1- المقدمة
لقد ذكر كثيرون من الكتاب الغربيين في مجال الفلسفة العلمية أن الآراء الدينية بالنسبة للكون، وأصله ومصيره، وخاصة مصير الإنسان، ومنزلة القيم في حياة الإنسان، تتعارض مع الرؤية العلمية للكون. وتستمر
المناقشة إلى مدى أبعد من ذلك، لتصور أنه في حالة وجود صراع ما بين المسائل العلمية والنظرة الدينية، فإنه لن يكون لدينا أي اختيار سوى طرح المسائل الدينية جانباً لأن الرؤية العلمية للكون تقوم على أساس قوى تستخلصه من الحقائق الناجمة عن الملاحظة والنظريات الممكن إثباتها، في حين أن الأديان تقوم على أساس تلك المصادر المشكوك في أمرها مثل الوحي، والكتابات المقدسة وشهادة المعلمين الدينيين.
إن الانتقاد السابق ذكره للدين ينطبق على جميع المعتقدات التي ابتدعها الإنسان سواء أكانت تسمى بالأديان، أو القوى الخارقة أو أي نظام أو مذهب مميز. وهي تشمل مختلف أنواع الوثنية، سواء أكانت من أصل يوناني، أو روماني، أو مصري، أو إفريقي أو هندي، وجميع الكتابات المقدسة التي وضعها أناس مثل الهندوسيين والبوذيين، وتشمل أيضاً الكتب المقدسة لليهود والمسيحية إلى حد كبير. إن جميع تلك المعتقدات تعد نتاجاً لحدس الإنسان وهي تحتوي على أقوال خاطئة فيما يتعلق بالكون، وأصله، ومصير الإنسان. وإنه لن يدهشنا أن يتم دحض ما هو نتاج الحدس الإنساني بواسطة الاكتشافات العلمية. وفي الحقيقة: إن الإسلام قد جاء لدحضه قبل وقت طويل من الاكتشافات، ولن تخسر الإنسانية شيئاً إذا اكتسح تيار الاكتشافات العلمية جميع تلك الآثار البالية لأخطاء الإنسان الماضية.
وقد يصاب نقاد الدين العلميون بالدهشة إذا علموا أن الإسلام يقف إلى جانبهم في انتقادهم لرؤية التوراة أو اليهود أو المسيحية للكون، أو الرؤية الهندوسية للكون، ولا يقف في جانب الدين. ويدهش كذلك إذا علموا أن الإسلام يعطي قيمة عظيمة للتوصل إلى الحقيقة، وأن السعي وراء الحقيقة يعتبر واجباً على كل مسلم، وأن الطريقة العلمية قد اكتشفت وطبقت لأول مرة بواسطة العلماء المسلمين، وأن الاكتشافات العلمية تقوي إيمان المسلم بدلاً من أن تنقصه لأنها تزوده بيقين أعمق في قدرة الله الإبداعية.
وقد تم السعي حديثاً للحصول على تبرير للدين (وأيضاً العلوم والفلسفة والفن) على أساس واقعي. ومما يقال أن العلوم والفلسفة والدين والفن تعتبر جميعها ردود فعل الإنسان لمركزه في الكون. إن الإنسان من طبيعته مخلوق هادف ذو عزم، وذو فضول عقلي وحاجات عاطفية وجسدية، لذا فإنه يبتدع قيماً وأهدافاً لحياته ويسعى من أجل تحقيقها. وهكذا، فإن العالم يضع معرفة الحقيقة في المرتبة الأولى ويسعى إليها بحماس، ويكون لديه إيمان قوي بالطريقة العلمية في التوصل إلى الحقيقة. ويبحث الفيلسوف أيضاً عن الحقيقة النهائية ولكنه يعتمد في بحثه على أساليب عقلية ومنطقية، ويعتبر الفنان أن الجمال هو أسمى القيم، ويعتبر الشخص الورع أن التقوى هي أسمى القيم الإنسانية. وإن كل شخص يكون لديه افتراضات سابقة معينة يؤمن بها بطريقة قوية أو ضعيفة. فعلى سبيل المثال: يضع العالم افتراضه السابق بأنه يمكنه معرفة الكون من خلال الطريقة العلمية، ويضع الشخص الورع الافتراض السابق بأن الآلهة أو الله يكون راضياً عن أنشطته التعبدية. وفي حين الافتراض أن التحليل الانتقادي لمعتقدات الإنسان يعد ضرورياً، فإن جميع سعي الإنسان وراء القيم يتم تبريره على نفس الأساس.. أي أنها تشبع حاجات إنسانية معينة ومن ثم فإنه يوجد مكان للأديان، والفنون والفلسفة في عصر العلم.
وقد يشعر المسيحي أو الهندوسي أو اليهودي أو البوذي بالحماية والسعادة لذلك التبرير الواقعي للدين، أما بالنسبة للمسلم فالأمر يختلف. إن المسلم لا يستطيع أن يسلم بالمقدمة المنطقية الأساسية لتلك المناقشة التي تقول بأن دينه يعد مجرد سعي وراء هدف، هدف قد ابتدعه ليتساوى مع العلوم والفلسفة والفن.
إن المسلم يدرك أنه يؤمن بالإسلام لأن الإسلام هو الحقيقة التي تنبع من الخالق ذاته، الذي هو مصدر جميع الحقائق، وليس كنتيجة لرد فعله العاطفي أو العقلي لوضعه في الكون أو كنتيجة لكون التقوى قيمة مستحبة. إن النظريات الاجتماعية التي تتحدث عن أصل الأديان.. مثل الخوف البدائي والرهبة من قوى الطبيعة الغامضة، وتجسيد تلك القوى.. أو نظريات علم النفس المتعلقة بالدين.. مثل صورة الأب التي يتم تجسيدها في الله… لا تنطبق على المسلمين. إن المسلم لا يبحث عن شيء مهدئ ليقلل من مخاوفه أو ليشرح الأشياء، ولكنه يؤمن إيماناً قوياً بالحقيقة العظمى.. حقيقة الله والتوحيد به… بل ويضحي أيضاً بحياته في سبيل تلك الحقيقة.
لقد انهارت الرؤية المسيحية للعالم –وهي تقوم على أساس الاعتقاد بأن شاغل الله الوحيد قد كان هو الثالوث المقدس والكرة الأرضية، وخاصة الأنشطة الإنسانية وأن الله الأب قد أحب البشر إلى درجة كبيرة حتى أنه أرسل إليهم ابنه الوحيد- عندما اكتشف جاليليو لأول مرة الحقيقة التي كان يعرفها العالم الإسلامي لقرون عديدة.. وهي أن الأرض تعد مجرد كوكب صغير يدور حول الشمس، وعندما كشفت الملاحظات الفلكية فيما بعد حقيقة أنه حتى النظام الشمسي ليس بأكثر من ذرة صغيرة في الكون الإلهي الواسع الذي يحتوي على الملايين من المجرات والبلايين من النجوم. إن الإنسان، بل في الحقيقة الأرض بأكملها، لم تكن لها تلك الأهمية عند الله وإن المسيحي الذي درس العلوم لا يجد أمامه سوى اختيارين:
1- أن يرفض المسيحية ويحاول تكوين نظرة موحدة للكون بدون الدين.
