يعتبر التخلف حالة تتسم بخصائص عالمية متماثلة، وتتمثل أولى تلك الخصائص في الفقر واسع الانتشار، فنجد أنسد الحاجات من البضائع أو الخدمات والأفكار في جميع القطاعات الاجتماعية للحياة يقل كثيرا عما تتطلبها الحياة اللائقة التي تكون ذات معنى من
الناحية المادية والروحية، ويرجع ذلك العوز بصفة كبيرة إما إلى الافتقار إلى الإرادة لتحقيق قدر أكبر من الإنتاج، أو الافتقار إلى الوسائل أو إلى القوى البشرية التي تمتلك المهارات المطلوبة لتحقيق مثل ذلك القدر. وفي بعض الأحيان يكون الافتقار إلى رأس المال أيضا عاملا ذا أهمية. وفي المجال الفكري، فإن الأفراد القادرين على الإبداع يشعرون أنهم قد تم استبعادهم، ومن ثم فإنهم يقعون في حالة من اللا مبالاة التي تتسم بالاكتئاب.
وتتصف الخدمات التي يقدمها الروتين الحكومي في كل من القطاعين العام والخاص بالإهمال، وإضاعة كل من الوقت والمال واللا مبالاة بالنسبة لاحتياجات الأفراد، كما تدور المجادلات الفكرية المبهمة التي يقر كل شخص بينه وبين نفسه أنها ليست بأكثر من عبارات طنانة، يتمثل هدفها الرئيسي في تلفيق العديد من الأسباب لتأييد الوضع الراهن، وتوفير وجبة غذاء للبعض وبصفة عامة إبراز صورة بعض الأشخاص، وبمقتضى الافتراض السائد بأن تلك المشاكل قابلة للعلاج، فإن المجادلات الأيديولوجية الحالية في العالم الثالث تعني بصفة رئيسية بالطرق والأساليب التي تؤدي إلى علاج آفاق التخلف.
الاستعماريون الجدد
إن واحدا من العناصر التي أجمعت الآراء على أنها قد أدت إلى إحباط الإرادة والمهارة والوسائل القادرة على تحقيق إنتاج أكبر يتمثل في استعمار العالم الأول، وحديثا استعمار العالم الثاني. والاستعمار الجديد الذي خلف الأساليب القديمة – التي تمثلت في السيطرة السياسية والعسكرية في القرن التاسع عشر – قد أفلح عن طريق لجوئه لوسائل المتعددة العلنية والخفية في منع تطور المناطق التي تعرف الآن عامة باسم العالم الثالث، ومن ثم فإنه يتم امتصاص رأس المال من البلدان الغنية بالبترول أو الثروة المعدنية عن طريق شغلها في سباق التسلح الغير مثمر.والصراعات المسلحة، كما تجتذب القوى البشرية التي تتسم بالمهارة من البلدان الغنية بالبترول أو الثروة المعدنية عن طريق شغلها في سباق التسلح الغير مثمر. والصراعات المسلحة، كما تجتذب القوى البشرية التي تتسم بالمهارة من البلدان المزودة بمعدات أفضل نسبيا وذلك عن طريق استنزاف القوى الفعلية.
المنة التي تعوق النمو: المعونة الأجنبية
لقد أصبحت المعونة الأجنبية من أكثر الأسلحة فتكا لإيقاع الكثير من الدول النامية في شرك الدين الذي لا يكون ثمة مخرج منه. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه دائما ما يتم تقديم النصح لدول العالم الثالث بأن شعوبها تستطيع تجاوز آلام الفقر بمقتضى اعتناق أيديولوجية تحررية ديمقراطية أو اشتراكية، وفي العالم الثالث بصفة عامة، نجد أن الهوية القومية التي تقوم على أساس الأقليم أو الدين قد مرت بتدهور جزئي وسادت بدلا منها الرغبة في تحقيق الرخاء الاقتصادي والقوة.
تصارع الأهداف الديمقراطية والاشتراكية
بالرغم من أن الشعارات الخاصة بالقيادات في معظم الدول المتخلفة تتمثل في الجمع بين المثل العليا الديمقراطية الخاصة بالديمقراطيات التحررية، والمساواة المنادى بها في الاشتراكية، فإن اتجاهاتها في الممارسة العملية كانت تسير بشكل واضح تجاه الديكتاتورية ذات التخطيط المركزي والبيروقراطية، وأما المشروعات الخاصة فكان ينظر إليها على أنها نخبة سياسية معارضة، يجب تخفيض حجما وتقديم المجال والفرصة لتطوير النخبات الجديدة الناشئة، بدلا من النظر إليها على أنها قطاع يقوم بدور اقتصادية هام.. وقد قدمت الرغبة في تدعيم توجيه التنمية الاقتصادية المبرر الأساسي للتدخل في القطاع الخاص – وبصفة دائمة كان النصح الذي يقدمه الخبراء الأجانب يعد تبريرا إضافيا لازدياد السيطرة والتنظيم، أما معدل النمو المضطرب فكان يتم شرحه طبقا لممارسة العالم الثاني في إطار الأعمال التخريبية الخفية، وأنه من الممكن أن يتم اكتشاف أعداء الشعب، والرجعيين، والعملاء الأجانب، والذين يبثون الدمار في كل ركن وزاوية. والشعور بالقدرة على تدمير جميع الأعداء إلى جانب الفكرة المقتبسة من الماركسية اللينينية القائلة بأن أي محاولة تهدف إلى تدمير المعارضة كلية لا تتسم بأي وصمة أخلاقية، قد أضافا عنصرا من التهور بالنسبة لأعمال الكبت الذي تقوم به السلطات الحاكمة، إذ المقدرة على إخماد الأصوات المحتجة أو النقد السياسي تجعل القادة يتسمون بالجرأة، ويبتدئون عن رغبة في اتباع الطريق الذي تم اتباعه من قبل مئات المرات. وأما المثقفون فليس أمامهم شيء سوى أن يمكثوا على الهامش في حالة من الاكتئاب وهم لا يدينون بأي التزام أو الهام ويرفضون المشاركة الإبداعية.
