيث يخضع كل نوع من الأموال مستقلا بنظامه لأن الوعاء فيها ايجابي باستمرار نظرا لأن الخاضع في حالة المال المنقول المملوك للمكلف هو صافى تمازج الأصل والنتاج, ولا يتصور أن نتاجا سالبا يلتهم أصله كله أو مصدره بالكامل, وحتى حينذاك فسوف يحدث الالتهام آثاره في نوعية أخرى هى الأقراب الى أموال المكلف كما هو الحال بين العروض التجارية والأموال النقدية, أى أن الامتصاص واقع في مجمل الأمر على كل أمواله لا محالة . وهكذا تبدو الصورة صافية وحقيقية لمركزه المالى معبرة عن وعاء عادل للزكاة دون الحاجه الى ضرورة توحيد الأوعية المتباينة في مكوناتها وطبيعتها.
ويستمر الفكر المالى يبحث في ما قدمه لنا أئمة السلف الصالح ليستخرج منه الموقف الأنسب. فعلى سبيل المثال تراه يناقش قضية مدى اعتبار البلوغ والعقل والاسلام شرؤطا للخضوع. ولسوف يصل الى أن الزكاة تمثل خطَا في طرفة الأول شعيرة تعبدية لا يخضع لها أصلا الا المسلم, وفى طرقها الآخر نظام مالى للدولة ليس فيه اعتبار أى من البلوغ أو العقل شرطا واجب التوافر للخضوع: ذلك أن النظر لا يكون الى الشخص, وانما الى المال وهو المتعلق يه حقوق العباد. كما أن تطهير وانماء المال المكلف – وهما حكم الزكاة – أمران لا يتوقفان على البلوغ والعقل, فان رشيدا يمكن أن يوكل اليه أمر رعاية هذا المال والاتجار فيه.
كذلك يبحث هذا الفكر في مدى أحقية أوالتزام الدولة أن تجبى الزكاة من المسلمين الأجانب المقيمين بها. ولسوف ينتهى الفكر المالى الى أن أمة المسلمين أمة واحدة, وأن عليهم أداء الزكاة الى بيت المال, وعلى والى أمور المسلمين أن يتقبلها وينفقها في مصارفها. وان تقطع أمة الاسلام اليوم سياسيا الى ما يسمى بالدول ليس فية من حيث الفقة الدينى ولا من حيث المبادئ الوضعية ما يرفع عن كاهل الدولة مسئوليتها عن جباية الزكاة من كل مسلم لا يتبع جنسيتها ما دام يدين لها بالولاء الاجتماعى.
ويبحث الفكر المالى أيضا في مدى خضوع الشخص الاعتبارى للزكاة على أساس أن العباد هم أفراد طبيعيون يسألون عن أداء زكاتهم. ولسوف يتبين لهذا الفكر القائم على دعامتى المالية العامة والقانون أن الشخصية الاعتبارية – وهى من خلق القانون الوضعى – يمكن أن تقاس على نظام الخلطة المعروف في زكاة الحيوان مما يستنبط معه تقرير اخضاع أموال الشركات المساهمة للزكاة متى كانت تلك الأموال ملكا لمسليمن, ثم تقسيم قدر هذه الزكاة فيما بينهم كل بقدر نصيبه في الوعاء المتجمع(4).
كذلك يبدو أمام الفكر المالى – وبوضوح – كيف أن الهدف التوجيهى الدائم للزكاة (التطهير والانماء) لا يتفق مع بعض المفاهيم القائمة في علم الضريبة كتلك التى ترى الا تفرض ضرائب على رأس المال الا استثناء(5)…… بمعنى أنه لو تحققت لمكلف خسارة في ماله المنقول التهمت أو امتصت بعضا من هذا المال, فلا حرج على الزكاة أن هى اقتطعت بعد ذلك بعضا مما تبقى له من الأصل في نهاية الحول حتى لا يحرم هذا المال المتبقى من نعمة التطهير وبركة الانماء, وذلك يقتضى أن يكون هذا المال حلالا في أصله وفى كسبه فالله طيب لا يقبل الا طيبا, وهذه صبغة الزكاة تختلف عن صبغة الضريبة التى تتجه عكس ذلك حين لا تقر ابعاد المال غير المشروع عن شبكة الضريبة كى لا تكافىء – بالاعفاء – ثمرة عمل غير مشروع.
والفكر المالى يهتم بوسائل الجباية وطرق تنظيمها. وهذا الفكر يحدد الأساليب الفنية للاقرار بالمال الخاضع, وطرق التحصيل سواء مباشرة أو بطريق الحجز عند المنبع, ونوعية السداد ان كان نقدا أو عينا, والتقديم والتاخير في أدائها وما يرتب على ذلك. ولا بد من الانتفاع بذلك الفكر المتحصل عند خبراء هذا القطاع الفنى, حتى يصل حق أصحاب الزكاة في وقته لبيت المال وليتم انفاقه على مستحقية بتوقيت مناسب ونظام ملائم. وتمكن الاستفادة بما في الفكر الضريبى من اجراءات كتتبع الذمة المالية(6) للمكلفين منعا للتهرب من الربط, واجراء الحجز التحفظى والحجز التنفيذى منعا للتهرب من الجباية, مع انكار التقادم لأن حق الله لا يسقط أبدا. على أن تعبئة الشعور الروحى عند المسلمين حتى تتيقن قلوبهم من أن الزكاة مغنم يعجلون به لا مغرم يتأخرون عنه أو يفرون منه لهو أرقى أسلوب عملى فعال بأقل تضحية لمكافحة الفرار من الزكاة عند ذوى النفوس المريضة حتى تصح هذه النفوس.
