الأشخاص المنتمون للعالم اليهودي والمسيحي مثلهم مثل الجماعات والتنظيمات قد سمح لهم غرورهم على مدى التاريخ بأن يعتقدوا أن عليهم أن يتحملوا أعباء تفوق مقدرتهم، وكانت نتيجة ذلك الاضطراب العاطفي والسياسي، إساءة فهم لمشيئة الله.
وليس من الغريب أن نسمع تعليقات الكثير من غير المسلمين، في تلك الفترة من التوتر، بقولهم إنهم يشعرون وكأن “عبء الكون” يقع على أكتافهم. ويدعي المسيحيون: أنه يجب أن يتحملوا أعباءهم مثلما حمل النبي عيسى الصليب. وتزخر صالات العرض الفنية في جميع أنحاء الولايات المتحدة بالصور الزيتية التي تصور المسيح وهو يصد مرتفعا شاهقا (المسيح كقدوة) وقد انطبعت على وجهه نظرة حزينة، وانحنت أكتافه وهو يجر صليبا ضخما يستند مقطعه العرضي بثبات بين كتفيه، وبتلك الألوان الحية المثيرة، تظل تلك الصور المشوهة فارضة نفسها على ذهن المسيحي، حيث تستحوذ على ملكته التخيلية.
لقد قام ما يدعي المجتمع المدني في الغرب باعتناق تلك النظرية المريضة التي أجيزت في تلك الصور وغيرها من رموز المعاناة تجاه الحياة كلما كانت تلك النظرة تؤدي إلى تيسير تحقيق غاية معينة. وعلى سبيل المثال، فقد استخدم موضوع “العبء” “كإجراء دفاعي سيكولوجي” لتبرير تصرف المستكشفين المسيحيين الأوائل الذين مهدوا الطريق للمبشرين، والبعثات العسكرية التي اتبعتهم في استعمار وإخضاع ما كان يعد عالما حرا، أي حرا من التنصير. إن الشعوب غير البيضاء التي تمثل تسعة أعشار سكان العالم كان ينظر إليها باعتبار أنها عبء الرجل الأبيض، فإن الرجل الأبيض قد أخذ على عاتقه عبء تمدين من يسمون بالملحدين. (أي مماثلتهم بالرجل الأبيض).
وعلى مدى التاريخ، منذ أن قدم اليهود مبدأ “عبودية القانون” للتخلص من ذنوبهم إلى أن قام الأشخاص المتطهرون من العوامل الدنيوية (المسيحيون) بفرض عبء حمل الصليب على أنفسهم، سجل التاريخ الكثير من الأعمال غير الإنسانية التي ارتكبت ضد العالم غير اليهودي والمسيحي، وتلك الأعمال التي تمثلت في الاستغلال، والسلب الثقافي، والإبادة الجماعية تعد دليلا على الشعور بالنقص الذي كان يصاغ تحت اسم “مدينة” العالم، ذلك الشعور الذي لا يزال سائدا بين الكثير من الغربيين حتى في الوقت الحالي، فالمسيحي لا يستجيب للفتنة بتواضع، ولكن بواجب الجندي الخاضع لبرنامج معين، وعندما يسأل عن غرض الحياة، فإن إجابته الشائعة تتمثل في الكلمة “لقد جئت هنا لأعاني”.
وحتى عهد فرويد، الذي كانت لديه صراعاته الخاصة مع الدين، لم تكن الفرصة قد حانت بعد لأعضاء العالم اليهودي المسيحي لأن يتخلصوا من بعض الاضطراب العصبي الذي فرضوه على أنفسهم. لقد كان سيجمون فرويد ذا حساسية بالنسبة للقوى النفسية والاجتماعية المحركة للأفراد الذين يعملون على التخلص من الذنب، والذين أقنعوا أنفسهم: أنه يجب أن “يقاسوا آلاما ولذعات” أعباءهم في الحياة وليس لديهم إلا أمل ضئيل في الخلاص “يوما ما”.
(65: 3) لقد كشف لنا الله في الآية (65: 3) عن التوازن والعدل اللذين هما من صفات الله “…. قد جعل الله لكل شيء قدرا” (65: 3). إن الأعباء التي يضعها الله علينا قد وضعت “بقدر”، أي بقدر يتلاءم مع قدراتنا لمواجهة تلك الاختبارات. وتقاس قدراتنا لمواجهة تلك الاختبارات بمقدار الموارد التي زودنا الله بها والتي تكون أيضا بقدرٍ ملائم.
