مقدمة:
“عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي… بشائرها وتحدياتها”.
كانت هي موضوع المناقشة في المؤتمر السنوي الثالث عشر لاتحاد الطلبة المسلمين، الذي عُقد في جامعة توليدو، بتوليدو، أوهيو، في أواخر شهر أغسطس عام 1975.
إن عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي قد تم اختيارها موضوع المناقشة في الاجتماع السنوي الثالث عشر للمؤتمر نتيجة لإدراك ذكي من اللجنة الإدارية لاتحاد الطلبة المسلمين ولجنة وضع برامج المؤتمر للحاجة الملحة لتقديم دراسة منظمة للنظرية الإسلامية للتغيير الاجتماعي وإقامة الاستنتاجات من تلك النظرية، وتطويرها، واثبات صحتها بالنسبة للمجتمعات المعاصرة.
وفي وقت سابق من نفس العام (في يونيه/ 1975)، كان اتحاد العلماء الاجتماعيين المسلمين قد اختار “من المسلم إلى المسلم” موضوعاً للمناقشة في اجتماعه السنوي الرابع. وقد ساهم الدكتور إدريس أيضًا في ذلك المؤتمر.
ويعد هذا الكتيب بمثابة نسخة معدلة لما قدمه البروفيسور إدريس في المؤتمر. وإن نشره في شكل كتاب يرجع –ولا شك- إلى قيمته العلمية، كما يعتبر استجابة للمطالبة بنشره تلك التي جاءت من مجموع أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين.
وإن عرض الدكتور إدريس “لعملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي” ليتسم بالقوة والأسلوب العلمي، وسوف يجد القارئ الوضوح والمباشرة في معالجة الكاتب لذلك الموضوع الهام. فهو لا يترك القارئ يتخبط في التخمينات حتى يتعرف على موقفه من بين المواقف التي يثار حولها الجدل، ولكنه يذكر موقفه بوضوح دون أن يتظاهر بأنه يجوز “معرفة أفضل” بل ودون أن “يحيط نفسه” بغلاف من الاصطلاحات (المهنية) المشوشة التي دائمًا ما يصاب العلماء المسلمون “المتشبهون بالغرب” بدائها. وإن مما تميز به الدكتور إدريس أيضاً هو أنه يشير إلى القرآن بشكل مباشر حين يتشق منه النظرية الإسلامية للتغيير الاجتماعي. كما أنه يطرح الأسئلة ولا يتردد في إجابتها وقد أبدى وجهة النظر بأن قانون التغيير الاجتماعي يكمن في الآية: “إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد: 11)
وينشأ السؤال إذا ما كان التغير الاجتماعي المشار إليه في القرآن الكريم هو من الخير إلى الشر؟ أو من الشر إلى الخير؟ أو يحتمل كلا المعنيين.
ويرى الدكتور إدريس أن التغيير الذي تشير إليه الآية القرآنية هو من الخير إلى الشر “لأنها هي التغييرات الوحيدة التي تنسجم مع المبدأ الإسلامي الأساسي ولأنها قد تم تأييدها بكثير من الآيات الأخرى”.
وإن ذلك الموقف، بالرغم من تدعيمه، يحتاج إلى القيام بدراسة انتقادية بواسطة باحثين آخرين.
ولقد طرح الدكتور إدريس مسألتين أخريين ذاتي أهمية، تتعلقان بعملية التغيير الاجتماعي الإسلامي، وهما: دور التخطيط، ودور الدولة.
وقد أكد كلاً من أهمية التخطيط والدولة باعتبارهما ضروريتين ولكنهما غير كافيين في حد ذاتهما لتحقيق التحول إلى الاتجاه الإسلامي في المجتمعات المسلمة المعاصرة.
وما ذكرنا من نقاط جزء من المناقشات الهامة التي وردت في هذا الكتاب والتي نعتقد أنها ملائمة لإغراء أي عالم جاد أن ينغمس في قراءة ممتعة للصفحات التالية.
وإننا نأمل أن تكون تلك الدراسة –بالإضافة إلى إسهامها في زيادة ثروة الثقافة الإسلامية- حاثة لبعض العلماء المسلمين على إجراء أبحاث أكثر تعمقاً حول هذا الموضوع.
ونختم تلك المقدمة بالآية الأولى التي أنزلت في القرآن الكريم “اقرأ باسم ربك الذي خلق”. (العلق: 1)
محمود رشدان
السكرتير العام لاتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا
عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي:
إن هدف الحركة الإسلامية هو تكوين مجتمع جديد في مكان ما من العالم يكون مقدسا تماما لتعليمات الإسلام ويعمل على تطبيق تلك التعليمات في حكومته، وتنظيماته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وعلاقاته مع الدول الأخرى، ونظامه التعليمي، وقيمه الأخلاقية وجميع الأوجه الأخرى في أسلوب معيشته.
إن عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي تتمثل في جهدنا المنظم والتدريجي الذي سوف يبلغ أوجه في تحقيق ذلك المجتمع.
ذلك بالطبع يؤدي إلى طرح السؤال التالي: هل توجد طريقة إسلامية لتحقيق ذلك التحول إلى الاتجاه الإسلامي؟ أو بعبارة أخرى، هل الإسلام يقوم فقط بتحقيق الهدف المراد التوصل إليه ويترك إلى الأفراد اختيار الوسيلة التي يتم بمقتضاها تحقيق ذلك الهدف أو أنه يحدد أيضًا الوسائل التي تتخذ من أجل التوصل إلى ذلك الهدف؟
والإجابة على هذا السؤال سوف تتسم بالوضوح حالما نبتدئ في النظر إلى بعض القضايا الرئيسية المتضنمة فيه.
كيف يأتي نظام اجتماعي معين إلى الوجود؟ إن الإجابة على هذا السؤال تعتمد في تحليلها الأخير على وجهة نظر الإنسان بالنسبة لطبيعة الحقيقة. وذلك لأن تحقيق بعض النتائج الاجتماعية المعينة يعتمد على الأداء السليم لبعض الأفعال التي بدورها تقوم على أساس الاعتقاد في وجود علاقة سببية بين تلك الأفعال والنتيجة المرغوب في تحقيقها. واختيار تلك الأفعال السببية يعتمد على مفهوم الإنسان للحقيقة ككل. إن الشخص المؤمن بالمذهب المادي والذي يعتقد بصفة أساسية أنه لا يوجد شيء في الكون سوى المادة وحركتها لن يضمن تلك الأفعال أشياء مثل الصلاة، أو النوايا، أو القيم الأخلاقية. لأن تلك الأشياء في اعتباره ليست بأكثر من مجرد أسماء لا تشير إلى أية حقيقة، ولذلك ليس من الممكن بحال أن تكون ذات أثر.
وإذا كانت الوسائل التي تتخذ لتحقيق الأهداف ترتبط بتلك الكيفية من وجهة نظر الإنسان بالنسبة للكون، فإن عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي يجب أن ترتبط بوجهة النظر الإسلامية تجاه الحياة. ولقد ثبت ذلك الأمر من خلال حقيقة أن الإسلام يعتبر بمثابة رسالة ونظام. إنه يعتبر كمجموعة من الحقائق التي يجب أن يحولها المؤمن إلى واقع. وإنه يعتبر بمثابة النظام الذي يتم ذلك التحول بمقتضاه. ولقد ورد تلخيص مبادئ ذلك النظام في القرآن، ولكننا لا نستطيع أن نفهمها بطريقة صحيحة إلا في إطار سيرة النبي التي تعد بمثابة ترجمة صحيحة لتلك المبادئ.
