1/4 مقدمة:
إن دالة المصلحة الاجتماعية التي يتمنى الاقتصاديون الحديثون التوصل إليها قد صيغت قبل حوالي 800 سنة صياغة أصلية من قبل مفكرين وفقيهين مسلمين (وإن لم يسميا بهذا الاسم) هما الإمام أبو حامد الغزالي
المتوفى سنة 505هـ، والإمام أبو إسحق الشاطبي المتوفى سنة 700هـ. فالإمام الغزالي هو الذي قدم الصياغة الأصلية ثم وسعها الشاطبي وشرحها وطورها إلى حد بعيد، وهناك عدد من الخلاصات الممتازة لأفكار هذين الإمامين في كتابات عدد من الفقهاء المعاصرين كالأستاذ المرحوم محمد أبو زهرة، والأستاذ مصطفى أحمد الزرقا الذي سأعتمد على تلخيصه في هذا البحث، والأستاذ المرحوم عبد الوهاب خلاف، والدكتور محمد معروف الدواليبي.
وإنني مدين لوالدي الأستاذ مصطفى الزرقا بإيضاحات مستفيضة جرت خلال مناقشات عديدة لهذا الجزء من البحث، وقد تفضل بتدقيق الأمثلة المبينة هنا والتي قدم عددا منها، ولم أتردد استنادا إلى معونته في أن أعطي عند الضرورة أمثلة حديثة لإيضاح أفكار الإمامين الغزالي والشاطبي.
2/4 ما المقصود بدالة المصلحة الاجتماعية:
يحسن البدء بشرح المعنى الرياضي للدالة، أية دالة كانت، ثم إيضاح المقصود بدالة المصلحة الاجتماعية، وبعد ذلك التعرف على تصور إسلامي لها.
إذا كان هناك متغير تابع (مثلا: درجة حرارة غرفة ولنرمز لها بالرمز: ح) تؤثر عليه بعض المتغيرات المستقلة (مثلا: عدد ساعات تشغيل المدفأة: س، ودرجة حرارة الجو الخارجي: د) فإننا نقول بأن (ح) دالة (أو تابع) للمتغيرين (س) و (د)، فمتى علمنا قيمة المتغيرين المستقلين أمكننا –إن كنا نعرف الدالة- أن نستنتج قيمة (ح) أي درجة حرارة الغرفة.
وأحيانا يمكن التعبير عن دالة ما بصيغة رياضية محددة أي بمعادلة، لكن هذا لا يشترط لوجود الدالة، بل يجوز التعبير عن الدالة بكلمات أو بأنظمة مكتوبة أو بقواعد منطقية، فمثلا قيمة الطوابع الواجب إلصاقها على طرد بريدي هي دالة لثلاث متغيرات مستقلة هي: البلد المرسل إليه، ووزن الطرد، وطريقة الإرسال بالجو أو بالبريد العادي. فمتى عرف موظف البريد وزن الطرد (وهو متغير مستقل قابل للقياس)، والبلد، وطريقة الإرسال (وهما متغيران مستقلان يعبر عنهما عادة بوصف وليس برقم) رجع إلى الدالة (وهي هنا أنظمة البريد المكتوبة) فاستنتج قيمة المتغير التابع أي قيمة الطوابع الواجب إلصاقها على الطرد البريدي.
ومثال آخر: إذا اعتدى شخص على آخر فإن عقوبة الجاني هي دالة (تابع) لمتغيرات مستقلة كثيرة منها: نوع الضرر الذي أصاب المجني عليه، ومقدار الضرر، وصفة الجناية هل هي عمد أم خطأ، والظروف المخففة أو المشددة للعقوبة….الخ، وبعد أن يتعرف القاضي على المتغيرات المستقلة (وهي هنا وقائع الجناية وملابساتها) يعود إلى الدالة (وهي تشمل النصوص التشريعية كما تشمل أيضا القواعد الفقهية والمبادئ العامة فيستنتج منها قيمة المتغير التابع (أي نوع ومقدار العقوبة من حبس أو غرامة).
إن الدوال (جمع دالة) في الأمثلة السابقة تجمعها على اختلافها صفة مشتركة وهي أن المتغير التابع في كل منها (درجة الحرارة، قيمة الطوابع، مقدار العقوبة) يعبر عنه بقيم عددية، وتسمى مثل هذه الدوال: دوال عددية “cardinal function” تمييزا لها عن الدوال الترتيبية “ordinal function” ذات الأهمية الخاصة في النظرية الاقتصادية.
والدالة الترتيبية تختلف عن الدوال العددية التي ذكرناها في أنها لا تعطينا قيمة عددية للمتغير التابع بل تعطينا له ترتيبا “order” نستنتج منه ما إذا كان التابع قد ازداد أو نقص عما كان عليه. ومن الأمثلة على هذه الدوال الترتيبية: دالة المنفعة للمستهلك، ودالة المصلحة الاجتماعية التي سنوضحها بمثال.
إن دالة المصلحة الاجتماعية إذا كانت محددة ومعروفة فهي تسمح لنا بمعرفة ما إذا كانت مصلحة المجتمع تزداد أو تنقص في حالة انتقالنا من وضع اجتماعي معين إلى وضع آخر، ولنفترض كمثال مبسط أن مصلحة مجتمع ما (ص) دالة لثلاث متغيرات مستقلة هي:
متوسط دخل الفرد، ونسبة الفقراء بين مجموع السكان، وعدد شاربي الخمر، ولنفترض أن علينا اختيار أحد الأوضاع الاجتماعية التالية:
الوضع |
دخل الفرد |
نسبة الفقراء |
شاربو الخمر |
المصلحة الاجتماعية ص |
الأول الثاني الثالث |
1000 ليرة 1500 ليرة 900 ليرة |
20% من السكان 19% من السكان 12% من السكان |
12 ألف شخص 20 ألف شخص 5 آلاف شخص |
ص 1 ص 2 ص 3 |
إن دالة المصلحة الاجتماعية يجب أن تعطينا ترتيبا لقيم (ص) يبين أي الأوضاع المبحوثة أفضل.