2- أن يصبح شخصاً ممزقاً، يؤمن بمعتقداته سراً، ولكنه ينصرف علانية وكأن تلك المعتقدات لا تتوافق مع الحياة الواقعية.
لقد اختار البعض الأسلوب الأول، ووصل الأمر في النهاية إلى أن معظم الناس في روسيا ودول أوربا الشرقية رفضوا المسيحية كلية واستعاضوا عنها بفلسفة إلحادية علمية زائفة قام هيجل وماركس بوضعها. وقد اختار آخرون الأسلوب الثاني، ويوحد الآن جزء كبير جداً من الغربيين الذين يعتقدون اتجاهاً منفصماً حول الحياة. وبتحليل ذلك التمزق الروحي للإنسان الغربي، كتب جوليان هكسلي قائلاً:
“إن مثلنا العليا الغربية تكون عرضة للهجوم لأنها غير موحدة بما يكفي حتى يكون لديها أي قوة دافعة حقيقية وقوية (إن قوتها تكمن في حريتها ومقاومتها للدكتاتورية البهيمية). ولكن طالما يستمر إنشقاقها إلى قسمين.. بين الطبيعي والخارق، بين الله والبشر، بين المادة و الروح.. سوف تظل مدنيتنا الغربية تعاني من الفصام بكل ما تعنيه تلك الكلمة، وسوف تفشل مثلنا العليا في تزويد القوة الفعالة للقيام بعمل هادف حقيقي”.
(جوليان هكسلي: الدين بلا وحي، هاربر وإخوانه، نيويورك، 1957، ص8).
إن حل هكسلي لهذه المشكلة هو إيجاد دين بدون إلهه، وذلك ما يسميه بالفلسفة الإنسانية المتطورة.
إن ما حدث للمسيحية في روسيا، قد حدث للبوذية في الصين، وللطاوية في اليابان. وبدون شك: إن الهندوسية في الهند ينتظرها نفس المصير. فإن ظهور الحقيقة ليس من الممكن صده، وإن الآلهة، والأفكار والمذاهب، والأديان الزائفة من المحتم أن تتلاشى. ويكون السؤال هو: هل ينتظر الإسلام نفس المصير؟
عندما ننظر إلى طلبتنا في الخارج نجد أن معظمهم يتخلى عن الإسلام بسهولة ويجرب بواسطة المذاهب الأخرى أو على الأقل المتع التي تزخر بها البلدان الأوروبية. وإذا استمر ذلك الحال بالنسبة لشبابنا، فإننا حينئذ نستطيع –حقيقة- أن نتوقع مصيراً مماثلاً للبلدان المسلمة. ولكن ذلك إذا حدث، فإنه لن يكون بسبب وجود صراع أساسي بين الإسلام والعلم، ولكن بسبب وقوع القيادة الفكرية للمائة عام الماضية في أيدي الغربيين، وأن المسلمين وغيرهم من الشعوب المتأخرة كانوا فقط يرددون صدى أفكار المفكرين والكتاب الغربيين. إن المفكرين المسلمين، سواء أكانوا دارسين للعلوم الدينية أو العلوم الحديثة، كانوا يفتقرون إلى النضج والشجاعة الفكرية التي تأتي بعد المعرفة العميقة، والبحث الأساسي، والتفكير المتمعن. إذن دعواي هي: إن علماء المسلمين ومفكريهم الذين يعرفون القرآن جيداً، ولهم اطلاع في مجال العلم هم –فقط- الذين يستطيعون في نهاية الأمر أن يقدموا مثلاً عليا موحدة لا يستطيع أن يقدمها العلماء المسيحيون أو البوذيون أو الهندوسيون وإن النقطة هي: إن الإسلام فقط هو الذي يستطيع تبرير الافتراضات السابقة للعلم وأن يقدم أساساً صلباً للنشاط العلمي. وإن الإسلام أيضاً دين، أي أنه مبدأ موحد يقدم للمسلم إرشاداً في كل لحظة من حياته، سواء أكان في خطوة أو في مجموعة، في مسجد أو في سوق، في حجرة دراسة أو في ميدان المعركة، أو كان يقوم ببحث علمي أو أنه فقط يحفر خندقاً. إن مثل ذلك الدين الشامل هو الذي يقدر –وحده- على إنتاج الشخصيات المتكاملة والمجتمعات المتكاملة، إن الإسلام –فقط- هو الذي يقدر على تنسيق جميع الأنشطة الإنسانية، بما في ذلك الأنشطة العلمية، والفلسفية، والفنية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية. وفي الحقيقة، فإن كل نشاط في الإسلام يعتبر عبادة لله لو أنه كان يتم أداؤه لتحقيق الهدف الذي خلق الإنسان من أجله، وهو أن يكون نائب الله على الأرض.
إن ما نفتقر إليه في الوقت الحالي هو المناخ الملائم للبحث وحب المعرفة الذي أدى في الماضي إلى إنشاء الكثير من المؤسسات التعليمية في البلدان المسلمة وإلى تكوين عدد كبير من العلماء والمفكرين الذين كانوا في نفس الوقت مجاهدين أشداء في سبيل الإسلام. إنهم لم يشعروا أبداً أن أنشطتهم العلمية كانت منفصلة عن دينهم أو أنها كانت تتعارض مع المعتقدات والممارسات الإسلامية. ويجب أن يقوم شخص ما في مكان ما بالبدء في تكوين مثل ذلك المناخ، على الأقل على المستوى المحلي، وبمرور الوقت سوف يكون ممكناً للدارسين والعلماء المسلمين أن يظهروا للعالم أنه ليس من الممكن فقط، بل أنه من المرغوب فيه للغاية أن يتم الاستغناء عن تلك الإزدواجات للدين والدنيا، والروح والمادة، والخاصة والعامة، والعيش في حياة متوازنة ومتكاملة وخالية من الصراعات الفكرية، والعاطفية والاجتماعية.