إنني فيما يلي أقدم بياناً مفصلاً لذلك النظام، ولكنني آمل أن يكون شاملاً، وسأبتدئ من القضايا المتعلقة بالمفاهيم حتى أصل إلى بعض التفاصيل العملية.
النظرية الحتمية للتاريخ
إن أسلوبنا للتحول إلى الاتجاه الإسلامي يجب أن يقوم على أساس مفهومنا للعلاقة الاجتماعية بين السبب والمسبب والتفسير التاريخي، أي على أساس وجهة نظرنا تجاه العملية التي بمقتضاها ترتفع وتسقط الأمم والحضارات. وحتى نتعرف على التفسير الإسلامي لذلك النوع الهام من التغيير الاجتماعي، فمن المفيد أن نضاهيه بالفلسفة التاريخية المعاصرة التي تعد مضللة بالرغم من سطوتها. وطبقاً لتلك الفلسفة، فإن التاريخ يعد بمثابة حركة ذات مسار منفرد ومحدد يؤدي بطريقة تدريجية وحتمية إلى الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أكثر تطورًا ويستطيع الناس أن يؤثروا على تلك الحركة إما من خلال الزيادة أو الحد من درجة سرعتها ولكنهم ليست لديهم القدرة على إيقافها أو تغيير مسارها. وإن هؤلاء الذين يحاولون إيقافها أو تغيير مسارها ليؤدوا إلى إبطائها هم الرجعيون، أما هؤلاء الذين يدفعونها ويعجلون مسارها فهم التقدميون. وإذا كان الإنسان يهدف إلى تحقيق ثمرات جهوده فإنه يجب أن يستكشف تلك الحركة التاريخية، ويرى ما هي المرحلة المستقبلية التي سوف تؤدي إليها، ويرى إلى أي مدى تتماثل أهدافه ومثله العليا مع تلك المرحلة، ثم يوجه جميع جهوده إلى الهدف الذي تؤدي إليه تلك الحركة التاريخية بطريقة حتمية، وإلا فإنه سوف يضيع وقته في جهود رجعية لا طائل منها.
ونحن نعلم أن الشيوعيين يقرون بذلك الرأي، ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يفعلون ذلك. إذ يوجد الكثير من أعداء الشيوعية الأشداء الذين يفترضون حقيقة ذلك الرأي دون قصد. ونجد من بين هؤلاء الناس الرجال والنساء الغربيين والمتشبهين بالغرب الذين يعتقدون أن المرحلة التي وصل إليها الغرب الآن –وخاصة الولايات المتحدة- تعتبر في مجموعها أكثر تطوراً في كلٍ من الناحيتين المادية والحضارية. وفوق ذلك، فإنها هي المرحلة التي يتحتم أن تنتقل إليها جميع الأمم الراغبة في تحقيق الثورة الصناعية وإحراز المدنية. وهذا الاتجاه الذي يعتنقه الكثيرون في العالم الإسلامي ممن يعتنقون الشيوعية أو يخفون أنفسهم وراء القناع الغربي يعتبر أن الموقف الذي يقضي بتحويل المجتمع إلى الوجهة الإسلامية غير ذي جدوى لأنه يتعارض مع الاتجاه التاريخي. وبالنسبة للشيوعيين، فإن الاتجاه التاريخي يؤدي إلى الاتحاد السوفيتي وإلى الدولة الشيوعية المثالية، أما بالنسبة لعملاء الغرب والمتشبهين به، فإنه يؤدي إلى الولايات المتحدة، ومن ثم إلى ما سوف تصل إليه الولايات المتحدة.
النظرية الإسلامية للتغيير الاجتماعي
لعل أفضل طريقة لتقديم الفلسفة الإسلامية للتغيير الاجتماعي في ضوء ما يجب أن نقيم برنامجنا للتحول إلى الوجهة الإسلامية على أساسه تتمثل في تعليقاتنا على تلك الآية القرآنية الشهيرة “إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد: 11).
إن النقاط الرئيسية التي تجدها في هذه الآية هي:
1- إله لديه قوة مطلقة للعمل.
2- بشر لديهم حرية محدودة للعمل.
3- تغيير يحدثه الإنسان داخل ذاته.
4- تغيير في حالة الإنسان يحدثه الله نتيجة لذلك التغيير الإنساني.
إن تلك النقاط الأربعة تكون الشرح الإسلامي، أو فلسفة التغيير الاجتماعي، ولذلك فلندرس ما تتضمنه تلك النقاط بإيجاز:
إن النقطة الأولى تميز مفهومنا للتغيير الاجتماعي عن النظريات المادية والطبيعية التي تفترض عدم وجود الله، ومن ثم تعتنق مبدأ الاكتفاء الذاتي للكون، أي المبدأ القائل من الممكن تقديم تفسير وافٍ للظواهر في هذا الكون، سواء كانت ظواهر اجتماعية أو خلافها، بالاستعانة بالقوانين الخاصة بها. إن تلك الفكرة الإلحادية –لسوء الحظ- قد تمت مطابقتها مع الطريقة العلمية بشكل كبير حتى أنه يتم في الحال استبعاد أية إشارة إلى الله في تعليل تلك الظواهر باعتبارها شيئاً يتنافى مع العلم وليس مجرد أنها تتنافى مع الفكر الإلحادي.
ومن الواجب أن نحذر من ذلك التشويش الذي لا مبرر له، وأن نصر على أهمية وضرورة واستحسان إدراك دور الله في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية في عالمنا.
وتلك النقطة تميز مفهومنا كذلك عن وجهات النظر الإلحادية التي بمقتضاها يعد الخالق مجرد محرك رئيسي دوره الوحيد هو بدء الخليقة ثم تركه إياها بعد ذلك لتعنى بأمرها.
وإن النقطة الثانية تظهر تفوق مفهومنا للتغيير الاجتماعي على نظريات الحتمية التي تفترض أن الإنسان ليست له فاعلية حقيقية أو حرية للاختيار وأن كل شيء يقوم به يكون مفروضاً عليه بقوة إلهية أو بواسطة مسببات طبيعية أو اجتماعية، والإنسان حقيقة لا يستطيع أن يفعل أي شيء ضد مشيئة الله، ولكن الله قد شاء أن منحه حرية الاختيار، والحرية في تحقيق بعض نواياه وإن تعارضت مع الإرشاد الذي قدمه الله له، وإن واحداً من المجالات الهامة للغاية التي أعطى الله فيها الإنسان حرية العمل هي حالته الداخلية. وبما أن الكثير مما يحدث للإنسان يعتمد على حالته الداخلية، فإنه يمكن القول بأن الإنسان يعد مسئولاً إلى حد كبير عن مصيره.
