إن تغطية احتياجات الاقتصاد القومي والعالمي للائتمان قصير الأجل إنما هي الوظيفة الأساسية للبنوك التجارية في كل مكان. ولا يجوز أن يمنع البنك الإسلامي من تأدية هذه الوظيفة حتى لا يخرج من عداد البنوك وينقلب إلى مجرد مؤسسة من مؤسسات
الاستثمار كما يريد له رائد من رواد الفكر الاقتصادي الإسلامي أو يكتفي بأن يصبح مجرد بنك صغير للحرفيين والصناعات الصغرى كما يريد له رائد آخر في مجال الفكر والتطبيق. وما الائتمان قصير الأجل في أهم صوره إلا عون تقدمه البنوك للمشروعات إذا لم تسعفها مواردها الذاتية واضطرت إلى موارد إضافية تسد بها الثغرة بين الإنتاج والتصريف أو بين الانفاق والتحصيل حتى تنتظم أعمالها ولا تفشل. وهذه خدمة كبرى أساسية وحيوية تقدمها البنوك للاقتصاد القومي فوق ما تقدمه بائتمانها قصير الأجل من تسهيلات جوهرية للتجارة الدولية.
لذلك لا مفر للبحوث من أن تتجه إلى محاولة ابتكار وسيلة تمكن البنك الإسلامي من الاستمرار في تأدية هذه الوظيفة الأساسية. ونرى أن تكثف الجهود لإمكانية أن يحل نظام للمشاركة التجارية الموقوتة محل بند (القروض والسلفيات) في ميزانية البنوك التجارية الحالية بشرط ألا يختل نظام البنك تبعاً لذلك وأن لا يقتضي الأمر سوى تعديل في طريقة محاسبة البنك الحالي لجانب من عملائه. ويستمر البنك في تقديم ائتمانه لا في صورة قرض Loan
وإنما في صورة مشاركة Participation على أن تظل المشاركة مضمونة برهوم حيازية وغير حيازية تماماً كما يجري عليه العمل اليوم في عالم البنوك عندما تمنح ائتمانها في صورة قروض وسلفيات، فإذا حلت هذه المشكلة –وسنرى حلا ًلها في صفحات مقبلة- كان ذلك هو حجر الزاوية في نجاح (بنك إسلامي حديث) يواكب متطلبات العصر.
على أن لدينا حجر زاوية آخر في نجاح البنك الإسلامي مما يعتبر بشرى حقيقية في هذا الشأن. ذلك أن عملية خصم الكمبيالات من الممكن أن تتم في صورة تقبلها الشريعة الغراء يحصل منها البنوك على جعل –بضم الجيم وسكون العين- أو عمولة نظير خصم الكمبيالة على أساس مبدأ جائز شرعاً هو “مبدأ ترك جزء من الدين لمن يحصله جعلاً له على التحصيل” كما سنرى تفصيلاً. ودخول الخصم في حظيرة العمليات المصرفية المقبولة شرعاً يعتبر كسباً كبيراً للبنك الإسلامي. فخصم الكمبيالات هو العملية الأولى والمثلى للبنوك التجارية في العالم بدليل أنها تسمى عادة بنوك الخصم. وخصم الأوراق التجارية إنما يمثل التسهيلات الكبرى التي تقدمها البنوك لخدمة وانماء الصناعة والتجارة والتصدير والاستيراد وتمويل الحاصلات وزيادة النشاط التجاري. ويعتبر الخصم أساساً بالنسبة للبنوك من العمليات المرغوب فيها بدرجة كبيرة. ففوق أنه استثمار قصير الأجل فإنه أيضاً لا يتسبب في تجميد أموال البنوك لمدة تطول أو تقصر. فالخصم يضمن للبنوك إمكان تحريك ديونها في كل وقت عن طريق إعادة الخصم وتحويل الدين بذلك إلى البنك المركزي. وهذا أمر هام وجوهري بالنسبة للبنوك. فالبنك مهما قوي مركزه لا بد وأن يفكر في احتمال اضطراره إلى الالتجاء إلى البنك المركزي في وقت الشدة للحصول على الأموال اللازمة لإجابة طلبات العملاء من النقد السائل. لذلك تعتبر الكمبيالات المخصومة خط الدفاع الثاني عن سيولة البنك بعد أرصدته النقدية التي تعتبر خط دفاعه الأول. وتلك أمور كلها معلومة وما يهمنا هو أن شرعية هذه العملية ستسمح للبنك الإسلامي أن يمضي فيها بكل ما يتضمن ذلك من أبعاد كما تفتح الباب لبنك مركزي إسلامي يمارس وظيفته في إعادة الخصم.
وبجانب العمليات والمشاركات التجارية قصيرة الأجل للبنك الإسلامي نريد له دوراً فعالاً في التنمية الصناعية فيساهم في تأسيس الشركات ويمتلك جانباً من أسهمها ومن أسهم الشركات القائمة ويمدها بما يلزمها من أموال في صورة مشاركات صناعية أيضاً. فنحن لا نريد للبنك الإسلامي أن يكون من بنود الودائع البحتة من ذلك النوع الذي يعمل في بريطانيا. أو بنوك الأعمال الصرفة التي تعمل في فرنسا وإنما نريده يحتل مكاناً وسطاً بين هذين النوعين من البنوك أو بعبارة أخرى يجمع بين اختصاصات هذين النوعين ليتخذ صورة البنك المختلط على غرار بنوك ألمانيا وبنك مصر ليسهم في تصنيع الاقتصاد الإسلامي وهذا أمر حيوي.
على هذه الأسس نحاول رسم صورة للبنك الإسلامي، صورة لا تختلف عن صورة البنك الحالية إلا فيما يلزم لإحلال الربح محل الفائدة ونقسم هذا البحث إلى فصلين. نتكلم في فصل أول عن موارد البنك الإسلامي وفي فصل ثان عن عمليات البنك الإسلامي. ونقسم عمليات البنك الإسلامي إلى قسمين نتكلم في مبحث أول عن عمليات تسفر للبنك عن عمولة وفي مبحث ثان عن عمليات تسفر للبنك عن ربح. كما نقسم العمليات التي تسفر للبنك عن ربح إلى قسمين فنتكلم أولاً عن نظام مقترح لمشاركات تجارية موقوتة تحل محل الائتمان قصير الأجل ونتكلم ثانياً عن استثمارات البنك الإسلامي ومشاركاته الصناعية:
الفصل الأول
موارد البنك الإسلامي
تعتمد البنوك في ممارسة أعمالها بصفة رئيسية على الودائع، ودائع الجمهور وودائع الشركات وودائع الهيئات العامة. كما تعتمد على مواردها من البنك المركزي. والبنك الإسلامي لا يختلف عنها في كل ذلك اللهم في بعض سمات تتسم بها موارده تستلزمها طبيعته المنشودة.
(1) ودائع البنك الإسلامي:
تتمثل ودائع البنوك في حسابات جارية وحسابات بالإطلاع وحسابات بإخطار سابق وحسابات لأجل ثابت وحسابات بشهادة وديعة وحسابات صندوق التوفير.
ويتفق الحساب الجاري مع الحساب بالإطلاع في أن كلاً منهما يستطيع صاحبه أن يسحب منه في أي وقت يشاء، ويختلفان في أن الحساب الجاري يصح أن يكون مديناً. أما الحساب بالإطلاع فيمثل غالباً أموالاً ادخرها الأفراد ويفترض إيداع مبلغ أول تعقبه إيداعات أخرى تضاف إليه أو مسحوبات تنتقص منه.
ويتفق صاحب الشأن مع البنك على مهلة الإخطار السابق الواجبة الاحترام قبل السحب أو على مدة الأجل الثابت الذي يبقى خلاله الحساب دون أن يمس أو على مدة بقاء الوديعة الصادرة عنها شهادة وديعة. وأما حساب صندوق التوفير فهو كل حساب يشتمل عليه دفتر يجب تقديمه للبنك عند كل سحب أو إيداع ولا يسمح للعميل تحت نظامه بتعدي حد معين للسحب يومياً كما أن المبالغ المودعة بكل دفتر يجب ألا تتعدى حداً أقصى معيناً.