ففي مجتمع يركز جل اهتمامه على زيادة دخل الفرد ولا يكترث بنتائج شرب الخمر نتوقع أن تعطينا دالة المصلحة الاجتماعية فيه الترتيب التالي:
ص2 أفضل من ص1 أفضل ص3 ونرمز لذلك: ص2 < ص1 < ص3 وفي مجتمع ثان يقيم وزنا كبيرا لمكافحة الفقراء والقضاء على آفة شرب الخمر قد يعتبر الوضع الثالث (الذي تنخفض فيه نسبة الفقراء ويقل عدد شاربي الخمر) هو الوضع الأفضل رغم أن الوصول إليه يقتضي التضحية ببعض الدخل، ودالة المصلحة الاجتماعية في هذا المجتمع الثاني تعطينا الترتيب الآتي:
ص3 أفضل من ص1 أفضل من ص2
ص3 < ص1 < ص2
ويعني ذلك عمليا تبني السياسات الاقتصادية والإجراءات العامة التي تكفل الوصول إلى ص3.
3/4 دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية:
قبل أن نستعرض في الفروع 4/4- 7/4 أركان هذه الدالة الإسلامية حسبما صاغها الإمامان الغزالي والشاطبي، لا بد أن نقرر هنا نقطة البدء لهذا الموضوع وهي: أن الإسلام يرسي أهدافا معينة للحياة البشرية، فكل الأمور (سواء أكانت أعمالا أو أشياء) التي تساعد على تحقيق هذه الأهداف تدعى مصالح أو منافع، لأنها تزيد أو تفيد النفع الاجتماعي، وعكسها المفاسد أو المضار.
لقد استعرض هذان الإمامان تعاليم الإسلام والأوامر والنواهي التي تضمنها القرآن والحديث وتوصلا إلى النتيجة التالية:
إن المصالح الاجتماعية في الإسلام لها ثلاثة مستويات: الضروريات، والحاجيات، والتكميليات (وتسمى أحيانا التحسينيات).
4/4 الضروريات:
الضروريات تشمل كافة الأفعال والأشياء التي تتوقف عليها صيانة الأركان الخمسة للحياة الفردية والاجتماعية الصالحة بنظر الإسلام، وهذه الأركان هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وصيانة هذه الأركان من أول مقاصد الشريعة:
فتشمل الضروريات كافة التصرفات التي لا بد منها للحفاظ على هذه الأركان الخمسة وكذلك الأوامر والنواهي المتعلقة بهذه التصرفات مثل:
1- إقامة الواجبات الإسلامية الأساسية وهي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج والدعوة في سبيل الله، وهذه تتعلق بالركن الأول وهو الدين.
2- حرمة النفس الإنسانية وما يتصل بذلك من أوامر ونواه، وإباحة بل وإيجاب الأكل والشرب والملبس بما يصون الأبدان ويستر السوءات واتخاذ المسكن، وما يتصل بمثل هذه الأمور كالبيع والشراء. وهذا يتعلق بالركن الثاني وهو حفظ النفس.
3- تحريم الخمر وسواها من المواد التي تحجب العقل والإدراك.
4- مؤسسة الزواج وما يتصل بها من أحكام كتحريم الزنا.
5- حماية المال بمعناه الواسع وتحريم إتلافه سواء أكان في ملك الشخص أو في ملك سواه وتحريم العدوان على أموال الآخرين.
6- الجهاد للدفاع عن الأهداف السابقة، واكتساب العلم والمعرفة بالقدر الذي يتوقف عليه الحفاظ على ما سبق، والفعاليات الاقتصادية بالقدر الضروري للمحافظة على الأركان الخمسة: كإنتاج الأغذية مثلا.
5/4 الحاجيات:
وتشمل الأفعال والأشياء التي لا تتوقف عليها صيانة تلك الأركان الخمسة ولكن تتطلبها الحاجة لأجل التوسعة ورفع الحرج، ومن الأمثلة على هذه الفئة التمتع بالطيبات التي يمكن أن يستغني عنها الإنسان ولكن بشيء من المشقة كالعقود وأنواعها.
ويعتبر من الحاجيات كثير من الحرف والصناعات والفعاليات الاقتصادية التي تقع منتجاتها أو الخدمات التي تقدمها ضمن صنف الحاجيات، أي ضمن القدر الكافي لإزالة الحرج ودفع المشقة، فعلى سبيل المثال يصعب الاستغناء عن تغطية أرض البيت حين البرد، فإنتاج نوع بسيط من الأغطية يكفي لدفع البرد يعتبر من الحاجيات، وعندما تتوافر مثل هذه البسط يعتبر السجاد وصناعات السجاد من التكميليات.
وتحسن الإشارة إلى أن تغير وسائل العيش وصوره قد تحول بعض الأعمال أو الأشياء من صنف لآخر. فمثلا تعتبر المجاري العامة في المناطق الريفية قليلة السكان من الأمور التكميلية في حين تعتبر من الحاجيات في المدن المكتظة بالسكان الشائعة في الوقت الحاضر، إذ لولا هذه المجاري لوقع الحرج والمشقة ولتعرض السكان إلى مخاطر صحية. وكذلك فإن تأمين وسائل النقل العامة في التجمعات السكانية الصغيرة لا يعتبر حاجيا بل تكميليا، في حين يدخل في زمرة الحاجيات تأمين وسائل النقل للسفر بين هذه التجمعات السكانية. أما في التجمعات السكانية الكبيرة الممتدة على مساحات واسعة فتعتبر وسائل النقل العامة من الحاجيات، وعند توافرها بصورة مقبولة تعتبر وسائل النقل الخاصة من قبيل التكميليات.
وتشمل الحاجيات أيضا تلك الأعمال والأشياء التي لا تتوقف عليها صيانة الأركان الخمسة، لكنها تساعد وتسهل سبل المحافظة على هذه الأركان الخمسة فمن ذلك:
(أ) طباعة الكتب المتعلقة ببعض الضروريات (كالدعوة في سبيل الله، أو نقل بعض المعارف الضرورية).