كذلك يجدر بنا أن نشير الى أن انفاق الصدقات قد قيدته وحددت أبوابه الشريعة السمحاء في القرآن الكريم, ويبقى لولى الأمر التنظيم المالى في الصدد, ولقد تثور تساؤلات حول هذا الانفاق… هل جاءت الآية الستون في سورة التوبة مقررة ترتيبا مسبقا لباب قبل باب, أو أولوية لبند على بند, وهل يسد باب بأكمله قبل أن ينتقل الانفاق الى باب آخر, أم أن حصيلة الزكاة هي قسمة بالسوية على المتاح والممكن من الأبواب الثمانية التى وردت في هذه الآية الكريمة؟ ان الفكر المالى في هذا الجانب يتسم بالمرونة وتقدير مصلحة الأمة, وعلى الوالى أن يضع الأولويات والمقادير ويحدد المتاح والممكن من أبواب الانفاقات التى عينتها الشريعة, وذلك بناء على معايير يراها تشبع حاجة المجتمع وأفراده من أصحاب الحقوق في الزكاة مستأنسا برأى ذوى الفكر والتخصص الفنى في هذه الأمور المالية خاصة وقد تبد لت أحوال البلاد الاسلامية من حيث تكاثر عدد المسلمين وتباين الظروف المعيشية بالنسبة لهم في ظل التطورات الاجتماعية والاقتصادية المتناقضة في عالم اليوم. والأمل معقودة دائما على ذوى الفكر المالى فهم الخبراء الذين يبحثون – في ظل واقع كل عصر – قبل أن يعرضوا البدائل ويوصوا بالاختبار من بينها, تأسيسا على دراساتهم الفنية لتتضح صورة المصالح الاجتماعية والاقتصادية التى تتحقق عند البديل المختار. كذلك يحتاج الأمر الى مرونة في تقدير أصحاب الحقوق في الصدقات, ولنا في الفاروق عمر رضى الله عنه القدوة حين قضى بالا مصلحة للأمة وقتتئذ في أن يوزع الصدقات على المؤلفة قلوبهم.
في التنظيم المحاسبي:
تلك بعض الأمثلة للتدليل على أن للفكر المالى دورا في التنظيم التطبيقى للزكاة. أما الفكر المحاسبي, فانه يهتم بكل ما يدور داخل نطاق التحديد العلمى لقيم الأموال الخاضعة بعد تعيينها وضبطها تفصيلا وتنوبعا, وبالحساب الصحيح لمقادير فيها عينا ونقدا طبقا لمعدلات الشرع الحكيم.
ان الأموال لا تخضع للزكاة الا اذا تحققت فيها ملكية أصحابها لها الملكية التامة, وكانت قابلة للنماء, وبلغت – بعد الفراغ من الحاجة الأصلية – نصابا معينا. ويدخل في نطاق الأموال الحقوق المالية على الغير كالديون المرجوة على الأملياء (الديون الجيدة) , فهى – عند جمهور الفقهاء(7), وفى الفكر المحاسبي, أوعية زكاة على الدائنين أن يؤدوها متى تحققت ملكيتهم لها قدرة ويقينا, والا استبعد منها قدر الجزء المظنون (المشكوك في تحصيله) لحين تما م تحصيلة, فوقتها يزكى عنه وفق آراء الفقهاء وهى مختلفة فيما بينهم. واذا كانت الديون وعاء زكاة الدائن, فهى عند المدين تعد مما يخصم عند حساب وعاء زكاته وذلك من باب المقابلة المحاسبية منعا للتثنية على المال, وتحديدا لصافى الطاقة الحقيقة عند كليهما, ويستثنى من اجراء الخصم وعاء زكاة الزروع والثمار لكون الوعاء فيها هو النماء, والدين رأس المال مقترض, وليس من الذوق المحاسبي أن يخصم رأس مال من نمائه, أو أصل من فرعه, أو مصدر من نتاجه لعدم التجانس أو تماثل المستوى في كل منهما.
هذا وتحسن التفرقة بين دين التجارة الناشئ عن عملية شراء آجله, وبين دين نقدى لسد حاجة أو لغرض التمويل…. ذلك أن دين الشراء ينشأ عن تعامل في بضائع, أما الثانى فينشأ عن قرض نقدى سواء داخل المشروع التجارى أو لحاجة نشأت عند المكلف. ولا يتصور في الاسلام زيادة عند سداد دين نقدى حيث أن النقود المحلية ليست سلعة ينبغى الربح منها, بعكس البضاعة التى يترتب علي بيعها بالآجل تولد دين على المدين لدأئنة,فان الربح فيها ياتى من تقليب هذه البضاعة فهي محل تفاوت الأسعار من حين الى حين ومن مكان الى مكان, ردينها متعلق بها مما يجعل هناك مجالا للفكر المحاسبي في أن يبحث أمر تقويم دين المبيعات الآجلة في نهاية الحول أهو على أساس قيمتها في تاريخ السداد أم تاريخ التعاقد.
ويهتم الفكر المحاسبي في تحديد وعاء الزكاة بالتفرقة أساسا بين ما يسمى بالمال المنقول وما يسمى بالمال العقارى. ويلاحظ أن الشرع الحكيم اذ يرى في اختلاط أصول المال المنقول بفروعه (المصدر بالنتاج) وهما من نوعية متجانسة وطبيعية واحدة ما يدعوه الى جمعهما معا في وعاء واحد دون تفرقة بينهما, يرى العكس مع المال العقارى حين يلاحظ ان الذى يبقى بيعدا عن شبكة الزكاة ليؤدي مهمة الاثمار وتوليد الايراد. ولقد ترتب على ذلك تقرير التفاوت الكبير – من لدن المشرع – في المعدلات بين زكاة المنقول وزكاة العقار.
واذا كانت كلمة الايراد – وهي تقابل تعبير النماء- تحتل في الفكر المحاسبي عامة, وفى محاسبة الزكاة خاصة, ركنا أساسيا, فانه يحلو للمحاسبين أن يؤسسوا مفهومين أو مذهبين لكلمة الايراد(8), جاعلين على المسافة بينهما نقاط وصل عساها تجرى تقاربا أو ترقق من حدة الخلاف بينهما, وهو خلاف بين التحديد والاطلاق. ويفهم التحديد على أنه قيد يدخل على الاطلاق لهدف معين. فالأصل اذا هو الاطلاق, ثم يجئ التقييد ليحدث فعله. الاسلام هو الأصل, وهو الحقيقة, فلابد أن نتوقع للفظ الايراد أو النماء فى الاسلام أن يجئ وفق ما عرف – فيما بعد – بالفكر المحاسبي في مذهب الاطلاق (المذهب الفرنسي الحديث) دون ما قيد أو تحديد الا بامر أو نهى من الله ورسوله. ولسوف تكون لمذهب الاطلاق قيادة التوجية نحو حل المشاكل التى تنشأ عند التطبيق المحاسبى للزكاة…. وعلى قمة تلك المشاكل كيفية تحديد أجمالى الايراد في عروض التجارة باعتبار أنه يضم القيمة التقديرية للمخزون من السلع التى لم يتم بيعها حتى أنتهاء الحول بجانب القيمة الواقعية للمبيعات, ثم كيفية تحديد صافى الايراد باعتبار أن الصافى يعبر عن الحقيقة ولا يجئ صافيا الا بعد خصم كافة المؤن من تكاليف وأعباء الأمر الذى يتطلب معه تحليل هذه المؤن بعد معرفة مصادرها والتحقق من صحتها ودقتها… ذلك بالنسبة للنشاط التجارى والصناعى. أما بالنسبة للنشاط الزراعى, فان الأمر يتعلق بتقدير كل من صافى الاستغلال عند المنتج, وصافى الربح عند ماللك الأرض.