كل هذه الأنواع تبقى وتستمر في البنك الإسلامي. ويضاف إليها نوع جديد من الودائع نقترحه للبنك الإسلامي. ودائع يخصصها أصحابها للاستثمار من الممكن أن تمثل في (شهادة وديعة استثمار) أو (شهادة مشاركة) قابلة للتداول مما يضفي عليها نوعاً من السيولة يشجع على الإقبال عليها. وهذا النوع من الودائع يستحق الدعوة والترويج له فهو مورد يساعد البنك على التوظيف في استثمارات طويلة نوعاً فوق أنه يلقى قبولاً لدى المسلمين باعتبار أن الشهادة التي تمثله تصدر عن بنك إسلامي لا يقرض نقوده بالفائدة.
ويكتفي الاقتصاديون في كل بلاد العالم بتقسيم ودائع البنوك إلى نوعين رئيسيين: ودائع تحت الطلب وودائع الأجل. وتمنح البنوك عادة فائدة بسيطة على الودائع الآجلة ولا تعطي فائدة على الودائع تحت الطلب.
وتفسير ذلك واضح إذ حريتها في التصرف –فرضاً- أكبر بالنسبة للنوع الأول عنها في النوع الثاني. والبنك الإسلامي يستطيع أن يعمل في هذا المجال كما تعمل بنوك الدنيا فيتقبل الودائع تحت الطلب ولا يعطى عنها شيئاً. أما الودائع الآجلة فيجب أن لا يعترف لها بهذه الصفة إلا إذا بقيت بالبنك مدة لا تقل عن عام كامل وهذه تعطي نصيباً من الأرباح الصافية التي يحققها البنك في نفس العام بنسبة صغيرة معينة يعلنها البنك كما تحمل شهادات ودائع الاستثمار نسبة معينة معلومة من أرباح البنك.
(2) رأس المال والاحتياطيات:
معلوم أن هناك فارقاً جوهرياً بين البنوك التجارية وبنوك الأعمال المتخصصة، فهذه الأخيرة تعتمد على مواردها الخاصة أي على رؤوس أموالها الضخمة مضافاً إليها ما تحصل عليه من قروض طويلة الأجل في صورة سندات تصدرها، أما البنوك التجارية فتعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً على أموال الغير، تأتيها في صورة ودائع جارية أو آجلة. ومع ذلك فإن رؤوس أموال البنوك التجارية مع احتياطياتها –باعتبارها التزامات لا ترتبط بميعاد تلتزم بها البنوك قبل المساهمين لا قبل المؤسس- تساعد البنوك على توظيفها في استثمارات طويلة نوعاً دون أن تخشى بشأنها مطالبة.
والبنك الإسلامي كما اخترنا صورته ليس بنكاً تجارياً محضاً ولا بنك أعمال محض وإنما يجمع بين الاختصاصين كما ذكرنا. لذلك لا بد للبنك الإسلامي أن يتمتع برأس مال ضخم تضاف إليه احتياطيات ضخمة كذلك حتى تتسع موارده لاستثمارات ومشاركات صناعية.
ويفرقون عادة بين رأس مال البنك المصرح به وبين رأس المال المدفوع فالأول هو رأس المال الكلي الذي يستطيع البنك أن يصدره والثاني هو الجزء من رأس المال الذي طالب به البنك ودفعه المساهمون فعلاً. وهذا الجزء لا يرد للمساهمين إلا في حالة فشل البنك وإلا بعد دفع جميع الديون الأخرى لدائني البنك. أما الجزء الثاني أي رأس المال الذي لم يطالب به فيقسم في بريطانيا إلى قسمين قسم يستطيع مديرو البنك أن يطلبوه في أي وقت حسب مقتضيات الظروف والأحوال وقسم آخر ويسمى برأس المال الاحتياطي وهذا الجزء لا يستطيع المديرون أن يطالبوا به إلا في حالة حل البنك يضمن ذلك بطبيعة الحال ما يقابل ما بأيدي المساهمين من أسهم في أصول البنك المتبقية. وقد لجأت بنوك الودائع في بريطانيا إلى إيجاد هذه المسئولية قبل المساهمين وكونت من رؤوس أموالها احتياطيات من هذا النوع ولو أنها غير مدفوعة فعلاً، إلا أن جعل المساهمين مسئولين بقيمتها في حالة حل البنك قد قوى مركز البنوك عند المودعين وعند غيرهم من الدائنين. ومما يذكر أن البنك العربي يحذو حذو البنوك البريطانية في هذا الشأن ولديه مليون جنيه رأسمال احتياطي وإنا نوصي البنك الإسلامي بإتباع ذلك عند التأسيس دعماً لمركزه.
وبديهي أن رأس المال الاحتياطي وهو جزء لم يدفع من رأسمال البنك لا شأن له بالمال الاحتياطي الذي يجب على البنوك أن تحتفظ به وتحجزه من أرباحها في كل عام وتلجأ إليه في الظروف القاسية لتصحيح قيم بعض الأصول التي قد تتناقص نتيجة للكساد. والقانون يلزم البنوك بالاحتفاظ باحتياطي قانوني. غير أن البنوك تكون من تلقاء نفسها احتياطيات أخرى لحماية نفسها. وقد يعطي تشريع للبنك المركزي حق وضع قواعد عامة تتبعها البنوك بشأن تحديد الاحتياطيات الواجب توافرها لمقابلة الأصول المعرضة لتقلبات شديدة في قيمتها.
ولا شك أن البنك الإسلامي في صورته التي اخترناها يحتاج إلى تكوين احتياطيات من كل نوع: احتياطي ضد هبوط الأوراق المالية خاصة وأن محفظة أوراقه ستقتصر فيما يبدو على أسهم شركات وأنصبة في شركات تابعة، واحتياطي لمقابلة حقوقه المشكوك فيها والمعدومة في المشاركة. واحتياطي ضد خسائر الشركات. وتكوين احتياطيات ضخمة ليس جديداً، فبنك مصر وقد كان بنكاً تجارياً وبنك استثمار في نفس الوقت كون لنفسه احتياطيات بلغت في وقت من الأوقات ستة أضعاف رأسماله أصبحت درعه الواقي فيما يقوم به من أعمال.
هذا وضخامة رأس مال البنك وضخامة احتياطياته تفيده في نواحٍ عدة ليس فقط من حيث كونها مادة تساعد على الاستثمار الصناعي وإنما أيضاً باعتبارها ضماناً ومبعث ثقة لدى المودعين. والواقع أن هناك علاقة تقوم أو يجب أن تقوم بين أموال البنوك الخاصة وبين ما يمكن أن يؤتمن عليه من ودائع. بعبارة أخرى ترتبط إمكانيات البنوك في تلقي الودائع بأحجام رؤوس أموالها واحتياطياتها. بل إن القانون يلزم البنوك في بعض البلاد بمراعاة نسبة معينة بين أموالها الخاصة وبين ما تستطيع قبوله من ودائع كما هو الحال في السويد والمكسيك وكذلك في العراق أيضاً.
والواقع أن ضخامة راس مال البنك وضخامة احتياطياته تمنحه ثقة الجمهور وتزيد في إمكانياته في تلقي الودائع وجذب المدخرات وبالتالي تزيد في إمكانياته في توسيع استثماراته وتقديم خدماته ومن ثم زيادة أرباحه. وهذا ما نوصي به البنك الإسلامي.
(3) موارد من البنك المركزي:
ذكرنا أن عملية خصم الكمبيالات من الممكن أن تتم في صورة تقبلها الشريعة الغراء مما يتيح للبنوك الإسلامية أن تستمر في هذه العملية الهامة وتتمتع كغيرها من بنوك العالم بإعادة الخصم لدى البنك المركزي فتحصل على موارد إضافية عند اللزوم، كذلك نقترح ضرورة استحداث نظام لبنك مركزي إسلامي يكون مستعداً لإحلال مشاركات البنوك عند اللزوم فيمدها بموارد إضافية أخرى قد تحتاج إليها فوق ما يضفيه من سيولة على أصولها.
الفصل الثاني
عمليات البنك الإسلامي
نقسم فيما يلي عمليات البنك الإسلامي إلى عمليات تسفر للبنك عن عمولة وأخرى تسفر له عن ربح:
البحث الأول
عمليات تسفير للبنك عن عمولة
تحصل البنوك على جانب من أرباحها في صورة عمولة نظير خدمات تقوم بها للعملاء ويستطيع البنك الإسلامي بطبيعة الحال أن يقوم بها جميعاً وهي كثيرة ومتعددة.
ونكتفي بدراسة سريعة لأهم تلك الخدمات مقتصرين على ما يثور حوله منها من شكوك فيما يتعلق بجوازها في الشريعة الغراء. ونبدأ بعملية الخصم ثم إصدار خطابات الضمان ثم قبول الكمبيالات ثم عمليات الصرف الخارجي على التوالي.
