كان تعرفي الفكري على المرحوم سيد قطب مفكراً إسلامياً مفاجأة. وكانت سياحتي وسباحتي في كتاباته متعة.
وكان تفكيري في النهاية الفاجعة التي انتهى إليها مبعث أسى.
وكان قناعتي أن مفكراً إسلامياً –غيره- لم يظلمه هذا الظلم الفادح أنصاره وخصومه على حد سواء. فسيد قطب ذهب فيما كتب، حول مواقف الإسلام العملية وتصوراته النظرية من قضايا العصر ومشكلاته ومآسيه، إلى ما لم يذهب إليه الذين سبقوا، وإلى ما لا يتصوره الذين تخلفوا ولا يزالون يسعون بالجهل بيننا!
ثم إن كتاباته –خاصة في مرحلته الفكرية الأولى- قد امتازت بالوضوح والعمق والتحديد، إلى جانب اتصافها بالجرأة والحسم في الجهر بالرأي، وفي تأكيد الانتماء، وفي اختيار الموقف.
أما نهايته الدرامية –لو صح ما قيل بشأنها- فقد أكدت أن أخطر وأخطأ ما قد يتورط فيه المثقف صاحب الرأي أن يتحول بعقله عن الممارسات الفكرية المتحضرة إلى المجاهدات التنظيمية الرافضة، تحت تأثير اللدد في الخصومة أو الغضب غير المبرر على النظام الذي ينتسب إليه. كما أكدت أيضاً أن أقبح وأقسى ما يقترفه نظام ما من آثام أن يحل خصومته مع أهل الفكر –بكل نوعياتهم- بالتصفيات الجسدية. وهذا هو المنظور الحضاري لهذه المسألة. أما القضاء في الأمر تاريخياً أو قضائياً، فذلك بعض ما يحسن السكوت عنه، لأنني على الأقل لست أملك الأدوات اللازمة التي تمكنني من الفتيا فيه.
وخصوم سيد قطب لم يقرأوه، ولم يحسنوا الظن به. أما أنصاره، فإن كانوا قد قرأوه، فإنهم في الأغلب لم يحسنوا الفهم عنه. وليس أدل على موقف هذا الفريق الثاني من أنه عندما أتيحت له –في اطار تجربتنا الديمقراطية- فرصة تقديم سيد قطب المفكر لم يحسن الاستفادة منها، واكتفى بلطم الخدود، وشق الجيوب، والدعوة بدعوى الجاهلية!
وسيد قطب، كما أشرت من قبل، ليس مرحلة فكرية واحدة ولكنه عدة مراحل. وفي المرحلة الأولى التي غطت مساحة زمنية تمتد من نهايات الأربعينات حتى أواسط الخمسينات، كان فكره أكثر وضوحاً، وكان موقفه الاجتماعي من قضايا الإنسان المصري، ومن مشكلات الإنسان المعاصر بوجه عام، أكثر تحديداً. وفي هذه المرحلة صدرت ثلاثة كتب من أفضل كتبه التي عالج عن طريقها مسألة الظلم الاجتماعي، وحارب على صفحاتها من أجل تحقيق العدل الاجتماعي، ووقف من خلال سطورها يؤكد أن التغيير الاجتماعي ضرورة. وهذه الكتب الثلاثة هي “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، “السلام العالمي والإسلام”، “معركة الإسلام والرأسمالية”. وأظن –وقد يكون بعض الظن إثماً- أن الذين يتباكون اليوم على سيد قطب ويتنادون بالثأر له، حريصون على تجاوز هذه الكتب وتغييبها. ربما لأن الاستنارة والمعاصرة التي بدت فيها يصعب على عقولهم الجامدة هضمها، وربما لأن الأخذ بما دعت إليه خطر –وأي خطر- على مراكزهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية، وربما لأن أغلب مطالبات سيد قطب في هذه الكتب قد نفذها النظام الذي قضى عليه!، وهو الأمر الذي يترتب عليه مأزق نفسي فكري لهؤلاء يصعب عليهم الخروج منه.