وتفصيلا لما تقدم, وبالنسبة أولا لمشكلة التقديرية للمخزون المتبقى آخر الحول, فالمحاسبة المالية تتميز باتباعها سياسة الحيطة لآمور المستقبل وترى تقويم هذا المخزون بالأقل بين سعر تكلفة الحصول عليه وسعر السوق الحاضر وهو معد للبيع الفورى. ومن المحاسبين من يرى تقويمة بسعر التكلفة ما دام أنه يعبر عن شراء لم يتم بيعه, وتلك أمور متعارف عليها بين المحاسبين الماليين. أما في محاسبة الزكاة فهناك الرأى المنادى من جمهور الفقهاء بتقويم ما تبقى من هذا المخزون السلعى دون بيع بسعر الجملة في السوق الحاضرة يوم استحقاق الزكاة(نهاية لحول (9)), لأن أية زيادة في قيمته حينئذ عن تكلفته انما تعبر عن نماء تقديري تولد وان لم يتحقق بعد بالبيع, والنماء محل الزكاة لا يشترط فيه تحقيق البيع, وفى هذا يستوي التقديري مع المتحقق في ظل مذهب الاطلاق شريعة وفكرا. أماقضية توزيع الأرباح وارتباطها بالربح المتحقق فعلا, فهى من قضايا المحاسبين الماليين وليست تخص محاسبي الزكاة.
وبالنسبة لصافى الايراد أو النماء, فان كل المؤن الممثلة للعناصر التى تفاغلت لتوليد الايراد مضافا اليها خسائر الأحداث المتحققة متى تعلقت هذه وتلك بالمال الخاضع للزكاة, فانه يخصم من الوعاء الاجمالى القدر المنسوب منها الى الحول الخاضع وبالقيمة الحاضرة وقت حصول المؤنة أثناء الحول احتراما لمبدأ استقلال السنوات المحاسبية بدون النظر الى احتمالات المستقبل الغيبية بقصد تأمين هذا المستقبل, فالتامين سياسة مالية بحته تخص المستقبل لا لحاضر, وأسلوب لمحاصرة الغيب أو مقابلته, والمؤمن غير مأمور به حتى يعتبره تكليفا ينقض من تقدير نماء حاضره ما لم ينكشف هذا الغيب أمامه ويؤمر بالتخطيط له. وبناء على ذلك, وبلغة المحاسبين, لا يقدر المكلف لهذا التحوط مبلغا يخصمه عند حساب الوعاء الصافى لزكاة ماله.
ولما كا ن صافى النماء هو حقيقتة, فلا يدخل في المؤمن ما يفترض منها نظريا غير واقعى…… ذلك أن الافتراض قيد على الحقيقة يشوه وجودها, فلا تستبعد أتعاب افتراضية لصاحب المشروع ولا تكلفة للوقت الضائع عند حساب وعاء الزكاة. كذلك تثور العديد من التساؤلات في موضوع قياس الايراد حول معالجة مسائل فرعية كالاستهلاكات, والمخصصات, والنفقات والمكاسب الايرادية وهل تحسب وفق الأساس النقدى أو أساس الاستحقاق.
وقبل أن نلقى نظرة على تلك التساؤلات, نود بداية أن نشير الى أن أهل الفكر المحاسبي يتخذون مصطلحات فنية للدلالة عندهم على مفاهيم معينة, فيقولون هذا موجود أو أصل ثابت, وذاك متداول أو عامل, وبالمثل عند المطلوب أو الخصم. ثم يقررون أن الأصول المتداولة تكون – هى أو صافيها بعد استبعاد الخصوم المتداولة – ما يسمى برأس المال العامل أو صافية. ومثل هذه المعادلات المحاسبية تصلح بلغة زماننا هذا للتعبير الفنى عن أحكام فقهية, كما اذا قلنا ان وعاء زكاة التجارة – وهو كل ما يعد للبيع كما أمر الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام(10) – أى كل ما يدخل من العناصر في سلسلة العمليات التجارية من لحظة الشراء والانفاق الى نهاية تحصيل قيمة المباع, يعادل صافى رأس المال العامل الذى يتميز كل عنصر فيه عن المال الثابت في مقدار الأجل … فما كان أجله من تلك العناصر حولا واحدا أو أقل فهو يدخل – فى معادلة وعاء الزكاة – تحت مكونات رأس المال العامل أو صافيه, وما تجمد في حسابه لأجل يطول عن حول كامل فهو مال ثابت لا يدخل في سلسلة الاعداد للبيع التجارى, انما يعتبر اما بالطبيعة عاملا على الانتاج, أو بالفعل عاطلا عن التداول, لذا فهو يتسم بالثبات النسبى, ولا يدخل في الوعاء الخاضع للزكاة وهكذا تعامل الأرباح التى تولدت خلال الحول ان هى رحلت الى أصلها, أعنى حساب رأس المال, فهى خصم ثابت, أو ان هى جمدت كلها أو بعضها دون توزيع على أصحاب المال في حساب كالاحتياطي, صارت في جميع الأحوال الى خصم ثابت وليس الى خصم متداول, وبالتالى فلا تدخل مثل هذه الأرباح فى معادلة صافى رأس المال العامل, وهى المعادلة التى نجد عناصرها على قائمة الموازنة الممثلة للمركز المالى لتلك الأشخاص.