(1) خصم الكمبيالة بالعمولة:
يستطيع البنك الإسلامي خصم الكمبيالات في صورة وعلى أساس مفهوم يجيز هذه العملية شرعاً وما يسري على الكمبيالة يسري على السند الإذني بطبيعة الحال. بذلك يقول فقهاء معاصرون. ففي الصورة والمفهوم الحالي للخصم (يحصل العميل الدائن بموجبه على قيمة الكمبيالة منقوصاً منها مبلغ الفائدة الذي يخصمه البنك مع عمولة التحصيل ثم يقاضي البنك قيمة الكمبيالة كاملة من المدين عند حلول الأجل. والحكم الشرعي هو أن الكمبيالة وثيقة بالدين ولا حرمة ولا كراهة في تحريرها بل أن تحريرها مطلوب للاستيثاق أما الخصم أو القطع على الكمبيالة فمعناه أن البنك يعطي الدائن معظم الدين المحررة عنه الكمبيالة قرضاً بفائدة ويجعل لتحصيل الدين عمالة. وهذه العملية حرام لوجود القرض بفائدة وهو ربا، فيكون الخصم أو القطع على هذا النظام حراماً. على أن الفقهاء يرون أن خصم الكمبيالة يكون حلالاً إذا اتخذ صورة أخرى وهي أن يحصل الدائن على قيمة الكمبيالة من البنك كقرض بلا فائدة منقوصاً منه مبلغ يستحقه البنك كعمولة أو جعالة نظير التحصيل وذلك على الصورة الشرعية الآتية:
يقدم الدائن الكمبيالة بدينه المؤجل لشخص آخر (وقد يكون بنكاً) يتفق معه على مبلغ يتركه من الدين جعلاً له على التحصيل ويأخذ منه قرضاً بلا فائدة. وعند حلول الأجل يحصله ذلك الشخص لحساب الدائن ويأخذه سداداً لدينه والجعل الذي التزمه له الدائن. وله اتخاذ جميع الإجراءات التي تكفل سداد الدين على حساب الدائن. فإن تعذر تحصيل الدين حتى بالإجراءات القانونية كأن أفلس المدين عاد ذلك الشخص على الدائن بقيمة القرض فقط ولم يستحق جعلاً. وعلى هذا النظام يكون القطع على الكمبيالة جائز شرعاً إذ مرجعه إلى أنه تحصيل للدين نظير جعل على التحصيل مع دفع باقي الدين قرضاً بلا فائدة ولا شيء غير ذلك فهو جائز شرعاً. فقد قال شارح متن الخليل في فقه المالكية ما نصه: والمجاعلة على اقتضاء الدين بجزء ما يقتضيه منعها أشهب وإلا ظهر جوازها. وفيه أيضاً: ولم يختلف قول مالك رضي الله عنه في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار فيقول لآخر: ما اقتضيت من شيء من ديني فلك نصفه؟ فيكون القطع على الكمبيالة على هذا النظام جائزاً على مذهب مالك رضي الله عنه.
ويمكن استنباط مثل هذا الحكم لمذهب الشافعية من الجعالة إذ هي التزام مال معين على عمل مباح يعود على الملتزم نفسه. وقد التزم الدائن لهذا الشخص مبلغاً من المال جعلاً على تحصيل دينه وجعل له الحق في أخذه من الدين بعد تحصيله. فتكون هذه العملية جائزة عند الشافعية أيضاً. إلا أن مذهب المالكية يمتاز بالتنصيص على هذه الجزئية والمآل في المذهبين إلى ترك بعض الدين لمن يحصله جعلاً له على التحصيل.
هذا وتجب التفرقة بين خصم الكمبيالة بالعمولة وتحصيل الكمبيالة بالعمولة فيها عمليتان منفصلتان في البنوك الحالية وفي البنك الإسلامي وإن كانت العمليتان تسفران للبنك الإسلامي –بخلاف البنوك الحالية- عن مجرد عمولة. ففي حالة الكمبيالات التي تأتي للبنك برسم التحصيل لا يحصل العميل على شيء عند تقديم الكمبيالات بل تطالبه البنوك بدفع مصاريف التحصيل والبروتستو والتأجيل مقدماً، وعليه أن ينتظر حلول أجل السداد وإتمام التحصيل أما في حالة الخصم بالعمولة فإن العميل يحصل على مقدار الكمبيالة مقدماً من البنك كقرض بلا فائدة منقوصاً منه العمولة أو الجعل وليس غريباً أن يحصل العميل على قرض بلا فائدة من البنك الإسلامي فالكمبيالة في حالة الخصم تسندها ضمانات ورهون قوية.
فعلينا إذن أن نعطي خصم الكمبيالة صورته وحقيقته المقبولة شرعاً فنعتبره تركاً لبعض الدين لمن يحصله جعلاً له على التحصيل. ولا يقتضي ذلك إلا تعديلاً طفيفاً فيما نرى في النظام الحالي يتلخص في عدم تحميل العميل بأية مبالغ إذا لم يتم تحصيل الكمبيالة بحيث لا يعود البنك على العميل في هذه الحالة إلا بمقدار ما قبضه منه فعلاً. وأما تحديد الجعل فلا يختلف الأمر، فالجعل الذي يخصم ويستحق للبنك لا بد وأن يتحدد عملاً على أساس مقدار الدين ومدته. ونرجو أن تلقى الأسانيد الشرعية السابقة قبولاً لدى رجال الشريعة.
(2) إصدار خطابات الضمان:
من أوجه نشاط البنوك التجارية إصدار خطابات الضمان وتقدم في الغالب تأميناً لعقود حكومية وتصدرها البنوك مساعدة للمقاولين والموردين ممن يتعاملون مع الحكومة ومع الجهات الإدارية. وتدخل البنوك في المراحل الأولى للمناقصات العامة. فمن المعلوم أن الحكومة والجهات رغبة منها في استبعاد العناصر غير الجادة من المناقصات فإنها تشترط أن يكون العطاء مصحوباً بتأمين قدره 2% عادة من قيمة العطاء. فإذا اتخذت الإدارة قرارها بقبول أحد المتقدمين وجب على هذا الأخير أن يقدم تأميناً بمقدار 10% عادة من قيمة العطاء. ويعفى من تقديم تأمين نقدي في الحالة الأولى والثانية من يستطيع تقديم خطاب ضمان من أحد البنوك المعتمدة. ويتعهد البنك بموجب خطاب الضمان أن يدفع للإدارة المبلغ المحدد بالخطاب عند أول طلب دون حاجة إلى إنذار أو تنبيه رسمي ويحصل البنك نظير خطابات الضمان على عمولة تحتسب على أساس قيمة خطاب الضمان ومدته.
والحكم الشرعي لهذه العملية يتقرر على اعتبارها ضماناً من البنك لشخص نظير عمولة تتناسب مع قيمة مبلغ الضمان. ونظراً لأن عملية الضمان مخاطرة إذ قد يعجز العميل المضمون فيدفع البنك قيمة مبلغ الضمان يأخذ البنك عمولة على هذه الضمانة. وهذه العمولة التي يأخذها البنك عمولة على هذه الضمانة. وهذه العمولة التي يأخذها البنك من المضمون تعتبر شرعاً جعلاً من المضمون للبنك على ضمانه إياه والضمان مباح شرعاً كالجعالة –والجعل عليه يكون مباحاً شرعاً وهذا يؤخذ من مذهب الإمام الشافعي، وعلى هذا يكون حكم أخذ خطاب الضمان من البنك نظير عمولة يدفعها المضمون الجواز شرعاً.
(3) قبول الكمبيالات:
قبول الكمبيالة هو ضمان نظير عمولة، وجائز شرعاً. فالبنك إذ يوقع على الكمبيالة لا يستعمل أموالاً وإنما يستثمر الثقة التي يوحي بها اسمه وسمعته. وقبول الكمبيالات لا يقصد لذاته وإنما يقصد لغرض آخر هو الخصم. ومعلوم أن الورقة التجارية تستمد قيمتها من قيمة التوقيعات التي تحملها. وكلما كانت الورقة جيدة كان تداولها في السوق سهلاً لأن مخاطر خصمها تكون أقل. وكلما قلت مخاطر الخصم قلت تكاليفه بانخفاض سعره. وتوقيع البنك على الكمبيالة يضفي عليها ضمانات تمكن حامل الورقة من خصمها بسعر أفضل يعوض ما دفعه المسحوب عليه من عمولة للحصول على توقيع البنك. وتوجد في سوق لندن مؤسسات متخصصة هي “بيوت القبول” تحصل على دخل في شكل عمولة عن طريق سهل ميسور لا يكلفها إلا التوقيع على الكمبيالة –ومن لندن انتقلت عملية القبول إلى سائر أنحاء العالم وأصبح القبول المصرفي في وقتنا الحاضر عملية زائعة الشهرة وكثيرة الاستعمال حتى أن أعضاء مؤتمر الائتمان الدولي الذي انعقد في روما عام 1951 أجمعوا على أن اعتمادات القبول لمدة 90 يوماً قد حلت محل الاعتمادات المستندية في تمويل التجارة الخارجية.