الحاجة إلى دافع جديد
بمقتضى الاقتناع بأن مثل تلك الاتجاهات والمعاناة الإنسانية التي تنتج عنها حالة قابلة للعلاج، فإننا سوف نفحص أولا الاختيارات المتاحة لنا حاليا في مجال الحوافز، ونعيد تعريف المشكلة، ثم نتقدم ببعض الاقتراحات.
النظريات والنماذج الغربية
في الغرب (أي في العالم الأول بصفة أساسية) نجد أن النشاطات الإنسانية في المجال الاقتصادي توجه بصفة أساسية إلى الكسب الفردي، ولقد ساد اعتقاد واسع النطاق بأن المنافسة التي تترتب على دوافع كل فرد لتحقيق الكسب الشخصي سوف تؤدي بكيفية ما إلى تحقيق الإنسجام الشامل بين المصالح والمكاسب المشتركة، ولكن الغرب قد اكتشف الآن فقط أن ذلك ليس صحيحا تماما، فبدون الضوابط الأخلاقية أو القانون فإن الأسماك الكبيرة سوف تأكل الأسماك الصغيرة، وسوف يحدث الكثير من الظلم عندما يتقرر مصير احتياجات المحتاجين بواسطة المساومات التي يمارسها مالكو القوة والثراء، وسوف تثبت عدم فاعلية أقوى الوسائل القانونية في مواجهة المكائد الماكرة التي يديرها النظام الرأسمالي اللا أخلاقي، وقد اكتشف الغرب الآن أن القوانين تصبح غير فعالة لو لم تكن قائمة على أساس الإيمان بنظام أخلاقي أسمى منها. والقانون الدنيوي، بالنسبة للفقراء يعد غالبا مجرد أخلاقي أسمى منها. والقانون الدنيوي، بالنسبة للفقراء يعد غالبا مجرد وقاء مكون من القش، ومع ذلك، فإن انتشار القوى السياسية والاقتصادية يسمح للأغلبيات الكثيرة في تعدادها والضعيفة اقتصاديا بأن تجد حلفاء من الساسة الذين يتطلعون إلى الأصوات الانتخابية، وذلك التحالف من بين أشياء أخرى قد مهد الطريق لتحقيق نظام يتسم بأجور أكثر عدلا ومشاركة أوسع في الثمار الاقتصادية. والجور العالية تمكن الشخص من الإيفاء بحاجاته ورغباته، ولكن استهلاك البضائع بمفرده لا يستطيع الإيفاء بجميع احتياجات الشخصية الإنسانية، فإن الإنسان ينتقل من الاهتمام بكم الحياة إلى كيفها، ولقد تم الآن إدراك أن الإشباع الوظيفي يعد بمثابة عامل ذي أهمية متساوية، هذا إلى جانب مقدرة الوظيفة على تحقيق بعض الإشباع بالنسبة للحوافز الخلاقة في الأفراد، وإن توقعات الترقية والشعور بالاستقرار والأمن ضد إنهاء الخدمة بطريقة استبدادية تلعب دورا هاما أيضا.
إن التنظيمات الاجتماعية في العالم الأول تقبل الحركة العمودية بصفة عامة ولكن مع بعض التذمر، ونتيجة للانتشار القوى السياسية والاقتصادية فإن لديها قدرة كامنة على التغيير، والتكيف والإبداع، والتجربة وقابلية التحرك العمودي داخل المجتمع، والحرية التي تسمح بها للأفراد تتضمن المخاطرات التي تؤدي إلى الكسب أو الخسارة، وأحيانا تتم التضحية – عن رغبة – بالأرباح الآمنة المباشرة من أجل المكاسب البعيدة الأمد التي تتسم بالمخاطرة ولكنها في نفس الوقت تتضمن كسبا أكبر، وفي بعض الأحيان فإن الالتزام بالإبداع وإقامة التجارب يقنع الكثيرين بأن يقدموا على المخاطرات الاقتصادية عن رغبة. وعلى أساس الافتراض بوجود الإدراك السليم والأساس الذي يتخلل قرارات المجتمع ككل، فإنه سوف يكون لدي الفرد الحرية لاتباع أهوائه الشخصية في الحدود التي تسمح للأفراد الآخرين أن يتمتعوا بنفس القدر من الحرية، أو بحرية مماثلة لاتباع أهوائهم، ولقد تم تصميم المؤسسات الاجتماعية على الأقل من الناحية النظرية، من أجل العمل على زيادة حرية الإنسان. تلك هي القرارات النظرية للعالم الأول، وأما في الممارسة الواقعية الحديثة فليس ثمة ضابط للسيطرة، ويؤدي استثناء الضابط الأخلاقي الذاتي إلى خلق مشاكل هائلة، كما يسبب توترا شديدا للنظام المؤسسات الحرة بأكمله، وتتسم النظم الحديثة بعدم الرحمة وتفتقر إلى العنصر الأخلاقي مثلما مثل البيروقراطية في الدول الاشتراكية، ولكنه ثمة نقطة اختلاف، وهي: أنه في إطار البنيان الاجتماعي في العالم الأول لا يوجد مثل ذلك التركيز المطلق للقوى السياسية والاقتصادية الذي يجعل من غير الممكن تخفيف الظلم الذي يأتي من القمة.