واذا أمكن لجميع عناصر المركز المالى المتوازنة الجانبين أن تندرج محاسبيا اما تحت العناصر المتداولة أو تحت العناصر الثابتة, فان نتبجة ذلك رياضيا هى أن الوعاء يمكن أيضا أن يستخرج عن طريق معادلته بصافى الخصم الثايتة أى بعد أن تستبعد منها الأصوال الثابته: فلو رمزنا الى الأصول المتداولة برمز (ا ث) شاملة عوامل الانتاج وتكاليف المشروعات طويلة الأجل من غير عروض التجارة المعدة للبيع, والى الأصوال المتداولة برمز (ا م ) ممثلة لعناصر سلسلة حركة التجارة من نقطة الشراء والانفاق الى تمام تحصيل قيمة المباع, والى الخصوم الثابته برمز ( خ ث ) شاملة لحقوق أصحاب المشروع المستمر من رأس مال مستثمر وأرباح واحتيتاطيات وما الى ذلك بالاضافة الى القروض طويلة الأجل, واذا رمزنا الى الخصوم المتداولة برمز (خ م ) شاملة الديون قصيرة الأجل والمستحقات من المصروفات أو المقدمات من الايرادات, ثم صورنا بعد ذلك شكلا مبسطا لقائمة مركز مالى عند مكلف في آخر الحول, لبدت الصورة كالآتى:
Xxx أ ث xxx خ ث
Xxx أ م xxxخ م
_____ ______
Xxx xxx
_____ _____
وبتصور أن أى عنصر في القائمة المالية المتوازنة محاسبيا سيندرج تحت واحد من هذه الرموز, فان المعادلة الرياضية لوعاء زكاة التجارة تكون
أ م – خ م أو خ ث – أ ث
ولقد جرى التطبيق العملى بمصلحة الزكاة بالمملكة العربية السعودية – حيث تطبق الدولة نظام الزكاة – على أساس صافى الخصوم الثابته عند تحديد وعاء الزكاة التجارة. وأرجو ملاحظة – في التمييز بين المتداول والثابت – أن الدين على المكلف عن عملية تجارية هو دين قصير الأجل يستحدم في اقتناء أصل متداول مثل شراء البضاعة بالآجل فهو اذا من الخصوم المتداولة, في حين أن الدين النقدى للتمويل هو دين طويل الأجل يستخدم في اقتناء الاصوال الثابته, فهو حينئذ يعد من الخصوم الثابتة.
هذا ويلاحظ أن الأمر في المعادلتين يحتاج الى تحليل الأرباح وما يقابلها في الأصول المتداولة من نقدية وخلافة بحيث اذا تبين أنها تتضمن بعضا من الفائدة الناتجة عن بيع الأصول الثابته وجب استنزال هذا المستفاد من جانبى المركز المالى ليستقبل حولا جديدا, لأنه – أن عد نماء – فلا ينسب الى رأس المال العامل وعاء الزكاة, وانما الى رأس المال الثابت المتمثل في الأصول الثابته, وبالتالى لا يؤثر على وعاء زكاة التجارة في أى من المعادلتين السابق الاشارة اليهما.
ومن المقرر في هذا المجال ما لا حظناه من أن حساب رقم الاستهلاك الصناعى للأصول الثابته بقيمتها الحاضر لا يثير – في مجال محاسبة زكاة التجارة – أى أشكال, لأن رقما ما لهذا الاستهلاك سوف ينتهى الأمر به أما الى أنقاض قيمة هذه الأصول مقابل انقاض بنفس القدر في الخصوم الثابته سواء ضمن رقم رأس المال اذا اندمج فيه الربح(الموجب أو السالب ) أو أستقل الربح بنفسه كحضم ثابت, واما الى انقاص في الأرباح وزيادة في مخصص الاستهلاك بنفس القدر وهما بندان معا من بين بنود الخصوم الثابته, وبذلك لا تتأثر أى من المعادليتن بقدر قيمة هذا الاستهلاك ضئيلا كان أو مبالغا فيه.
ولو عدنا الان للنظر في التساولات السابق الاشارة اليها ضمن الحديث عن صافى الايراد, لتبين لنا ان المخصصات – بالمفهوم المحاسبي المميز لها عن الاحتياطيات – هى مؤنة محاسبية وقعت تاكيدا أو ترجيحا وان لم يتم حتى نهاية الحول الكشف عن مبلغها تحديدا فيكون رقمها عن طريق التقدير المبنى على التوقعات والظن الشخصى. وهذا لا يغير من طبيعة كونها من المؤن واجبة الخصم ما دامت متعلقة بالمال الخاضع وأن الحدث وقع في داخل الحول. على أن المخصص للزكاة ليس مؤنة على وعائها لأنها شعيرة تعبدية تتعلق بذمة المسلم شخصيا حتى ولو ضاع المال الى حين, فضلا عن أنه ليس بنفقة داخل الحول وانما هو من الآثار الناشئة بعد اتنهاء الحول يسارع المؤمن الى تقديمة مغنما لا مؤنة ولا مغرما.
أما عن النفقات والمكاسب الايرادية, فان أساس الاستحقاق هو الصحيح في الاتباع عند تحديد وعاء الزكاة, وذلك لأن الفرق بين الأساس النقدى وأساس الاستحقاق انما يمثل حقا قصير الأجل هو للمكلف ان تعلق الأمر بمصروف مقدم أو ايراد مستحق , فيكون أصلا متداولا له. وهو عليه أن تعلق الأمر بمصروف مستحق أو ايراد مقدم, فيكون خصما متداولا عليه. ولا شك أن المتداول من الأصول أو الخصوم يدخل في معادلة صافى راس المال العامل الخاصة بوعاء زكاة التجارة ويؤثر على حجمها وقدرها.
ثم هناك مشكلة المشاكل في عصرنا الحاضر وهى تقلبات الاسعار العملة, وهذا موضوع اقتصادى في الدرجة الأولى يهتم به المحاسبون لأنهم يتعاملون في أرقام وحدات هذه العملة. وقد يعتمد المحاسبون التقليديون الى الهروب من هذه المشكلة دفعا لها, في حين يثير الآخرون أفكارا حول هذه القضية دون أن يصلو الى قرار مكين يقيمون عليه ترجمة صادقة لأحداثهم الاقتصادية ونتائجها في سجلاتهم…. ولكن يبقى دائما أن عليهم دورا في هذا المضار, فليتعمق الفكر المحاسبي للوصول الى جذور هذه المشكلة ويرسم لنا فيها علاجا. ان انقود في داخل الدولة اذا ما اعتبرت مقياسا وتعبيرا للقيم عند التبادل, فان انخفاض قيتمها أو ارتفاعها بين الماضى والحاضر يحدث ولا شك نوعا من التضليل في تصوير حقيقة الحسابات والقوائم المالية للمشروعات(11)
ان تجاهل الفكر المحاسبي ذلك الانخفاض أو هذا الارتفاع وما بحدثه في الحاضر من زيادة أو نقص في أثمان عناصر قائمة الموزانة بالنسبة الى الماضى. على ان الأمر يتطلب – عند المحاسبة على وعاء الزكاة – التمييز بين الزيادة والنقص في قيم الأصوال المتداولة, وبين الزيادة والنقص في قيم الأصوال الثايته نتيجة لاعادة التقويم اذا ما تقلبت سعر العملة المحلية. ذلك أن التعديل في الأصول عامة بسبب اعادة التقويم يقابلة تعديل مماثل في الخصوم الثابته بالذات وهو نوع من النماء التقديرى (ايجابا أو سلبا) في حقوق صاحب المشروع. فاذا كان التعديل في الأصوال المتداولة بالذات, فلسوف يعدل الوعاء بقدر مماثل, وذلك حسب أى المعادلتيين في زكاة عروض التجارة.