وقد بدأت عملية القبول بحصول التجار على توقيع البنك بجانب امضاءاتهم على الكمبيالة المسحوبة عليهم والمقبولة منهم ثم جاءت مرحلة تالية وأصبح التاجر يحصل على توقيع البنك لا على سبيل الضمان ولكن بصفته مديناً أصلياً وهذا حلول في الدين جائز في الشرع أيضاً.
(4) عمليات الصرف الخارجي:
وتتمثل في بيع وشراء العملات الأجنبية لسداد وتحصيل الديون الخارجية ويحدد للعملات الأجنبية في البنوك عادة سعران سعر يبيعها به البنك وسعر يشتري به البنك. وسعر الشراء يكون أقل من سعر البيع فيجني البنك بذلك ربحاً من الفرق بين السعرين. وتقوم البنوك بسداد الديون الخارجية بالتحويلات الخطابية والتحويلات التليفونية والبرقية والشيكات المصرفية وخطابات الاعتماد وشيكات السياح وتتقاضى عن هذه الخدمات عمولة تعتبر جزءاً من أرباحها.
والحكم الشرعي لعملية بيع وشراء العملات الأجنبية وأخذ عمولة على تسديد الديون الخارجية وتحصيلها الإباحة. فربح البنك من الفرق الذي يأخذه من عملية شراء العملة بثمن ثم بيعها بثمن أعلى من ثم الشراء عملية تجارية بحتة مباحة شرعاً وكذلك العمولة التي يتقاضاها البنك على ما قام به لإيصال الديون هي أجر على هذه الأعمال فهي مباحة أيضاً والنتيجة أن عمليات الكامبيو المذكورة تكون مباحة شرعاً.
البحث الثاني
عمليات تسفير للبنك عن ربح
فيما يختص بالعمليات التي تسفر للبنك عن ربح نتكلم أولاً عن نظام مقترح لمشاركات تجارية موقوتة، ثم نتكلم ثانياً عن استثمارات البنك الإسلامي ومشاركاته الصناعية.
أولاً- مشاركات تجارية موقوتة
لم يقل أحد بأن تكون المشاركة أبدية. وليس من الضروري أن تمتد لمدة سنوات بل من الممكن أن تمتد لسنة واحدة أو لعدة شهور وليس هناك ما يمنع من ذلك. ونحن نريد مشاركة من نوع خاص، نريدها أن تحل محل بند (القروض والسفليات) في ميزانية البنوك التجارية. بمعنى أن مال المشاركة الذي يقدمه البنك لا يقوم بأكثر مما يقوم به القرض في حياة المشروع المقترض. فيبقى عابراً في حياة المشروع كالقرض تماماً. ويقيد في جانب الخصوم في ميزانية المشروع كما يقيد القرض. ونصيب البنك من الربح يقيد في جانب المصروفات في حساب الأرباح والخسائر الخاص بالمشروع تماماً كما يقيد بند “فوائد” في جانب المصروفات في حساب الأرباح والخسائر الخاص بالمشروع.
على ذلك فاحتساب نصيب البنك في أرباح المشروع لا يكون من اختصاص البنك كما هو الحال في احتساب ما يستحقه البنك من فوائد على القروض وإنما يتم احتساب نصيب البنك في الربح داخل كل مشروع يقوم به المحاسبون القانونيون المعتمدون وهم هيئات مستقلة تمام الاستقلال عن إدارة أي مشروع.
ويستحق البنك عن مشاركته نسبة من الأرباح الصافية التي يحققها المشروع خلال مدة المشاركة. هذه النسبة تتحدد بنسبة مقدار المشاركة إلى مجموع موارد المشروع باعتبار أن مال المشاركة جزء من مجموع الموارد التي أنتجت. ومجموع موارد المشروع يمثلها مجموع جانب الخصوم في ميزانية أي مشروع. فإذا كان مجموع جانب الخصوم في ورقة الميزانية (موارد المشروع) مائة ألف وكان مقدار المشاركة المؤقتة خمسة آلاف كان نصيب البنك 5% من الربح الصافي للمشروع خلال المدة. وعن المدة يحدد نصيب الشهر بجزء من اثنى عشر من الربح الصافي للمشروع خلال العام وقبل خصم المشروع لاحتياطياته ومخصصاته.
هذا وتتم التسوية الحقيقية لنصيب البنك من الربح في نهاية كل عام أو في نهاية السنة المالية للمشروع، ففي ذلك الوقت يتم إعداد الميزانية وحساب الأرباح والخسائر في المشروعات. على أن يرد مبلغ المشاركة إلى البنك في نهاية مدة المشاركة المتفق عليها يضاف إليه ربح جزافي يحدده المحاسبون على طريقة حساب التكاليف الذي يسوى في نهاية العام. ولا يغير من جوهر الأمر شيئاً إذا تم سداد مال البنك بالتقسيط كما جرت مادة بعض البنوك.
ويظل مال البنك في المشاركة مضموناً برهون حيازية وغير حيازية تماماً كما يجري عليه العمل اليوم في البنوك عندما تمنح ائتمانها في صورة قروض وسلفيات.
وتقوم بفحص طلبات المشاركة “إدارة الائتمان” التي تقوم حالياً بفحص طلبات القروض في البنوك.
مما تقدم يتضح أن نظام المشاركة لا يضيف عبئاً على البنوك ولا يضيف عبئاً على المشروعات ولا يضيف عبئاً على الفن المحاسبي أيضاً لأن احتساب الربح من صميم عمله.
تطبيقات المشاركة:
قلنا إن الانتقال إلى النظام الجديد يتمثل وينحصر في إحلال بند “المشاركات” محل بند “القروض والسلفيات” في ميزانية البنوك التجارية فإذا حللنا بند (القروض والسلفيات) نجد أن البنوك تمنح القروض والسلفيات بضمانات مختلفة بضمان بضائع أو بضمان بضائع في الطريق (اعتمادات مستندية) أو بضمان أوراق مالية أو بضمان أوراق تجارية أو بضمان ذهب أو مقابل التنازل عن عقود أو ديون أو بضمان رهن عقاري أو بضمان شخصي أو بغير ضمان كالحساب الجاري المدين في غالب الأحوال. وكل هذه الأنواع تصلح كضمان للمشاركة. غير أنه تجدر الملاحظة أن بعض هذه الضمانات يرتبط بالقرض بحيث يعلم البنك مقدماً مصير القروض التي يقدمها ونستطيع أن نسمي هذه القروض بالقروض المرتبطة. وهناك ضمانات أخرى لا ترتبط بالقرض بحيث لا يعلم البنك مقدماً وفي جميع الأحوال مصير القرض الذي يقدمه وهذه قروض نسميها قروضاً حرة. هذه التفرقة يستوجبها تطبيق نظام المشاركة بدلاً من نظام الإقراض؟
(أ) القروض المرتبطة:
من هذه القروض الحساب الجاري المدين ويرتبط بشخص معين طبيعي أو معنوي والاعتمادات المستندية وترتبط بعملية معينة والقروض بضمان التنازل عن عقود أو ديون وترتبط بعملية يعينها من إنشاء أو توريث. وفيما يلي كلمة عن كل من تلك القروض المرتبطة:
1- الحساب الجاري
ازدادت أهمية الحساب الجاري في القروض المصرفية في أيامنا هذه وهو صورة من الائتمان المصرفي تربط المشروع بالبنك وتجعل له إشرافاً كبيراً على سير عملياته فنقصر عملاً تعامل المشروع على هذا البنك. والحساب الجاري للمؤسسات الصناعية والتجارية والشركات التابعة وذات المصالح المشتركة وبيوت التصدير. والحساب الجاري عقد يتفق فيه على إقامة حساب موحد تقيد فيه العمليات الدائنة والمدينة التي يعقدها العميل مع البنك. وذلك على أن تغني ذاتية كل عملية على حدة وتندمج في الحساب الموحد الذي يصبح رصيده فقط هو القابل للتسوية. وجرت العادة على أن تفرض فائدة على كل حساب مدين للعميل في كل عملية. ذلك أن حقيقة الأمر هي أن القيم المضافة لجانب الدائنية يمكن النظر إليها على أنها وديعة تحت الطلب لا يستحق العميل عنها شيئاً قبل البنك. وأما المبالغ المقيدة في الجانب الدين فيمكن النظر إليها على أنها اقراض للعميل وهذه هي الحقيقة.