السلام الاجتماعي والكفاية المعيشية
لعل أوضح ما يميز الفكر الاجتماعي عند سيد قطب، عن غيره من الذين يتحدثون من منطلقات دينية أيضاً، أنه لم يكن يتناول المشكلات الاجتماعية من منظور أخلاقي بحت. فسلام المجتمع على سبيل المثال ليس رهناً فقط بسيادة الحب والرحمة بين أفراده، ولا بسيطرة الأدب النفسي والاجتماعي على سلوكياتهم، ولا بتنمية شعور التعاون والتضامن فيما بينهم، ولا بتنشيط الإحساس بالانتماء للإنسانية لديهم، ولكنه رهن أيضاً –وفي المحل الأول- بتوفير ضمانات الحياة المعيشية، وكفالة الرزق لكل فرد، وتحقيق الكفاية له، وضمان التوازن الاجتماعي بين الذين يملكون والذين لا يملكون. فهو يقول في كتابه “السلام العالمي والإسلام”:
“ولا يغفل الإسلام عن أن القوانين كلها، والضمانات جميعها، يمكن أن تذهب ضياعاً، إذا فقد الفرد كفايته الضرورية للمعاش، وإن أشواق روحه قد تطمس، وإشراق ذهنه قد يخبو إذا هو فقد تلك الكفاية. ومن هنا يضع الضمانات بجانب التوجيهات لتوفير هذه الكفاية المعيشية أولاً، ثم لتحقيق التوازن الاجتماعي المطلق أخيراً”.
وهو يصرخ في كتابه “معركة الإسلام والرأسمالية”: “وقد يبدو الحديث عن المقدسات الإنسانية ترفاً في مصر، أو حديثاً عن أوهام وخيالات لا وجود لها في أوضاع اجتماعية كأوضاعنا القائمة. إن الحطام الآدمي الذي يعد بالملايين في مصر، لا يتسنى له الشعور بتلك المقدسات، لأنه مشغول بشعور الجوع والحرمان”.
وعندما يتحدث عن تكافؤ الفرص في إطار الأوضاع الاجتماعية السيئة فإنه يقول في نفس الكتاب: “إن تكافؤ الفرص في مثل هذه الأوضاع خرافة لا تقل عن خرافة المساواة أمام القانون، وإلا فأي تكافؤ بين الكتلة من اللحم يدفع بها رحم في الكوخ، فتتلقاها الأرض، أو حجر أقذر من الأرض، يسلمها إلى الميكروب والمرض، ثم يكلها إلى الجوع والشظف، حتى إذا غالبت ذلك كله، دفع بها إلى الحرمان والإهمال. وبين أخت لها وليدة على يدي طبيب، وفي حضن ممرضة، موكولة إلى العناية والرعاية، فإلى المناغاة والتدليل، فإلى روضة الأطفال فالجامعة، فإلى كرسي الديوان أو مسقط الثراء في الشركات والدوائر والتفاتيش؟!”.
ويبلغ به الأمر حد تحميل الدولة مسئولية “أن تضمن لكل وليد فرصة الصحة الطيبة، بمنحه أبوين صحيحين على قدر المستطاع، لأن تكافؤ الفرص لا يبدأ بعد الميلاد، فالميلاد موعد متأخر جداً لتحقيق هذا التكافؤ! وإذا كان تكافؤ الفرص –في رأيه- خرافة في اطار الأوضاع الاجتماعية السيئة، فإن العدالة بين الجهد والجزاء أسطورة. وهو يعضد ما يذهب إليه بحديث الواقع الذي كان يبصره ويلمسه فيقول:
“إن الذين يعملون في هذا البلد هم الذين يجوعون. أعني الذين يعملون أعمالاً شريفة، لا تدخل في قائمة السرقة والاختلاس، والغش والتدليس، والارتشاء واستغلال النفوذ، وتجارة الرقيق الأبيض، والخيانة الوطنية…إلى آخر ما يملك به الرجل أو المرأة في مصر أن يصبح بين يوم وليلة من الوجهاء الأثرياء!”.