واذا اكتفينا بهذا القدر الموجز كأمثلة محاسبية في قطاع زكاة عروض التجارة. فان قطاع زكاة الزراعة هو مجال آخر يلعب الفكر المحاسبي دورا فيه. فالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام يأمرنا بصدقة العقار بمقدار العشر فيما سقت العين أو السماء, وبنصف العشر فيما سقى بالساقية. وكاننا نستنبط في هذا المجال أن مؤنة السقاية تساوي نصف الوعاء الاجمالى. ويثور في هذا المقام تسأول يتعلق بالمقصود العميق للسقاية, وهل هى ذات البند بمسماه المتعارف عليه – أم هى جزئية من جزئيات المؤن يقصد بها أن تعبر عن كل المؤن حيث كانت السقاية – في عهد الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام – هى أهم وأوضح المؤن والتى يختلف مبلغها باختلاف الوسيلة فيها. واذا كان للفكر المحاسبي – أو عليه – أن يجتهد, فلربما توصل الى الأخذ بالمقصود الثانى الذى يتفق وحقيقة الأشياء, الأمر الذى يدعونا اليوم الى البحث في بقية المؤن التى ساهمت ايجابا أو أحدثت سلبا في توليد الايراد الاجمالى. وحينئذ لا يكون هذا الفكر قد حادعن الحكمة التى توخاها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ان هو – أى الفكر – أخذ بنظرية تقدير الايراد الاجمالى (النماء الكلى ) ثم حساب كل المؤن حتي لحظة بدو قوة الزرع واستطابة الثمرة – وهى على حد التعبير الحديث لحظة الواقعة المنشئة لحق الزكاة – مع استبعاد كل انفاق يتم بعد هذه اللحظة. وعندما نتوصل الى صافى الوعاء يلتزم المنتج بعشر صافى الاستغلال الزراعى. ولعل ذلك يكون توفيقا بين الآراء المختلفة للأئمة في هذا الأمر (12)… هل الزكاة على قيمة النماء الكلى للزرع أم الصافى, ومتى يكون العشر ومتى يؤخذ بنصف العشر…… وأغلب الظن أن التطور العلمى في التحليل المحاسبي سوف يسمح باتباع هذا المسلك اليوم في حساب وعاء الزكاة الزروع والثمار.
واذا كان المالوف عند المنتج الزراعى – ان كان مستاجر للأرض – أن يتفق على مقدارها ايجارها مع الماللك, ويحسب هذا المقدار من المؤن التى تخصم من وعاء الزكاة, فمن باب التهرب – وهو مبدأ مالى – يتجه الفكر المحاسبي الى تحديد وعاء زكاة المالك المؤجر بقدر الايجار المحسوب مع المستاجر وبنفس معدل العشر حتى يجئ قدر الزكاة على العقار واحدا لو كان المنتج والمالك شخصا واحدا, على أن يتم تقسيم الوعاء المشترك بينهما على الصورة الحقيقية وذلك متى تجاوز قدره نصابا واحدا دون تفريق بين مجتمع, قياسا منا على خلطة الماشية في شريعة الزكاة.
وفي كل الفكر المحاسبي في قطاعات التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو غيرها, ويعتمد التطبيق ما أمكن على أداة الدفاتر وعلى النظم الفنية المتبعه – فى عصرنا هذا – في تسجيل الأحداث اليومية ونتائجها. والمحاسبون في هذا الصدد يتكلمون عن أمانة الدفاتر وانتظامها, ويرتبون آثارا ملزمة في حالة توافر أو عدم توافر تلك الأمانة وهذا الانتظام. وأمانة الدفاتر أو عدمها ليست قرينة قاطعة على أمانة صاحبها أو عدمها, حيث أن المالوف هو ان الدفاتر تبقى في يد غير يد من يمتكلها خاصة في المشروعات الواسعة أو الشركات الاعتبارية أو حتى في المشروع الفردي ما دام المكلف ليس خبيرا بنظام الحسابات فيها ولا قائما بنفسه عليها. والآثار المترتبة على أمانة الدفاتر هى أن ما جاء بها واجب التصديق والاعتداء به أساسا, وعلى الدولة – وهى الطرف الآخر في اعلاقة المالية – العبء في أن تثبت عكس ذلك ان شاءت. وان العكس صحيح, فلو اتضحت عدم الأمانة لصار الدولة حق التقدير الاجتهادى وعلى المكلف عبء اثبات ما يخالف ذلك. ولا شك أن الدفاتر الأمنية المنتظمة هى خير أداة عند المحاسبين يعتمدون عليها لقياس الأموال الباطنة مثل عروض التجارة, والأموال الظاهرة كنتاج العقارات اذا بلغ الوعى الدفترى مبلغة وسمحت ظروف المكلف بامساك الدفاتر. وتثبت الأمانة والاتنظام في الدفاتر بمعايير يعرفها أهل المحاسبة عن علمهم وخبرتهم.