ولو كانت طباعة الكتب يتوقف عليها الحفاظ على الأركان الخمسة لوجب تصنيفها في الضروريات، لكن المفترض أن من الممكن الحفاظ على هذه الأركان بطرق أبسط من طباعة الكتب، كالمشافهة والكتابة باليد.
(ب) حفظ الصحة والفعاليات المتصلة بها وتشجيع التربية البدنية لتقوية الجسم (ويلاحظ أن حفظ الحياة والفعاليات المتصلة به هو من الضروريات).
وأخيرا تشمل الحاجيات اكتساب المعرفة وتشجيع التربية والتعليم وتنمية الثروة العامة والخاصة إلى الحد اللازم للتوصل إلى الحاجيات المذكورة آنفا، وهذا هو تطبيق مباشر للقاعدة الفقهية الشهيرة القائلة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
6/4 التكميليات:
وتشمل الأعمال والأشياء التي تتجاوز حدود الحاجيات أو بعبارة أدق تشمل الأمور التي لا تتحرج الحياة ولا تصعب بتركها ولكن مراعاتها مما يسهل الحياة أو يحسنها أو يجملها.
فمن الأوامر التي تقع في هذه الفئة تلك المتصلة بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات كآداب السلوك الإسلامي في الطعام والشراب والكلام واللباس والتحية والنظافة….الخ، وكذلك الأوامر المتصلة بالاعتدال إجمالا وعدم الإفراط والتفريط، ويشمل ذلك الأمر بالاعتدال في الإنفاق لقوله تعالى: “والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” (الفرقان 25/ 67).
ومن التكميليات تحسين نوعية العمل والإنتاج لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد المتقن عمله).
على أن ترك الإتقان إذا كان يفوت “حاجة” أو “ضرورة” فإن الإتقان حينئذ يصبح من الحاجيات أو من الضروريات.
ومن التكميليات: الراحة والهوايات البريئة، والاستجمام والفعاليات المتصلة به بالقدر الضروري للمحافظة على راحة العقل والبدن واسترداد النشاط والقوة.
وتشمل التكميليات أيضا مقادير معتدلة من الأشياء البريئة التي تؤمن الراحة، ويمكن أن يستغني عنها الإنسان دون صعوبة كالسجاد والأثاث الجيد وطلاء المنزل. كما تشمل مقادير معتدلة من الأشياء التي تتخذ للتمتع والزينة كالزهور والمجوهرات.
فإذا تجاوزنا حدود التكميليات، فإننا ندخل في منطقة الإسراف والترف الذي يعتبره الإسلام مفسدة للفرد والمجتمع وينهى عنه بشكل واضح.
7/4 قواعد الترجيح:
لخصنا في الفروع 3/4 إلى 6/4 الأهداف التي يضعها الإسلام للفرد والجماعة على النحو الذي صاغه الإمامان الغزالي والشاطبي، والتي يعتبر الوصول إليها أمرا يفيد ويزيد المصلحة الاجتماعية، وإن ما تضمنته هذه الفروع على أهميته لا يؤلف إلا جزءا من دالة المصلحة الاجتماعية كما يتصورها الاقتصاديون المعاصرون، إذ أن هذه الدالة تتضمن جزءا أساسيا آخر هو قواعد الترجيح التي تساعد على حسم الخلاف بين الأهداف الاجتماعية المختلفة، فدالة المصلحة الاجتماعية إذن تتألف من جزأين: أولهما مجموعة الأهداف، وثانيهما قواعد الترجيح، وسنوضح هذه الفكرة بشيء من التفصيل.
إن دالة المصلحة الاجتماعية تسمح لنا أن نختار من بين مجموعة أوضاع أو أحوال اقتصادية واجتماعية محددة تلك الحالة (وتسمى البديل) التي تحقق المصلحة الاجتماعية إلى أبعد مدى، وعندما تكون الحالات المعروضة كلها مؤذية للمصلحة الاجتماعية فإن الدالة المذكورة تسمح لنا بتحديد أيها أقل ضررا، ويغلب في الواقع أن يؤدي سعينا لتحقيق هدف اجتماعي معين إلى إبعادنا عن هدف اجتماعي آخر، فالاختيار الاجتماعي لوضع ما كثيرا ما يستلزم حسم الخلاف بين الأهداف الاجتماعية المختلفة أو ترجيح بعضها على بعض، فلا بد لدالة المصلحة الاجتماعية في عرف الاقتصاديين من أن تتضمن قواعد للترجيح تسمح بحسم الخلاف الذي قد ينشأ بين الأهداف الاجتماعية.
والسؤال الذي يتبادر للذهن في هذا المقام هو: هل يقدم الإمامان الغزالي والشاطبي قواعد للترجيح، أي هل يكملان تحديد المصلحة الاجتماعية؟ الحق أن هذين الإمامين أكملا تحديد دالة المصلحة الاجتماعية (وإن لم يسمياها طبعا بهذا الاسم المستحدث) وبيان ذلك فيما يلي:
ينبغي أن نلحظ بادئ ذي بدء أن هذين الفقيهين الأصوليين العظيمين لم يقدما مجرد مجموعة من الأهداف الإسلامية بل قدما ما يسمى في لغة الرياضيات مجموعة مرتبة “Order Set” أي مجموعة رتبت عناصرها بشكل هرمي، ففي أعلى مستوى نجد الضروريات وتليها الحاجيات ثم التكميليات ويقدم الإمام الشاطبي فضلا عن ذلك كثيرا من الملاحظات والتحليلات عن ترتيب العناصر ضمن كل فئة من هذه الفئات الثلاث، لكن الشاطبي لا يقدم –بالطبع ولا يمكن لأحد أن يقدم أصلا- ترتيبا كاملا لكل ما يمكن أن يقع ضمن الفئة الواحدة.