ويغضب من الذين يزعمون أن الملايين الجائعة تجوع لأنها ملايين من الكسالى الذين لا يريدون العمل والتعب، فيعلن أن مثل هذا يقال عن فرد، أو عشرة أو مئة أو عن ألف أو حتى عشرة آلاف إما أن يقال عن الملايين، فدون هذا ويمج الحديث، وتسخف العبارة، وتعجز المرائر عن الاحتمال!
وتتأكد رهافة الحس الاجتماعي عنده حين يتعرض للذين يفهمون الآية “ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات” بأنها إقرار لنظام الطبقات في الإسلام. فالارتفاع كما يراه هو ارتفاع فردي لا طبقي، فردي قائم على الموهبة الشخصية، لا طبقي قائم على المولد في طبقة. فالموهبة الفردية تهيئ لصاحبها مكانه باستحقاق، أما الولادة في بيت فلا ترتب لصاحبها مقاماً واحداً لا يستحقه باستعداده وعمله في الحياة.
وعندما يتناول الحقوق السياسية للمواطن، وفي مقدمتها حق الانتخاب، فإنه يؤكد أن الإسلام “يحتم إزالة القيود التي تجعل الانتخاب غير ممثل لحقيقة الرأي في الأمة، فلا يكون الناخب تحت رحمة صاحب العمل، أو صاحب السلطان، كما هو واقع الآن”. وهي صياغة تقطع بإدراكه أن الحرية السياسية للإنسان ليست منفصلة عن حريته الاقتصادية.
وهو يدرك أيضاً تلك الخدعة التي تمارسها الرأسمالية مع الجماهير، في إطار ما تسميه بالديمقراطية، حين يقول عن مصر –وغيرها من دول المنطقة- في الأربعينات:
“أهذه ديمقراطية دستورية برلمانية؟ وجهاز الدولة كله يعمل لحساب الرأسمالية، وهذه الملايين جائعة عارية مريضة مستغلة، ولا حامي لها ولا نصير؟”.
الاستعمار والرأسمالية والظلم الاجتماعي
ومن الميزات التي تبدت في الكتابات الاجتماعية المبكرة لسيد قطب إدراكه لروح العصر الذي كان يكتب فيه. فقد كان الاستعمار في بدايات الأفول، والبحث عن أدوات له من الرأسمالية المحلية تطيل أمد استغلاله للشعوب على أشده. وكان الكثير من المظالم المحلية تطيل أمد استغلاله للشعوب على أشده. وكان الكثير من المظالم الاجتماعية مرتبطاً بوجوده، ومدعماً بوجود أنصار له أو عملاء أو شركاء من هؤلاء الرأسماليين المحليين. وكانت المنظمات الدولية تستغل لتقوية مواقعه ومواقع المتآمرين معه. ومن هنا فإن سيد قطب يلفت النظر إلى كل هذه الحقائق، ويتهم صحافة الرأسمالية المحلية بأنها:
“لاتني تنشر بالخط العريض تلك الأنباء الناطقة بعطف المنظمات الدولية واهتمامها بقضية العدالة الاجتماعية في مصر”.
ويعلن في ذكاء على تلك الممارسات المكشوفة فيقول في كتابه “معركة الإسلام والرأسمالية”:
“أليست وسيلة بارعة من وسائل استمالة الجماهير إلى الاستعمار، لتلقي عليها أعباءها الثقال، وتكل إليه تحقيق العدالة الاجتماعية التي تتلهف عليها ولا تراها؟!
ولكن الجماهير ينبغي أن تعلم أن المصلحة المشتركة بين الرأسمالية العالمية تقعد بين ممثليها جميعاً في الشرق والغرب حلفاً طبيعياً، ضد الجماهير وضد مصالح الجماهير. وإن المصالح المشتركة بين الاستعمار والرأسمالية المحلية تعقد بينهما كذلك محالفة طبيعية قوية الأواصر”.