ولقد أدرك فرويد الحلقة المفرغة التي وقع فيها اليهود، فإن جميع محاولاتهم الماضية للتخلص من مشاعر الذنب لم تؤد إلا إلى ازدياد تلك المشاعر في أذهانهم وأيضا في أعين الرب. ولقد صمم فرويد على كسر تلك الحلقة المفرغة وتقديم أسلوب بديل للخلاص من تلك الأعباء النفسية، وتحقيق إمكانية التحليل النفسي.
وفي إطار من الثقة، يستكشف كل من المعالج ومريضه الأبعاد الواسعة للعقل الباطن، التي لا يحدها إلا خيال المستمع المدرب وقدراته الإسقاطية.
ويشجع المريض على التعبير عن مشاعره بالذنب واستكشاف اضطرابه العصبي إلى جانب التعبير عن أي إشباع تخيلي يجنيه من “التفسيرات” المطعمة بالجنس التي يقدمها المعالج. وبالاختلاف عن الرب، فإن المعالج النفسي لا يتسم بالقسوة في تدعيم تلك المشاعر الشديدة بالذنب، فإنه على عكس ذلك لا يصدر أحكاما ويتسم بالانفصال الموضوعي حتى أنه في بعض الأحيان يصبح بمثابة لا وجود. وفي بعض أحيان أخرى يتخذ دورا ملائما في تخليص المريض من العقد النفسية.
لقد كون فرويد نظرياته بازدراء شديد للدين، فهو قد أطلق على الدين “العصاب الاستحواذي العالمي”، وليس مما يثير الدهشة أن فشل ذلك الاتجاه في “تحقيق الحالة السوية”، فالفشل في مخاطبة الناحية الروحية في الإنسان في أي نموذج سيكولوجي يجعل ذلك النموذج في تعريفه نموذجا ناقصا.
الإسلام “والأعباء”
للأسباب التي ذكرناها فيما سبق، نجد أن معتنقي الإسلام الجدد الذين يأتون من خلفية يهودية مسيحية دائما ما يشعرون بشعور حقيقي من الراحة حينما يتأملون الآيات التالية:
لا نكلف نفسا إلا وسعها (6: 125)
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (7: 42)
لا تكلف نفس إلا وسعها (2: 223)
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (2: 286)
ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون (23: 62)
ولقد أخبرتنا الآية (7: 42) أيضا “والذين أمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها” وعند هذه النقطة، قد يظهر سؤال في ذهن القارئ “كيف تفسر تلك الأوقات عندما أواجه بعبء يفوق مقدرتي على التحمل”؟ لقد ذكرت بالفعل بعض الأمثلة التاريخية بالنسبة للكيفية التي جلب فيها الناس أعباء على أنفسهم. وباعتباري طبيبا نفسيا وعاملا اجتماعيا، فإنني في إطار عملي في مجال العلاج النفسي أواجه يوميا بأشخاص يمرون بمراحل مختلفة من التطور، فهم لم يعودوا يستطيعون “تحمل أعبائهم”، أو ذلك على الأقل على حد قولهم. وباعتباري عالما اجتماعيا مسلما، فإنني سوف أقدم تحليلي لشكواهم الرئيسية المتمثلة في القول: “لم أعد أستطيع أن أتحمل ذلك” في القسم التالي على ثلاثة مراحل. وفي هذا التحليل سوف أحاول أن أجيب على السؤال السابق ذكره.
التحليل:
لقد وضعت ثلاثة أجزاء لتحليلي للأشخاص المعرضين للأزمة من أجل تقديم لمحة عن هؤلاء الأشخاص تكون ذات نفع للعالم الاجتماعي المسلم المشتغل بالعلاج النفسي، إن شاء الله.