النموذج الاشتراكي
نموذج البلدان الاشتراكية التي تأمل في الوصول إلى المستوى المادي الذي حققه العام الأول يعد أبسط بكيفية ما، فإن الدولة تسيطر على جميع موارد الإنتاج ويسيطر الحزب على بيروقراطية الدولة، ويكون الاقتصاد بصفة رئيسية ذات تخطيط مركزي وخاضع للسيطرة، ويعتبر العمال على جميع المستويات عاملين بالأجر. وفي العصر الحديث نسبيا يتم تشجيع العمال على تحقيق قدر أكبر من الإنتاج بواسطة نفس الحوافز التي يستخدمها رجل الصناعة في العالم الرأسمالي من أجل ازدياد الإنتاج في مصنعه، مثل العلاوات من أجل الوصول إلى الأهداف، وزيادة الأجور من أجل تحقيق الكفاءة… الخ، ولكنه إذا ازداد الاعتماد على هيئات التخطيط المركزي سوف يكون لذلك تأثير يؤدي إلى إعاقة الإنتاجية والإبداع، وحديثا تم اتخاذ المحاولات لإضافة عناصر التنافس واللا مركزية اللازمة التي تجعل المنافسة حقيقية وذات معنى، ومع ذلك فإن الدافع المسيطر لا زال متمثلا في عنصر الإرهاب الذي تحوز عليه الدولة بلا منازع وتستخدمه لتحقيق أهدافها الاقتصادية بصفة عامة، فالدولة تستولى بالقوة على ما تريده، وتملي إرادتها عن طريق التهديد بأن عدم الطاعة قد يتضمن الإبادة، بل والهلاك لو لم يتم الإيفاء بتوقعات الدولة.
إن الفشل في العالم الأول يعني – في العادة – الإفلاس، والفقر، والضعف، والركود الاقتصادي. والعالم الثاني فإنه قد يعني السجن والحرمان التام. وبصفة عامة، يمكننا القول أن الإدارة البيروقراطية في العالم الثاني تبدو متصلبة، وجامدة وليس لها مثيل، وينشد البيروقراطي القلق الشعور بالأمن عن طريق تحويله المسؤولية إلى رؤسائه وتمسكه الخانع بكلمة القانون، وتزداد تلك الأساليب الإدارية في مركزيتها وتبديدها بمرور الوقت طوعا أو كرها، ويصبح ذلك التبديد أمرا ليس ثمة مهرب منه، لأنه من أجل تفادي التبديد يجب أن يتم انتقاد الوضع الراهن للتنظيمات الاقتصادية والعمل على تغييره، في ذلك النظام الاجتماعي الاقتصادي الذي تسيطر فيه السياسة على المبادئ الاقتصادي، ومن ثم يرفض البيروقراطيون الاحتجاج على الإجراءات التي قد تؤدي إلى كارثة اقتصادية بسبب خوفهم من انتقام النخبات السياسية الأكثر قوة، ورغبة البيروقراطي في البقاء تتطلب منه أن لا يتخطى حدوده خوفا من أن تضرب رأسه من جهة غير متوقعة.
المشاكل المتواترة
يطالب الثوري بتحقيق نتائج فورية يصعب تحقيقها من خلال بيروقراطية غير آمنه وذليلة، وسرعان ما ترى القيادة الحزبية التي تود إعلان الانتصارات اليومية أن من الحكمة والمقنع أن تنضم إلى البيروقراطية في تحالف آثم لملء الهوة بين الوعود والأفعال بواسطة الدعاية من ناحية، وبواسطة إخماد أصوات النقد من الناحية الأخرى.
الحل الصيني
الثورة الثقافية في الصين كانت محاولة تفادي النزعة السائدة في الاقتصاد الذي تديره الدولة حيث يقع ضحية لمساوئ البيروقراطية. ولهذا السبب، كانت الأيديولوجية ولا زالت يتم تأكيدها دائما، وتعد السيطرة الفردية وتعليم الفرد الاندماج التام مع الجماعة، ونشدانه تحقيق ذاته من خلال الجماعة. والقفزة العظيمة على الإمام والثورة الثقافية كانتا في حد ذاتهما بمثابة محاولتين، في الحالة الأولى، للتعويض عن دافع الكسب المادي بواسطة الحماس الأيديولوجي، وفي الحالة الأخيرة، لتفادي مكائد البيروقراطية وحكم النخبة. وإذا نظرنا إلى تلك القفزة إلى الأمام من ناحية الازدياد الفعلي في الإنتاج فإنها تعتبر فشلا، وبدون شك يدين الناس بالشكر لماو لتحريره إياه من أسر العبودية الماضية، ولكنهم كانوا لا يزالون بعيدين عن التحول إلى الماركسية والتنظيم وفقا لمبادئ الجماعية التي ينادي بها الاشتراكيون باعتبارها الطريق إلى الرفاهية. ولقد كانت الثورة الثقافية بمثابة محاولة أخيرة – جريئة ويائسة نوعا – بواسطة ماو للحفاظ على المبدأ الثوري، ولتفادي شكل البيروقراطية والنماذج التي طورها الاتحاد السوفياتي التي تتجه إلى الأشياء الاستهلاكية، والتي كانت كل دولة اشتراكية تقريبا تعمل على مضاهاتها، ولكن ماو قد ذهب. إن التطورات الحديثة، وخاصة الرغبة في فتح النوافذ للغرب تظهر لنا أن الصراعات التي أدت إلى الثورة الثقافية لا تزال بعيدة عن الاستقرار، وإذا كان المذهب المادي يمثل الحقيقة النهائية فإنه يكون من الصعب تجنب إغواء الأشياء المادية، وإذا لم يعد ثمة مستقبل يتطلع إليه الإنسان، يصبح كل من المكان والزمان الحاليين بمثابة شيء هام للغاية، وقد حازت الصين بدون شك حتى الآن على قدر معين من المثالية، ولكن السؤال يبقى: إلى متى تستطيع تفادي الطريق الروسي، الخاص بالماركسية اللينينية بقصورها المتأصل؟
التقييم الذاتي للعالم الثالث