اذا ما انتقلنا بعد ذلك الى الحديث عن حساب القدر الواجب من الزكاة, رأينا الاسلام يدعو بداية الى التخفيف عن كاهل المكلف والرحمة به عند تقدير الوعاء(13)….. فما يعتبر- عند بعض الفقهاء – محل حاجة أصلية كان كالمعدوم(14) الذى عنه تجنب الزكاة. والحاجات الأصلية هى ما لا غنى للفرد عنها لحياته وحياة كل من يعول, وهذا أمر يقابل ما هو معروف في علم الضريبة بالحد الأدنى الواجب تجنيبه من وعائها لمقابلة التكاليف الأساسية لمعيشة الممول وأعباء حياة عائلية. وذلك أمر يختلف عن النصاب الذى لم يرتفع اليه قدر الوعاء فلا زكاة, وليس مرد ذلك – فى رأينا – لحاجة المكلف الى هذا النصاب الضئيل الذى لايسد الحاجة الاصلية عنده هو وعائلته وقد تختلف ظروف مكلف عن ظروف مكلف آخر, وانما لأن ما دون حد النصاب أضعف من أن يخضع, وأكثر كلفة نسبيا لو خضع, والمراد للخضوع هو القوة وليس الضعف.
وأخيرا وليس آخرا, فانه يبدو أن موضوع المعدلات ليس للفكر المحاسبي دور في مناقشته, فذلك من الحكم الخافية أسرارها على العباد شانهأ شان عدد الصلوات وركعاتها وشأن المقادير في أحكام المواريث وما الى ذاك. وهذه المعدلات ليست مرتبطة بظروف مؤقته فتتغير, ولا تتخذ سلاحا لاحداث آثار اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية معينة شأن الضريبة ذات الهدف التوجيهى, وكل الذى ألاحظة في المعدلات – بعد ذلك – التمييز بين معدلات زكاة الأموال المنقولة المفروضة على الأصل والنماء, ومعدلات زكاة الأموال العقارية المفروضة على النماء وحده. كذلك نلاحظ نسبية المعدلات عموميا, ذلك أن الاسلام ليس بحاجة الى تصعيدها حيث تنتفى فيه حكمه التصاعد, فلا طبقات اتسعت بينهما الفوارق, ولا حاجة لبيت المال الى تزايد ايراداته من حصيلة الزكاة طالما أن للوالى حق التوظيف على أموال الأغنياء متى أحست خزانته بالعطش المالى لتوفية مصارف الزكاة ومتطلبات أخرى عن نطاق الزكاة.
الاصطفاء من بين آراء الأئمة:
واذا كانت هناك أمور اخرى عديدة لمزيد التدليل على أن للفكر دورا في التنظيم المالى والمحاسبي عند تطبيق الزكاة, فانما نكتفى بالقدر الذى سقناه على سبيل المثال والايضاح – الا أننا نود الآن أن نشد الانتباه الى ما يرجى من الفكر المالى والمحاسبي أن يقدمه في خدمة الشريعة السمحاء حين يضع أمامه أحكام الفقه كما عرضها أئمة المسلمين ليصطفى من بينها – على ما بها من الاختلاف الظاهرى – وما يبدو الأنسب عند التطبيق. وهذا جهد آخر مشكور لهذا الفكر في ميدان التنظيم عند تطبيق الزكاة يقدمة لأهل الاجتهاد في الفقة الاسلامى.
وليس فيما نقول دعوة الى بدعة جديدة باسم الفكر, فانه مقيد بأحكام هذا الفقة كما قدمها لنا أولئك الأئمة أنفسهم. ولكن الجهد في الترجيح أو الميل الى رأى انما دافعة الرغبة في التنظيم الأمثل بناء على خبرة وصل اليها الفكر المتخصص في شئون المال والمحاسبة.
ولقد سبق في هذا البحث عرض بعض الحالات التى كان للفكر المالى والمحاسبي رأى في اصطفاء الحكم الأنسب من بين الأحكام التى قدمها لنا فقهاء السلف الصالح رضى الله عنهم, منها حالة اشتراط البلوغ والعقل عند المسلم للخضوع, وحالة تعيين ما يخضع لزكاة الثمار والزروع, وحالة حساب وعاء زكاة الأرض وتكاليفه للوصول الى الصافى ليتسنى تثبيت معدل العشر في كل الأحوال, ثم حالة معالجة الديون عند تحديد وعاء زكاة الدائن والمدين.
ثانيا – الاجتهاد في استنباط الأحكام بالنسبة للصور المستحدثة فى الأموال:
ان تطور الحياة قد استحدثت معه ألوان في صور المال وفى ظروف كسبه لم تكن معروفة, أو واضحة الملامح, أمام فقهاء السلف الصالح عندما دونوا لنا الأحكام الشرعية لركن الزكاة, وعلى هذا فليس لدينا اليوم نصوص مباشرة ومحددة تحكم معالجة هذه الصور, وان كانت الشريعة الاسلامية قد زخرت – ولا ريب – بالأحكام الكلية في مادة الزكاة مما يكن معه عن طريق الاجتهاد عامة والقياس خاصة استنباط الحكم الشرعى في كل ما استحدث من تلك الصور. وان الاسلام العادل والصالح لكل زمان انما يكتسب هاتين الصفتين عن طريق اتاحة الاجتهاد الذى يعتبر المصدر الاخير للتشريع بما يتضمنه من قياس واستحسان وجلب المصالح ودرء المفاسد. ولئن كان الشرع الحكيم له اشتراطات فيمن يجوز أخذ الاجتهاد عنه, فان ما يسوقه الفكر المالى والمحاسبي في هذا المقام لا يعدو أن يكون بمثابة توصيات يقترحها, او بمثابة القاء الضوء على الحالات المستحدثة بما فى يده من وسائل الكشف الفنى تاركا المجال لأهل الاجتهاد أن يقرروا الأمر في نهاية الأمر.
ليس أمام الفكر المالى والمحاسبى – و هو يبحث فى الألوان المستحدثة من صور المال….. ما حكم الشرع فيها, وكيف يقيسها…. – الا أن يعتمد على قياس ما لا نص دون خروج بذلك عن دائرة الاجتهاد الفقهى باحثا في مدى اشتراك العلة في المقيس والمقيس عليه… حيث أن القياس عدالة عند الحكم على تلك الصور.
ومن بين القضايا المستحدثة المعروضة, ننتقى قضية زكاة كسب العمل وقضية الزكاة على النماء من العقارات المبنية ومن ملكية العقارات المزروعة, وذلك باعتبار هاتين القضيتين على قمة المشاكل المتطلعة في حيرة الى تقدير أهل الفقه الحكم بالنسبة لهما.