إن غرضي من كتابة هذه المقالة هو اتخاذ الخطوة الأولى في ذلك الاتجاه. وبالنسبة لتلك الغاية، أود أن أتوقف قليلاً وأحاول الإجابة على الأسئلة التالية:
1- ما هو العلم؟
2- هل يفرض العلم علينا رؤية معينة للكون؟
3- ما هي الافتراضات السابقة للعلم وما هو تبريرها؟
4- هل يستطيع العلم إثبات وجود الله؟
5- ما هي الرؤية الإسلامية للكون؟
6- كيف يبرر الإسلام، ويقوى ويوسع الافتراضات السابقة للعلم؟
7- ما هي التوجيهات الإسلامية لتطبيق العلوم والتكنولوجيا؟
8- ماذا يجب أن تكون أهدافنا في مجالات التعليم والصحة العامة والاقتصاد؟
9- ما هي الخطوات العلمية التي نحتاج إليها لبدء المسيرة في اتجاه تحقيق تلك الأهداف؟
2- ما هو العلم؟
منذ وقت طويل كان يتم مطابقة العلم مع الفيزياء، وخاصة مع الميكانيكا وكانت الطريقة العلمية تطابق الأساليب التجريبية التي تجري فيها الملاحظة تحت شروط منضبطة في المعمل، وقد أفسح ذلك مكاناً لفكرة أن العلم هو أسلوب دقيق وتجريبي يؤدي إلى اكتشاف “القوانين الطبيعية”، وعندما تم اكتشاف فروع أخرى من المعرفة مثل علم طبقات الأرض، وعلم النبات، وعلم الأحياء، وعلم الأجواء، وعلم المحيطات، وعلم الحياة، وفيما بعد الاقتصاد، وعلم النفس والطب، وحتى علم الاجتماع والعلوم السياسية، وانضواؤها جميعاً تحت تعريف العلم المتزايد في الاتساع، لم يعد من الممكن النظر إليه كشيء دقيق، ولم يعد من الممكن أيضاً اكتشاف “القوانين الطبيعية” في المجالات المختلفة. إن عالم الأحياء، أو عالم الأجواء، أو العالم الاقتصادي سوف يجد نفسه في مواجهة موقف يتضمن مئات الملايين من العوامل الغير منضبطة. وفي مثل تلك الظروف، فإنه يكون من الممكن فقط الاستدلال على علاقات تجريبية أو إحصائية، أما بالنسبة لبعض العلوم الأخرى، فإنه يكون من الممكن تصنيفها على أساس الارتباطات أو مجرد الوصف. والآن ينشأ السؤال: ما هو الشيء المشترك بين العلوم المختلفة ابتداء من علم الطبيعة إلى علم الاجتماع؟ كيف نضع تعريفنا للعلم؟
من الواضح أن كل فرع من العلوم يسعى وراء معرفة معينة، ويتطلب من العلماء الذين لديهم الحافز الكافي أن يسعوا وراء تلك المعرفة، وفوق ذلك فإن لكل فرع من المعرفة أسلوباً ومنهجاً لجمع وتحليل المعلومات. وأخيراً: إن الهدف النهائي لجميع العلوم هو التوصل إلى فهم أو إيجاد “تفسيرات” للأشياء، والحوادث والعمليات الخاضعة للمراقبة.
وبأخذنا في الاعتبار جميع أوجه النشاط العلمي، سوف أقدم الآن تعريفاً موجزاً للعلم ولكنه تعريف شامل تماماً:
إن العلم يعد نشاطاً إنسانياً هادفاً، قوي الدوافع، رفيع القيمة، ممتاز التنظيم، يمتاز بأسلوبه في البحث (الذي يعرف بأسماء كثيرة، مثل “الطريقة العلمية”، و”الطريقة التجريبية”، و”طريقة الملاحظة والافتراضات الممكن إثباتها”). وهدفه هو التوصل إلى معرفة الأشياء الغير مرئية (الأشياء المتماثلة، والقوانين، والعلاقات، والأسباب، والحقيقة) على أساس أسلوب الملاحظة (الأشياء، والأحداث، والعمليات).
وإن الهدف النهائي للعلوم البحتة هو تجميع نتائج العلوم المختلفة (الفيزيائية والبيولوجية، والاجتماعية) حتى يتم التوصل إلى تراكيب “الكون”. وإن هدف العلوم التطبيقية هو تطبيق الدراية العلمية للتوصل إلى أهداف وأغراض أخرى (الازدهار الاقتصادي، والتفوق العسكري، واستئصال المرض، وتوفير وسائل التسلية، وتسهيلات السفر…..إلخ).
إن الحافز للعلم ينبع من حب الاستطلاع الفطري للإنسان، فالإنسان يخلق بعقل دائم التساؤل. ومن الممكن ملاحظة الرغبة في المعرفة، والاستكشاف والتجربة في كل طفل. وتقل تلك الرغبة، بل وتتلاشى تماماً بعد الحصول على مستوى معين من العلم بالنسبة لجميع الأفراد، بما في ذلك أكثرهم ثقافة، وتحل محل تلك الرغبة للحصول على قدر أكبر من المعرفة رغبات ومساعٍ أخرى تحوز على الأولوية. ولكنه يوجد من يحتفظون بشعلة حب الاستطلاع والتساؤل مضيئة طوال حياتهم، وتظل دعوتهم الثابتة هي “رب زدني علماً”، وينتمي زهرة العلماء إلى تلك المجموعة الأخيرة. فيصبح السعي وراء المعرفة هو هدف حياتهم، ولا يفتر أبداً حافزهم للحصول على قدر أكبر من المعرفة بسبب إدراكهم لوجود الكثير من الجهل والأخطاء.
إن العلم يعد نشاطاً هادفاً ومقرراً بتأن بالنسبة للعالم.. سواء كان عالماً بحتاً أو تطبيقياً.. وهو يعتبره شيئاً سامياً ويعتبره الآخرون كذلك أيضاً. وقد يكون الهدف بالنسبة لبعض العلماء هو اكتشاف الحقيقة النهائية، وقد يكون هو السيطرة على البيئة المادية بالنسبة لآخرين، وقد يكون أيضاً هو خدمة الإنسانية أو الدولة بالنسبة لآخرين، وقد يكون أيضاً هو خدمة الإنسانية أو الدولة بالنسبة لآخرين غيرهم. إن الحصول على المعرفة يعتبر واحداً من أسمى القيم الإنسانية. وقد قال الله سبحانه وتعالى: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. وهكذا، فإن المثقفين في كل مجتمع يكونون موضع الاحترام، والتكريم؛ بل والحب. وعلى عكس ذلك، فإن الأشخاص الذين ينهمكون في السعي وراء الثروة، أو المتعة، أو القوة قد يكونون موضع حسد، أو خوف، ولكنهم لا يكونون أبداً موضع احترام أو حب حقيقي.
إن العلم، وخاصة العلم الحديث، هو نشاط منظم للغاية ذو قوانين. لقد مضت الأيام التي قام (البيروني) فيها بقياس محيط الأرض من فوق قمة تل ميزو، مستعملاً آلات من صنع اليد. أو (جاليليو) عندما كان ينعم النظر من خلال تلسكوبه، إننا نحتاج إلى معدات ضخمة وآلاف من الرجال، ومعاونة الحكومة أو الأموال الخاصة لملاحظة الذرات الرئيسية التي تتكون منها المادة، وإننا نحتاج إلى الجامعات، والمكاتب، والمعامل، والمصانع التي تصنع الأدوات المعقدة، والعقول الإليكترونية المتقدمة، والسفن، والغواصات، والطائرات، والأقمار الصناعية…الخ، ولكننا قبل كل شيء في حاجة إلى الأفراد ليقوموا بالعمل كميكانيكيين، ومراقبين، وجامعي بيانات، ومحللين، ومفكرين، وواضعي نظريات، ومن المطلوب أيضاً وجود تسهيلات لطبع ونشر النتائج في شكل تقارير فنية، ومقالات صحفية، وكتب. وإننا أيضاً نحتاج إلى حكومة، وإلى صناعة تعطي الأولوية للبحث الرئيسي والتطبيقي لدعم جميع تلك الأنشطة المعقدة والمتشعبة.