فإذا أردنا إحلال المشاركة محل الاقراض على الحساب الجاري نستطيع أن نسوي كل عملية على حدة بإضافة ربح تقديري يسوى في نهاية العام أو نجمع المبالغ المقيدة في الحساب المدين للعميل خلال العالم باعتبار هذه المبالغ مساهمة من البنك في زيادة موارد العميل وبالتالي في زيادة أصوله وربحه يستحق البنك عنها نصيباً فيما يحققه المشروع من ربح صاف تتم المحاسبة عليه في نهاية العام. هذا النصيب يتحدد عند المشروع بنسبة مجموع المبالغ المدينة التي سحبها العميل من البنك خلال العام إلى مجموع موارد المشروع أي (مجموع جانب الخصوم في ورقة الميزانية) كما سبق أن ذكرنا.
2- الاعتمادات المستندية
تعتبر الاعتمادات المستندية من أهم العمليات المصرفية ومن أدقها وأكثرها تعقيداً. كما أن البنوك تكون أكثر استهدافاً للمسئولية عنها في غيرها من العمليات. فالبنوك في الاعتمادات المستندية تقف فيصلاً بين المصالح المتعارضة لكل من المصدر والمستورد. فالمصدر يرجو سهولة الحصول على قيمة البضاعة بمجرد تسليم المستندات إلى البنك في بلده. والمستورد يود أن يكون على ثقة من أن البنك قد حصل له من المصدر على المستندات التي يطلبها كاملة ومستوفاة أمام المصدر إذا رفض بدون وجه حق دفع قيمة المستندات المقدمة إليه بمقتضى اعتماد غير قابل للإلغاء مفتوح لديه أو مؤيد من قبل البنك، وهو مسئول أيضاً أمام المستورد إذا دفع قيمة مستندات غير كاملة أو غير مستوفاة للشروط المطلوبة في الاعتماد. والواقع أن مسئولية البنك الكبرى تنحصر في مراجعة المستندات ومطابقتها مطابقة تامة لما هو مطلوب منها في الاعتماد قبل دفع قيمة البضاعة نيابة عن المستورد. وتتكون المستندات من ثلاثة أوراق رئيسية هي بوليصة الشحن وبوليصة التأمين والفاتورة التجارية. وأهم هذه الأوراق هي بوليصة الشحن فهي التي تثبت أن السلعة المتعاقد عليها أو على قيمتها في حالة ضياع البضاعة. وعلى البنك ألا يقوم بدفع قيمة المستندات إلا بعد تأكده من مطابقتها التامة للشروط المنصوص عليها في الاعتماد. ودور البنك هذا يتناول عنه أجراً –في صورة عمولة- مستقلاً عما يتناوله من فائدة على قرض قد يحصل عليه العميل في هذه العملية.
وتطبيق نظام المشاركة في عمليات الاعتمادات المستندية سهل ميسور إذ يجب أن نفرق في الواقع بين صورتين من الاعتمادات المستندية، فهناك اعتمادات مستندية لا يقرض البنك فيها للعميل شيئاً وإنما يتولى صرف قيمة الاعتمادات للمستفيد من مال العميل الموجود لدى البنك وقت الإنفاق على الاعتماد المستندي. وتلك عملية لا تعدو أن تكون تنفيذاً لأمر صادر من العميل إلى البنك في خصوص ماله الذي يملك توجيهه أي وجهة يراها. وتسفر العملية في النهاية عن عمولة يتقاضاها البنك. وهناك اعتمادات مستندية تفترض فتح اعتماد من البنك للعميل الذي أصدر الأمر بالاعتماد المستندي وهي عملية تنطوي في جانب منها على عملية فتح اعتماد عادية يقرض البنك فيها للعميل مبلغاً هو قيمة الاعتماد المستندي ويمثل ديناً للبنك قبل العميل. هذا الدين هو مشاركة البنك الموقوتة وتحدد مدتها –كالقرض تماماً- حسب الاتفاق وتنتهي بتصفيتها أي بردها للبنك مضافاً إليها ربح تقديري يسوى في نهاية العام كما سبق أن ذكرنا. ويحدث نفس الشيء إذا تكررت العملية لنفس العميل خلال العام.
3- سلف مقابل التنازل عن عقود أو ديون
تمنح هذه السلف عادة إلى المقاولين والموردين ممن يقومون بتنفيذ عقود الأشغال العامة وعقود التوريدات الإدارية بعد قبول عطاءاتهم في المناقصات العامة التي تجريها الحكومة والهيئات الإدارية. ويسعى المقاولون في طلب تلك السلفيات للحصول بها على رأسمال متداول مما يتطلبه هذا النوع من الأعمال وغالباً ما يكون ضخماً. والضمان هنا تنازل يجريه العميل لصالح البنك عن كل مبلغ يستحق له قبل الحكومة أو الجهة الإدارية يتعلق بالمقاولة التي أسندت إليه. ويجري العمل على أن يوقع العميل للبنك على عقد بفتح اعتماد يتضمن هذا التنازل كما يتضمن شروط أخرى كسعر الفائدة وسعر عمولة التحصيل. كذلك يتضمن على وجه الخصوص تحديد النسبة المئوية لما يحجزه البنك لنفسه سداداً للقرض الذي يمنحه من المبالغ التي تدفعها الإدارة. ويعلن هذا العقد لجهة الإدارة ولا أثر لهذا التنازل إلا بعد أن تقبله الإدارة. ومن البديهي أن التنازل لصالح البنك لا تكون له قيمة إلا إذا نفذت المقاولة فعلاً وإلا إذا حازت ثانياً رضاء الإدارة. يضاف إلى ذلك أن دفاتر الشروط والمواصفات وغالباً ما تكون ضخمة تتضمن دائماً شروط فنية وأخرى إدارية ومالية وقد تثور المشاكل عند التنفيذ بين المقاول والحكومة وعندئذ لا تبقى البنوك بطبيعة الحال بمعزل عن هذه المشاكل. لذلك فالبنك يفحص المركز المالي للعميل بنفس الدقة التي يفحص بها حالته المالية إذا طلب سلفة بغير ضمان ثم يدرس البنك عقد المقاولة بكل تفصيلاته ويفكر في صعوبات التنفيذ ويهتم بإمكانيات العميل الفنية وخبرته السابقة في أعمال مشابهة وغالباً ما يطالب العميل ببرنامج للتنفيذ ثم يطالبه ببيانات دورية عن حالة الأعمال ويرسم على أساسها منحنى التمويل. والبنك عادة لا يقدم سلفيات إلا بنسبة معينة من قيمة العقد ويترك هامشاً يوازي ما يستطيع المقاول أن يمول به المشروع من أمواله الخاصة وهو أمر ضروري. وعادة لا تمنح السلفيات مقابل التنازل عن عقود إلا للمقاولين المليئين وذوي السمعة الحسنة.
فإذا أردنا إحلال المشاركة محل السلف في هذا العقد وجب أن يبقى النظام الحالي بكل قيوده وضماناته ونكتفي فقط باعتبار أن المبالغ المتتالية التي يدفعها البنك للعميل مشاركة من البنك في العملية يستحق عليها نصيباً في الربح أو الخسارة بنسبة يتفق عليها تسوى في نهاية العملية.
(ب) القروض الحرة:
ونعني بها –كما قدمنا- تلك القروض التي لا ترتبط بضماناتها بمعنى أن البنك لا يستطيع أن يتحكم أو يعلم دائماً وفي جميع الأحوال مصير ما يقدمه من قرض. من تلك القروض، القروض بضمان بضائع أو أوراق مالية (أسهم في حالة البنك الإسلامي) أو أوراق تجارية أو بضمان رهن عقاري أو بضمان ذهب. وهنا يختلف القرض عن المشاركة فالمشاركة بطبيعتها تفترض الاتفاق مقدماً على عمل معين. وهذه ميزة تمتاز بها المشاركة عن القرض باعتبارها مقيدة ولصيقة بالإنتاج دائماً. والبنك الإسلامي يقبل بطبيعة الحال كل هذه الضمانات السابق ذكرها لمشاركاته فيمنح مشاركاته بضمان تلك الرهون وإنما لأغراض معينة ومعلومات سلفاً وتحت إشراف ورقابة البنك.