ان هاتين القضيتين متعلقتان بالزكاة على النماء وحدة دون تخالط الأصل معه, حيث أن زكاة العقار لا تكون الا على نمائه. كما أن العمل – وهو مصدر كسبه – ليست له قيمة رأسمالية متصورة أو محدة يمكن أن يؤخذ قدرها في الحسبان مع النماء عند الخضوع. ولقد يبدو بسبب ذلك مدى التشابه بينهما وبين زكاة الزروع والثمار:
(أ) فحين يبحث الفكر المالى في كسب العمل يجده شاملا لأرباح المهن الحره وكذلك المرتبات وأجور العاملين التى تنشأ أساسا كثمرة لعقد العمل بين العامل وصاحب العمل. ومن الواضح تغاير طبيعة هذه المرتبات والأجور مع ما كان يتقرر من أعطيات أيام الاسلام الأولى حيث كانت تخرج من بيت المال كأرزاق ومعاشات لا تخضع للزكاة لكونها مالا مستفادا – كالهبة – يعتبر بمثابة تمليك جديد أقرب الى رأس المال القابل للنماء فلا يخضع الا اذا استوفى شرط الحول يحسب من يوم الاستفادة, ثم ان هذه الأعطيات لم تكن نماء متصلا ولا منفصلا لمال مستثمر أو جهد مبذول, بل كانت خارجة من أموال الجزية والخراج لتقسَم بالسوية بين الكبير والصغير, والذكر والأنثى في ظل اعتبار القدر الذى تصلح به معيشة كل فرد منهم, وما دامت الأجور والمرتبات تغاير الأعطيات من حيث طبيعة ومصدر كل منهما ومن حيث اختلاف الحكمه المتوخاه في تقريرهما(15). فلا محل لاعمال القياس على الاعطيات, وبالتالى لم يصح اعفاء الأجور والمرتبات اليوم من شرف المساهمة في تمويل الصدقات لأن الأصل هو أن كل نماء لابد أن يخضع للزكاة تحقيقا للعمومية في مفهوم العدالة المالية. واذا كان الاجتهاد هنا يقوم على اساس القياس, فان القياس هنا يصح على زكاة الثمار, وهل المرتبات والأجور الا ثمار تتكرر داخل الحول عن جهد بشري يعد مصدرا مشروعا للنماء في ميادين أخرى خاضعة أوعيتها للزكاة بلا خلاف مما يتطلب الأمر معه اخضاع مرتبات اليوم على أساس صافيها – بعد استنزال تكاليف تحقيقها منها. على أن تؤدى زكاتها يوم حصادها, وهو لحظة وضع الأجور تحت تصرف العامل المستحق لها.
ويراعى – بالقياس على زكاة الزروع والثمار – أن يخصم من وعاء زكاة المرتبات قدر حكمى يعادل ما هو مشغول بالحاجة الاصلية يقدرها ولى الأمر كأن يضع جداول حكمية للتكاليف الأساسية لمعيشة المكلف ومن يعولهم حتى اذا ما تبقى بعد ذلك ما يعادل النصاب الشرعى أو يزيد خضع هذا الباقى للزكاة. أما ما يدخر من تلك الأجور والمرتبات ليستقبل حولا جديدا يحسب من يوم وضعها تحت تصرف العامل, فانه يدخل عند نهاية هذا الحول في وعاء زكاة النقدين دون أن يكون في ذلك تثنية مذمومة لأن الفكر المحاسبي يرى أن الذى خضع أول مرة هو النماء, بينما الذى خضع في المرة الثانية بعد مرور الحول هو رأس المال, فلا تثنية هنا في الزكاة لاختلاف الأصل عن النتاج من حيث طبيعة كل منهما ومركزة بين الأموال ثم اذا كان الأمر من باب القياس على الثمار الزراعية. فاننا نلاحظ أنه اذا تحققت هذه الثمار وخضع صافيها لزكاة العشر, ثم حولها مالكها الى نقود سائلة وحال عليها بعد ذلك حول جديد, فلا خلاف على دخول هذه النقود ضمن وعاء زكاة النقدين في نهاية الحول التالى لحصاد الثمار الأولى.
وتوكيدا لوجهة النظر القائلة بخضوع كسب العمل بنوعية للزكاة,فانه يحسن القول بأن الفكر المالى والمحاسبي لا يفرق بين نماء تولد عن المال المستثمر وبين استفادة تحققت عن مصدر العمل من حيث مبدأ الخضوع ذاته ما دام أنه ليس هناك اجماع فقهى يعارض هذا الفكر. ومع أن الزكاة تسمى زكاة المال وليست زكاة العمل, وان الواضع فى وعائى زكاة النقدين وزكاة التجارة أنهما يشملان النماء المتحقق في خلال الحول يحسب وكأنه – فى رأى عديد من الفقهاء – تحقق من أول الحول ليضم الى رأس المال ويخضع المجموع للزكاة دون انتظار لمرور حول جديد… الا ان النماء في هاتين الزكاتين لم يتحقق من تلقاء نفسه بل مصدره استعمال أو تقليب هذا المال الأصل. فالعمل اذن أحد مكونات النماء هنا, ومع ذلك فله يجزا النماء ليخضع بعضه ويعفى بعضه, بل ان كله يدخل فى الوعاء بمجرد انتهاء الحول دون انتصار لانقضاء حول جديد.
وعلى ذلك يتبين أن نوع المصدر – ان كان رأس مال أو عمل – وكذلك عدم مرور حول كامل على تولد أجزاء النماء ليسا مانعين للزكاة بمجرد انقضاء الحول الأصلى … ثم أليست طاقة البدن عند الانسان باعتبارها مصدر كسب عمله نعمة يجب عليها الشكر لا تقل فى ذلك عن نعمة المال مصدرا ونماء؟… ان الحول الذى يتمسك باشتراطه لاخضاع كسب العمل ليس الا قرينة على تمام النماء حين يكون الوعاء هو المصدر أو المصدر منضما اليه نماؤه. أما اذا كان الوعاء هو النماء وحده كما هو الحال بالنسبة لزكاة الزروع والثمار أو المرتبات والأجور, فان حق الزكاة يؤتى يوم الحصاد لاكتمال النماء الفعلى دون حاجة الى قرينة تقديرية.
ثم ان الفكر المحاسبى – اذ يقرر خصم أجور العاملين واتعاب المهن الحرة المدفوعة والمستحقة من وعاء زكاة المال عند صاحب العمل – يرى من باب المقابلة المحاسبية خضوع هذه الأجور والأتعاب في أيدى أصحابها لأن الاعفاء في يد يقابله خضوع في يد أخرى والا انفلت مال يمثل قطاعا كبيرا في المجتمع كبيرا في المجتمع الاسلامى فرارا من أداء الحق الذى عليه لمستحقيه.