إن العلم يعد نشاطاً إنسانياً. وإننا نذكر تلك الحقيقة الواضحة لأن الانطباع العام السائد هو أن العلم “موضوعي” لأنه مستقل عن ذاتية الإنسان إن العلم هو تنظيم المعرفة الإنسانية، وليس تنظيم العالم. ولتوضيح ذلك، فلنفترض أن الحيتان، أو النمل، أو الفيروسات تستطيع أن تقوم بتنظيم ملاحظاتها. فهل تستطيع أن “تكتشف” الجاذبية الأرضية، أو نظرية الجزئيات، أو النظام الشمسي؟ وإننا نلاحظ أنه إذا تم وضع الشخص الذي يتبع أسلوب الملاحظة، داخل ذرة أو نجمة، فإنه سوف يظل ذلك الشخص الذي يتبع أسلوب الملاحظة، داخل ذرة أو نجمة، فإنه سوف يظل ذلك الشخص الذي يتبع أسلوب الملاحظة. إن مدى حياتنا، وإحساسنا بالوقت، والفضاء، والحركة، وحواسنا الخمسة، وملكاتنا العقلية ولغتنا قد كونت جميعها تركيب العلم.
وسوف أنتقل الآن إلى تحليل أسلوب البحث الذي يتميز به العلم، أي الطريقة العلمية.
إننا نعلم جميعاً أن وظيفة العلم هي اكتشاف الحقائق، وإن الطريقة التي تستعمل لتلك الغاية هي الملاحظة. والآن، إن الإنسان الطبيعي لديه خمسة حواس، وهو يستقبل انطباعات حسية متواصلة طوال حياته، وخاصة في ساعات يقظته. وتكون تلك الانطباعات خاطفة وتحل محلها انطباعات أخرى نتيجة تغير الأحوال. ومن الواضح أنه لو لم تكن للإنسان ذاكرة، لما كانت أية قيمة دائمة لتلك الانطباعات، ولكان ذهن الإنسان مثل سطح الماء. ومع ذلك، فإن عدد الانطباعات الحسية في لحظة معينة يكون هائلاً للغاية حتى أنه ليس من الممكن تسجيله في ذاكرة الإنسان. ويفرض عليه جهازه الحسي، وجهازه العصبي وملكاته التمييزية ترشيح، وتجميع، وترتيب الحيلة الحسية حتى يبتدئ في “رؤية الأشياء”، و”سماع” الأصوات وهكذا –وفي الوقت ذاته- سوف يبتدئ أشخاص آخرون في تلقينه “أسماء” الأشياء، وإخباره بخصائص الأشياء التي لم تكن لديه تجارب مباشرة بالنسبة لها. فهو يلقن أن السكين “حادة”، وأن النار “تحرق”، وأن السماء “زرقاء”….الخ. ولا توجد حتى الآن وسيلة لمقارنة الإدراك الحسي لشخص “بالزرقة” مع الإدراك الحسي لشخص آخر. ولكننا جميعاً نجمع على تلك الأسماء.. وهكذا. فإن الإنسان يجد منفذاً إلى حاضر الأشخاص الآخرين وتجاربهم الماضية، هذا إلى جانب حاضره وتجاربه الماضية. وفي حين أن تجاربه هو تكون مباشرة، وتكون تجارب الآخرين هي أشياء سمعها، فإنه يقبل تلك الأشياء التي سمعها مستنداً إلى شهادة الآخرين. وإن الفارق بين حطاب في استراليا شديد الذكاء –ولكنه ليس من الممكن أبداً أن يصبح عالماً- وبين العالم الفيزيائي إدوارد تيلر، يكمن في حقيقة أن إدوارد تيلر كان لديه منفذ أكبر للمعرفة المتراكمة التي جمعها الآخرون أكثر مما كان لدى الحطاب.
إن أهمية الأشياء التي تنقل بواسطة الآخرين والمصادر التي جاءت منها، دائماً يتم تجاهلها أو عدم توكيدها من الكتاب الذي يكتبون عن الطريقة العلمية والذين يعربون عن ازدرائهم لما يسمى بالأسلوب “الفاشستي” للمعرفة، ويتباهون باعتمادهم على الملاحظة المباشرة. إن جميع المعرفة العلمية بل في الحقيقة جميع المعرفة الإنسانية، تقوم على أساس الافتراض: أن تجارب الأشخاص الآخرين تتماثل في طبيعتها وتركيبها مع تجاربنا، وأننا لو كنا مكانهم لمررنا بنفس الأشياء كما نقلوها إلينا.. وإنه يجب بالطبع أن نؤكد صدق الأشخاص الآخرين الذين ينقلون إلينا المعلومات، وأنهم جديرون بأن نعول على أقوالهم، ولكن مقياسنا للحكم على صدق تلك المعلومات أو من ينقلونها وجعلها جديرة بأن نعول عليها يقوم على أساس لا يتصل بالطريقة العلمية. وعلى أية حال، تبقى لنا حقيقة أن الطريقة العلمية تستخدم دائماً الأسلوب “الفاشستي” لجمع المعلومات. وتتمثل أعظم مصادرنا للبيانات العلمية في الكتب، والمنشورات الدورية، والتقديرات الفنية، والمحاضرات، والحلقات الدراسية. وذلك يؤكد نقطتنا السابقة وهي: أن العلم نشاط إنساني، جماعي هادف، وإنه ليس من الممكن لأي عالم أن يعزل نفسه عن الآخرين. إن الأسلوب العلمي يبتدئ بحقائق تم التوصل إليها عن طريق الملاحظة الشخصية أو الإبلاغ. ومع ذلك، فإن مجرد وجود مجموعة من الحقائق التي تم التوصل إليها عن طريق الملاحظة الشخصية أو الإبلاغ لا تكون بمثابة علم. مثلاً، فإن دليل التليفون لا يعتبر كتاباً علمياً. وإنه من الضروري إجراء بعض العمليات التمهيدية المعينة التي نستطيع أن نطلق عليها العمليات الوصفية لإيجاد بعض النظام في حالة من الأشياء المتشوشة، وهي عمليات: التصنيف، والتوحيد، والترتيب، والقياس.