وسوف ابتدئ بالتحدث عن الأشخاص المعرضين للأزمة الذين أقابلهم في إطار عملي، والذين يكونون متناثرين –بطريقة غير ملائمة- بأسلوب تأهيلهم في المجتمع اليهودي والمسيحي، ويظهر ذلك واضحا في إساءتهم فهم الأحداث اليومية، فهم يسيئون تفسير أحداث الحياة لأن عقلهم الواعي (الأنا) قد تكيف لأن يعي تلك الاختبارات والمحن باعتبارها عقابا، وحتى الوديعة المتمثلة في الثروة والقوة التي وهبها لهم الله يعاد تعريفها باعتبار أنها تعد بكيفية ما أنجزت بشرية (الأنوية).
وحالما يتخذ الأشخاص تلك النظرة الخاطئة يضعف إيمانهم ويلقون السؤال “لماذا يعاقبني الله بتلك الطريقة غير العادلة ويثقلني بالأعباء؟” وتلك البداية الخاطئة يتبعها تكوين الشخص لأفكار غير سوية عن نفسه. إن مناقشتي حول هذه النقطة تتشابه بعض الشيء مع أساس النظرية التي قدمها دكتور ألبرت أليس بالنسبة للعلاج العقلي العاطفي. وإن ما يعد أساسيا في تلك النظرية هو أن الأشخاص لا يضطربون بمقتضى الأحداث التي يواجهونها، ولكن بمقتضى الآراء التي يكونونها عن الأشياء، وأن هدف العلاج العقلي العاطفي هو معاونتهم على إدراك الخطأ في أسلوب تفكيرهم والتوصل إلى رأي أكثر واقعية عن أنفسهم والبيئة المحيطة بهم.
وبالطبع فإن دكتور أليس يختلف في تعريفه بالنسبة “للرأي الأكثر واقعية”، ولكن النقطة التي نود تأكيدها هي أن العقل الواعي (الأنا) يستطيع التفكير في ذاته، ويستطيع استدعاء الأفكار إلى وعيه، ويستطيع أن يضع العبء على نفسه. لقد كشف لنا الله أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها. ولكن الذي يضع الأعباء هو “الأنا”.
“لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا” (65: 7).
وتلك الآية تزودنا ببرهان أكبر بالنسبة للقول بأن الإنسان هو الذي يثقل نفسه بالأعباء. وفي الآية (65: 7) كشف لنا الله أنه يجب ألا نتخطى حدودنا، وأننا إذا غالينا في التطلع إلى الحصول على أشياء بسبب أحكامنا السقيمة، أو جشعنا، أو افتقارنا إلى البصيرة فإن النتيجة قد تكون محزنة لنا “….. ومن قدر عليه رزقه فيلنفق مما آتاه الله” (65: 7) إن الموارد التي يزود بها الإنسان تتضمن الثروة، القوة، والعقل، والبصيرة الروحية وغير ذلك من الملكات، والقدرات والإمكانيات. ولعل الشخص ذا الموارد المحدودة يكون في الحقيقة أفضل حالا من شخص آخر غني بالموارد لأنه قد يكون ذا فهم أفضل بالنسبة لحدوده. ويتربص الشيطان بالشخص الذي يعتقد أنه ليس في حاجة إلى رحمة الله وهديه. فمثل ذلك الشخص نتيجة لذلك الأسلوب في التفكير يتعدى الحدود التي وضعها له الله.
“ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا”
واستنتاجنا من الجزء الأول لذلك التحليل هو أن الأشخاص الذين يأتون للمعالج النفسي وهم يعانون من أزمة، ويشعرون وكأن “عبء الكون” يقع على أكتافهم هم أشخاص قد أساءوا تفسير بعض الأحداث التي واجهتهم في الحياة، وإساءة التفسير تلك تؤدي إلى التفكير غير السوي وإصدار الأحكام السقيمة، تلك الأحكام التي تؤدي بدورها إلى: (1) إصدار قرارات خاطئة (2) المغالاة في استثمار “الموارد” التي ذكرناها (أي تخطي الحدود) (3) وفي بعض الأحيان التراخي من ناحيتنا. وجميع ذلك يؤدي إلى جلب أعباء أكثر مما يستطيع الشخص تحمله.
وأما الجزء الثاني في تحليلنا للأشخاص الذين يعانون من الأزمة فيتركز مرة أخرى على تشويه العقل الواعي للأحداث التي يواجهها في الحياة بأن يعتبرها “عقابا” بدلا من اختبار أو محنة. وسوف نلقي الآن نظرة أكثر تركيزا بالنسبة لكيفية تشويه الحقائق، عندما يفقد التوازن بين وظيفة الأنا وبين ملكات الإنسان الأخرى.