هذه الأغراض من الممكن أن تحدد للبنك الإسلامي ونجمعها فيما يلي:
1- استيراد أو تصدير أو شراء أو بيع أو نقل بضائع معدة للتسويق أو تخزين بضائع غير قابلة للتلف.
2- عمليات تتعلق بإنتاج أو صناعة أو تجهيز منتجات زراعية أو معدنية أو حيوانية أو عمليات تتعلق بالتشييد.
وواضح أنها أغراض عديدة وتتسع لكل متطلبات الاقتصاد القومي ويشترط أن تتم تحت رقابة البنك كما أسلفنا.
ولما كانت المشاركات بطبيعتها مقيدة ولصيقة بالإنتاج فإنها ستسقط أنواعاً من الائتمان يعرفها النظام الحالي للبنوك ولا تتفق مع المشاركة. من ذلك:
1- الائتمان للمضاربات المقامرة في أسواق الأوراق المالية.
2- الائتمان لشراء السلع بغرض احتكارها ورفع أسعارها.
3- الائتمان الوسيط الذي يحصل عليه البعض لإعادة إقراضه لآخرين إلى غير ذلك من عمليات الائتمان “غير الإنتاجية” والتي لا يرضى عنها الإسلام.
هذا مع ملاحظة أن العمليات الإنتاجية سالفة الذكر من استيراد وتصدير أو شراء وبيع أو نقل وتسويق وكذلك العمليات التي تتعلق بإنتاج أو صناعة أو تجهيز المنتجات قد لا تسفر دائماً عن قرض يطلب لتحل محله مشاركة موقوتة وإنما قد تنشأ عنها في غالب الأحيان كمبيالة بدين أو سند إذني يحمله الدائن ومشمول برهن على الناتج ذاته. في هذه الحالة تؤدي شرعية خصم الكمبيالة بالعمولة دورها العظيم في تسهيل الإئتمان قصير الأجل.
خلاصة القول إن استحداث نظام للمشاركة الموقوتة واستحداث نظام لخصم الكمبيالة بالعمولة يكفلان للبنك الإسلامي قيامه بدوره كاملاً في منح الائتمان قصير الأجل، الأمر الذي يسمح بقيام بنك إسلامي حديث يعمل ويقف بجانب أكبر البنوك في العالم.
ثانياً: استثمارات ومشاركات صناعية
بجانب المشاركات التجارية الموقوتة للبنك الإسلامي والتي تقوم مقام الائتمان قصير الأجل نريد له استثمارات ومشاركات صناعية تتمثل في اشتراكه في تأسيس شركات صناعية ثم دعمه لها بمدها بما يلزمها من أموال. ويتخذ ذلك من ناحية صورة امتلاك جانب من أسهم رأسمالها يحصل على عائده ومن ناحية أخرى إمدادها بما يلزمها من ائتمان صناعي متوسط الأجل في صورة مشاركة تحصل على نصيبها من أرباح الشركة قبل توزيعها على المساهمين مما يزيد من أرباح البنك ومما يدعم وينمي الاقتصاد القومي الإسلامي.
وليس ما نطالب به للبنك الإسلامي في هذا الشأن بدعاً، فالمشاهد في وقتنا الحاضر أن رأس المال المصرفي قد دخل في القطاع الصناعي وأن البنوك التجارية نفسها أصبحت تميل ميلاً مطرداً إلى استثمار جزء من مواردها في أصول طويلة الأجل، في أسهم وسندات الشركات وفي قروض متوسطة الأجل وطويلة الأجل وفي سلفيات قصيرة الأجل شكلاً، طويلة الأجل حقيقة لاطراد تجديدها. وهذه ظاهرة عامة لا تستثنى منها دولة. وقد جرت العادة على استثناء البنوك الإنجليزية من هذا السلوك والكلام عن الفرق بينها وبين البنوك الألمانية التي اشتركت فعلاً في تمويل الصناعة منذ نشأتها ولكن الواقع أن البنوك الإنجليزية بدأت تسلك نفس الطريق.
ومن الناحية النظرية: يجد اشتراك البنوك التجارية في الصناعة الدفاع عنه كالآتي:
1- تتجه التقاليد ضد الإقراض المتوسط والطويل الأجل عن طريق البنوك التجارية وأساس ذلك هو أن معظم خصوم هذه البنوك قصيرة الأجل أو تدفع عند الطلب فيجب بالتالي أن تكون أصولها قصيرة الأجل كذلك. ويقول سيرز –أستاذ علم البنوك في بريطانيا- في الرد على ذلك بأن التقاليد في هذا الشأن تعتبر ضيقة الأفق لأن البنك يمكنه أن يظل عمله قائماً طالما يدرك أن ودائعه لن تسحب مرة أخرى في وقت واحد. وهو لا يستطيع العيش إذا ما وازن بين أصوله وخصومه بدقة محبوكة. وليس هناك قاعدة حاسمة تمنع من حيازة أصول قصيرة الأجل أو طويلة الأجل. ومعظم البنوك القوية ذات السمعة الحسنة تحوز بعضاً من تلك الأصول الأقل سيولة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن إمكان سحب الودائع من البنوك ينطوي على خطورة ترتفع درجتها كلما صغر شأن البنك بالنسبة لمجموع أعمال البنك في المنطقة التي يعمل فيها. لذلك على البنك المركزي أن يراعي زيادة السيولة في البنوك الصغيرة عنها في البنوك الكبيرة. وأوصى (سيرز) البنك المركزي أن لا يكون اتجاهه جامداً بالنسبة للإقراض القصير الأجل والطويل الأجل الذي تمنحه البنوك التجارية. ومن رأيه أنه حتى البنوك الصغيرة يجب أن تقدم قروضاً طويلة الأجل تتناسب مع أصولها على أن يكون البنك المركزي على استعداد لمدها بالسيولة الإضافية في حالات الضرورة. أما البنوك الكبيرة فمن رأيه أنها تستطيع أن تخاطر على أن تكون سياستها مربوطة بشركاتها.
2- لو درسنا بعض القروض القصيرة الأجل مما تمنحه البنوك التجارية نجد أن جزءاً منها في الواقع يمكن اعتباره قروضاً متوسطة الأجل نظراً لتجددها سنة وراء الأخرى ومع ذلك فالعبرة ليست بقصر المدة وإنما بالاستثمارات التي يستخدم فيها المال المقترض. فالبنك لا يمكنه أن يتحكم مقدماً وفي جميع الأحوال في قرضه قصير الأجل فإن كل ما يطلبه هو الضمان الكافي. فإذا منح البنك قرضاً قصير الأجل لإحدى الشركات مع النص على تجديده فإنه لا يستطيع أن يتأكد إن كانت المؤسسة التي تختلط الأموال بين يديها قد استعملت قرضه في الحصول على أصول متداولة أو دخل مع غيره من الأموال للحصول على أصول ثابتة. فالبنوك في الواقع تمنح قروضاً صناعية كانت في الأصل قصيرة الأجل ثم تجددت فترة بعد أخرى.
3- قصر المدة ليس هو السيولة في جميع الأحوال. إذ لا تتوقف سيولة أي أصل من أصول البنك على قصر المدة بمقدار ما تتوقف على متانة المركز المالي للعميل المقترض وقدرته على السداد. والمشاهد أن بنكاً يمنح قرضاً قصير الأجل لمؤسسة قوية قادرة على السداد لا يمانع في تجديد القرض لمدة ثانية وثالثة ورابعة ولأكثر من ذلك إذ لا فائدة تعود على البنك من استرداد القروض في نهاية المدة لأنه في هذه الحالة سيضطر للبحث في اقراض المبلغ لشخص آخر. وأما إذا جدد القرض فإنه يكون قد وفر على نفسه مؤونة البحث ودراسة المركز المالي للمقترض الجديد. وعلى العكس إذا منح البنك قرضاً قصير الأجل وبضمان قوي لشخص غير قادر على السداد فإن قصر المدة وقوة الضمان لا تعني دائماً سهولة السداد في الميعاد لأن البنك إذا تمسك بالسداد وعمد إلى تصفية الضمان بسرعة وفي جميع الأحوال فإنه يسيء بذلك إلى سمعة عملائه ويسيء إلى سمعته.