وقد كانت حملة سيد قطب –رحمه الله- على الرأسمالية حملة ضارية، وكان اتهامه لها بإفساد الأوضاع الاجتماعية صريحاً. وكأن ربطه بين هذه الأوضاع التي تنشأ عن الممارسات الرأسمالية وبين فساد الخلق والضمير، واهدار الكرامة الإنسانية للمواطن، وإحالة تكافؤ الفرص إلى خرافة، والدفع بالناس إلى التطرف في السياسة كمخرج لهم من الظلم الاجتماعي الذي يقع عليهم، هو الثمرة الطبيعية لفهمه الصحيح للآثار الاجتماعية السلبية التي تنشأ في أحضان الرأسمالية”.
الاجتهادات المعاصرة لتحقيق العدل الاجتماعي
وقد أدرك سيد قطب من روح عصره أيضاً “أن فكرة العدالة الاجتماعية بين الأفراد في حياة المجتمع أخذت تطغى بقوة على النعرة الوطنية في أوطان تقسم أهلها إلى عبيد وأسياد”.
ولكنه كان يرى في الوقت ذاته أن الإسلام هو وحده القادر على تحقيق الفكرتين جميعاً، بلا تعارض ولا تصادم ولا مغالاة، أي فكرة الوطنية وفكرة العدالة الاجتماعية.
وقد كان هذا المزدوج لطبيعة العصر، وطبيعة البناء الفكري الإسلامي، وراء رؤية سيد قطب الخاصة لمسألة العدل الاجتماعي. فهو لم ينكر أن هناك اجتهادات أو أنظمة أو عقائد أخرى قد تقدمت لتحمل عن الإنسان العناء الاجتماعي الذي يقاسي منه. وهو على عكس غيره –من الذين ينطلقون من تصورات دينية- لا يعلن الإفلاس التام لهذه الاجتهادات، ولا ينكر التقاء الإسلام معها في أمور واختلافه معها في أمور. فهو لم يكن يتردد (مثلاً) أن يقرر في مواضع كثيرة أن الشيوعية رغم ما فيها من تناقض لفكرة الإسلام الأساسية عن الكون والحياة والإنسان، فيها في الجانب الاقتصادي موافقات كثيرة لبعض النظم الإسلامية، كما أنه في الإمكان أن نحمد منها أشياء، وأن نكره منها أشياء، وأن نألف منها اتجاهاً، وأن ننكر عليها اتجاهاً. وفي الوقت الذي كان الحديث فيه عن الاشتراكية تحريضاً على الفوضى، وإثارة للشعب، وخروجاً على القانون، فإنه كان يرى أن الاشتراكية قادرة على تحقيق العدل الاجتماعي، لولا أنها –من وجهة نظره- تقف بطموح الإنسان عند حدود الطعام والشراب، كما أنه كان يؤكد دائماً أن الأوضاع الاجتماعية المستغلة (الرأسمالية) لن تسلم للإسلام، ولا لأي من هذه المذاهب، كما أنها تجاهدها جميعاً. وفي هذا الصدد فإنه يقول عن محاولات الخروج من دائرة الأوضاع الاجتماعية الفاسدة التي كانت قائمة وقتئذ.
“منا فريق يهتف بالاشتراكية… ومنا فريق يحلم بالشيوعية، ومنا فريق يدعو إلى الإسلام. والأوضاع القائمة تجاهد الجميع، لأن واحداً من هذه الحلول كلها لن يدعها في الإسلام”.
ولكن اختيار سيد قطب –وهو على حق- كان الإسلام. ففي هذا الدين العظيم المخرج الحقيقي الصحيح الآمن من دائرة العناء التي يصلب إليها الإنسان.
“ولا بد للإسلام أن يحكم لأنه العقيدة الوحيدة الإيجابية الإنشائية التي تصوغ من المسيحية والشيوعية معاً مزيجاً كاملاً، يتضمن أهدافهما جميعاً، ويزيد عليها التوازن والتناسق والاعتدال”.