التقييم الذاتي الحالي للعالم الثالث هو أنه يعد فقيرا بصفة عامة من ناحية الكم ومن ناحية الكيف بشكل ثابت، والميل للنضال والتعديلات القانونية لا ينتهي ولا يفلح في إخفاء الاضطراب بالنسبة للأولويات القومية والافتقار إلى الالتزام بالمزيج الأيديولوجي الذي ابتليت به تلك البلدان على المستوى الرسمي وحتى من أجل التخلص من الفقر الكمي، فإن بلدان العالم الثالث تحتاج لشيء أكثر من مجرد استثمار رأس المال لزيادة الإنتاج الصناعي والزراعي فوق المستويات الحالية. والاستثمار في وسائل الإنتاج ومهارات القوة البشرية لم يؤد حتى الآن لتحقيق النتائج المتوقعة. وفي البلدان التي تتمتع بالبترول أو يؤد حتى الآن لتحقيق النتائج المتوقعة. وفي البلدان التي تتمتع بالبترول أو الثروة المعدنية في العالم الثلاث فإن عائد الاستثمار في السلع الرأسمالية والمهارات يعد متواضعا، ونجد أن الاستثمار في السلع الاستهلاكية أو المعدات الحربية قد استهلك رأس مال هائل. وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإنه ثمة نسبة كبيرة جدا من رأس المال الخاص بالبترول تستثمر في العالم الأول على أساس قصير أو طويل الأمد.
وبالنسبة للبلدان التي لا تتمتع بمزايا الموارد الطبيعية القيمة، فإنها تنشد رأس المال عن طريق شد الأحزمة على السلع الاستهلاكية، من خلال الالتجاء إلى القروض الأجنبية واستدعاء الاستثمارات الأجنبية، وتجد أن الأيدي الماهرة التي توجد في البلدان التي تفتقر إلى استثمارات رأس المال تميل إلى التحول إلى المجالات الأكثر أثمارا، وثمة محاولات لوضع بعض القيود في هذا الصدد، ولكنها تعد غير فعالة إلى حد كبير.
وبصفة عامة، فإن هناك تشابها كبيرا في الإستراتيجيات الهادفة إلى التطور، التي يتم تصميمها، أو اقتراحها أو الموافقة عليها في العالم الثالث بواسطة النخبة الحاكمة أو المثقفة التي تم تدريبها أو التأثير عليها بواسطة العالم الأول أو الثاني. وتم وضع تلك الاستراتيجية بصفة أساسية عن طريق تدخل الدول، فالعالم الأول يقترح التدخل من أجل التنظيم، أما العالم الثاني فهو يقترح التدخل التام.
وتدخل الدولة يعتبر الدواء العام المقبول عالميا لعلاج جميع آفات التخلف، وترضى تلك الفكرة معظم النخبات الحاكمة في العالم الثلاث لأنها تقدم التبرير لممارسة القوة المطلقة على الناس والموارد بمقتضى مجرد الوعد بتحقيق نظام جديد يتسم بالسلم والرخاء. ومع ذلك، فإنه في التقدير النهائي يتم تقرير حدد التدخل وفاعليته في العالم الثالث عن طريق خاصية التزام القيادة وذكائها بالنسبة لتقرير الاختيارات. ولسوء الحظ فإن معظم القادة الذين لا يعرفون الكثير من الأساس الاجتماعي للسلطة يسرفون في الإنفاق بشكل غير مثمر، أن جوهر سلطة القادة يكمن في قدرتهم على الحصول على رد فعل لدعواتهم دون الالتجاء إلى القوة، وإن ذلك بدوره يتوقف على جدارتهم بالثقة، أي على الإيمان باستجابة العامة بمقتضى اقتناعهم أن ما يطلب منهم فعله يعد في مصلحتهم. وفي عبارة أخرى، تقوم القيادة الحقيقية على أساس التبادل المستمر، أي أن القائد يفعل شيئا لصالح الناس ومن ثم يزيد من ثقتهم في أحكامه، واستجاباتهم لنداءاته، إذ الامتداد الحقيقي لقوة القائد يوازي السلطة التي يمارسها بالأسلوب السابق ذكره. والآن ليس ثمة قائد يستطيع دائما أن يقوم بكل ما يرغب في القيام به، وخاصة بالنسبة للمجالات حينما تكون ثمة ندرة في الموارد المكرسة للإشباع المباشر لقائمة طويلة من الاحتياجات ونتيجة لذلك، فإن كل قائد في دولة نامية عند توليه السلطة يعاني من الأفول في النفوذ، وهو يجد أن ذلك التبدل يعد شيئا مربكا ويرجعه لسذاجته لدعاية الزائفة من الأعداء الحقودين، ويكتشف أنه من أجل الحصول على نتائج أفضل فإنه يحتاج إلى إجماع أعظم للآراء والتزام أكثر حماسا من الناس، بعد أن يجد أنه من الصعب أن يقوم بالبناء عن طريق ذلك الإجراء الممل الطويل الخاص بالإقناع أثناء وجود الأصوات المنشقة التي تبث هجماتها الانتقادية العنيفة، ولذلك، فإنه في حاجته اليائسة إلى الوقت يقع ضحية لإغراء محاولة اكتساب قادة المعارضة، وعندما يجد ذلك مستحيلا فإنه يحاول إخماد أصواتهم، وعدم أخلاقية ذلك الإجراء في حد ذاتها تؤدي إلى خلق عدد أكبر من الأصوات المنشقة. وفي تلك المرحلة فإن القيادة الحائزة على السلطة تصبح مذنبة بمزج الأولويات القومية مع الأولويات الشخصية، وكثيرا ما تختار البقاء الشخصي في السلطة باعتباره القيمة الرئيسية، وتقوم بالعمل دون إجماع قومي، أو وضوح بالنسبة للأولويات القومية. ومن خلال البيروقراطية الضعيفة أو الفاسدة فإن القيادة تجد من الصعب أن تلتزم بمبادئ النظام الديمقراطي بصفة دائمة، وسرعان ما تتخلى الأحزاب الحاكمة، مثلها مثل المعارضة، عن الضابط الذاتي الذي يعد قوام الحياة للنظام الديمقراطي، الأولى بالنسبة لممارسة القوة، والثانية بالنسبة لحق انتقاد الأداء الرسمي.