4- إذا علمنا أن السيولة بمعناها الحديث هي قابلية الانتقال من يد إلى يد ثم إلى البنك المركزي في النهاية أدركنا أن البنك المركزي كبنك للبنوك يستطيع أن يبعث السيولة في أي أصل من أصول البنك التجارية حسب السياسة التي يسير عليها فيستطيع أن يتوسع في إقراض البنوك بضمان أوراق الشركات فيضفي عليها صفة السيولة مع أنها استثمارات طويلة الأجل. ويستطيع أن يمنح البنوك قروضاً بضمان المبالغ المأخوذة من الحسابات الجارية المفتوحة لديها لصالح المشروعات فيضفي علة تلك القروض صفة السيولة مع أنها قد تكون متوسطة أو طويلة الأجل. من ذلك يتضح وكما يقول (سيرز) أن سيولة أصول البنوك التجارية مسألة نسبية.
هذا ويرى كثير من الكتاب حتى المعتدلين منهم أن البنوك التجارية تستطيع أن تمنح قروضاً متوسطة الأجل ويساعدها على ذلك:
1- مدى ما تملكه من مصادر تمويل طويلة الأجل مثل كبر رأس المال وضخامة الاحتياطيات وازدياد نسبة الودائع الآجلة لديها.
2- مدى اهتمامها بدراسة المركز المالي للعميل المقترض وتأكدها من سلامة مدة القرض.
3- مدى المساعدات التي يقدمها البنك في هذا الشأن.
ومن الناحية التطبيقية: نجد أن اشتراك البنوك التجارية في الصناعة وقيامها بالإقراض المتوسط والطويل الأجل قد أرسيت له قواعده في البلاد التي تحررت بنوكها من تقاليد البنوك الإنجليزية كالبنوك المختلطة في بلاد القارة الأوربية خصوصاً ألمانيا والبنوك المختلطة في ألمانيا تنشئ الصناعات وتمدها بالقروض الصناعية. وكالبنوك التجارية في الولايات المتحدة وقد أصبحت هي أيضاً تقرض قروضاً متوسطة الأجل. وكذلك أرسيت تلك القواعد في بنك مصر وهو بنك تجاري واحد كان له ذلك الدور الكبير المرموق في تصنيع مصر.
أساليب البنوك المختلطة في ألمانيا:
تتميز البنوك في ألمانيا بأنها لا تراعي مبدأ التخصيص مخالفة بذلك تقاليد البنوك الإنجليزية. فهي إلى جانب الأعمال المصرفية العادية لبنوك الودائع من خصم وتسليف لآجال قصيرة فإنها تقوم بالاشتراك في شركات تجارية وشركات مالية وشركات صناعية وتقوم بالتسليف لأغراض صناعية. ومن المعروف أن لهذه البنوك يرجع الفضل في تعويض ألمانيا ما فاتها من النهوض المبكر بصناعاتها عند بدء الثورة الصناعية في أوربا بخلاف الصناعات الإنجليزية التي رسخت أقدامها منذ فجر الثورة الصناعية حتى أصبحت تعتمد على التمويل الذاتي. وقد ساعدت البنوك الألمانية أكبر مساعدة على خلق وإحياء الصناعات في ألمانيا بتكوين عدد كبير من الشركات الصناعية المساهمة وتوسيع دائرة أعمال الشركات والمصانع القائمة وبمدها جميعاً بما يلزمها من رؤوس الأموال فأصبحت العلاقات بذلك وثيقة بين البنوك والصناعات الألمانية.
وكانت سياسة البنوك الألمانية فيما قبل الحرب العالمية الأولى تسير على الوجه الآتي:
1- يتولى البنك الألماني دراسة المشروعات من تلقاء نفسه أو يفحص باهتمام ما يعرض عليه من مشروعات صناعية.
2- إذا هدته الدراسة إلى نجاح المشروعات أقبل على إقامته في صورة شركة مساهمة واحتفظ بأسهمها ضمن أوراقه المالية حتى تبدأ بوادر النجاح في العمل الصناعي وعندئذ يطرح شيئاً ما يملكه لعملائه أو للاكتتاب العام.
3- تصبح الشركة متى تكونت عميلة للبنك الذي أنشأها فتودع لديه أموالها وتقترض منه ما تفتقر إليه من أموال ويكون اقتراضها في صورة حساب جار بضمان أو بحساب مكشوف بغير ضمان.
4- هناك رابطة بين البنك الألماني والشركة الصناعية التي ينشئها أو يغذي حياتها المالية وهي رابطة الاشتراك في إدارة الشركة. والمفهوم دائماً أن الإدارة الداخلية للشركة الصناعية خاضعة للأخصائيين الفنيين أما الإدارة العامة فهي التي يشترك فيها البنك المرتبط بالشركة. وتمثيل البنك في الإدارة العامة يكون بوجود أعضاء من رجاله في مجلس إدارة الشركة الصناعية.
5- وفي الآونة الحديثة تتبع (بنوك الائتمان) في ألمانيا طريقة مبتكرة في تمويل الصناعات وهي أن تمنحها قروضاً ثم تجمدها فيما تصدره الشركة الصناعية من أسهم وبهذه الطريقة تزول القروض من الميزانية. وتتبع بنوك السويد نفس الطريقة بأن تقوم بتحويل القروض الصناعية التي تمنحها للشركات إلى أسهم وذلك باكتتابها في الأسهم الجديدة التي تصدرها الشركة ثم تعيد بيعها تدريجياً في السوق المالية وبذلك يصبح رأس المال المستغل في هذه الناحية متجدداً على الدوام.
ومما يذكر أن بنك مصر كان يتبع طريقة مشابهة في تمويل شركاته الصناعية كما سيأتي:
أساليب بنك مصر:
1- لم يكن بنك مصر مجرد بنك ودائع وإنما سعي –وكان أول بنك يملكه مصريون- وقاد حملة لتصنيع البلاد ونجح إلى حد بعيد فيما سعى إليه وأسس عدداً كبيراً من الشركات الصناعية. وبينما استهدفت سياسة بنك مصر دائماً احتياجات البلاد فإنه تعمد في الوقت ذاته توزيع المخاطر بتنويع نواحي النشاط حتى أصبحت مجموعة شركات بنك مصر تضم باقة متنوعة من صناعة الغزل والنسيج إلى أعمال التأمين والنقل البحري والجوي والنهري إلى التمثيل والسينما ومصايد الأسماك والطباعة وأعمال المناجم والمحاجر والفنادق والصناعات الكيماوية.
2- ولم تكن أخطار حبس موارد البنك القصيرة الأجل في استثمارات صناعية طويلة الأجل بخافية على مؤسسي بنك مصر لذلك حاول البنك في أول الأمر أن يحصر استثماراته الصناعية في مال مخصص يستقطعه من فائض أربحاه سنوياً بموافقة المساهمين. وكان البنك يفرز لهذا المال حساباً خاصاً في ميزانيته باسم (مال مخصص لتأسيس وتنمية شركات مصرية صناعية وتجارية) وكان هذا المال محدد المقدار لا يتعداه لكي يحصر أخطار المشاركة في المال المخصص لها فلا تؤثر في سلامة مركز البنك. وفعلاً حرص البنك في سنواته الأولى على المحافظة على هذا المبدأ. غير أنه سرعان ما وجد أن ذلك المال لا يسعف طموحه التوسعي في تأسيس الشركات فلجأ إلى مبدأ جديد وسليم. وهو حصر أموال مشاركاته الصناعية في حدود رأسماله واحتياطياته. ومعلوم أن رأسمال كل بنك وكذلك احتياطياته ملك للمساهمين لا المودعين فلا يخشى بشأنها مطالبة مما يمكنه إن شاء حبسها في استثمارات طويلة الأجل نوعاً. وظل بنك مصر يحافظ على هذا المبدأ السليم حتى انتقل إلى ملكية الدولة.