وإن النقطة الثالثة تخبرنا عن تغيير يحدثه الإنسان داخل ذاته. فأي نوع من التغيير هذا؟ هل تغيير من الخير إلى الشر أو العكس أو أنه من الممكن أن يكون أياً منهما. إن التفسير الغالب لتلك الآية الآن هو التفسير الأخير. وإن ما يفهمه معظم الناس الآن من تلك الآية هو أنه عندما يتغير الناس من الخير إلى الشر، يعاقبهم الله بتغيير أحوالهم من الخير إلى الشر والعكس بالعكس. ولكن ذلك يختلف عن التفسير الذي نجده في التعليقات القديمة. فإن المعلقين الأقدمين يبدو أنهم يفهمون أن التغيير الذي يشار إليه في الآية هو تغيير من الخير إلى الشر ويبدو لي أن هذا هو التفسير السليم لأنه الوحيد الذي يتوافق مع المبدأ الإسلامي الرئيسي ولأنه قد تم تأييده بآيات أخرى كثيرة.
وإن النقطة الرابعة تقول لنا إنه عندما يتغير قوم يعاقبهم الله بأن يحرمهم من بعض النعم الروحية والمادية التي منحها لهم وهكذا يجعلهم يعانون من الضيق.
النعم فضل من عند الله:
ولكن لماذا أفضل التفسير القائل بأن التغيير الذي ذكرناه في الآية هو تغيير من الخير إلى الشر؟ إن السبب في ذلك يرجع بصفة رئيسية إلى أن النعم –طبقاً للقرآن- لا تمنح للناس في بادئ الأمر نتيجة لأي عمل خير يقومون به. ولكنها تمنح لهم فضلاً من الله. إن الله هو الرحمن، وذلك يعني أنه سبحانه هو الذي يبادر بالخير ويمنحه دون مقابل ولا ينتظر حتى يبادر الناس بفعل شيء يتسم بالخير ثم يكافئهم من أجله. إن النعم –سواء كانت روحية أم مادية- تمنح للناس من خالقهم وذلك ينبع من رحمته وفضله. ولو أنهم كانوا شاكرين، فسوف تحفظ لهم تلك النعم، بل أنها سوف تزداد، ولكن لو أنهم ارتكبوا أفعالاً تتسم بالجحود، فإن الله يعاقبهم بأن يحرمهم من بعض تلك النعم إن لم يكن منها جميعاً. ولكنهم إذا تابوا وعادوا إلى الطريق القويم فإن تلك النعم تعود إليهم.
إن المثل الذي يدل على ذلك تماماً هو مثل آدم. إن الله سبحانه قد خلق آدم ووضعه في أفضل الحالات ومنحه الطمأنينة ووفر له وسائل الراحة المادية. ولكنه عندما أكل من الشجرة المحرمة (التي لم تكن شجرة المعرفة) فإنه فقد بعض ذلك.
وينطبق نفس المبدأ على المجتمعات والأمم الأخرى التي يشار إليها في القرآن، كالقرى، أو أهل القرى. فلنبتدئ بالسنن التي تتحكم في سقوط أو هلاك الأمم الجاحدة، ثم ننتقل إلى تلك التي تتحكم في بقاء وسطوة الأمم الشاكرة.
وفيما يلي بعض الأمثلة مما يحدث للأمم الجاحدة:
إن أهل سبأ الذين عاشوا بين حديقتين قد أمروا بأن يأكلوا مما رزقهم الله، ويكونوا شاكرين لفضله، ولكنهم أعرضوا، ومن ثم أرسل إليهم الطوفان “سيل العرم” وبدلاً من الحديقتين اللتين أعرضوا عنهما أعطوا حديقتين بهما فاكهة وأشجار الطرفاء وقليل من الأشجار الأخرى، يقول الله بصدد ما حدث لهم “ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور”. (سبأ: 17).
ولقد أخبرنا القرآن أيضاً عن “قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون”. (النحل: 112).
وهكذا فإن السقوط والهلاك هو المصير النهائي المحتم لكل أمة جاحدة، أي، لأية أمة تتمرد على الله وتتبع طريق الفسوق.
ولكن ذلك الهلاك النهائي يحدث طبقاً لمبادئ، وفيما يلي بعض منها:
أ- إن الهلاك أو العقاب لا يقع على أمة إلا بعد أن تنذر إنذارا كافياً، ومن الممكن أن يأتي إليها هذا الإنذار من خلال وسيط أي رسول من عند الله:
“وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون” (القصص: 59).
“وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون. ذكرى وما كنا ظالمين. (الشعراء: 208- 209).
أو أنهم يتم أخبارهم بطريقة أخرى أنهم ظالمون حتى يعدوا أنفسهم للعقاب.
“وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون. فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين” (الأعراف: 4-5).
إن معنى تلك الآية يبدو أكثر وضوحاً في ضوء حديث النبي الذي يؤكد أنه لا تهلك أمة إلا بعد أن تقر أنها هي وحدها الملومة وأنها هي التي جلبت على نفسها الهلاك وذلك يثبت بالآية:
“ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون” (الأنعام: 131).
نستطيع أن نستنتج من ذلك المبدأ الإلهي أو السنن أنه إذا كان هناك مجتمعان يتساويان في فسوقهما وجحودهما، فإن المجتمع الذي أنذر سوف يهلك قبل المجتمع الذي لم ينذر، ومن ثم، فإننا نرى من القصص التي تروى في القرآن حول الأمم المندثرة أن هلاك وسقوط تلك الأمم قد جاء بعد رفضها لرسل الله.
ب- أن الهلاك لا يأتي مباشرة، أي أنه لا يتم إهلاك الأمم أو إسقاطها مباشرة بعد أن تبدي ما يدل على الجحود. ومرة أخرى فإن ذلك يرجع إلى رحمة الله، إن الله يعطي بلا مقابل وبلا حدود ولكنه لا يأخذ ما وهبه دفعة واحدة.
“وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير” (الحج: 4).
“وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا. وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكم موعدا” (الكهف: 58-59).
ج- إن سقوط كل أمة كما قرأنا في الآية السابقة يكون طبقًا لأجل محدد ليس من الممكن أرجاؤه أو تعجيله.
“وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم”
“ما تسبق من أمة أجلها وما يستئخرون” (الحجر: 4-5).
د- قبل أن تهلك الأمة قد تمر بمحن قاسية مما قد يجعلها تتوب وتعود إلى الطريق المستقيم.
“ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون” (الروم: 41).
هـ- لا يتم إنزال العقاب بالنسبة لجميع الآثام في العالم وإلا لهلك جميع الناس.
“ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة” (النحل: 61).
لقد كانت تلك هي أسباب المحن والبؤس وسقوط الأمم فما هي إذن أسباب ارتفاع الأمم وازدهارها المادي والروحي؟
توجد بصفة رئيسية أحوال إنسانية معتادة يجب أن نكون جميعا عليها ويحب الله أن يرانا بها، إن الله يزود كلاً منا ساعة مولده بطباع كريمة، يكون جوهرها الاعتراف بأننا عباد الخالق الأحد. ويعد ذلك الاعتراف بمثابة جوهر إنسانيتنا ويعد منبع وقوام كل شيء حميد بنا، مثل: التفكير المنطقي، والشعور الأخلاقي، الذوق الفني، والمشاعر الأخوية، الخ. وفوق ذلك، فإن الله خلق كل ما يحيط بنا بغرض منفعتنا، ولذلك فإن الحالة المعتادة التي نكون عليها هي حالة من السعادة الداخلية والطمأنينة التي تجيء نتيجة لشهادتنا الفطرية بعبوديتنا لله، تلك الشهادة التي تجد تجاوبها في الرسالة الإلهية التي تنقل إلينا عن طريق رسل الله، وهي أيضاً تعد حالة من النعيم الخارجي الذي يتحقق نتيجة لأن كل شيء يكون خاضعاً لنا ومقصوداً به إشباع حاجاتنا.