إن الحكومات تملك أن تضرب بالقوة ما لا تستطيع السيطرة عليه عن طرق الاقتناع. وإن فرض الحوافز عن طريق الأوامر في العالم الثالث يكون ذا أثر ضعيف نتيجة للعوامل التي ذكرناها بالفعل، وعندما يتم فرض الأولويات الرسمية من خلال إجراءات القسر فإن ذلك يسبب متاعب للأفراد على نحو غير ضروري بدون أن يصبح ذا فعالية داخل المجتمع.
ويتم استدعاء العون من خلال وسائل الدعاية، وتؤدي الدعايات التي تنادي بأشياء تتعارض مع الأمر الواقع والهواة المتزايدة أبدا بين الوعود والأفعال إلى خلق نوع خاص من السلبية في العامة. ومقاومة للجهات الرسمية وتجعلهم ينسجون من أي شيء يتعلق بالأمور الرسمية.
إن وسائل الدعاية تنشد إعطاء الانطباع بأن الحكومة تتمتع بالقوة والحكمة التامة وتفعل ما في وسعها من أجل الشعب بل وتعد قادرة على تحقيق منجزات أعظم في المستقبل. ومن ثم فإنها يجب أن تتصرف بحذر عند انهيار تلك التوقعات، فسرعان ما سوق يتوقع الناس من الحكومة أن تقوم بالمعجزات التي لا يساهمون هم فيها ولكنهم فقط يحصلون على ثمراتها. وفي التحليل النهائي، فإن ذلك الأسلوب يؤدي إلى تدمير الصفات التي توجد حاجة شديدة لأن تتوفر في الناس في النظام الاقتصادي الذي تسيطر عليه الدولة. وفي إطار التعجل الغير حكيم لتحقيق التقدم الاقتصادي السريع، والتقدم الصناعي بصفة خاصة، يتم التخلي عن جميع المتطلبات السريع، والتقدم الصناعي بصفة خاصة، يتم التخلي عن جميع المتطلبات الأساسية غير الاقتصادية بالرغم من كونها ضرورية.
لقد أظهر لنا التحليل السابق أن الطريق الذي تتم التوصية به والذي دائما ما يتم اختياره عن رغبة لا يعد شيئا فيما يتعلق بتوجيه العالم الثالث تجاه الخلاص، وينطبق ذلك بصفة أكبر على الجزء الإسلامي من العالم الثالث الذي لا يشارك في الرؤية الدنيوية الخاصة بالبلدان الرأسمالية أو الاشتراكية، ومشكلة التخلف يجب معالجتها في إطار الالتزام الإسلامي، ذلك الالتزام الذي لا يقتصر فقط على بعض نواحي العبادة، ولكنه يشمل الرؤية الشاملة للحياة التي يحوز فيها النشاط الاقتصادي على مكان مميز ويكون له هدف معين، ولكن الخبراء الأجانب النخبات الحاكمة الموجودة لا توجه الأهمية الكافية لحقيقة أن ثمة اختلافا جذريا بين الرؤية الخاصة بالحياة الصالحة الناجحة في الإسلام وبينها في العالم الرأسمالي أو الاشتراكي، ففي الإسلام تتكون تلك الرؤية من الإيفاء بالعهد بين الإنسان والله والعيش في الحياة الدنيا وفقا للهدي الإلهي باعتبار ذلك إعدادا لحياة أفضل تنتظر الإنسانية. أما بالنسبة للعالم الأول (الرأسمالي) والعالم الثاني (الاشتراكي)، فإن رؤيتهما للحياة تعد بالضرورة مادية ودنيوية. إن الصورة الكاملة للحياة الصالحة التي ترسم بمزيج من الألوان سواء من خلال رؤية فرويد للإنسان الذي يميل تجاه الجنس أو رؤية ماركس للإنسان الذي يميل تجاه الأشياء الاقتصادية لا تتفق مع ما يصوره لنا الإسلام.
إن الرؤية الخاصة بالحياة الدنيوية التي يتمثل فيها الكمال في كل من الناحيتين الروحية والمادية سوف تظل مجرد حلم للمجتمع المسلم ما دام أعضاؤه غير في تأجيل الإشباع الحالي لاحتياجاتهم ومطالبهم من أجل الغد الأفضل من جميع النواحي. ومثل ذلك الممارسة تحتاج إلى جهد أخلاقي هائل، وليس ثمة شيء في الرؤية للحياة التي يعتنقها كل من العالم الأول والثاني يبرر ذلك الجهد المضني والتضحية بالنفس، وحتى أكثر الدول تقدما في العالم الأول والثاني، أي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي تجد أنه من الصعب الحفاظ على الروح العامة للآباء الأولين، مؤسسي الحزب الشيوعي الذي أحدث ثورة 1917، وطوعا أو كرها، فإن أي شخص يهتم اهتماما جديا بكسر الحلقة المفرغة للفقر والتخلف وينشد أن يحيا حياة ذات معنى في الحياة الدنيا يجب عليه أن يتبع الحل الإسلامي للمشكلة، فإن الإسلام يقدم الحل الشامل لمشاكل الإنسان مع جميع النواحي، وليس فقط من الناحية الجنسية طبقا لفرويد أو الناحية الاقتصادية طبقا لماركس.