التصنيف: هو عملية وضع الأشياء أو الأحداث في طبقات مميزة بمقتضى الخصائص المشتركة بينها. ونستطيع أن نذكر أمثلة لعملية التصنيف، مثل الأسماء العامة مثل رجل، طائر، أبو الحناء، والصفات مثل طويل، أحمر، والأفكار مثل الأعداد الصحيحة والوظائف. وإنه ليس من الممكن تصنيف الأشياء فحسب، ولكنه من الممكن تصنيف الطبقات ذاتها في طبقات أكبر. وهكذا، فإن أبا الحناء طائر، وإن الطيور مخلوقات، وإنه ليس من الممكن الاستغناء عن عملية التصنيف في أي استنتاج علمي، سواء تمت عن وعي أو بدون وعي.
التوحيد: هو التقاء طبقتين أو أكثر في نقطة واحدة.. إنه محاولة لتقرير تكرار وقوع الشيء في طبقتين أو أكثر في نفس الوقت.. وهكذا، فإننا نبحث تكرار ظهور معادن معينة أيضاً كموصلات للكهرباء، أو ما هي نسبة الأشخاص الذين تم شفاؤهم من البرد عن طريق البنسلين؟
الترتيب: إن عمليات الترتيب تصف العلاقات المتسلسلة للأشياء والأحداث وإن أمثلة ترتيب العلاقات هي “أعظم من”، “قبل”، “سبقه ذلك”. وإن أمثلة الطبقات المرتبة هي الأرقام، والأحداث، والوحدات الإدارية، والأجيال، والنقاط على الأسطر.
القياس: هو عملية وضع أرقام لتدل على الخصائص. وإن الطبقات المرتبة فقط هي التي تكون قابلة للقياس. إن القياس يتطلب وجود وحدة قياسية، ومقارنة ذلك القياس مع الشيء المراد قياسه.
إن تلك العمليات الأربعة ينتج عنها العلوم الوصفية. ولكن الوصف ليس هو الشرح. إن كل علم، بعد أن يصف الأشياء، والأحداث، والعمليات، يطرح السؤال: لماذا كان الأمر كذلك ولم يكن شيئاً آخر؟ وهكذا، فإن الجغرافيا تصف موقع الجبال، والأنهار، والتكتلات الأرضية، والمحيطات…إلخ. ثم تحاول أن تجيب على الأسئلة: لماذا توجد الجبال هنا؟ ما هو إجراء تكون النهر؟ لماذا تقع القارات في تلك الأماكن بالذات؟.
إن للشرح وجهين. وجه منطقي ووجه سيكولوجي. وإن الوجه المنطقي هو المعنى المتضمن ببين أسلوب الشرح والشيء المشروح. والوجه السيكولوجي هو مركب من مشاعر الثقة، والألفة، والمعرفة الحدسية، والاتجاه العقلي تجاه الأقوال التي تبدي معنى ضمنياً.
إن الافتراض السابق أنه لا يتم حدوث أي تغيير بدون علة هو أساس جميع محاولات التفسير.. وهكذا، عندما نرى تفاحة تسقط، أي تغير من وضعها في القضاء وتتحرك مقتربة من الأرض تثير السؤال، لماذا تسقط من وضعها في الفضاء وتتحرك مقتربة من الأرض تثير السؤال، لماذا تسقط على الأرض، لأن الأرض لديها “قوة” تؤثر عليها، وتلك هي قوة الجاذبية الأرضية. ولكننا لم نلاحظ قوة الجاذبية الأرضية. إن العلم الوصفي المجرد سوف يكتفي بالقول إن تلك الأشياء كان من الملاحظ أنها تسقط نحو الأرض في حين أن الطيور كانت ترتفع من الأرض إلى أعلى. أما العلم التعليلي فإنه يحث على اكتشاف قوانين نيوتن للحركة. ونستطيع أن نتقدم خطوة إلى الأمام ونطرح السؤال: لماذا تمتلك الأرض قوة الجاذبية تلك؟.. وما هي “القوة” بأية حال؟ هل هي قابلة للملاحظة؟ إن الإجابة سوف تكون بالنفي، ولكننا ندرك وجود تلك القوة من خلال التغيير في قوة دفع الشيء المتحرك. هل يكون معدل التغيير في القوة الدافعة قابلاً للملاحظة؟ كلا.. حينئذ، ما هي الأشياء القابلة للملاحظة؟ حسناً، إننا نلاحظ الشيء في مواقع مختلفة باختلاف الوقت. إن سرعة الشيء تكون مشتقة من المسافة المقطوعة بالنسبة للوقت، وإن التعجيل هو اشتقاقها الآخر. ويمكننا قياس المسافات؟ كيف نعرف أن المسافة بين النقطتين أ، ب هنا هي نفس المسافة بين النقطتين ج، د؟ كيف نقيس الوقت؟ ما هي فترات الوقت المتساوية؟ هل يكون حجم الشيء المتحرك مماثلاً لحجمه عندما يكون في حالة سكون؟
إننا ندرك أن كل تعليل يتطلب تقديم شرح أكثر، وأن كل عبارة نستخدمها تتطلب عبارات أخرى لتعريفها. ولكننا يجب أن لا نيأس أو نسير في طريق مسدود.. وهكذا، فإنه يجب أن نقدم عبارات ومفاهيم بالرغم من أننا لا تزال بعيدة عن ملاحظتنا، ونقدم مسلمات لا نزال غير قادرين على تعليها وحالما نفعل ذلك، فإننا نكون قد ابتدأنا في تكوين علم نظري، أو غير تطبيقي أو شكلي.
لقد كانت الهندسة الإقليدسية –باعتبارها علماً من علوم المساحة- هي بداية العلم الشكلي. لقد كانت مبادئ إقليدس تعد كمقياس لجميع ما يكتب في الرياضيات، والمنطق، والفلسفة وأيضاً العلم الشكلي. إن تركيب العلم الشكلي هو كما يلي:
1- عبارات غير معروفة تحتوي على عناصر وعلاقات.
2- مسلمات بتشديد اللام المفتوحة، أي بيانات تتعلق بعبارات وعلاقات غير معرفة ومن المفترض صحتها.
3- استنتاجات أو نظريات.
ولكن ذلك التركيب الشكلي يجب –بكيفية ما- أن يتم دعمه بالملاحظة. وفي الواقع، فإن عملية بناء العلم الشكلي تكون بالأسلوب العكسي. أي أن العالم يبتدئ بالملاحظة، ثم يحاول بعملية حسابية أن يكون مسلمات وأن ينظم الأشياء الغير قابلة للملاحظة التي سوف تمثل العبارات الغير معرفة بالنسبة له.
ولتصوير تلك العملية، فلننظر في الميكانيكا النيوتينية. لقد قبل نيوتن الوقت، والفضاء، والمادة، والحركة، والقصور الذاتي، والقوة كعبارات غير معرفة، ثم قدم المسلمات التالية:
1- إنه يوجد زمن مطلق يسير باطراد من اللانهائية السلبية إلى اللانهائية الإيجابية.