إن كل واحد منا يولد تصاحبه تلك الحالة من السعادة الداخلية، ولكن وا أسفاه، فإنه ليس هناك أي منا يجد نفسه في تلك الراحة المادية. إن الكثيرين ممن جاءوا قبلنا قد غيروا تلك الحالة الداخلية التي خلقهم الله عليها ومن ثم فإنه تسببوا في أن يمنع الله الكثير من نعمه عن العالم. ولكن الله أكثر رحمة من أن يصيبنا باليأس. لذا فإن الباب لا يزال مفتوحاً لجميع الناس ليعودوا إلى هدى الله حتى يتمتعوا بذلك النعيم المادي. وهنا سنقدم بعض أنواع السعادة التي يعد بها القرآن هؤلاء الناس.
أ- الراحة المادية:
“ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون” (المائدة: 66).
ب- السعادة الروحية:
“من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة” (النحل: 97).
ج- النصرة على الأعداء:
بقدر ما يؤمن الناس بالله ويثقون به، ويطيعونه يكون الله بجانبهم.
“والله ولي المؤمنين” (آل عمران: 68).
وعندما يكون الله بجانبهم فإنه سوف يدافع عنهم..
“إن الله يدافع عن الذين آمنوا” (الحج: 38).
وسوف ينصرهم.
“إن تنصروا الله ينصركم” (محمد: 7).
“إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد” (غافر: 51).
وإذا دافع عنهم الله ونصرهم، فلن يستطيع أي شيء أن يتغلب عليهم.
“ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون” (الصافات: 171-173).
“كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين” (البقرة: 249).
وطالما يحفظون عهدهم مع الله، فإنهم لن يقعوا أبداً تحت سيطرة الكافرين أو يخضعوا لهم.
“ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً” (النساء: 141).
“ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين” (المنافقون: 8).
إن جوهر فلسفتنا للتغيير الاجتماعي قد أصبح واضحاً الآن. إن الأمم لا ترتفع وتسقط اعتباطاً أو بدون قوانين تنظم نشأتها واندثارها. إن التاريخ ليس بمسار منفرد يجب أن تخطو فيه كل أمة سواء رغبت أم كرهت فإن عالمنا الاجتماعي يحكمه الخالق الذي يجعل الأمم ترتفع. أو تسقط أو تزدهر أو تعاني، وتنتصر أو تخضع طبقاً للقانون الأخلاقي للإقرار بفضل الله.
تطبيق النظرية:
ولكن كيف يستطيع أن يعاوننا ذلك الشرح النظري لارتفاع وسقوط الأمم في إيجاد الطريق للاتجاه بالمجتمع إلى الجهة الإسلامية؟
أولاً: بما أن الاتجاه إلى الوجهة الإسلامية يجب أن يخطط له، وأن التخطيط يقوم على أساس التنبؤ بأحداث المستقبل، فإن ذلك التفسير القرآني للتغيير الاجتماعي يعاوننا في أن ننظر إلى ما وراء المظاهر المتمثلة في القوة المادية لأي أمة حتى نرى العوامل الحقيقية التي تؤدي إلى تماسكها أو تتسبب في انحلالها. وإننا الآن نعلم أن الطريقة الوحيدة لضمان استمرار نعم الله هي اتباع الطريق الذي اختاره الله لعباده، وأية أمة تنحرف عن الطريق من المؤكد أنها سوف تصاب بالضعف، إن لم تصب بالهلاك التام. ولن تستطيع أي ثروة، أو أي معرفة دنيوية أو قوة مادية –من أي نوع- أن تنقذها من ذلك المصير المحتوم.
“أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون”. (الروم: 9-10).
إن واجبنا ليس هو أن نجلس وقلوبنا مفعمة بالبهجة في انتظار السقوط المحتوم للمجتمعات المنحرفة، كلا إن ذلك ليس بموقف أناس يدينون بالشعور بالمسئولية، إن واجبنا هو أن تنذر تلك المجتمعات بطريقة مخلصة ورحيمة ومقنعة، حتى نساعدهم في إدراك التماثل بين أساليبهم والأساليب التي أدت إلى سقوط المجتمعات الأخرى، ونشرح لهم ببعض التفصيل العملية التي بمقتضاها يؤدي الانحراف عن طريق الله إلى الشقاء والمحن، بل ويؤدي في نهاية الأمر إلى سقوط المجتمع أو حتى هلاكه التام.
إن ذلك الموقف الذي يتضمن تقديم إنذار مخلص ومقنع يجب أن يكون هو موقفنا تجاه جميع المجتمعات والأمم سواء كانت تنتمي إلى الإسلام أم لا، إن هدفنا وواجبنا ليس هو تدمير المدنية الغربية والبناء على أنقاضها، ولكنه يتمثل في بذل الجهد لإنقاذها وإرشادها إلى الطريق الصحيح، ولكنها إذا لم تبال بإنذارنا أو تستمع إلى نصحنا فإن سقوطها سوف يكون محتوماً ونكون حينئذ قد أعفينا أنفسنا من المسئولية.
ثانياً: ومما يعد أكثر أهمية، أننا بمقتضى معرفتنا أن التقرب إلى الله هو سر النجاح يجب أن نفعل ما في طاقتنا من أجل تحقيق ذلك الهدف ونرفض بحزم كل ما يجعلنا نحيد عنه مما قد يصاغ إلينا في إطار أساليب وحيل قد تبدو بمثابة الطريق الممهد للنجاح بالنسبة للأشخاص قليلي التبصر الذين تبهرهم الأضواء الوامضة. وإذا كنا نعني بالنجاح مجرد حيازة مجموعة من الناس للسلطة –وذلك ما يحدث كثيراً- فإننا حينئذ لا نكون في حاجة إلى السعي للحصول على الإرشاد الإسلامي بالنسبة لكيفية تحقيق ذلك، ولكننا إذا كنا نرغب أن تقع تلك السلطة في أيدي أشخاص يستخدمونها لتكوين والحفاظ على مجتمع يتمتع بالتأييد الذي وعد الله بمنحه للمجتمعات التقية، فإنه حينئذ توجد طريقة واحدة فقط لتحقيق ذلك. وأي جماعة من الناس تحب أن تكون جديرة بالحظوة التي تضعها في مصاف أفضل الأمم، يجب أن تثبت أولاً أنها تسير على هدى الله. إن جوهر أن يكون الإنسان على طريق الله هو شيء يكمن في القلب، ومن ثم فهو غير قابل للملاحظة المباشرة بواسطة الأشخاص الآخرين، ولكنه يكون شيئاً واضحاً لله، وإن الله ينظر في قلوبنا ليرى إذا كنا جديرين بمعاونته لنا أم لا، وبقدر ما ندين بالإخلاص، بقدر ما نحصل على معاونته وتأييده. إن كل عنصر من عناصر الشرك والنفاق يكون بمثابة عائق كامن في طريقنا وسبب كامن لهزيمتنا. وهكذا، كلما كان المسلمون في وقت النبي يعانون من هزيمة أو نكسة مؤقتة في معاركهم ضد الكفار، كان الله يوجههم لأن يبحثوا عن سبب ذلك في قلوبهم. فمثلاً، فإن سبب هزيمتهم المؤقتة في أحد كان يرجع إلى الحقيقة أن بعضاً منهم قد رغبوا في متع الحياة الدنيا، وفي حنين كان يرجع إلى مباهاتهم بأعدادهم الكبيرة.