وعندما يعتقد الشخص أن الله قد عاقبه بأن حمله أكثر مما يطيق فإنه يشعر بالحزن، ونعلم أنه في خلال فترات الأزمة، يجابه الإنسان ببعض القضايا الأساسية في الحياة. ولذلك يجب أن يقوم المعالجون بتشجيع الشخص الذي يعاني من أزمة على أن يلقي الأسئلة ويجيب عليها، مثلا “لماذا يحدث ذلك؟”، ولكن الاتجاه التقليدي للعلاج قد ركز بدلا من ذلك على جمع الحقائق والاتجاهات المعاونة الرابطة الخاصة ببحث الأعراض.
وإذا لم تتم مجابهة القضايا الأساسية في الحياة بصورة ملائمة في خلال الأزمة، فإن “الأنا” يبتدئ في التدخل في عملية حل الأزمة طبقا لقول كريس سيزمور التي كتبت كتاب “الثلاثة أوجه لحواء” “إنه من المذهل أن نرى ما الذي يستطيع أن يفعله الأنا من أجل أن يحمي نفسه”.
والسؤال الآخر الذي يلقيه الشخص الذي يعاني من أزمة هو: “لماذا أنا بالذات؟” ويكون التركيز في هذا السؤال على كلمة “أنا” حيثما يبتدئ “الأنا” في التدخل. ويجب على المعالج أن يناقش بصراحة أخطار تدخل “الأنا” في حل الأزمة، وأن يقوم بتعليم الشخص كيف يستخدم القوى الروحية بدلا مما يدعي “بقوة الأنا” لحل الأزمة ومنع حدوثها.
إن الخط اللامنطقي الذي يتبعه “الأنا” نتيجة لتحمله الأعباء الخاصة بالروح يثير في الشخص انفعالات مختلفة. ويقول دكتور أليس “إن التفكير ينتج المشاعر، التي بدورها تنتج العمل”. وإن التفكير غير السوي، إلى جانب المشاعر والأعمال الناجمة عنه تصنف جميعها في إطار النموذج الطبي الغربي بأنها بمثابة “أعراض”.
ولهذا السبب توصف لمثل تلك النسبة العالية من الأشخاص الذين يعانون من الأزمة عقارات السيكو ثايميك. إن أمثلة الأفكار غير السوية التي تؤدي إلى ما يسمى “بالأعراض” تتضمن الشخص الذي يصاب بالقلق بمقتضى افتراضه أن الخالق يقوم بعقابه. وإذا كان الشخص يعتقد أنه قد عوقب لأنه ارتكب ذنبا، فإن تفكير غير السوي قد يقوده إلى الشعور بالذنب، والقلق والاكتئاب.
وعند هذه المرحلة يتدخل “الأنا” ويتخذ عبء المسئولية عن:
(1) فعل آثم غير محدد.
(2) الشعور الآثم المصاحب الذي يشعر به الشخص.
(3) حل الأزمة.
والظاهرة الجماعية التي نلمسها عند الأوربيين وهي أنهم يأخذون على عاتقهم ما يسمى “بعبء الرجل الأبيض” تتكرر بالنسبة للأفراد عندما يقوم الأنا (العقل الواعي) بخلق أشياء واتخاذ مسئولية غير واقعية، ومن ثم يثقل نفسه بالأعباء بلا ضرورة.
إن ما حدث في الواقع هو أن “الأنا” قد شوه نور الله حتى أن انعكاس ذلك النور قد تشوه أيضا أمامه. إن النور (المعرفة) الذي تم تشويهه في تلك الحالة المعينة، هو الوحي من الله:
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. (29: 2).
كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون. (21: 35).
لقد حرف الأنا تلك الحقيقة حتى أن الشخص يعتقد في الواقع أن الله يقوم بعقابه، وأن ما يسمى “بالأعراض” لدى الشخص (أي نوبات القلق- والأرق- والشعور بالذنب- والاكتئاب) إلى جانب سلوكه الذي يعد أحيانا شاذا، تعد جميعها انعكاسات لذلك النور المشوه (المعرفة- والحقيقة).