2- إنه يوجد فضاء مطلق تنطبق عليه خصائص الفضاء الإقليدسي ذي الأبعاد الثلاثية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن جميع تلك المسلمات، مثل الأرقام الحقيقية، والجبر، وحساب التفاضل، وحساب التكامل، قد تم قبولها، وتم أيضاً قبول الثلاثة قوانين للحركة.
لقد أدت الميكانيكا النيوتينية عملاً جليلاً بالنسبة للأشياء الكبيرة الحجم ذات السرعة البطيئة. لقد كانت إحدى نظريات الميكانيكا النيوتينية تقضي باحتمال قياس سرعة الأرض في الفضاء المطلق. وفشلت جميع المحاولات للقيام بذلك. ولقد قدم أينشتين مجموعة مختلفة من المسلمات –بفتح اللام المشددة- ومجموعة جديدة من العبارات الغير معرفة بتشديد الراء المفتوحة.
ويوجد مقياس معين يجب أن تقابله أية نظرية علمية مقترحة قبل أن يتم قبولها كتفسير محتمل للأمور الدنيوية الواقعية. وإن “اكتشاف” أو “ابتكار” العالم لنظرية جديدة يعتبر نقطة أخرى هامة. إن التخمين، والحدس، والتجربة والخطأ، والبصيرة، والبديهة، والخيال، والوحي، وتطبيق المنطق لاختيار واحد من بين أشياء بديلة، والحظ، والأعمال الفذة، وغير ذلك قد ساهم جميعه، في وقت أو آخر، في تكوين الفرضيات العلمية.
إن المقياس الأول لقبول الفرضية هو أنها يجب أن تقدم تفسيراً لبعض الحقائق، يكون معقولاً ظاهرياً.
وإن المقياس الثاني هو أنها يجب أن تكون قابلة للاختبار عن طريق الملاحظة المباشرة وغير المباشرة، وهذا ما يسمى بمقياس الدحض (أو الإثبات).
وإن المقياس الثالث هو أنها يجب أن لا تكون على خلاف مع النظريات الأخرى المقر بها، وهذا ما يسمى بمقياس التوافق (أو المحافظة على القديم) وإن المقياس الرابع هو أنها في حالة إحلالها مكان فرضية سابقة، فإنها يجب أن تشرح جميع الحقائق التي شرحتها الفرضية السابقة بالإضافة إلى حقائق أخرى لم تستطع الفرضية السابقة أن تشرحها وهذا ما يسمى بمقياس التعميم أو الشمول.
لقد كان تاريخ الفيزياء الحديثة هو تاريخ فرضيات ونظريات دائمة التغيير وفي حين أن النظريات المعممة للنسبية قد سارت على نهج هندسة التفاضل (في محاولة لبناء نظرية ميدانية موحدة)، فإن نظريات الكم الميكانيكية قد أرغمت على تبني تركيبات احتمالية، وهنا فإن مسلمات الحتمية، وعلاقة العلة والمعلول قد وجب استبدالها باللاحتمية أو الاحتمال. وقد تم تبني اصطلاحات حديثة تماماً وهي نظرية الاحتمال والتسلسل العشوائي.
وإن العلوم الأخرى، التي لا تتماثل مع الفيزياء في كونها رياضية وشكلية خاصة تلك التي تعالج ظواهر طبيعية واسعة النطاق… مثل الجيولوجيا، وعلم المحيطات، وعلم الأجواء، والديمغرافية، والاقتصاد والاجتماع.. تكون في مراحل وصفية تعليلية مختلفة. وتظل مفاهيمها غامضة.. ما هي السحابة؟ أو العاصفة؟ إننا ليس لدينا مقاييس دقيقة.. فكيف نستطيع قياس تأثير ارتفاع سعر البترول من خلال أسلوب حياة (جون دو)؟ إن الفرضيات لا تقترح نفسها. ومع ذلك، فإن الفيزياء قد وضعت القاعدة وتبذل العلوم الأخرى أقصى جهدها لتكوين تركيبات شكلية.
3- هل يفرض العلم علينا رؤية معينة للعالم:
إننا جميعاً نكرس الكثير من وقتنا للتأمل بأسلوب أو آخر. ويكثر العالم من التأمل عند تكوينه الفرضيات، والتفسيرات والنظريات الأساسية… ويجرفه ذلك التأمل أحياناً خارج نطاق الحدود المعقولة حتى أنه يصبح فيلسوفاً يعالج الأشياء الخارقة. لقد كانت الطريقة العلمية فعالة للغاية في اكتشاف الكثير من الحقائق، وإننا جميعاً نتفق على ذلك. وهكذا، قد يصبح أحدنا متعصباً لها للغاية حتى أنه يدعي أن الطريقة العلمية فقط هي القادرة على اكتشاف الحقيقة، ويصل الأمر إلى أنه لا يزدري الأديان فحسب، بل أنه يزدري العلوم الاجتماعية أيضاً لأنها تبدو أدنى مرتبة من العلوم الطبيعية والرياضيات. وهذا هو ما يسمى بالعلمية. وبنفس الأسلوب، يدعي الفيزيائي أن المادة، أو الكتلة أو الطاقة هي حقيقة واقعة. ونحن جميعاً نتفق على ذلك، ولكنه قد يصبح أحدنا متحمساً لها للغاية حتى إنه يدعي أن الحقيقة الوحيدة هي المادة، أي أن المادة هي الحقيقة النهائية. وهذا هو ما يسمى بالمادية. ويدعي الفيزيائيون أن الذرات الأولية للمادة، والألكترونات والنيوترونات..الخ من الممكن شرحها فقط كشحنات موجبة محتملة الحدوث، وليس ككور “مادية” صلبة. والآن، فإن “الشحنة الموجبة المحتملة الحدوث” هي تركيب عقلي (رياضي) بحت. وقد يفتن ذلك الأمر شخصاً ما للغاية حتى أنه يدعي أن الحقيقة النهائية هي ما يتصل بالعقل.. وهذا هو ما يسمى بالمثالية وللكشف عن أوجه اختلاف تلك الآراء، فلنتدبر في الآتي: لقد قال (ديكارت) “أعطني مادة وحركة وسوف أبني الكون”، وقد ادعى (إدنجتون) “أعطني مقداراً كبيراً من العلاقات وسوف أخلق المادة والحركة”.
إن العبارة الأولى هي رأي شخص يعتنق المذهب المادي، فقد كانت المادة والحركة بالنسبة له هي الحقائق النهائية، في حين أن العبارة الثانية، هي ادعاء شخص يعتنق المذهب المثالي الذي كان العقل هو الحقيقة النهائية بالنسبة له. وبالإضافة إلى ذلك، فإن بعض مجالات العلم تقترح الحتمية في حين أن مجالات أخرى تقترح اللاحتمية.
وهكذا فإننا نرى أن العلم لا يفرض علينا أية رؤية معينة للكون. إن المادية، والحتمية، والمثالية، وغير ذلك من المذاهب تعد فلسفات فيما وراء العلم، ولا تنبع من العلم بطريقة منطقية.