ولذلك فإننا يجب أن نكون منتبهين حتى لا يزحف ذلك الزيف إلى قلوبنا، ولو أنه وجد طريقاً إلى قلوبنا، فإننا يجب أن نبذل كل ما في طاقتنا لنطهر أنفسنا منه بالاستغفار والتوبة، وبإقامة الأعمال الصالحة وغيرها من أعمال العبادة. إن آثامنا هي عدونا الحقيقي وإن الإخلاص هو سلاحنا الحقيقي الذي لا يمكن تدميره.
إن التأكيد على تلك النقطة من الممكن أن يثير القلق ظناً بأن ذلك قد يكون بمثابة دعوة إلى نوع من الصوفية السلبية، وإنكار لجميع الأنشطة العامة، وخاصة السياسية. ومن الممكن أيضاً أن يقودنا إلى الاستنتاج الخاطئ بأن رغبة الجماعة من المسلمين في تولي السلطة تعد شيئاً آثماً.
ولذلك فإنني أود أن أؤكد أن ذلك ليس هو غرضي وأحب أن أضيف أن ذلك النوع من القلق هو نفسه يعد نتيجة لمفهوم خاطئ للعلاقة بين حالتنا العقلية وأعمالنا وأنشطتنا. إن جهدنا في تطهير قلوبنا يجب عدم تصوره كفعل تحولي يعوق أو يبطئ أنشطتنا العامة، ويجب أيضا ألا نتجنب الأنشطة العامة باعتبارها أعمالاً دنيوية غير جديرة بالشخص التقي. إن القلب الطاهر الواعي بالله يعد بمثابة قوة دافعة تقودنا إلى الأعمال الدنيوية الصالحة، وإن طبيعة أنشطتنا العامة تعد بمثابة التعبير الظاهري لنوع الإيمان الذي يكمن في قلوبنا.
لقد أعلنت فيما سبق أن أسلوب الشخص في تحقيق هدف مرغوب فيه يعتمد على ما يعتبره بمثابة مسبباته الفعالة وعلى مفهومه للعلاقة القائمة بين تلك المسببات.
إن الملحدين يقصرون أنفسهم على الأسباب الطبيعية والجهد الإنساني ظانين أن تلك فقط هي الأسباب الحقيقية الفعالة لأي تغيير في العالم. ونحن نضيف إلى تلك الأسباب اعتقادنا أنه بما أن كل شيء في العالم هو من خلق الله، فإن الله وحده هو المسبب النهائي لكل ما يحدث في العالم، ولذلك فإنه يكون أمرًا طبيعيًا بالنسبة لنا أن نتضمن في نظامنا للأسباب الفعالة أشياء مثل الصلاة، والاستغفار، والتوبة، وعمل ما يوصي به الله وتجنب ما يحرمه، ويصل الإنسان إلى مصاف أولياء الله من خلال أفعال العبادة تلك. وعندما نكتسب حب الكائن الذي يتحكم في العالم لن يستطيع أي شيء أن يقف في طريقنا.
إن اتجاهنا هذا سوف يبدو غريبًا عندما تتم مقارنته بالأفكار والفلسفة السائدة الآن في عالمنا. وطبقًا لما قال النبي فإن الإسلام قد بدأ غريبًا حينما ظهر وسوف يعود غريبًا مرة أخرى.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء” رواه مسلم.
ولو أننا رغبنا أن نكون على طريق الله ونحظى بتأييده، فإن من الضروري –ولكنه ليس من الكافي- أن نكون مخلصين طاهري القلوب، وإلى جانب الرغبة المخلصة في إرضاء الله، فإننا يجب أن نضيف التعرف على الأفعال الصالحة والأساليب التي ترضي الله والتي يعتبرها أفضل الوسائل لتحقيق الغايات التي وضعناها نصب أعيننا، وإن ذلك ينطبق على رغبتنا في تحقيق الدولة الإسلامية المثالية. ونظرًا لأن هدف النبي عندما كان في مكة كان أن يكون مثل تلك الدولة فإننا يجب أن ندرس سيرة النبي وأحاديثه الموثوق بصحتها إلى جانب القرآن.
الأهمية الأساسية للدولة الإسلامية:
بانتقالنا إلى سيرة النبي، أجد من الضروري أن أبرز العبارة التي طرحتها الآن حول هدف النبي بالنسبة لتكوين الدولة الإسلامية.
إن هدف النبي باعتباره رسولاً لله كان يتمثل في نقل رسالة الله إلى عباده، وتلك حقيقة. ولكن من الحقيقي أيضًا أن المحاولة لتكوين مثل تلك الدولة الإسلامية تعد جزءاً من تلك الرسالة. ولقد قيل إنه إذا كان أحد أهداف النبي يتمثل في تكوين مثل تلك الدولة ما رفض العرض الذي جاءه من مكة لتولي منصب الرئاسة ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام، قد رفض ذلك العرض، ولكن السبب في ذلك هو أن قبوله لم يكن نجعله رئيسًا لدولة إسلامية بل كان سيصبح رئيسًا لقوم لم يؤمنوا حتى برسالته، ولكنهم عرضوا عليه ذلك المركز كرشوة لحثه على التوقف عن نشرها، والشخص الذي يقبل مثل ذلك العرض لا يكون نبيًا حقيقيًا، بل يكون إنسانا تمتلكه الرغبة في السلطة، ويكون الادعاء في النبوة بالنسبة له ليس بأكثر من وسيلة لتحقيق تلك الرغبة.
إن حقيقة أن النبي كان تواقًا إلى تكوين دولة إسلامية تظهر بوضوح حين ندرك أنه إلى جانب محاولته إقناع الناس باعتناق الإيمان الجديد فإنه كان يبذل أقصى جهده ليظفر بتأييد جماعة منظمة ومستقلة تكون بمثابة معقل لذلك الإيمان. ولتحقيق تلك الغاية فإنه اعتاد أن يتصل برؤساء القبائل المختلفة، وخاصة في وقت عقد الأسواق السنوية في مكة، ويطلب منهم أن يقبلوه كنبي وأن يكونوا حماة الإيمان الجديد، وأخيرًا فإن قبيلتين من المدينة، وهما الأوس والخزرج فعلتا ذلك ومكنتا من قيام أول دولة مسلمة نشأت في أراضيهم.
ولنفترض الآن أن عددًا من المسلمين قرروا العمل لتحقيق تلك الغاية. فبأي وجه يستطيعون أن يفيدوا من سيرة النبي في المرحلة المكية؟
موقفان متطرفان:
اعتنق عدد كبير من الناس موقفين متطرفين: الأول هو أنه نظرًا لأن رسالة النبي قد اكتملت أخيرًا في شكل القرآن ومجموعة الأحاديث الموثوق بها والتي تحت تصرفنا الآن فإن المراحل الأولى التي مرت بها تلك الرسالة لا تتلاءم الآن مع نوع النظام الذي يجب أن نتبعه في نشرها أو ممارستها ولكن ديننا كامل ويجب أن تتم ممارسته في مجموعة، وليس من الممكن إيقاف أو إرجاء تطبيق جزء منه لأي سبب من الأسباب.