إن قاعدة الترجيح الأساسية والسهلة التطبيق التي يقدمها هذان الإمامان هي بكل بساطة:
إن الأفعال والأشياء المتعلقة بفئة ذات مستوى أدنى تهمل إذا تعارضت مع أهداف فئة ذات مستوى أعلى. فلا يراعى مثلا حكم تكميلي إذا كان في مراعاته إخلال بما هو ضروري أو حاجي لأن الفرع لا يراعي إذا كان في مراعاته والمحافظة عليه تفريط في الأصل، ويلحظ أن هذه القاعدة البسيطة ممكنة التطبيق ضمن الفئة الواحدة أيضا حين تكون عناصر تلك الفئة مرتبة أي متفاوتة في القوة، فبعضها أدنى أهمية وبعضها أعلى.
ومن الأمثلة المشهورة على هذه القاعدة كما يذكر الفقهاء إباحة كشف العورة شرعا لتشخيص الداء أو للمداواة لأن ستر العورة رغم التوكيد عليه شرعا هو من الأمور التحسينية، أما التشخيص والعلاج فهو من الضروريات إن كان لا بد منه لإنقاذ الحياة، أو من الحاجيات فيما سوى ذلك.
إن هذه القاعدة على بساطتها وأهميتها البالغة لا تكفي وحدها للترجيح في كثير من الحالات الواقعية في الحياة الاجتماعية التي تتصف على الغالب بأن التصرف الواحد فيها له آثار متعددة تمس أهدافا اجتماعية كثيرة فتحسن لهدف وتسئ إلى آخر، والسؤال هو: أين نلتمس الجواب في هذه الحالات؟ إننا نلتمس الجواب في الفقه الإسلامي فالإمامان الغزالي والشاطبي فقيهان أصوليان شهيران ويعتمدان القواعد الفقهية للترجيح.
وهكذا نجد أن لدينا مصدرا رائعا وغنيا نستمد منه قواعد الترجيح اللازمة لدالة المصلحة الاجتماعية و الفقه الإسلامي الحافل بقواعد تحدد الأولويات وتبين كيفية الترجيح عند تعارض الأهداف الاجتماعية أو تعارض المصالح بين الأفراد. إن الفقه الإسلامي فضلا عن كونه تراثا فكريا اجتماعيا وقانونيا هو قبل ذلك وفوق ذلك نظام مفصل للقيم مستمد من الهداية الإلهية التي نعتقد –كمسلمين- أنها المصدر الوحيد الصحيح لإصدار الأحكام القيمية أو لترجيح مصالح بعض الناس على بعض.
ومن الطريف أن نلاحظ أن الاقتصادي الأستاذ بنجامين وورد B-ward من جامعة كاليفورنيا قد اقترح عام 1972م أن يبني اقتصاديون أحكامهم عن المصلحة الاجتماعية على التراث القانوني الأنجلو- أمريكي، وقد أشار الأستاذ “وورد” إلى بعض الصعوبات التي تكتنف مثل هذه المحاولة ولكنه خلص إلى النتيجة التالية:
“من الجدير أن نسعى لهذا الهدف لأنه أخلاقي من جهة وممكن التحقيق من جهة أخرى” (بنجامين وورد، ص235).
وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن بعض الصعوبات التي تحدث عنها الأستاذ وورد لا توجد في الفقه الإسلامي لاتفاق المسلمين على أنه يستند إلى مصدر الهي.
8/4 نتائج عن العلاقة بين الفقه وعلم الاقتصاد الإسلامي:
أصبح جليا مما تقدم في الفروع 3/4 إلى 7/4 أن من الممكن القيام بتحديد جيد لدالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية، وهذا أمر بالغ الأهمية للمجتمع ولصانعي السياسات الاقتصادية وللفقهاء الاقتصاديين المسلمين، ونستشهد هنا بما قاله في مقام آخر مفكر مسلم معروف هو الأستاذ محمد المبارك:
“إن الموجة للاقتصاد في النظم المعاصرة هو الربح وفي النظام الإسلامي هو النفع البشري”.
وهذا يدل على أن تحديد ما هو نافع للبشر أي ما هو مصلحة من وجهة نظر الإسلام هو الأساس الذي لا يستغني عنه لصياغة أية اقتراحات إسلامية عملية في المجالين الاجتماعي والاقتصادي.
إن هذه الفقرة القصيرة السالفة قد لا توضح لغير الاقتصاديين الأهمية العملية العظيمة لدالة المصلحة الاجتماعية، وسأترك هذا الإيضاح لمناسبة أخرى إن شاء الله، وألتفت الآن إلى العلاقة بين الفقه وعلم الاقتصاد، وهي علاقة تكشفها إلى حد بعيد فكرة دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية.
فالفقهاء المسلمون بالتعاون مع المتخصصين في العلوم الاجتماعية ومنها علم الاقتصاد لهم دور رئيسي في تحديد تفاصيل دالة المصلحة الاجتماعية الصالحة للتطبيق في المجتمعات المعاصرة، وبهذا التحديد تنتهي مرحلة الضياع الفكري الذي يعاني منه الاقتصاديون المسلمون، إذ يمكنهم أن ينطلقوا من هذه الدالة إلى اختيار مواضيع مثمرة لبحوثهم الوضعية “Positive Economic Studies” الاختصاصية وما عليهم إلا أن يختاروا تلك المتغيرات والعلاقات الوثيقة الصلة بدالة المصلحة الاجتماعية الإسلامية.
“قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم”. (المائدة 5-15-16).
ثم يقدم الاقتصاديون إلى الفقهاء نتائج دراستهم الوضعية الاختصاصية والبدائل المختلفة للسياسات الاقتصادية التي يمكن اتباعها، موضحين في كل حالة آثار كل بديل على تلك المتغيرات الرئيسية في دالة المصلحة الاجتماعية الإسلامية. ويمكن للفقهاء والاقتصاديين بعد ذلك وليس قبله أن يستعينوا بالدالة المذكورة، وبتراثنا الفقهي العظيم الذي يرفدها، على تقديم حلول إسلامية للمشاكل الاقتصادية المعاصرة.
لقد قدم الإمامان الغزالي والشاطبي مساهمة فكرية أصيلة للعلوم الاجتماعية عندما صاغا دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية مستمدة من الكتاب المبين وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما زالت مساهمتها وثيقة الصلة بما نهتم به نحن الاقتصاديون اليوم، لكن ما قدمناه لا يجيب بالطبع على كل ما نطرحه من أسئلة هذا الربع الأخير من القرن العشرين.