لماذا يتحول بعض العلماء إلى فلاسفة؟ إن تفسيري كالآتي:
إن الكثير من النظم العلمية تفصل جزءاً من الكون أو وجهاً معيناً من الكون لإجراء دراسة مكثفة عليه. وفي تلك العملية، فهي تتجاهل الأوجه الأخرى من العالم عن عمد باعتبارها غير متصلة بالموضوع.. وهكذا، فإن العالم الفيزيائي، في سياق حديثه عن المادة والحركة، يصبح لديه “الفيل الذي ينزلق على منحدر التل العشبي…” كتلة ذات وزن تتحرك فوق السطح المنحدر ذي المنحنى (أ) ومعامل الاحتكاك (ب). أما بالنسبة للحم ودم، وخرطوم وذيل الفيل، والمرج العشبي والتلال المتدحرجة، فإن تلك الأشياء جميعها تعتبر غير ذات قيمة بالنسبة له. وبالنظر إلى ذلك الموقف، هل يكون مما يثير الدهشة أن ينتهي نيوتن أو ديكارت إلى الشعور بأن المادة والحركة هما الحقيقة أما اللحم والدم فلا.
إن النقطة الأساسية هي أن عقل الإنسان هو الذي يقسم الكون، وليس أن الكون هو الذي يقسم نفسه إلى تلك الأجزاء. إن أية فلسفة يتم التوصل إلهيا عن طريق المبالغة في تعميم نظرية معينة –صحيحة بالنسبة لنظام علمي معين- لتشمل الكون بأكمله، سوف تكون فلسفة زائفة. ولقد تمت المبالغة حتى الآن في توكيد النظريات الفيزيائية لتقديم المادية، والحتمية، والعملية الخ وأحياناً ما يعمم شخص مبدأ “البقاء للأصلح” على العلاقات بين الأمم، وهكذا يضع تبريراً علمياً للتفرقة العنصرية.
4- الافتراضات السابقة للعلم:
إن الحقائق (الواقع أو الحقيقة) هي هدفنا. وأن الملاحظة هي الطريقة التي تمكننا من التوصل إلى الحقائق، ويتم تطبيقها في الحياة العادية وفي مجال العلم. وتنتقل ملاحظة الشخص إلى الآخرين عن طريق استخدام الإشارات، والرموز، والكلمات والبيانات.
والآن ينشأ الكثير من الأسئلة الهامة:
هل ما ألاحظه يوجد بالفعل؟
ماذا يعني القول أنه يوجد شيء؟
هل أي شيء موجود يكون من الممكن لي أن ألاحظه؟ أو يكون من الممكن لشخص آخر أن يلاحظه؟
هل تستطيع الإشارات، والرموز، والكلمات والبيانات التي أستخدمها لأصف ملاحظاتي أن تنقل للآخرين ما ألاحظه؟
هل الأشياء التي يقول الآخرون إنهم لاحظوها توجد حقيقة؟
إن تلك الأسئلة ليست بأسئلة تافهة. وفي الحقيقة فإنه في الوقت الحاضر توجد في العالم ديانتان يدين بهما ملايين من الناس، وهما الهندوسية والبوذية اللتان تعتبران الكون “كوهم”، أو مجرد خيال.
إن الكثيرين من الفلاسفة الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل (لوك)، وهيوم، و(ديكارت)، كانوا قد أنفقوا في حياتهم في محاولة لحل مشكلة المعرفة الإنسانية، وعلاقتها مع “الأشياء في حد ذاتها”. وأيضاً، ما نلاحظه من خلال حواسنا لا يبدو أنه يتشابه كثيراً مع ما نلاحظه من خلال النظرة العلمية. وهكذا، فإن الكرة الحديدية الصلبة يتضح أنها ليست بأكثر من تسع وتسعين في المائة فراغاً.
إننا لا نعطي العلم أية قيمة لو أننا اعتقدنا أن ما نلاحظه ليس له حقيقة. أو إذا أصررنا على أنه ليس هناك شيء جدير بالصدق سوى ما نلاحظه بأنفسنا إننا نجري بحثنا بطريقة منظمة، ومثابرة يتخللها الكثير من العناية والدقة، مع إيماننا التام بأن ما نلاحظه يكون موجوداً بطريقة منفصلة ومستقلة عنا سواء لاحظناه أو لم نلاحظه. إننا نؤمن بشدة أن الكون قد وجد قبل وجود أي من البشر ليقوموا بإجراء ملاحظاتهم، وقد كانت الموجات الإشعاعية، والإشعاعات الألكترونية الكونية، وكل ما اكتشفه العلم الحديث موجوداً منذ بدء الخليقة بالرغم من أننا اكتشفنا وجوده حديثاً فقط. وإننا أيضاً نعلم أنه قد كان هناك شخص يدعى نابليون، بالرغم من أنه ليس هناك أي شخص على قيد الحياة اليوم قد رآه شخصياً. وبالإضافة إلى وجود الأشياء المادية المدركة بالحواس، فإننا أيضاً نفترض وجود الفضاء والزمن، ووجود الإتساق في القوانين الطبيعية، وفوق كل شيء فإننا نؤمن بقابلية الكون المدرك بالحواس للاستكشاف من خلال الملاحظة، وقابلية الأشخاص المراقبين للمقارنة أو التبادل. وبالإضافة إلى ذلك، فإننا نفترض صحة بعض المبادئ المنطقية والرياضية ونفترض معهم معاني الإشارات، والرموز والكلمات والبيانات فيما يتعلق بالاتصال بين البشر.
ونستطيع أن نضع قائمة بالافتراضات الرئيسية السابقة للعلم كما يلي:
1- أنه يوجد كون مستقل بصرف النظر عن وجود أشخاص ليلاحظوه.
2- إن البشر جزء من هذا الكون وهم قادرون على استكشافه من خلال الملاحظة.
3- إن الأحداث والعمليات في الكون تحدث في الزمان والمكان أو الزمكان.
4- إنه توجد بعض القوانين الطبيعية التي تكمن وراء تلك الأحداث والعمليات.
5- إن تلك القوانين الطبيعية قابلة للاكتشاف، على الأقل بشكل تقريبي، بواسطة الطريقة العليمة للتصنيف، والتوحيد والترتيب، والقياس، ووضع النظريات.
6- إن جميع البشر لديهم نفس الملكات الحسية والعقلية.
إنه من الواضح أن الافتراضات السابقة للعلم ليس من الممكن تبريرها بواسطة الطريقة العلمية ذاتها. وفي الحقيقة إننا نضع تلك الافتراضات السابقة لنبرر الطريقة العلمية. مثلاً فإننا ما كنا نستطيع تطبيق الطريقة العلمية لو لم تكن هناك نظامية في الكون لأنها تكون عديمة الجدوى في ذلك الحين.