إن ما يحتاجه العالم الثالث بشكل ملح هو طراز الإنسان الذي لا يرغب فقط في الحصول على الإشباع الحالي لاحتياجاته، ولكنه يكون راغبا أيضا في تكريس حياته وجميع ممتلكاته الدنيوية للمنفعة الاجتماعية من أجل حياة آخرة أفضل، ذلك الإنسان الذي بالرغم من توفر الحرية والفرصة أمامه لأن يفعل ما يشاء، فأنه لن يفعل شيئا سوى الإسهام في الرقي بحياة المجتمع الذي يعيش فيه من ناحية الكم والكيف، وفي إطار ذلك الإجراء يشارك في الفوائد الإجمالية بشكل متساو مع بقية أفراد المجتمع ويصبح بمثابة مثل يحتذي، وذلك الشخص بتميزه عن هؤلاء الذين يعملون من أجل المكاسب الشخصية الدنيوية سوف تكون لديه القوة الروحية لأن يصبر على الحرمان بدون تذمر أو اكتئاب أو صراع عندما تعامله الحياة بقسوة وتتسع المسافة بين التضحية الحالية والمعاناة وبين التعويض النهائي.
إن حث الناس على أن يصبحوا طواعية أشخاصا منتجين دون خلق ظلم رأسمالي أو اشتراكي يعد دون ذك شيئا مقعدا. وقبل كل شيء وعلى المستوى الاقتصادي البحت، فإن الأفراد يجب أن يشاركوا في الثقة بان المستقبل سوف يسير على أساس التنبؤات طبقا للخطط والأداء في الوقت الحاضر وأنه لن تكون ثمة اضطرابات جذرية تؤدي إلى اضطراب أو تبديل توقعات اليوم.
ثانيا، يجب أن يكون لدي الأفراد إمكانية المشاركة في التخطيط لمستقبلهم أي أن يسمح لتقييمات الشخص، وتخطيطه وتوقعاته بأن تلعب دورا فعالا في المجتمع، وألا يتم تغيير الخطط السياسية والاقتصادية بصفة سريعة وجذرية بدون اعتبار، أو تعويض لمصالح الأفراد. ولكن هذين العاملين في حد ذاتهما ليسا بكافيين.
ويقدم النصح إلى العالم الثلاث بأن من أجل التدريب والاستفادة من القوة البشرية والحصول على السلع الرأسمالية فإنه يحتاج إلى رأس المال. ونظرا لأن رأس المال ليس متوفرا على المستوى المحلي، فإنه يجب أن يحصل على ضمان بالسداد قبل أن يقوم بالمخاطرة بالقرض، ومن الممكن إيجاد ذلك الضمان في السلع التي يتم الاحتفاظ بها كضمان، أو في ائتمان المقترض أي، الثقة في المقترض بالنسبة لسداده القرض، وفي السيطرة المباشرة أو الغير مباشرة التي يمارسها المقرض على شؤون المقترض. ولكن مثل تلك الضمانات من النوعين الأول أو الثاني لا تتوفر في معظم بلدان العالم الثلاث لأن تدخل هيئات الدولة المتسرع الغير حكيم في كل مجال من مجالات العمل دائما ما يؤدي إلى أزمة حادة في الثقة. ويعاني الشعور بالأمن بالنسبة لمستقبل المجتمع والفرد من التدهور، ويحوز كل من معدل الفائدة المرتفع والمشاريع التي تتسم في التدخل في الأمور الخاصة بالفائدة بالنسبة للاقتراض، وتبدو النتائج المدمرة الخاصة بتلك العوامل واضحة تماما في العالم الثالث حتى أننا لسنا في حاجة إلى إعادة تأكيدها.
استدعاء الاستثمارات الأجنبية
من الممكن أن تكون الاستثمارات الأجنبية المورد الثاني لرأس المال، وهنا أيضا فإن المستثمر الأجنبي، خاصة ذلك الذي يقوم بالاستثمار في مشروع يحصل فيه على الأرباح بصفة مؤجلة سوف يحتاج لضمانات بالنسبة لرأس ماله وأرباحه من أجل أن يشعر بالطمأنينة التامة والحرية بأن يستطيع أن يعمل ويحصل على الأرباح طبقا للخطط التي وضعها، أي في عبارة أخرى أن يشعر بالحرية ضد التدخل الغير ملائم والغير مرغوب فيه. وأن تاريخ السبعين عاما الماضية لو أنه كان ذا فائدة، فإنه قد أثبت لنا أن الشعور بالأمان بالنسبة للمستقبل والتحرر من الضغوط يعتبر أن شيئين قد أصبحا بمرور الوقت من الأشياء النادرة. إن الاستثمار الأجنبي الحقيقي الذي ليس له مغزى سياسي قد أصبح شيئا نادرا، ولكن الدول العظيمة والمتقدمة اقتصاديا يجب أن تقيم الأعمال التجارية مع الدول الفقيرة نظرا لأنها في حاجة إلى مواردها الخاصة أن لم تكن في حاجة إلى الأسواق، ومن الواضح أنه في ذلك العالم الذي يسود فيه السباق الغير منظم للوصول إلى الموارد الإنسانية النادرة واستغلالها، تحاول المجتمعات القوية أن تقيم أصعب المساومات مع الدول الأقل قوة أو تلك التي لا تملك دفاعا عن نفسها.