أما الموقف الآخر فهو أن الناس الآن قد ارتدوا إلى نوع من الجاهلية المكية التي كانت سائدة في وقت رسالة النبي.
ولذلك فإنه يجب علينا أن نبتدئ من النقطة التي بدأ منها النبي ونمر بجميع المراحل التي مر بها حتى نستطيع في نهاية الأمر تكوين دولتنا الإسلامية.
وكل من هذين الموقفين ليس من الممكن الدفاع عنه، أما الأول فلأنه يتجاهل الحقيقة الهامة التي ذكرناها سابقًا، وهي أن الإسلام يعد بمثابة رسالة ونظام، وأن الأسلوب الذي بمقتضاه يتم نقل الرسالة وممارستها يعد جزءاً لا يتجزأ عن الرسالة ذاتها، ومن ثم ليس من الممكن تجاهله. وإذا قبلنا ذلك الأمر، فإننا نستطيع دائماً أن نسترشد بالأساليب التي اتبعها النبي في أي فترة من حياته.
وكذلك الموقف الثاني لا يمكن الدفاع عنه لأنه من المستحيل أن ننقل موقفًا تاريخيًا كاملاً من إحدى الفترات الزمنية ونفرضه على الفترة الزمنية التالية. وذلك هو ما يطالب به الموقف الثاني تمامًا.
ويمكننا رؤية نتائج مثل تلك المحاولة في المثل الحي لبعض الشباب الذين أعرفهم والذين حاولوا اتباع ذلك الأسلوب نتيجة لفهمهم الموضوعي للكاتب المسلم العظيم الشهيد سيد قطب، وهم قد ابتدءوا بتكوين جماعة وانتخاب قائد، وقد كان من المفترض أن تكون تلك الجماعة متماثلة مع جماعة المسلمين الأوائل، ولكنهم تجاهلوا حقيقة أن هؤلاء الذين تجمعوا حول النبي قد كانوا هم المسلمين وحدهم على وجه الأرض، وحتى يضاهوا تمامًا بين تلك الجماعة وجماعة النبي فإنهم أطلقوا عليها اسم جماعة المسلمين، وتلك عبارة توحي أنهم هم المسلمون الوحيدون، وهم قد اعتقدوا بالفعل أن من لا ينتمي إلى جماعتهم لا يكون مسلمًا، أو كما يقول المعتدلون منهم يكون مجهول الحال، أي مشكوكًا في أمره، وعندما سألت بعضهم ذات يوم بأي حق ينكرون الإسلام على شخص ينطق بالشهادة، ويقيم الصلاة ويعرف باستقامته الأخلاقية وكان الجواب “ولكن من أجل أن تكون مسلمًا يجب أن تنتمي إلى المجتمع الإسلامي، وهؤلاء الناس يعيشون في مجتمع الجاهلية”.
قلت: “إذا كنتم تعنون بالمجتمع الإسلامي مجتمعًا مثل مجتمعكم، حينئذ فإنه يوجد الكثير من المجتمعات الإسلامية الأخرى” فقالوا “إنها ليست بإسلامية لأنها تقبل هؤلاء الذين يعيشون في مجتمع الجاهلية كمسلمين وإن أي شخص يعتبر مثل هؤلاء الناس مسلمين يكون هو نفسه ليس بمسلم”.
وهم اعتقدوا أنهم نظرًا لكونهم في المرحلة المكية، فإنهم يجب عليهم أن يحذوا حذو النبي بأن يدعوا الناس فقط إلى مبادئ العقيدة ولا يتحدثوا إطلاقا عن أشياء مثل الاقتصاد، والأمور السياسية، والعدالة الاجتماعية، الخ.. وقد ظهر سؤال حول ما إذا كانوا هم أنفسهم يجب أن يمارسوا ذلك الجزء من الشريعة الذي أوحي في المدينة. وانقسمت الآراء حول تلك المسألة إلى قسمين، وعلى الأقل كان واحدًا من القسمين يعتبر الآخر غير مسلم.
والمجموعة التي اعتقدت أنهم يجب ألا يمارسوا ذلك الجزء من الشريعة الخاص بالمدنية قد وصلت في تطرفها إلى حد إهمال دراسة الآيات القرآنية المدنية.
أما ذلك الجزء من المجموعة الذي اعتقد بوجوب ممارسة الشريعة في مجموعها ذهب إلى مدى جلد أحد الأعضاء الذي اعترف بأنه ارتكب الزنا.
إنني أعتقد أن المثل الذي ضربه هؤلاء الشباب المتحمسون والمخلصون في كثير من النواحي يشكل إنذارا ملائماً ضد ذلك النوع من التطرف.
التماثل والاختلاف:
الموقف الصحيح –كما أعتقد- هو أن الإنسان يجب أن يبحث عن التماثل ولكنه يجب أيضًا أن يقر بالاختلافات بين أي جماعة مسلمة معاصرة في بلدة معينة وبين النبي وأصحابه في كل من فترتي مكة والمدينة. وعندما نجد مثل تلك الجماعة نفسها في موقف يتماثل مع موقف المسلمين الأوائل فإنها يجب أن تقتدي بسلوك النبي في ذلك الموقف. ونستطيع أن نصور تلك النقطة بقليل من الأمثلة:
1- إن القوم الذين قبلوا الإسلام في مكة لم يتركوا ليعيشوا كأفراد منعزلين. بل كونوا جماعة منظمة، وإنني أعتقد أن الحكمة من وراء ذلك هي:
أولاً: أن المسلمين –طبقاً للقرآن- يعدون بمثابة أمة، أي إنهم إخوة، ومن ثم ليس من الممكن أن يكونوا مسلمين تماماً لو أنهم عاشوا متفرقين. إن ذلك قد يبدو موهوماً بالتناقض، ولكنه صحيح، فإننا عندما نعيش منعزلين لن نحقق كياننا أو نشعر بالرضاء لأنه يوجد بداخل كل منا فراغ ليس من الممكن أن يملأه سوى الإخوة المسلمين الآخرين.
ثانيًا: إنه إذا كان هدفنا النهائي هو تكوين مجتمع خاص بنا، حينئذ فإنه يجب أن يتم تكوين بذرة ذلك المجتمع داخل المجتمع الذي نرغب في تغييره. وبتلك الطريقة فقط نستطيع أن نواجه تحديات المجتمع الذي نعارضه. وحينئذ نستطيع أن نشعر بنعمة العيش في مجتمع مسلم ونعطي الآخرين مثلاً حيا لذلك المجتمع.
والعبرة في ذلك بالنسبة لأي قوم يرغبون في تكوين مجتمع مسلم صحيح يمكنه التطور حتى يصبح دولة مسلمة، هي:
أ- أنهم يجب أن ينظموا أنفسهم في جماعة ويكون لهم قائد. وأن الشيء السليم هو أنه يجب أن تكون هناك جماعة واحدة فقط من المسلمين تعمل في مجتمع معين من الجاهلية أو شبه الجاهلية. وكلما كثر عدد الجماعات التي لدينا، انحرفنا عن الاقتداء بالنبي، ومن ثم تأخرت عملية التوجه بالمجتمع إلى الوجهة الإسلامية.