لقد ساهم الغزالي والشاطبي بنصيبهما في هذا المجال وفي الوقت المناسب إذ ذاك، عليهما رحمة الله، فهل ساهمنا نحن بنصيبنا؟
5- علاقة جزئية في دالة المنفعة للسلم: علاقة الاستهلاك في الدنيا بثواب الآخرة:
1/5 بعض عناصر لموقف الإسلام من السلوك الاقتصادي للفرد:
“إن رضا الفرد تابع لمتغيرات كثيرة أحدها هو مقدار ما يستهلكه الفرد من السلع والخدمات”، هذه كلمة وضعية أعتقد أنها مقبولة تماما من وجهة النظر الإسلامية وكذلك من وجهة نظر علم الاقتصاد الحديث، لكن ما أن نتجاوزها حتى نلحظ اختلاف موقف الإسلام عن موقف علم الاقتصاد الحديث من السلوك الاقتصادي للفرد، وليس مرد هذا الاختلاف منحصرا في أن الإسلام نظام قيمي من حيث الأصل بينما أن علم الاقتصاد علم وضعي من حيث الأصل، بل لهذا الاختلاف أسباب أخرى أيضا.
فعلم الاقتصاد فرع جزئي من فروع المعرفة، يركز اهتمامه على عدد محدود من المتغيرات أهمها الداخل والأسعار، ويجمع المتغيرات الأخرى (المؤثرة على السلوك الاقتصادي وعلى دالة المنفعة للفرد) في زمرة واحدة يسميها: الأذواق “tastes” ويعتبرها خارج نطاق الدراسة الاقتصادية كما يفترض أنها خارجية “exogenous” تؤثر في السلوك الاقتصادي ولا تتأثر به، فيضع الاقتصاديون الأذواق جانبا ويوجهون اهتمامهم الاختصاصي إلى تحليل تأثير الأسعار والدخل على رضا الفرد (أو على ما يسمى دالة المنفعة أو دالة الاختيار للفرد). وإلى التحويلات التي تطرأ على سلوكه الاقتصادي عندما تتغير الأسعار والدخل، ويفترض الاقتصاديون في تحليلهم هذا أن الفرد عقلاني يتصرف بحيث يصل إلى أقصى ما يستطيع من الرضا أي إلى أكبر ما يمكن من منفعة، (وتحسن الإشارة إلى ذلك لا يعني –بالضرورة- أن أهداف الفرد خسيسة أو مادية محضة لأن مضمون المنفعة يترك الاقتصاديون تحديده للفرد ذاته، لكنهم يفترضون أنه يحاول الوصول بمنفعته إلى أبعد مدى ممكن وبأسلوب عقلاني).
فإذا انتقلنا إلى الإسلام، وجدنا أنه نظام كامل للحياة يسعى لتحقيق مصلحة الفرد والجماعة، وهو لذلك يعالج كل متغير يؤثر في هذه المصلحة، بصرف النظر عن الفرع الجزئي من فروع المعرفة الذي نصف فيه هذا المتغير (كعلم الاقتصاد أو علم النفس….الخ). والمتغيرات الوحيدة التي يعتبرها الإسلام خارجية حقا (أي تؤثر في الإنسان ولا تتأثر به) هي القوانين الإلهية الطبيعية ومنها فطرة الإنسان الأساسية، فالإسلام لا يخرج من نطاق اهتمامه تلك المتغيرات العديدة الأخرى المؤثرة في دالة منفعة المستهلك والمسماة “الأذواق” بل هو يتناولها بالتمحيص والتوجيه ويؤكد على تأثيراتها المتبادلة فيما بينها، كما يؤكد على النتائج المتعددة للسلوك، تلك النتائج التي تمتد عبر الزمان والمكان والأشخاص.
ولا يميز الاقتصاديون في تحليلهم بين اختيار الفرد الذي تعتبر منه دالة المنفعة (دالة الاختيار) وبين مصلحته الحقيقية بل يفترضون عادة تطابق الاختيار مع المصلحة، أما الإسلام فيلحظ –بل يؤكد- إمكانية الاختلاف بين الأمرين، قال الله تعالى: “كتب عليكم القتال كما كتب على الذين من قبلكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرُ لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرُ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون” (البقرة 2/ 216).
وقد أتى الإسلام لتحقيق أقصى ما يمكن من مصلحة الفرد (والمجتمع) الحقيقية، لكنه مع ذلك يسعى أن يتم الأمر بالاختيار الطوعي للفرد ومع مراعاة إرضائه إلى أبعد حد ممكن، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن والحديث.
والإسلام ينظر إلى دالة المنفعة للفرد على أنها جزء داخلي “endogenous” من نظام الإسلام الشامل، وهو يسعى سعيا حثيثا ليحولها على نحو معين ولا يتركها بحالتها الفجة (وهي الحالة التي يتقبلها الاقتصاديون على أنها أمر مسلم به ولا يبحثون في تحويلها). فنجد في الإسلام كثيرا من الأوامر والنواهي والترهيب والترغيب والتوجيهات غايتها:
(أ) إزاحة (تحريك) دالة المنفعة للفرد بحيث تتطابق مع مصلحته الحقيقية.
(ب) إدخال متغيرات جديدة في دالة المنفعة للفرد وتعديلها بحيث تزداد منفعة الفرد عند تزايد المصلحة الاجتماعية وتتناقص عند تناقصها، لأن الإسلام يلحظ الاختلاف الكثير الوقوع بين دالة الاختيار للفرد بحالتها الفجة وبين مصلحة المجتمع.
فالإسلام يحقق تحويلا في دالة المنفعة للفرد بحيث يجعلها تتكامل مع المصلحة الاجتماعية وباقي أجزاء النظام الإسلامي. وهذا التحويل التكاملي يؤدي إلى نتائج ذات أثر بعيد في باقي أجزاء النظام الإسلامي، مثلا في أسلوب تنظيمه وتوجيهه للنشاط الاقتصادي وفي تخفيف الطبقة الاجتماعية.