المساومة الحقيقية
المساومات بين المجتمعات القوية والضعيفة يتم ضربها في نهاية الأمر عند نقطة تتقرر جزئيا بواسطة تداخل قوى العرض والطلب وجزئيات بواسطة الإرادة السياسية لتلك المجتمعات الضعيفة لمقاومة الاستغلال. ولذلك فغير ذي جدوى في ذلك العالم التقلص سريعا أن يتم تخطيط النظم الاقتصادية بدون الاعتبار “لإرادة المجتمع” باعتبارها عاملا ذا أهمية رئيسية. وما يساهم في تقرير هذه الإرادة أو العزيمة في المجتمع هو موضوع يأخذنا خارج المجال الاقتصادي البحت إلى مجال الأيديولوجية والإيمان.
العوامل الإضافية التي تؤدي إلى التباطؤ
الديون
توجد عوامل إضافية تؤدي إلى تعقيد الموقف وتعوق التطور في العالم الثالث، ولقد رأينا بوضوح تام في الأوقات الحديثة أن اقتراض الدول الفقيرة لرأس المال والمهارة الفنية لا يؤدي دائما إلى تدعيم الرفاهية، وفي الحقيقة فإن سرك الدين من الممكن أن يكون شيئا ضارا مثله مثل الفقر، إن لم يكن أسوأ، بل متضمناته السياسية مع إضافتها من الممكن أن تكون أكثر تدميرا فمثلا الكيفية التي سمحت بها المعونة الأمريكية، ببقاء الأنظمة الفاسدة في آسيا تعتبر موضوعا معروفا تماما.
استنزاف القوى العقلية
إلى جانب الاستنزاف للقوى العقلية توجد مشكلة معاصرة أخرى في العالم الثالث، وهي أنه إذا كانت ثمة وفرة في الموارد المالية التي تكرس للاستثمار فإن القوى البشرية غير متوفرة، فهي تسحب إلى أماكن أخرى بمقتضى إغراء الأجور العالية والحياة المريحة.
الصراعات العسكرية
بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم البلدان في العالم الثالث تدخل أو تدفع إلى صراع عسكري فأكثر أو على الأقل تبقى دائما تحت بعض التهديد الذي يرغمها على إعادة توجيه معظم مواردها الهزيلة إلى الاشتراك في سباق للتسلح.. يكون من الصعب عليها تحمله.
أسس المسؤولية الاجتماعية
لسنا بحاجة لكثير من الأدلة أو لتقديم نقاش طويل يبين أن مقدرة الإنسان على الإبداع، ومهارته، وأعماله ورغبته في المعاناة من أجل بعض الأفكار تعد متوفرة بكميات كبيرة للغاية في المجتمعات المتحررة نسبيا من التدخل أو التحكم الزائد عن الحد.
المهمة الجديدة
من أجل إمكانية استغلال جميع الموارد المتوفرة للمجتمع المسلم، سوف يكون من الضروري إقامة أنواع عديدة من النشاط في نفس الوقت وعلى كثير من الجبهات.
تحرير أذهان المسلمين من الوهم الكامن
بالنماذج الاقتصادية المستوردة
1 – إن المهمة الأولى هي تحرير ذهن المسلمين من الوهم القائل بضرورة اعتناق واحد أو آخر من النموذجين اللذين يعرضهما العالم الأول والثاني واللذين يعدان ماديين بالضرورة ويحوزان على أولويات تختلف بشكل رئيسي عن الأولويات الخاصة بالإسلام، وقد كان كلاهما ولا زال يحوز على أوجه يسمح بالاستغلال الشامل، ففي الغرب يتمثل ذلك في الشركات الكبيرة وأحلاف المنتجين، أما في البلدان الاشتراكية فهو يتمثل في رأسمالية الدولة والبيروقراطية، ولكنه في الغرب يمكن الحد من الظلم نوعا لأن القوة تكون منتشرة في التنظيمات الاجتماعية، أما في البلدان الاشتراكية فإن القوة الاقتصادية والسياسية تتركز في نفس الهيئة، وفي الغرب فإن الرأسمالية يقوم بالاستغلال، أما في الدول الاشتراكية فإن البيروقراطي يقوم بالاضطهاد، وفي كلتا الحالتين فإن حكم القلة يدير المجتمع ولا يعرف أي ضابط أو مقياس سوى مشيئة تلك القلة التي تقوم بالاستغلال والظلم دون مجرد الشعور بالذنب. وليس ثمة شيء حتمي في هذين النموذجين لأن كليهما يتسم بالضعف والتعويض للخطر. إن المسلمين يشعرون، بل ويجب أن يشعروا بالحرية بالنسبة لتصميم نماذجهم الخاصة بهم لحل مشاكلهم، وفي الحقيقة فإننا إذا نظرنا إلى المجالات القائمة بين الباحثين في العالمين الأول والثاني بالنسبة لتصميم نماذجهم الخاصة بهم لحل مشاكلهم، وفي الحقيقة فإننا إذا نظرنا إلى المجادلات القائمة بين الباحثين في العالمين الأول والثاني بالنسبة لتفوق نماذجهم سوف يظهر لنا أن ثمة نقائص خطيرة في كلا النموذجين، وأن التطلع إلى حل المشكلة على المستوى الاقتصادي البحث يجعلا كلا منهما اقتباسا خفيا لتعاليم الآخر. لقد تحرك الغرب مسافة طويلة بعيدا عن النموذج الرأسمالي الخاص بالقرن التاسع عشر الذي انتقده كارل ماركس بقسوة شديدة وبقوة، وفي الدول الصناعية الجديدة توجد الكثير من التصميمات العملية التي يتم تنفذها الآن بصفة عامة، والتي اعتبرت لعنة للرأسماليين على مدى عشرات من السنوات الماضية، وإن كلا من الثورة الإدارية ليرنهام والدولة الصناعية لجالبريث لتعكس بعض التغييرات الكبيرة التي حدثت في الغرب الصناعي بالنسبة لدور رأس المال، والرأسمالي، ومتعهد الأعمال، والمدير والعمال. ومن الناحية الأخرى، على الرغم من الاحتجاج العام على النظم الغربية، فإن الاشتراكيين على العكس قد اقتبسوا بشكل خفي من الغرب وأعادوا تقديم عدد كبير من الحوافز في نظمهم الاقتصادية، تلك الحوافز التي يتكون منها النظام المعارض للنظريات الأثيرة لماركس، ولقد كانت النتيجة أنه في الوقت الحاضر أصبح هناك عدوان يشبه كل منهما الآخر إلى درجة أكثر مما يود أي من بين أشياء أخرى، لأنهما ينشدان حل جميع المشاكل الأخلاقية، والروحية والمادية للإنسان من منطلق دنيوي ومادي بحت.