ولكنه إذا حدث لسبب أو آخر أن وجد أكثر من جماعة واحدة فإن أفضل موقف هو أن تتعايش تلك الجماعات بطريقة ودية وتتعاون في العمل على تحقيق الغايات المشتركة وتنسق جهودها من أجل ذلك.
ويجب أن تتذكر تلك الجماعات أن الرابطة التي تربطها معًا، وهي شهادة أن لا إله إلا الله تعد أكثر أهمية من الخلافات التافهة التي تبث الفرقة بينها.
ب- ويجب أن يتذكروا أن قائدهم ليس بنبي يجب الإيمان بكل كلمة يتفوه بها واتباعها، فإنه هو نفسه تابع للنبي ولذلك يجب اتباعه فقط بقدر ما يتبع هو النبي، ويجب أن يقوم الأتباع المثقفون لمثل ذلك القائد ببذل ما في طاقتهم ليحصلوا على المقياس الذي بمقتضاه يستطيعون تقييم قائدهم، أي القرآن والسنة. إن مثل ذلك القائد لا يصل إلى مرتبة النبي، بل إنه لا يصل حتى إلى مرتبة أمير المؤمنين مثلما كان أبو بكر وعمر، أو أي من الخلفاء المسلمين. ومن أجل أن يكون الشخص أميرًا بتلك الكيفية، فإنه يجب أن يكون بمثابة القائد الفعلي للمسلمين، أي يكون هو الشخص الذي يمسك بزمام السلطة الحقيقية ومن ثم يستطيع تطبيق القانون الإسلامي. إن قادتنا يعتبرون حقيقة كأمراء ولكنهم أمراء في مفهوم أضيق ولذلك فإنه يكون من الخطأ من ناحيتهم أن يطالبوا بالسلطات التي منحها النبي للقادة ومن الخطأ من ناحيتنا أن نزودهم بمثل تلك السلطات.
ج- إنهم يجب أن يبذلوا ما في وسعهم ليحافظوا على الأخوة التي تعتبر قوام وحدتهم، ويتذكروا أن الشيطان سوف يفعل ما في طاقته ليقضي على تلك الوحدة بما يطلق عليه القرآن النزغ، وأن يكونوا على ثقة من أن النزاع والصراع لن يجلب لهم سوى الفشل والانحلال.
د- طبقا لنفس المثل الأعلى، فإنه يجب أن يكون هناك أيضًا تعاون بين التنظيمات الإسلامية على النطاق العالمي، وبين تلك التنظيمات وأي دولة مسلمة حالية تكون راغبة في تقديم المساعدة والعون. ونأمل أن يأتي الوقت الذي تعتبر فيه الدولة المسلمة أرضها مقرًا لجميع المسلمين المخلصين وتفتح أبوابها لهم، وتقبلهم كمواطنين يتمتعون بجميع الحقوق، وتعجل بعملية التوجه إلى الاتجاه الإسلامي في العالم بأجمعه كجزء من واجبها، وهكذا تقدم لها جميع التأييد المعنوي والمادي والمساندة التي تحتاج إليها.
2- إن النبي في مكة، باتباعه إرشاد القرآن، قد ابتدأ في دعوة الناس إلى المبادئ الرئيسية للإيمان، وإنني أعتقد أنه فعل ذلك لأن الإسلام ليس مجرد مجموعة من الأوامر والنواهي، إنه نظام يتمشى مع كل من الناحية المنطقية والنفسية. وهكذا فإننا لو لم ندعم الأساس الداخلي لن نستطيع أبداً أن نقيم أي بنيان خارجي قوي، أي لو لم يتم دعم الإيمان بقوة في قلوب الناس، فإنه يكون من غير المجدي أن نطالبهم بفعل ما أمر به الله وتجنب ما نهى عنه. وقد وضح ذلك تمامًا في كلمات عائشة التي قالت، طبقاً للبخاري، أنه عندما جاء النبي ابتدأ في إخبار الناس عن الله والآخرة وفقط، بعد أن آمنوا بذلك فإنه ابتدأ في إخبارهم أنهم يجب ألا يشربوا الخمر أو يرتكبوا الزنا. ولو أنه كان ابتدأ بالأمر الثاني لكانوا قد رفضوا بصلابة أن يلتزموا بأوامره ويكفوا عن تلك الآثام.
القضايا الكبرى:
ولكن هنا نقطتان يجب أن نلاحظهما:
أ- إن النبي لم يقصر نفسه على الحديث عن أمور العقيدة فقط. أيضا –ومثله مثل من جاء من قبله من الأنبياء- قد شرح النتائج الأخلاقية والاجتماعية لتلك العقيدة، وأن ذلك الأمر هو الذي يؤثر في القلب أكثر من الحديث النظري عن العقيدة، وهو الذي يتسبب –عادة- في جانب معارضة الناس من ذوي المصالح في مجتمعات الجاهلية المتعارضة مع الإسلام واضطهاد هؤلاء الناس للأنبياء.
ب- عند دعوة الناس للإيمان الجديد، فإن النبي لم يتحدث إليهم بأسلوب جازم أو عاطفي بحت، ولكنه لجأ إلى المناقشة المنطقية وإلى البراهين المادية. لقد تحداهم عقليا وأنذرهم بإخلاص، وطلب منهم النظر في التاريخ بترو للاعتبار به، وشرح لهم حقيقة أنه كان يدعوهم إلى الطريقة الوحيدة التي تجلب عليهم السعادة المادية والروحية. في هذه الحياة والحياة الآخرة.
إن حقيقة تلك الطريقة الحكيمة لتعريف الناس بالإسلام لم تقتصر على الفترة المكية قد تم الإلماح إليها في حديث النبي حول غربة الإسلام.
“بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء”.
إن ذلك الحديث يشرح ويثبت ما ذكرته عن التشابه في المواقف فإنه يخبرنا أنه سوف يأتي وقت عندما ينظر الناس إلى الإسلام بنفس الأسلوب الذي نظر به المكيون إلى الإسلام عند ظهوره لأول مرة. وإن ابن تيمية بنفاذ بصيرته المعتاد قد استنتج من ذلك الحديث أنه عندما يصبح الإسلام غريبا للمرة الثانية فإنه يجب أن نعتنق نفس الأساليب التي اتبعت لنشره عندما بدأ غريبا في المرة الأولى. ونقصد بذلك أنه يجب أن نركز على القضايا الأساسية الرئيسية، ونستخدم العقل والمناقشات المنطقية لإثبات حقيقة تلك المبادئ، وإثبات زيف المذاهب المضادة.
ولذلك يجب علينا –طبقاً لسنة النبي- أن نبذل ما في وسعنا لأن نشرح النتائج الأخلاقية والاجتماعية لتلك الحقائق الأساسية، وأن نطبق النقد الشامل على مجتمعنا، ونقدم بديلاً مقنعاً.