حينئذ من أين يأتي تبرير تلك الافتراضات السابقة؟ قد نقول إنها أشياء بديهية، ولكنها ليست كذلك. فإننا نلاحظ أشياء عشوائية أكثر مما نلاحظ انتظاماً واتساقاً. وفي الحقيقة، فإنه يوجد الكثير من الأسئلة العميقة في مجال الفيزياء والتي تلقي الكثير من الشك على صحة الافتراضات السابقة بأنه توجد قوانين طبيعية، أي علاقات سببية ضرورية. وإننا كلما اعتمدنا –بصفة أكثر- على الطرق الإحصائية، فإننا سوف نرضى عن العلاقات التجريبية.
وإن الإمكانية الأخرى هي أن نقول: إن تلك الافتراضات السابقة تعد صحيحة بتعريفها.. ولذلك إذا تمت ملاحظة بعض الأحداث التي لا تتوافق مع القوانين المعروفة فإننا لا نستطيع إنكار أنها الطبيعة. ولكن التعريف يعتبر عملاً تحكمياً. وإننا لا نستطيع اكتشاف خصائص الكون بمجرد وضع تعريف لها. وفق ذلك فإننا نلاحظ حادثة ليس لدينا تفسير لها فإنه من المحتمل أن تكون نظريتنا خاطئة، ولقد أصبح من الضروري إجراء تعديل للميكانيكا النيوتينية فقط بعد ملاحظة أشياء غير متوقعة. ولقد تم اكتشاف الإشعاع (الذري) الموجي بطريقة غير متوقعة. وإذا قلنا إن النظرية الحالية تحتوي على جميع القوانين الطبيعية فإننا نحرم أنفسنا من فرصة تطوير نظرياتنا عند ملاحظة حقائق جديدة غير متوقعة.
إن الاتجاه السائد بين العلماء هو أن نقر بصحة تلك الافتراضات السابقة طالما أنها تفي بالغرض، وأنها قد أفادتنا كثيراً حتى الآن ويبدو أنها جديرة بالصدق ومعقولة.
5- هل يستطيع العلم اثبات وجود الله:
لقد ألقى الناس هذا السؤال منذ الأزل: هل يمكننا إثبات وجود الله؟ والآن، قبل أن نجيب على ذلك السؤال يجب أن نفهم معنى الإثبات. إن “الإثبات” أو “البرهان” هي عبارات تنتمي إلى لغة المنطق والرياضيات التي تعتبر علوماً شكلية. ويبتدئ كل علم شكلي، كما شرحنا من قبل، ببعض المفاهيم الغير معرفة، والبيانات المفترضة (المسلمات) التي تعرف العلاقات بين تلك العبارات الغير معرفة. وبعد أن تتوفر لدينا تلك العبارات الغير معرفة، وتلك العلاقات، ونظام المنطق، فإننا نبتدئ في استنتاج بيانات أخرى تسمى بالنظريات، وإن الخطوات المنطقية التي نستخدمها للتوصل إلى النظرية تسمى بالبرهان.
وهكذا، فإن الإثبات يعد صحيحاً في إطار العلم الشكلي والمنطق الشكلي. والآن، يمكننا إعادة صياغة السؤال كما يلي: هل يعتبر القول “الله موجود” بمثابة نظرية تنتمي إلى العلم الشكلي المقبول حالياً؟.. قد يستطيع العلم وقد لا يستطيع إثبات ذلك القول. وإذا افترضنا أن العلم يستطيع أن يثبت وجود الله فإننا حينئذ يجب أن نكون واضحين بالنسبة لما سوف يعنيه ذلك. إننا سوف نؤمن بالله لنفس الأسباب التي تجعلنا نؤمن بالإلكترونات، أي لأن كليهما يقر به العلم وتبرره الافتراضات السابقة للعلم. ولكن هل من الممكن إثبات تلك الافتراضات السابقة؟ إنها ليس من الممكن إثباتها، كما أشرنا من قبل، لو لم نقدم بعض الافتراضات الأخرى السابقة لإثباتها. ونحن نقبلها فقط لأنها تفي بالغرض. ولهذا، فإن الإيمان بالله سوف يتحول إلى إيمان بالعلم، وسوف يتحول الإيمان العلمي إلى إيمان بالافتراضات السابقة للعلم.. التي يكون مبررها الوحيد هو وفاؤها بالغرض.
إن الشيء الآخر المشوش بالنسبة لإثبات وجود الله هو أن الله سوف يبدو ككائن مختلف في كل حالة، نتيجة لاعتمادنا على الافتراضات السابقة ونظام المنطق. يوجد إثبات لوجود الله عند ابن سينا. ولكن كيف كان الله طبقاً له؟… لقد كان اسمه هو “واجب الوجود” أو العلة الأولى، أي أنه كان يعتبره مجرد وجود منطقي، بلا إرادة، وبلا معرفة، والذي نبع منه الكون بالضرورة، أي أن الكون هو المعلول. وبما أن العلة والمعلول ليس من الممكن فصلهما، فإن الكون يتماثل في الأزلية مع الله. ومن الواضح أن النظام المنطقي الذي يحوز على تلك الحقائق البديهية (العبارات الغير معرفة) مثل “الضرورة”، و”الكفاية”، “والعلة والمعلول”، والمسلمات مثل استحالة النكوص اللانهائي، يستطيع فقط أن يتوصل إلى إله لا بكون بأكثر من العلة الأولى. ونستطيع أن نستعيض بالحرف س عن كلمة “الله” في استعمالاتها في كتابات ابن سينا، أي أننا نستطيع أن نقول أن س هو العلة الأولى، وليس من الممكن نسبة أي شيء إلى س سوى أنه الاسم الذي يمثل العلة الأولى.
ومن المهم أن نلاحظ أن اسم “واجب الوجود” أو “العلة الأولى” ليست من أسماء الله الواردة في القرآن. وقد أظهر الغزالي أن تلك المفاهيم مثل “الضرورة”، و”العلة والمعلول”، تحكمية وليست بديهية على الإطلاق بعد تحليلها بطريقة منطقية وبنفس المنطق، لو أنه كان من الممكن إثبات القول أن “الله موجود” من خلال أسلوب رياضي، حينئذ فإن مثل ذلك الإله سوف يكون كياناً رياضياً متوقفاً على صحة العبارات الغير معرفة والمسلمات المنتمية لذلك النظام الرياضي. وفي الحقيقة، فإن (جيمس جينز) قد قرر أن الله كان رياضياً، في حين لم يؤمن (إدنجتون) بإمكانية ذلك، ويوجد آخرون ممن يطرحون حجة “التصميم الكلي” يتصورون الله كمهندس أو كصانع ساعة الكون. إن الحقيقة البسيطة هي أن الإنسان إذا توصل في أي وقت إلى إثبات وجود الله، فإنه يكون قد عبر عن الله من خلال تصوره هو، وإن الدرس الذي يجب أن نتعلمه جيداً هو أننا يجب أن لا نحاول السعي وراء إثباتات لوجود الله في نطاق نظم المعرفة الإنسانية. أليست آيات الله كافية للبشر؟
للبحث بقية