2 – أما مهمتنا الثانية فهي تعريف المسلمين بالرؤية الإسلامية المتميزة بالنسبة لجميع أوجه النشاط الاقتصادي. فإن تلك الرؤية تعتبر الأيديولوجية الوحيدة التي تشمل أبعادها كلا من الحياة الدنيا والآخرة، إذ الإسلام يعلم الإنسان كيف حيا حياة أخلاقية ذات معنى في الفقر والثراء، ويزود الفرد بالنموذج الخاص بالتكريس الروحي التام لحياته وجميع ممتلكاته الدنيوية، ويعلمه أسلوبا للحياة تستطيع أن تبقى فيه شخصيته سليمة في ذلك العالم الذي أصبح فيه فردية الإنسان في طريقها إلى الإنزواء التام على يد البيروقراطية التي تضع نفسها في مصاف الآلهة. ويبدو أن الإسلام هو فقط الذي يضع التضحية والمعاناة في إطار أخلاقي يؤدي إلى تأكيد الحياة وتكامل الشخصية بدلا من إنكارها، ويعيد للإنسان الكرامة والاحترام اللائقين به في الحياة.
وضع نظم للتنمية
3 – أما المهمة الثالثة فهي تصميم نماذج للمجتمعات المسلمة لتنظيم تنميتها عن طريق زيادة الاعتماد على النفس وكل ما كان ضروريا عن طريق الاعتماد المتبادل.
الطريق إلى تحقيق العزيمة بالنسبة للتنمية
4 – أما المهمة الرابعة فهي تتمثل في كل شيء في اكتشاف الأساليب والوسائل اللازمة لإعادة نوع جديد من الثقة في النفس والحماس، من أجل أن يستيقظ المجتمع من سباته، وأن يشارك بحماس في تكوين الثروة وتوزيعها بطريقة عادلة، وأن تكون لديه الرغبة في مقاومة الاستغلال من الداخل والخارج وتحمل آفات الفقر والحرمان، وعدم الأنين والبكاء بل مكافحة الآفات الاجتماعية.
مضمون النشاط الاقتصادي
في التحليل السابق يتضح أن تخطيط مستقبلنا سوف يتطلب إعطاء الاعتبار ليس فقط للعوامل الاقتصادية والسياسية، ولكن أيضا للعوامل الروحية والأخلاقية التي تصبح السياسة بدونها أداة للظلم، والاقتصاد فريسة للمستغلين. إن الظلم الاجتماعي يعتبر الهدف الأول الذي يجب أن يتم ضربه في إطار الالتزام الإسلامي، ولقد كان أول شيء أدانه النبي عليه السلام في بداية رسالته يتمثل في أثرياء مكة المتسغلين القساة، وتشهد السور المبكرة في القرآن مثل “المدثر” و “الهمزة”، و “الماعون” و “الليل” و “البلد” على هذه الحقيقة. وكراهية أثرياء مكة الشديدة للنبي قابلة بدورها للشرح، فقط على أساس أنه حاول تغيير الأولويات الاجتماعية الاقتصادية بصفة تامة. ومما هو معروف أن الأخلاق الحميدة التي دعا إليها النبي عليه السلام لم تكن جديدة تماما بل كان لها بعض المظاهر العالمية، فقد كان العرب يميلون إلى الصدق، والكرم، والصبر في مواجهة الخطر مثلهم مثل المسلمين ولقد ان المجتمع المكي الذي نعرفه ينظر إلى النبي عليه السلام باعتباره صادقا وأمينا وجديرا بالثقة، ولكن أكثر الأشياء التي آلمتهم كانت تتمثل في التعاليم الجديدة التي أدعت أنه في النظام الاجتماعي الجديد لن يتوقف المركز الاجتماعي على الميلاد، أو اللون، أو الروابط العائلية، أو الأصل القومي، أو الثروة، أو الجنس، فقد تم التخلي عن جميع متطلبات المركز السابقة وأصبح الشيء الوحيد المقبول هو جهد الفرد في الإيفاء بعهده مع الله (49 / 13) وإحقاق العدل، عن طرق تصرف الإنسان بأسلوب عادل، ومراقبته للأمور للتأكد من أنه قد تم إحقاق العدل في إطار الوحي الإلهي، وليس ذلك فحسب بل إنه يجب أن يفعل أكثر مما يتطلبه العدل أي أن يقوم بالإحسان (16 / 90) – (للبحث صلة).