ولكن سيد قطب (رحمه الله) كان في الوقت ذاته ضد الذين يتحدثون عن “اشتراكية الإسلام”، لأن في الأمر كما يقول خلطاً بين نظام من صنع الله وأنظمة من صنع البشر، كما أن في التورط في استخدام هذه المقولات وأنظمة من صنع البشر، كما أن في التورط في استخدام هذه المقولات إيكالاً للإسلام إلى مذاهب ونظريات أخرى تفسره، كما أن الذين يتوهمون أنهم بذلك يكسبون الإسلام قوة جديدة إذ يطعمونه بتلك النظم إنما يفسدون الإسلام ويعطلون روحه.
والقارئ المتمعن في كتابات سيد قطب يكتشف بسهولة أنه من اشد كتابنا الإسلاميين تأثراً بالفكر الاشتراكي وبقيم العدل الاجتماعي المعاصر، خاصة في مرحلته الفكرية الأولى، ومن هنا كانت معقولية موقفه من الاجتهادات الاشتراكية إلى حد كبير. ولكنه كان يجتهد دائماً لتأصيل أفكاره وصبغها بالصبغة الإسلامية البحتة، وكان يحكم ما أسماه “الاستعلاء” باسم الإسلام في صياغة أفكاره، مما يجعله يحاول رد كل أمر يعرض له إلى مصادره الإسلامية الأولى، ومن هنا كان إصراره دوماً على تأكيد استقلالية هذه الأفكار (الإسلامية) عن اجتهادات المعاصرين، حتى لو توافقت معها في أمور كثيرة. وذلك في رأيي هو التفسير المعقول لما قد يبدو في مواقف سيد قطب من تناقض ازاء الاشتراكية وازاء الاجتهادات والحلول المعاصرة التي طرحت لتحقيق العدل الاجتماعي في المجتمعات الحديثة.
صدمة الإسلام للذين لا يفقهونه
العدالة الاجتماعية في الإسلام –كما يعرضها سيد قطب- تقوم على أسس ثلاثة هي: التحرر المطلق، والمساواة الإنسانية الكاملة، والتكافل الاجتماعي الوثيق. وفي الأساس الأول تحرير للوجدان البشري من عبادة أحد غير الله، وتأكيد لمباشرة العلاقة بين العبد وبين ربه، فلا كهانة ولا وساطة. وفيه أيضاً تحرير للنفس البشرية من ذل الخضوع للقيم الاجتماعية من مال أو جاه أو حسب أو نسب. وفيه أخيراً تحرير للنفس من شهواتها ولذاتها ومطامعها. أما الأساس الثاني فيقرر مساواة البشر جميعاً في حقوق الإنسانية، فالكل لآدم وآدم من تراب، كما يقرر تساوي الأجناس جميعاً في الأصل والنشأة: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، كما أنه يكفل المساواة التامة مع الرجل، ولا يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات التامة مع الرجل، ولا يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات المتعلقة بالاستعداد أو الدربة أو التبعة مما لا يؤثر على حقيقة الوضع الإنساني للجنسين، ثم إنه في النهاية يؤكد للجنس البشري ككل كرامته: “ولقد كرمنا بني آدم”. أما الأساس الثالث فإنه يبدأ من التكافل بين الفرد وذاته بنهيها عن الشهوات وتزكيتها وتطهيرها. وينتقل إلى التكافل في محيط الأسرة في الحاضر وفي المستقبل، وما الميراث في شريعة الإسلام غير صورة التكافل بين الأجيال في الأسرة الواحدة من جهة. ووسيلة لتفتيت الثروة حتى لا يختل نظام المجتمع من جهة ثانية. ثم يتسامى إلى التكافل بين الفرد والجماعة، وفي هذا المستوى الأخير فإن الحدود ليست غير عقوبات قدرها الخالق لجرائم اجتماعية تخل بقاعدة التكافل بين أفراد المجتمع جميعاً، حيث “كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله”.
ولما كانت سياسة المال أدخل شيء في الحديث عن “العدالة الاجتماعية”، ولما كان سيد قطب واحداً من الذين ذهبوا مع هذا الموضوع إلى حيث لا يذهب كثيرون من مدعي التحدث بإسم الإسلام، فإن لنا وقفة تفصيل معه في هذا الشأن.