ويتحمل الأنا بشكل غير ملائم تلك الأعباء التي كانت تعني بها الروح “بقدر” معين. ولعل هذا هو السبب لقول الأطباء النفسانيين أن “الأنا” قد “تمزق” أو “تحطم” أو أصيب “بالانهيار” خلال الفترات الطويلة من التوتر.
والجزء الثالث من تحليلنا يتمثل في إلقاء نظرة على المغزى السيكولوجي للقضايا الأساسية في الحياة التي تضغط على ذهن المعرض للأزمة، ولكنه دائما ما يتم تجاهلها من علماء النفس الغربيين. ولسوء الحظ فإن تلك القضايا تعد “صعبة الفهم” في الحضارة الغربية، وبواسطة أعضاء المجتمع الغربي. ولقد أعاق ذلك الموقف العلماء الاجتماعيين الغربيين إلى حد كبير في محاولاتهم لفهم الأشخاص ومعاونتهم، وقد وضع دكتور رشيد حامد المشكلة التي تواجه علماء النفس في الغرب حاليا.
“….. كنتيجة لتجاهل تلك الخصائص الروحية اللانهائية داخل الإنسان، وإغفال النظر في تلك الأشياء من قبل الفلاسفة والعلماء باللاهوت، قدم لنا علم النفس مفهوما للشخصية الإنسانية الخالية من الروح، وقد حرمت من الإيمان الروحي والسعادة المتكاملة.
“وعندما يحث الناس على الاعتقاد بأن معظم القضايا الأساسية في الحياة تعد “أعمق” من فهمهم، فإن يصبحون مضطربين نفسيا من ناحية تلك القضايا الحيوية، وهم يتركون مهمة البحث عن الإجابة بالنسبة لتلك القضايا لمن يسمون “بالخبراء” في مجالات الفلسفة واللاهوت. ولكن هؤلاء ممن يسمون “الخبراء” ليسوا بأكثر من بشر، والاعتماد على البشر هو نوع من الشرك، ومثل ذلك النوع من الاعتماد هو الذي يهدد سعادة البشرية، وهو الذي أدى إلى إحداث رد فعل عنيف ضده من قبل الشباب الأمريكي في الستينات.
نستطيع أن نستنتج من هذا الجزء من تحليلنا أن السبب في معاناة الأشخاص الذين أقابلهم من الأزمات بمراحها المختلفة يرجع بصفة جزئية إلى أن الإجابات عن أسئلة معينة في حياتهم لم تصل لهم، وبالإضافة إلى ذلك فهم يعتمدون على غيرهم من البشر بالنسبة لتلك الإصابات التي لا يستطيع أن يقدمها سوى الله، وهكذا فإنهم يجدون أنفسهم معتمدين على البشر بدلا من اعتمادهم على الله. وعندما تؤدي أسئلة مثل “لماذا أنا هنا؟” إلى إثارة الارتباك، فإن الحياة ذاته تصبح حينئذ بمثابة شيء مربك، وعندما تصبح الحياة كذلك، فإنها تصبح بمثابة عبء، ومن ثم مصدر أسى. إن الحياة عندما تصبح مربكة للبشر، يكون ذلك مماثلا لحالة السمكة التي تخشى الماء أو الطائر الذي يعاني من الهلع المرضي من الأماكن المرتفعة.
هذه اللمحة حول الأشخاص المعرضين للأزمة تقوم على أساس التحليل الذي قدمته مكونا من ثلاث أجزاء حول الأشخاص الذين يحضرون إليّ طلبا للعون في خلال فترات الأزمة، ولقد زودني ذلك الاتجاه التحليلي بأسلوب منظم للإجابة على السؤال الذي طرحناه فيما سبق في هذه المقالة، وهو “إذا كان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، حينئذ كيف تفسر تلك الأوقات عندما أواجه بعبء يفوق مقدرتي على التحمل؟”.
فيما يلي سوف أقدم بيانا مفصلا من عشر نقاط لتوضيح تلك اللمحة عن الأشخاص المعرضين للأزمة من وجهة نظر إسلامية:
1- إن تفسيرهم لأحداث الحياة يتأثر بالمجتمع أكثر مما يتأثر بالله.
2- إنهم يسيئون تفسير أحداث الحياة، أي أنهم يفهمون تلك الأحداث بطريقة خاطئة فيعتبرونها “عقابا” بدلا من كونها اختبارات ومحن (فتنة).