إن الملاحظات السابقة عن موقف الإسلام من السلوك الاقتصادي الفردي يمكن تلخيصها بكلمتين، أحداهما وضعية والأخرى قيمية: الارتباط المتبادل “Inter Dependence”، والتكامل “Integration” فالإسلام يلحظ تماما الارتباط المتبادل بين المتغيرات المختلفة في نظامه الشامل ومن جملتها المتغيرات المختلفة في دالة المنفعة للفرد، ويسعى في تعاليمه لتحقيق التكامل بين هذه الدالة وبين باقي أجزاء نظامه.
ولا بد من الإشارة إلى أن ما ذكرناه من ملاحظات في هذا الفرع (1/5) هو تأكيدات ودعاوى عن بعض جوانب موقف الإسلام من السلوك الاقتصادي الفردي وهي بحاجة لإيضاح وبرهنة نتركها لمناسبة أخرى إن شاء الله.
2/5 مقدمة لبحث علاقة جزئية في دالة المنفعة للفرد المسلم:
إن من جملة الاختلافات في دالة المنفعة بين “الإنسان الاقتصادي” “Homo Economicus” والإنسان المسلم Homo Islamicus” ” أن دالة المنفعة للإنسان المسلم يظهر فيها متغير جديد هو الثواب (أو العقاب) في الحياة الآخرة.
ويتفاعل هذا المتغير الجديد بقوة مع المتغيرات الأخرى الاقتصادية وغير الاقتصادية التي تدخل دالة المنفعة مما يؤكد على ضرورة دراسته بعناية، وسأتناول في هذا القسم من البحث العلاقة بين ثواب الآخرة وبين متغير اقتصادي هام يؤثر على منفعة الفرد وهو مجموع استهلاكه من السلع والخدمات.
ويستند بحثنا لهذا الأمر إلى تعاليم الإسلام الواضحة في مصدريه الرئيسيين وهما القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما استندت إلى بعض الآراء والشروح لعلماء وفقهاء المسلمين، وقد اعتمدت الأحاديث الصحيحة والحسنة دون سواها، وفي نهاية هذا البحث فردنا لهذه النصوص التي استندنا إليها (والتي يتجاوز عددها 70 نصا) ملحقا خاصا صنفت فيه النصوص تحت عشرة عناوين رئيسية متوازية تقريبا مع تسلسل بحثنا هذا، وإضافة لذلك، أحلنا في كل فرع من فروع البحث إلى أرقام النصوص المتعلقة به.
افتراضات ممكنة عن علاقة الثواب بالاستهلاك
(انظر حول هذا الفرع النصوص (1/1 إلى 8/3) من الملحق في نهاية البحث).
إن ثواب الفرد في الآخرة يتعلق بعقيدته وبحصيلة جميع نواياه وأعماله في هذه الحياة وسنقتصر هنا على دراسة العلاقة الجزئية بين الثواب (ث) ونوع واحد من أنواع العمل وهو الاستهلاك (هـ). قد يتوقع المرء بادئ ذي بدء أن يكون الثواب مرتبطا عكسيا بالاستهلاك على صورة منحنى تحويل “Transformation Curve ” كالذي يظهر في الرسم البياني المجاور، فإن كنت ترغب في رضا الله وثوابه فلا بد أن تضحي بشيء من الاستهلاك ثمنا لذلك، وكلما ضحيت بكمية أكبر من الاستهلاك ازداد ثوابك بمقدار هذه التضحية.
إن هذه النظرة قد تصدق على بعض الديانات الأخرى لكنها بعيدة جدا عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع كما سنرى.
وقد يخطر على بال دارس مسلم بالاقتصاد الرياضي أن يتصور هذه العلاقة على أنها نهاية عظمى مقيدة “Constrained Maximum” فبحسب هذا التصور يسعى الفرد المسلم للوصول باستهلاكه إلى أقصى قيمة ممكنة مع التقيد بقيود دينية معينة (بالإضافة إلى القيد الشائع لدى الاقتصاديين وهو عدم تجاوز إنفاق الفرد لدخله الشخصي)، ولكن هذه الفرضية الجديدة لا تصح من وجهة النظر الإسلامية لأسباب أهمها مناقضتها للمبدأ الإسلامي القائل بأن ثواب الآخرة هو الهدف النهائي للمسلم.
“وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا”. (القصص 28/77).
فإذا قبلنا بهذا الاعتراض فقد يخطر في بال المختص في الاقتصاد الرياضي فرضية بديلة هي أن الفرد المسلم يسعى للوصول إلى أقصى قيمة ممكنة لثواب الآخرة مع التقيد باستهلاك معين في هذه الحياة، على أن هذه الفرضية الأخيرة وإن كانت أبعد عن الخطأ من سابقتها، ولكنها ليست صحيحة، فالنظر إلى الموضوع أصلا على أنه بحث عن نهاية عظمى مقيد هو نظرة خاطئ فيما أرى، ودليلي على ذلك أن من المعلوم في بحث النهايات العظمى المقيدة في الرياضيات أن تجاهل قيد ملزم “Binding Constraint” يزيد النهاية العظمى ولا يمكن أن يخفضها، بينما يعلمنا الإسلام أن تجاهل “القيود” الدينية على الاستهلاك أو على السلوك يخفض منفعة الفرد ولا يزيدها، وهذا يدل على أن تصور أوامر الدين ونواهيه على أنها قيود على السلوك هو تصور خاطئ إذ هي في حقيقتها هداية تزيد منفعة الفرد وتؤمن مصلحته الحقيقية في هذه الحياة، وإذا كان عاملا والتزم بها فإنه يزيد ثوابه في الآخرة أيضا، فهل يصح بعد ذلك أن نتصور أوامر الدين ونواهيه على أنها قيود، فلو أن معمل السيارات أوصاني بتغيير الزيت كل كذا كيلو مترا، فهل يصح أن أنظر لهذه الوصية على أنها قيد على سلوكي..