يرى سيد قطب –وهو على حق- أن الملكية الفردية حق مقرر في الإسلام ومصان بتشريعاته أيضاً. ولكن هذا الإقرار بقداسة الملكية الفردية وحمايتها رهن بشروط ثلاثة. وأول هذه الشروط أن يكون مصدر التملك حلالاً، وثانيها أن تجري تنمية هذه الملكية بطريقة مشروعة، وثالثها أن يجري انفاق عائدها في مصارف حلال دونما إسراف أو إفساد. فإذا انتفى شرط من هذه الشروط فقدت هذه الملكية حق الحماية الذي يسبغه عليها الإسلام. ولكن سيد قطب لم يقف عند هذا الحد، فقد ذهب إلى أن استيفاء هذه الشروط لا قيمة له إذا لم يكن المجتمع متوازناً لا اضطراب فيه ولا اختلال، أو إذا وجدت حاجات استثنائية للمجتمع لمواجهة طوارئ داخلية أو خارجية. ومع نشوء مثل هذه الحالات يكون حق المجتمع مطلقاً في المال، وحق الملكية لا يقف في وجه هذا الحق العام. واحتكار المال لدى القلة، وشيوع الترف في جانب والفقر في جانب آخر مما يهدد أمن المجتمع وسلامته، وعجز الميزانية العامة عن الإنفاق على حاجات المجتمع، وقيام طارئ يستوجب حشد الرجال والسلاح، كلها أمور تستدعي تدخل الدولية لتتصرف في الملكيات الفردية بلا حدود ولا قيود، إلا حدود الحاجات الاجتماعية والصالح العام. ففي يد الدولة أن تنزع من الملكيات وأن تأخذ من الثروات كلم ا تجده ضرورياً لتعديل أوضاع المجتمع أو لمواجهة نفقات إضافية ضرورية لحماية المجتمع. ويذهب سيد قطب إلى أبعد من هذا فيؤكد: “بل في يد الدولة أن تنزع الملكيات والثروات جميعاً، وتعيد توزيعها على أساس جديد، ولو كانت هذه الملكيات قد قامت على الأسس التي يعترف بها الإسلام، ونمت بالوسائل التي يبررها”.
ويضيف في كتابه “معركة الإسلام والرأسمالية” وهو يتحدث عن الإقطاع:
“للدولة أن تبقى على الملاك وأراضيهم، ثم تعطيهم قدراً منها يزرعونه في حدود طاقتهم، وتمنح حق الإرتفاق على سائرها لمن تشاء من الأفراد المحتاجين القادرين”.
وعندما يزاد الغلاء، وتشتد المضاربة، ويفسد المجتمع، فإنه يرى أن الحل ميسور، حيث يجب:
“أن تتحكم الدولة في التصدير والاستيراد، وأن تشتري لحسابها كل المحصولات… ثم تبيعها هي لحسابهم بالأسعار العالمية. فأما الحصيلة الناشئة في الفرق فتساهم بها في تخفيض سعر الواردات حيث تباع للمستهلك”. (تسويق تعاوني، ودعم سلع!).
ولكن ما هي حدود الترف المدمر المفسد التي تستدعي تدخل الدولة الحازم لإعادة الأمن والتوازن إلى المجتمع؟ يجيب سيد قطب في كتابه “العدالة الإجتماعية في الإسلام” أن الترف والحرمان يحدهما منطق البيئة وواقعها:
“فحيث لا يجد الملايين من الشعب جرعة ماء نظيفة يكون من الترف –ولا شك- أن يشرب بعض الناس مياه فيشي وايفيان مستوردة من وراء البحار!”.
وقد يكون الترف أيضاً:
“سيارات فخمة تروح وتغدو للتافه الصغير من الأمور، وألوف لا يجدون أجرة الترام، ومئات لا يجدون حتى أرجهلم للمشي بها، فهي مقطوعة ذهبت بها الآفات!”.