وعند عملنا ذلك، فإنه سوف يكون من غير العملي ومما يشكل جموداً غير ضروري أن نقصر أنفسنا على تعليمات الإسلام المكية. إنه يكون من غير العملي لأن الأمر يختلف عن حالة المكيين الأوائل، فإن الكثير من الناس الآن –بما فيهم غير المسلمين- يعرفون تفاصيل الإسلام التي أوحيت في المدينة. ولذلك لا نستطيع أن نعاملهم كما لو كانوا جهلاء بالسور المدنية، ولا نستطيع أن نرفض الإجابة على بعض الأسئلة التي يطرحها مثل هؤلاء الناس بدون أن نضعف من موقفنا. إن مثل ذلك الجمود يعد ضاراً لأنه يحرمنا من ميزة وضعها الله تحت تصرفنا، إن كلاً من الرسل الذين جاءوا قبل محمد –إلى جانب دعوتهم للناس إلى الحقيقة الأساسية للدين- فإنهم كانوا يعنون بالمشكلة الاجتماعية المعينة للناس المعينين الذين أرسلوا إليهم. وهكذا فإن موسى قد اهتم بتحرير قومه من الحكم المستبد لشعيب واستئصال الظلم الاقتصادي، وكان لوط يوجه اهتمامه للقضاء على الفساد الاجتماعي، ولكن الإسلام يعني به أن يكون لجميع الناس وجميع الأجيال القادمة، ومن ثم فإنه يعالج جميع المشاكل الإنسانية الرئيسية. والآن، نظراً لوجود ذلك الكنز تحت تصرفنا، ونظراً لأن الناس في وقت ما ومكان ما قد يشعرون بإلحاح بأي من تلك المشاكل، فإننا نستطيع أن نكتسبهم إلى الطريق المستقيم بأن نقدم لهم حل المشكلة التي تقلق راحتهم. وإنني لا أجد أي سبب لعدم استغلالنا لتلك الميزة. وحتى نفعل ذلك بطريقة فعالة ونقدم الإسلام لأي مجتمع بطريقة مقنعة، فإنه يجب أن نحترس بالنسبة للمبادئ الإسلامية التي صيغت في إطار تاريخي مشوش في فترة ما في الماضي، بما في ذلك الإطار الذي صور فيه النبي عليه السلام أن المبادئ تعد بمثابة الجوهر، وإن تطبيقها في وقت معين هو الشكل الخارجي المتغير، ولكننا يجب أيضاً أن نحترس من أن نصوغ تلك المبادئ في شكل غير ملائم لمجرد أنها سوف تقدم إلى مجتمع معاصر ومتقدم من الناحية المادية مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
3- إنني الآن سوف أنظر باختصار –في ضوء السيرة- مجموعة من الأفكار الخاطئة حول عملية التوجه إلى الاتجاه الإسلامي.
إن بعض الجماعات في حين أنها لا تذهب إلى مدى الاعتقاد الواعي بأنها تتكون من المسلمين الوحيدين، فإنها تقوم بالعمل والتخطيط على أساس ذلك الافتراض، ومن ثم ترفض الاعتراف بالمساهمات القيمة للجماعات الأخرى، والأفراد والهيئات الرسمية وتحاول أن تعزل نفسها عنهم، وأنه في الحقيقة لم يكن هناك شيء إسلامي في الفترة المكية سوى أفعال النبي والمسلمين لقلة الذين اتبعوه، ولكن النبي قد شجع كل شيء كان يعتبر حميدًا طبقًا لمقاييسه الإسلامية، وكان يقر به كشيء حميد. وهكذا حينما كان في المدينة فإنه تذكر حلف الفضول وامتدحه، وقد كان هدف ذلك الحلف هو الدفاع عن المظلومين ومساعدة الفقراء، وكان النبي قد اشترك في تكوينه عندما كان في العشرين من عمره لماذا يجب حينئذ أن نرفض الاعتراف بالطبيعة الإسلامية لشيء أو عمل لمجرد أن شخصاً آخر هو الذي قام به؟ إنني أعتقد أن الاتجاه السليم هو الاعتراف والتشجيع لكل شيء إسلامي بصرف النظر عمن قام به، واعتباره مصدرا لعملية التوجه إلى الوجهة الإسلامية.
ب- يوجد البعض الذين يعتقدون أننا لا نستطيع أن نكون دولة إسلامية في بلدة معينة:
1- إلا حينما نجعل جميع من سيكونون بمثابة أعضائها مسلمين حقيقيين ومخلصين، ولكن النبي لم يفعل ذلك، ومن المؤكد أنه من الخاطئ وغير العملي أن نعتقد أنه ليس من الممكن إقامة مثل تلك الدولة في أية بلدة إلى أن يقتنع معظم أهلها، أو إلى أن نكون قدمنا تعليماً وتدريباً إسلاميا صحيحًا لجميع الموظفين الذين سوف يتولون مؤسساتها.
2- وإلا حينما نعد مخططاً لمجتمع المستقبل هذا. ومرة ثانية، فإن النبي لم يفعل ذلك ولم يفعله أي مصلح أو أي حركة ثورية في أي وقت.
3- وإلا حينما يكون لدينا قادة يتمثلون في رجال يحوزون على المعرفة والتقوى مثل أبي بكر وعمر. ولكننا لا نقوم بأي عمل من أعمال العبادة في الشكل السامي الذي كان يقوم به أبو بكر أو عمر، وأنهما هما أنفسهما لم يصلا إلى مستوى النبي، ولذلك فلتكن دولتنا ناقصة مثل صلاتنا، وبأية حال فإنها سوف تكون أفضل من الدولة غير المسلمة، مثلما تعتبر صلاتنا الناقصة أفضل من لو لم نصل على الإطلاق.
فلنفترض الآن أن مجموعة من المسلمين الذين يعملون على تكوين دولة إسلامية في جزء ما من العالم هم:
أ- مخلصون.
ب- ويتبعون الأسلوب الصحيح للتحول إلى الوجهة الإسلامية. هل يعني ذلك أنهم سوف يحققون تلك الغاية بطريقة مؤكدة؟ وإذا لم يكن الأمر ذلك، فلماذا؟ وما هي حينئذ الجدوى من جهودهم؟
إن الجواب هو أن نجاحهم يعتمد على شرط آخر، وهو أن هؤلاء الصادقين منهم عن حق يجب أن يتصفوا بالحكمة بالمقارنة مع هؤلاء الذين يعارضونهم. وإلا فإنهم قد يتعرضون للاغتيال بواسطة أعدائهم، أو قد يرغمون على ترك وطنهم إلى مكان آخر مثل الأنبياء وكثير من المواطنين المخلصين مثل شعب الأخدود.
وحتى في ذلك الوقت فإن جهودهم لن تضيع هباء.
أولاً، لأن الله يقول “إن تنصروا الله ينصركم”. ونظراً لأن عون الله في تلك الحالة لم يأت في شكل النصرة على أعدائهم –للسبب الذي ذكرناه- فإنه من المحتم أنه سوف يجيء في شكل عقاب لهؤلاء الأعداء جزاء لما ارتكبوا.
وهكذا، إذا لم تنجح الجماعة الصغيرة للمسلمين المخلصين في أن تحل محل الجماعات الكبرى من غير المؤمنين، فإنها على الأقل سوف تؤدي إلى سقوطهم، وفي أثناء ذلك فإنها سوف تنجح في الحد من الشر في العالم، وهكذا تمنح الخير فرصة جديدة لأن يزدهر.
ثانياً: لأنهم بالطبع سيحصلون على الأجر الحقيقي في الحياة الحقيقية، الحياة الخالدة بعد الموت، ويتمتعون بالسعادة القصوى بأنهم سيكونون دائماً في حضرة الله سبحانه وتعالى.