نستنتج مما تقدم أنه لا بد من النظر لهذا الموضوع نظرة مختلفة عن كل الفرضيات السابقة وأرجو أن أكون في الفقرات التالية وما يدعمها من نصوص في الملحق قد وفقت إلى تلخيص أهم تعاليم الإسلام عن العلاقة بين “الاستهلاك ونية الفرد بشأنه” وبين ثواب الآخرة.
4/5 ملاحظات عامة حول الرسم البياني:
تمثل في هذا الرسم البياني على المحور الأفقي كمية الاستهلاك (هـ) في هذه الحياة وعلى المحور العمودي ثواب الآخرة (ث)، والمسافات على هذين المحورين ترتيبية وليست عددية، بمعنى أنها تعبر عن فكرة (أكثر أو أقل) ولا تعبر عن كميات رقمية محددة. فمثلا النقطة (هـ3) قد تبدو في الرسم البياني وكأنها تمثل أربع أضعاف كمية الاستهلاك الذي تمثله النقطة (هـ1)، لكن الرسم البياني الحاضر لا يصح فيه مثل هذا الاستنتاج بل كل ما يدل عليه هو أن هـ3 أكبر من هـ1، وأ، هـ2 أصغر من هـ3… وهكذا… وهذه الملاحظة صحيحة أيضا عن النقاط على محور الثواب (ث).
ويلحظ على المحور العمودي (ث) أنه يمثل كلا من الثواب والعقاب، فالثواب موجب وتمثله نقاط أعلى من مستوى الصفر، والعقاب سالب وتمثله نقاط تحت مستوى الصفر، في حين أن مستوى الصفر بالذات يمثل وضعا ليس فيه ثواب ولا عقاب.
كيف نقرأ الرسم البياني؟
إن أية نقطة على هذا الرسم تمثل وضع إنسان ما، ويقابلها أمران: استهلاكه الممثل على المحور الأفقي، وثوابه الممثل على المحور العمودي، فالنقطة (ث4) تدل على استهلاك مقداره (هـ4) وعلى ثواب مقداره (ث/) والنقدة (ع3) تدل على استهلاك مقداره (هـ3) وعلى عقاب مقداره (ع/) والنقطة (هـ2) بما أنها واقعة على المحور الأفقي نفسه تدل على استهلاك مقداره (هـ2) وعلى ثواب معدوم إذ يقابلها على المحور العمودي النقطة صفر.
وأخيرا، النقطة (ب) تمثل إنسانا يستهلك ما مقدراه (هـ1) ويناله شيء من العقاب لأنه تحت مستوى الصفر.
5/5 مستويات الاستهلاك: من الواجب إلى الحرام:
أنظر حول هذا الفرع النصوص (1/4 إلى 6/4 و 4/5 و 5/5 من المحلق في نهاية البحث).
تظهر في الرسم أربعة خطوط عمودية مرسومة بشكل متقطع، وهي الخطوط ح ح/، ض ض/، ك ك/، ف ف/ وسنبين دلالتها فيما يلي، وهي تستند إلى مفاهيم الضروريات والحاجيات والتكميليات التي سبق عرضها في دالة المصلحة الاجتماعية.
فالخط العمودي (ح ح/) يمثل مستوى الاستهلاك الذي لا بد منه لحفظ الحياة (النفس)، فلا يمكن أن يوجد أحد إلى يسار هذا الخط، أي لا يمكن أن يستهلك أحد أقل من هـ1.
والخط العمودي (ض ض/) يمثل مستوى الاستهلاك اللازم للحفاظ على باقي الأركان الخمسة بعد النفس (الدين والعقل والنسل والمال).
والخط العمودي (ك ك/) يمثل “مستوى الكفاية” وهذا هو مستوى الاستهلاك الذي يؤدي للفرد الحاجيات الكافية لما يلي:
(أ) لجعله مستغنيا عن الآخرين ماليا، بل قادرا على معونتهم عند اللزوم.
(ب) لجعله مستغنيا عن الآخرين نفسيا، أي قانعا بما قسم له، وشاكرا ربه عليه، غير حاسد من أوتوا من الرزق أكثر مما أوتي.
(ج) لجعله قادرا على تأمين مستوى الكفاية لمن يعولهم شرعا كالزوجة والأولاد والأبوين المحتاجين…الخ، ومن المخالفة الصريحة لأحكام الشرع أن يهمل رب الأسرة ذلك حتى بحجة انشغاله بالعبادة أو بالواجبات الإسلامية العامة.
وأخيرا، يمثل الخط العمودي (ف ف/) حد الإسراف، فهو يبين مستوى الاستهلاك المقابل لأقصى حد مسموح به شرعا من التكميليات فإن تجاوزه الفرد (إلى اليمين) فقد دخل في حيز الترف والسرف الذي ينهى عنه الإسلام، (انظر النصوص 1/6 إلى 4/6 من المحلق في نهاية البحث).
ويمكن للمرء أن يستنتج من استعراضنا لمستويات الاستهلاك المختلفة التي تمثلها الخطوط العمودية (ح ح/، ض ض/، ك ك/، ف ف/) أن هذه المستويات ليست متماثلة عند جميع الناس بل أنها تعتمد على العديد من الاعتبارات التي تشمل فيما تشمل التزامات الفرد العائلية وحالته الصحية والنفسية مدى ضبطه لنفسه وتقواه، لكن هذه المستويات قابلة للتحديد بالنسبة لأي شخص معين.
6/5 الاختبارات المتاحة للمستهلكين:
تمثل الخطوط الغليظة في الرسم البياني الاختيارات المفتوحة أمام المستهلك، وكل نقطة عليها تمثل وضع شخص ما، ويمكن للمستهلك أن يختار أعلى مستوى من مستويات الاستهلاك يسمح به دخله، فمن المستويات الممكنة مثلا ما تمثله النقاط هـ1 إلى هـ5، أما ثواب أو عقاب المستهلك (الممثل على المحور العمودي ث فلا يتحدد بصورة متميزة بمجرد معرفتنا لمستوى استهلاكه، فمثلا لو اختار الفرد أن يستهلك ما تدل عليه النقطة هـ4 في هذا الرسم فإن استهلاكه هذا قد يتوافق مع العقاب ع4 أو مع الثواب ث4، كما يمكن أن يبقى دون ثواب ولا عقاب عند النقطة هـ4 نفسها على المحور الأفقي، لكن لا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن الثواب لا علاقة له بالاستهلاك، لأن عدة أجزاء من الخطوط الغليظة يعتمد فيها الثواب على الاستهلاك فمثلا المستقيم (ب هـ3) العلاقة عنده بين الثواب والاستهلاك إيجابية، بمعنى أن زيادة الاستهلاك تزيد الثواب (أو تخفض العقاب)، والمستقيم (ث7هـ5) العلاقة عنده بينهما سلبية بمعنى أن زيادة الاستهلاك تقلل الثواب، وكذلك فإن العلاقة بينهما سلبية عند المنحنيات المرسومة فوق المستقيم ث3 ث7.