بين التقدم والنكوص
تلك كانت الصورة المبهرة التي بدت عليها الكتابات الاجتماعية الأولى للمرحوم الأستاذ سيد قطب. ومن المؤكد أن المتتبع لتطوره الفكري سوف يلمح تفاوتاً كبيراً بين كتاباته المبكرة تلك وبين كتاباته المتأخرة. وقد شمل هذا التفاوت كلاً من الشكل والمحتوى، ولست أحسبني مبالغاً إذا قلت أن هذا التفاوت قد اقترب من التناقض أو هو تجاوزه.
فمن المؤكد أن الصبغة الاجتماعية في الإنتاج الفكري للأستاذ سيد قطب قد ضعفت في كتاباته التي ظهرت بعد منتصف الخمسينيات. ففي هذه الكتابات نزوع منه –رحمه الله عليه- إلى العودة إلى التناول الكلاسيكي (إذا صح التوصيف) للمعطيات الدينية، فلم تعد الظواهر الاجتماعية، ولا الظلم الاجتماعي، ولا العناء اليومي للمواطن، ولا المشاكل الحياتية للإنسان، من القضايا التي تطل برؤوسها من بين سطور مؤلفاته، كما عهدنا ذلك في الكتب التي صدرت له في نهاية الأربعينات أو في الخمسينيات الأولى. وصاحب ذلك انحياز حاد منه إلى التعامل القائم على التعميم المعتم مع المبادئ والشعارات الكلية التي لصقت بالحركة الإسلامية المعاصرة، مثل الحاكمية، والحكم بالقرآن، وتجهيل المجتمع….الخ. وهذه الشعارات (فيما عدا وصم مجتمعات المسلمين المعاصرة بالجاهلية) صحيحة وسليمة بغير شك، كما أنها مقبولة من جميع المسلمين، ولكنها قد تتحول إلى قنابل زمنية أو مغارز عنف غير متبصر تهدد المجتمع المسلم بالانفجار ما لم يصاحبها تحديد مستنير للمناهج والأساليب والوسائل الملائمة للتقدم ما لم يصاحبها تحديد مستنير للمناهج والأساليب والوسائل الملائمة للتقدم بها وتأصيلها وعصرنتها ووضعها موضع التنفيذ في المجتمعات الحديثة. وأحسب أن هذا القصور في تحديد المناهج والأساليب والوسائل الملائمة قد بدا واضحاً فيما قدمه المرحوم الأستاذ سيد قطب في كتاباته الأخيرة. بل إنني أزعم أنه لم يقف فقط عند حد السكوت عن مقترحاته القديمة، بل إنه أضاف إلى كل هذا أخذه –كما يفعل كثيرون- بالحشد الحماسي والوجداني للمسلمين، وهو الأمر الذي بدا جلياً في كتابه الأخير “معالم في الطريق” الذي هو أقرب إلى الكتاب التنظيمي منه إلى الكتاب الفكري أو التثقيفي.
وبغض النظر عن مزايدات المريدين ولدد المخاصمين فقد كان سيد قطب المفكر عملاقاً، فإذا أضفنا إلى ذلك النهاية الدرامية لحياته، فإننا قد نتفهم الدلالة الحقيقية للبصمات الشخصية والوجدانية التي خلفها على وجه الحركة –بل الحركات- الإسلامية. غير أن فرز السلبي عن الإيجابي من هذه البصمات رهن بدراسة موضوعية ومفصلة عن ظاهرة التحول الفكري التي ألمت به بعد مرحلة البدايات التي حاولت تغطيتها في هذا المقال، على أن تتضمن هذه الدراسة ملامح ذلك التحول، ودافعه، وميكانيكيته، وآثاره، وكيفية تجاوزه، حتى يمكن التقدم بقيم وأساليب ووسائل الحركة الإسلامية من حيث وقف بها الأستاذ سيد قطب في أواسط الخمسينيات. وإنني لآمل أن يوفقني الله إلى إتمام هذه الدراسة، كما أتمنى أن يتسع لها صدر هذه المجلة العظيمة.