3- وفيما يختص بعلاقة بنك مصر بشركاته فكانت تتلخص في القبض بشدة على تلك الشركات. فقد ساهم بنصيب كبير في رؤوس أموالها واحتفظ بما يملكه من أسهمها في محفظة أوراق مالية بصفة دائمة وتدخل في إدارتها بل وجمع كل إدارتها في يده وحصر معاملاتها معه وأمدها بالقروض ليس فقط لتمويل العمليات الجارية بل وقروض طويلة الأجل لاقتناء أصول ثابتة. واعتمد إلى حد كبير على أرباحه من استثماراته في تلك الشركات. وتولى دعم الضعيفة منها وأخذ على عاتقه تقويتها إلى حد تحمل خسائرها. وأطلق على كل منها اسم شركة مصر وجمعها وربطها بعجلته وأصبحت تكون معه كتلة واحدة متعاونة متساندة هي (مجموعة مصر). والواقع أن بنك مصر ذهب في ارتباطه بشركاته إلى أبعد مما وصلت إليه البنوك الألمانية.
4- وفيما يختص بقروض البنك لشركاته جرت سياسته من قديم على مد هذه الشركات بما يلزمها من القروض الصناعية الضخمة والتي تقدر بالملايين على الحساب الجاري لأغراض التوسيع والتجديد وإنشاء المصانع الجديدة انتظاراً لما تحصل عليه هذه الشركات من أموال بالتجائها بنفسها إلى سوق رأس المال سواء يطرح أسهم جديدة لزيادة رأس المال أو بإصدار سندات للحصول على قروض طويلة الأجل على أن تسدد بحصيلتها ما سبق أن استدانته من بنك مصر. فقروض البنك الضخمة لشركاته وإن كانت قد منحت بغرض توظيفها في أصول ثابتة إلا أنها بالنسبة للبنك ليست طويلة الأجل كما قد يتبادر إلى الذهن، فالبنك في حقيقة الأمر يسهل الائتمان لشركاته ويمكنها من الحصول على ما تحتاج إليه من أموال قبل أن تقوم بجمعها عن طريق الاكتتاب. وواضح أن هذه الطريقة تشبه طريقة البنوك الألمانية كما ذكرنا.
هذا وكان بنك مصر يوازن في الآونة الأخيرة بين مراكزه المختلفة بالنسبة لشركاته جميعاً قبل أن يمنح إحداها قرضاً صناعياً، فلا يجعل حساب إحدى الشركات مديناً إلا إذا كان حساب شركة أخرى دائناً مما يخفف العبء عنه. وكان ذلك يتضح بجلاء عند الإطلاع على ميزانيات شركاته في تاريخ واحد في السنوات الأخيرة. فبينما نجد الحساب دائناً لبعض الشركات نجده مديناً في البعض الآخر فكأنه يقرض أموال بعض الشركات للبعض الآخر مما يشهد له بالبراعة.
البنك الإسلامي:
لكل هذه الاعتبارات النظرية والتطبيقية نطالب للبنك الإسلامي بدور فعال في التنمية الصناعية بمعنى أن تقوم سياسته في هذا المجال على دراسة العمل الصناعي ثم المساعدة على إنشائه فيطرح بنفسه أسهمه للاكتتاب ويشترك في هذه الأسهم ثم يراقب العمل بعد إنشائه ويمده بالمال وفي الجملة يتصل اتصالاً مباشراً بالعمل الصناعي منذ إنشائه إلى أن يتم تكونيه مستوحياً أساليبه في كل ذلك من أساليب البنوك الألمانية وأساليب بنك مصر يساعده في ذلك ضخامة رأس ماله وضخامة احتياطياته وودائعه المخصصة للاستثمار وودائعه ذات الآجال.
ولا ننسى أن البنوك ذات السمعة الطيبة إذا تبنت مشروعاً صناعياً فإن ذلك يضفي ثقة عند جمهور المكتتبين. والبنك الإسلامي يعتبر بهذا قائداً وقدوة للمسلمين في هذا المجال حتى يتعودوا استعمال مدخراتهم في الاكتتاب والتمويل الصناعي وهذا أمر ضروري لتصنيع الاقتصاد الإسلامي.
كما لا ننسى من ناحية أخرى أن اشتراك البنوك في تأسيس الشركات يهيئ لها الاشتراك فيما يسمى “ربح المؤسسين” وهو الفرق بين قيمة السهم الأسمية وقيمته السوقية إذا تصرف البنك في جزء مما يمتلكه من أسهم الشركة بعد إنشائها ومزاولتها لأعمالها. وقد حصل بنك مصر على أرباح عن هذا الطريق. كما أن عائد الأسهم التي يحتفظ بها البنك لا يستهان به وقد كان بنك مصر يعتمد بصفة دائمة على عائد أوراق شركاته في الحصول على جانب كبير من أرباحه حتى أن إيرادات البنك كلها كانت تأتي إليه مناصفة بين إيرادات محفظة أوراقه المالية وتتكون في غالبيتها من أوراق شركاته وبين أرباحه من سائر أعماله المصرفية الأخرى.
حقاً إن أسهم الشركات تأتي بطبيعة الحال في مرتبة تالية للأوراق الحكومية ثابتة الفائدة من حيث الضمان والسيولة ومن حيث ثبات أسعارها مما يغري البنوك الحالية بالاستثمار فيها كما هو مشاهد، ولكن يجب ألا ننسى أن الاستثمار في الأسهم يمثل العون الذي تقدمه البنوك للإنتاج والتصنيع ولسوق رأس المال عامة. ومع ذلك فإن ضمان الحكومة لحد أدنى لربح شركة من الشركات يجعل أسهمها في مرتبة السند من هذه النواحي بالنسبة للبنوك. وهناك سوابق في هذا المجال، فقد سبق أن ضمنت الحكومة المصرية حداً أدنى لربح قدره 4% لأسهم شركة الحديد والصلب وضمنت حد أدنى لربح قدره 5% لأسهم شركة الفنادق. وهذا اتجاه على الدول الإسلامية أن تدرج عليه تدعيماً للاقتصاد الإسلامي.
ونرى أن البنك الإسلامي يستطيع وهو مطمئن أن يستوعب من أسهم الشركات وأن يمد بالمال في مشاركات صناعية إذا راعى الشروط الآتية:
1- أن لا تزيد نسبة استثماراته الصناعية (أسهم مشاركات صناعية) في مجموعها عن جملة رأس المال والاحتياطيات والودائع المخصصة للاستثمار حتى تعتمد تلك الاستثمارات على موارد ثابتة. ويستطيع البنك أن يرفع نسبة استثماراته كلما زاد في احتياطياته ورأسماله وكلما زادت لديه ودائع الاستثمار بحيث يحقق دائماً المعادلة الأساسية: الاستثمارات طويلة الأجل = الموارد طويلة الأجل.
2- أن ينشئ مخصصاً كافياً في احتياطياته لمواجهة هبوط أسعار الأوراق المالية.
3- أن يهتم بدراسة مقومات النجاح للمشروع الجديد وأن يقبل على المشروعات التي تضمها الحكومة.
4- أن لا تزيد مدة المشاركة الصناعية وهي التي تحل محل القروض الصناعية عن خمس سنوات حتى لا يتعرض لمخاطر التضخم وهبوط قيمة النقد في المدى الطويل.
5- أن لا تزيد قيمة المشاركة الواحدة عن عشر رأس المال والاحتياطيات حتى لا تتكتل أموال البنك في مشاركة واحدة تعرضه للأخطار. ويمكن لبنكين أو أكثر اقتسام مشاركة كبيرة بنسبة معينة وفي الحدود السابقة. فإذا راعت البنوك الإسلامية هذه الشروط فإن سياستها في الاستثمارات الصناعية سوف لا تحمل أية مخاطرة ما دامت تتسم بالاعتدال كما أوضحنا وحتى دون تدخل مباشر من البنك المركزي. ومع ذلك فمن الضروري –كما أسلفنا- استحداث نظام لبنك مركزي إسلامي يحل بمشاركاته محل البنوك وفي مجال الصناعة أيضاً، فيمدها بموارد إضافية ويضفي سيولة على أصولها المتصلة بالصناعة عند اللزوم فالأوضاع القديمة والأسس البالية لا بد لها أن تتغير إذا بدأ نظام إسلامي فتي يتجه إلى التصنيع.
وفي ختام هذا البحث أود أن أشير بصفة خاصة إلى الحلول العملية التي قدمتها في مسألة المشاركة التجارية المؤقتة وهي الشيء الجديد في هذا البحث، وأرجو أن تتاح لي الفرصة لمناقشتها، ليس فقط مع رجال الفكر، وإنما أيضاً مع رجال البنوك أنفسهم. فهذه الحلول ليست نهائية وإنما مطروحة على بساط البحث، وتقبل بطبيعة الحال كل تهذيب أو تعديل وصولاً إلى الهدف الأسمى.