واذا كان البعض يوصى بالتميز في معدلات الزكاة حسب مصادر الأموال كما هو ملحوظ فى الأفكار الضريبية المنادية بالتفرقة بين مال مصدره رأس المال, وأخر مصدره العمل, وثالث مصدره خليط الاثنين, فان الوضع يختلف فى مادة الزكاة. ولم أقتنع بالرأى القائل بتقدير معدل زكاة كسب العمل ب 5% (16) أو% (17)بدلا من العشر على صافى الايراد (النماء) بحجة التخفيف عن كأهل هذا الكسب… ذلك أن الاسلام لم يحدد نسبة ال % أساسا الا لما كان وعاؤه النماء الممزوج بمصدره. وما كان كسب العمل – كنماء – ليقاس على النقود – كمصدر – حتى ولو كان النماء نقودا, وان لم يكن بالضرورة كذلك دائما. أما معدل ال 5% فان كان المقصود به هو العشر أساسا ثم خفض الى النصف لمقابلة التكاليف حكما, الا أن الحقائق أصدق دائما من الحكميات, وخصم التكاليف الحقيقية قبل اخضاع الوعاء للعشر هو اجراء أدق, فهو أصح. ولقد تثار قضية الرحمة بالعمل حيث يتناقض جهد الانسان تدريجيا كلما انقضت به الايام مما يحتاج الأمر معه الى تعويض هذا النقص, الا ان قضية التعويض هذه تدخل – أساسا – في نطاق بحث تحديد الأجر, وليس في تحديد معدل الزكاة.
على أنه تحسن بنا الاشارة مرة أخرى الى جواز اعفاء جزء من صافى كسب العمل بقدر ما يراه ولى الأمر لازما لتوفير الحاجات الشخصية للمكلف ومن يعول, حتى اذا ما صار الباقى – محسوبا عن الحول كله – يعادل النصاب أو يزيد, حوسبت عليه الزكاة.
واذا كانت الواقعة المنشئة لزكاة كسب العمل بنوعية هى تولد الايراد بالنسبة للمهن الحرة, ووضع الايراد تحت تصرف العامل بالنسبة للمرتبات والاجور, فان الفكر المالى والمحاسبي يدعو – تيسيرا على المكلف وتقليلا للكلفة على الدولة – الى الأخذ في التطبيق بمبدأ السنوية بحيث تسوى زكاة كل من المهن الحرة والمرتبات والأجور في نهاية الحول, دون أن يمنع ذلك من أداء دفعات مؤقتة من الزكاة على المرتبات والأجور أولا بأول (شهر مثلا) على أساس محاسبة مبسطة ليس فيها اعتبار لمسألة النصاب حتى تتم التسوية النهائية بحساب أكمل وذلك مع آخر دفعة يتقاضاها العامل من رب العمل ينتهى بها الحول الهجرى.
(ب) وبالنسبة لفرض الزكاة على صافى ايرادات المبانى وصافى ايرادات الملكية الزراعية, فان القياس يكون على زكاة الزروع والثماركذلك. ولقد كان الشائع – في ما مضى – شغل العقارات لا تأجيرها للغير مما أعتبر معه أنها مشغولة بحاجه أصلية للمكلف, فلم تخضع للزكاة لعدم توافر العله وهي النماء. ولا ينبنى على ذلك أن تعفى صافى ايرادات التأجير بلا نص أو قياس بعد أن تحقق النماء بالفعل لدى المالك ومبدأ العمومية يطل على ميدان التطبيق, بلاضافة الى أن هناك من فقهاء السلف الصالح (18) وبعض العلماء المعاصرين من رأى تزكية هذا الايجار فور تولده …. انما نشير – في هذا المقام ولتحقيق توازن المحاسبة على الزكاة – الى جواز خصم تكلفة السكنى الفعلية للمكلف ان كانت خارج العقار المملوك باعتبارها من ضمن حوائجه الأصلية وذلك من صافى وعاء زكاة المبانى.
ويحسب ايراد التأجير في حالتى المبانى والأراضى على أساس الصافى بعد خصم التكاليف المتحققة خلال مدة النماء ليخضع الوعاء الواحد لمعدل العشر. ولقد سبقت الاشارة في مجال زكاة الزروع الى أنه ما دام أن المنتج الزراعى غير المالك يحق له – محاسبيا- خصم الايجار الذى يؤدية من صافى النماء, فيتعين من باب المقابلة المحاسبية أن يزكى مالك الأرض عن قيمة هذا الايجار استكمالا لحقيقة الوعاء الاصلى – وهى قيمة ثمار الأرض – الذى يصير تقسيمه بين المالك والمستاجر, على أن يربط على مالك الأرض قدر الزكاة يوم تولد الثمار واستطابته.
أما بالنسبة لمالك العقار المنبى, فانه اذا ما قام بتأجيره للغير, وجببت عليه الزكاة – في رأينا – يوم أن يولد حقه قبل مدينه المستأجر … ذلك أن العبرة بالتولد والنشوء وليست بتحصيل النقود.
خاتمة
وبعد, فانه لا يفوتنى في نهاية هذا البحث أن أشيد بالأسرار الكامنة في المصادر الشرعية لفقة الزكاة – تلك التى ينعم بتذوقها الفقية الملهم والعالم التقى, فتنير له طريق الاجتهاد وهو المصدر المتاح اليوم لاستكمال حقائق الزكاة.
وما كان هدف هذا البحث الموجز والمركز – كما ذكرت في البداية – الا محاولة أن يعرض بعض ما تعلق بالفكر المالى والمحاسبي وهو يؤدى دوره في تطبيق الزكاة ليدل – بالعرض – على أهمية الدور, كي تصبح خلاصة هذا الفكر مادة مطروحة أمام أصحاب الاجتهاد الشرعى أطمع أن يتذوقوها عندما يزكون لنا على الانسب في تلك الأحكام, والأمثل في التنظيم الكلى والتفصيلى لها سواء تعلق الأمر بموضوعات الأمس أو بأحداث اليوم, حتى تتحقق في تطبيق الزكاة حكمة الله من فرضها.
والله أسال ألا يكون التوفيق قد جانبنى, وما توفيقى الا بالله.