3- إنهم يسيئون تفسير الودائع التي يمنحها لهم الله (الثروة، والقوة، والعقل) باعتقادهم إنها إنجازات بشرية.
4- إنهم يظهرون منطقا غير سوي يقوم على أساس افتراضي خاطئ، أي “إنني أعاقب، لذلك من الضروري أنني قد ارتكب ذنبا أو أنني شخصا سيئا”.
5- إن أفكارهم غير السوية تؤدي إلى تكوين أحاسيس (ما يسمى “بالأعراض”) تعطيهم الشعور بأنهم يثقلون بالأعباء.
6- إنهم لا يدركون حدودهم. فهم يثقلون أنفسهم بـ:
(أ) أفكار غير سوية.
(ب) مشاعر قلقة.
(ج) أحكام سقيمة.
(د) بصيرة ناقصة.
(هـ) التطلع إلى أشياء تفوق مقدرة الموارد التي زودهم بها الله.
7- إن الأنا الخاص بهم قد فقد توازنه، ونتيجة لذلك أصبح يتخذ مسئوليات لم يخلق لها. وهم أيضا يغالون في اعتمادهم على ما يسمى بقوة الأنا.
8- إنهم يفتقرون إلى المعرفة عن أنفسهم وعن الله وعن علاقتهم الصحيحة مع الخالق، أي في عبارة أخرى، أنهم يفتقرون إلى المعرفة التي تمثل أساس القوة الروحية.
9- لقد أصيبوا بالارتباك حول القضايا الأساسية في الحياة، أي ما هو هدف الحياة؟ ذلك أنهم إما ليس لديهم هدف في الحياة، أو أن هدفهم يسير في اتجاه خاطئ.
10- إنهم يوجهون اعتمادهم وخضوعهم في الوجهة الخاطئة (الشرك).
وفي حين أن تلك الخصائص العشرة تنطبق في حياتنا المعينة، على الشخص المعرض للأزمة، فإنها قد تؤدي إلى مشاكل عقلية أكثر خطورة من “احتمال حدوث الأزمة” مثلا، فلننظر في قول دكتور رشيد حامد بالنسبة للخاصية رقم (10) وهي “توجيه الاعتماد والخضوع في الوجهة الخاطئة (الشرك).
إن غريزة الاعتماد على الله توجد متأصلة في جميع البشر، ولكنه كثيرا ما يحدث أن تكون نظرة الإنسان الحديث إلى ذلك الميل الغريزي للتوكل على أنه شيء غير مرغوب فيه. وعلى أنه ضعف. إن المجتمعات الغربية المادية بصفة خاصة تغالي في تأكيد فكرة الاستقلال وذلك شيء يتعارض مع الطبيعة البشرية، فإن الشخص لو لم يوجه غريزته في الخضوع إلى مجراها الصحيح (أي الله)، فإنه سوف يوجهها إلى النفس، والأشخاص الآخرين، والأفكار، والأشياء التي لا تستطيع أبدا أن تجلب السعادة التي ينشدها الإنسان. وطالما يوجه ذلك الدافع للخضوع في الوجهة الخاطئة، سوف يستمر القلق، والشك والاضطراب. لقد كان علم النفس الغربي جاهلا بالنسبة لحقيقة أن مثل ذلك الانسلاخ الروحي يمثل السبب الرئيسي لمعظم الأمراض العقلية. ومن الواضح أن الشخص الذي يعاني من الاضطراب العصبي أو الاختلال العقلي هو شخص إما أنه قد أنكر الإيمان بالله، أو أن توجهه لعبادة الله والإيمان به تتخلله تناقضات، ومعتقدات تدل على ضيق الأفق، وتعلق بحت بالطقوس. ونحن لا نستطيع أن نتوقع نشوء شخصية متوازنة من تلك القيم والتعاليم المشوهة.
لقد صور دكتور حامد كيف أنه من الممكن أن تكون خصيصة واحدة من الخصائص العشرة الخاصة بالشخص المعرض للأزمة بمثابة أساس لمشاكل عقلية أكثر خطورة… وإنني اقترح استخدام تلك اللمحة بواسطة الناصحين والمعالجين باعتبارها مفتاحا في تحليلهم للشكاوى الرئيسية للأشخاص الذين ينشدون عونهم.