7/5 درجات الثواب:
إن الثواب والعقاب في الآخرة هو متغير مستمر وليس متغيرا متقطعا، ولكننا لتيسير المناقشة نخص بالذكر خمس مستويات مختلفة للثواب على الاستهلاك وسوف نشرحها في الفروع (1/7/5) إلى (5/7/5) التالية، فمستويات الثواب الثلاثة الأولى هي:
– الثواب المعدوم.
– الثواب العظيم (ث/) أي الجنة.
– العقاب الشديد (ع/) أي النار.
والذي يضع الفرد في أحد هذه المستويات الثلاثة أمران اثنان: عقيدته ونيته حول الاستهلاك من جهة وسلوكه الاستهلاكي من جهة أخرى، وسنوضح ذلك فيما يلي:
1/7/5/ الثواب المعدوم:
يقابله في الرسم هـ1 هـ5 الواقع على المحور الأفقي، ويمثل هذا المستقيم وضع إنسان مسلم خالي الذهن فهو يستهلك الحلال دون أن تكون لديه نية صالحة حول هذا الاستهلاك، فلا يثاب عليه، كما أنه لا يعاقب لأنه لا يستهلك أي حرام، لكنه إذا تجاوز في استهلاكه النقطة هـ5 فإنه قد ارتكب مخالفة محددة هي الإسراف وهو معاقب.
(انظر حول الثواب المعدوم النصوص 1/7 و 2/7 و 5/7 من الملحق في نهاية البحث).
2/7/5 الثواب العظيم (الجنة):
ويقابله في الرسم المستقيم (ث1ث7) ولا يحتاج الفرد للوصول إلى هذا الثواب العظيم أن يضحي باستهلاكه، لكن يجب عليه أن يسلم إرادته لله أي أن يكون مسلما حقا، وأن مفهوم “إسلام النفس لله” يعني في معرض الاستهلاك الأمور التالية:
(أ) أن يدرك الفرد تماما أنه إنما يستهلك من رزق الله وبإذن الله، وأن يكون على استعداد للإقلاع عن استهلاك أي شيء يحرمه الله، وأن الأدعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي يقرؤها المسلم عند استهلاكه أو استعماله لمختلف الأشياء إنما تنشئ في نفس المسلم وتقوي فيه هذا المفهوم الذي هو الأساس المتين لكي يبني عليه موقف الشكر لله الذي له في الفرد والمجتمع آثار عديدة (انظر النصوص 1/8 إلى 6/8 من الملحق في نهاية البحث).
(ب) أن يكون الفرد شاكرا لله ويظهر شكره بأن:
1- يغير نمط استهلاكه بحيث يستعيض عن الحرام بالحلال.
2- أن يشرك الآخرين معه في استهلاكه إلى الحد المفروض شرعا كتأدية الزكاة وسواها، ولا يطلب منه شرعا إشراك الآخرين معه إلا إذا كان مقتدرا على أن يتجاوز حد الكفاية ك ك/ (انظر حول الثواب العظيم النصوص 1/5 إلى12/5 و 1/7 إلى 9/7 من الملحق في نهاية البحث)
3/7/5 العقاب الشديد (النار):
ويقابله في الرسم الخط (ع1ع5)، أن الأفراد الذين يقفون عند هذا الخط ليس سبب وجودهم عنده أنهم يستهلكون أكثر من الأفراد الذين يقفون عند الخط (ث1ث7) بل السبب أنهم رفضوا أن يسلموا أنفسهم لله على النحو الذي شرحناه آنفا، حتى إنه من الممكن لبعض من يقفون عند الخط (ع1ع5) أن يكون استهلاكهم محصورا في الأمور الحلال، لكنهم لا يستهلكون الحلال لأن الله أباحه كما أنهم لا يبالون أن يستهلكوا الحرام لو كانوا يحبونه، وهذه النوايا المستكنة في النفوس يعطينا القرآن أمثلة عنها، وهي إجمالا أنماط من التصرف تدل على نسيان الله وتجاهله، أو كفران بنعمته أو عدم الاكتراث بالآخرة، ومن أمثلتها:
(أ) استهلاك المحرمات.
(ب) عدم الاكتراث بالمحتاجين والضعفاء في المجتمع عموما وبين الأقارب خصوصا، وعدم الاكتراث هذا معاقب حتى عندما يتعلق بالحيوانات المحتاجة كما هو واضح في أحاديث نبوية عديدة.
(ج) رفض الإنسان إشراك الآخرين في بعض استهلاكه في الحدود التي يفرضها الإسلام (انظر حول العقاب الشديد النصوص 1/9 إلى 8/9 من الملحق في نهاية البحث).
4/7/5 الزهد الأعجمي والكسل والبخل:
ويمثله في الرسم مستقيم (ب هـ3)، ويقف عند هذا المستقيم فرد مسلم يستهلك أقل من حد الكفاية ك ك على الرغم من أنه يستطيع الوصول إلى حد الكفاية، فهو إما أن يكون ميسور الحال لكنه يبخل على نفسه وإما أن يكون فقيرا لكن بإمكانه أن يعمل ويكتسب فيصل إلى حد الكفاف، فامتناعه عن الوصول إلى حد الكفاف دون عذر واضح يدل على أنه كسول أو بخيل أو زاهد زهدا أعجميا، وهو معاقب في هذه الحالات كلها لأن مستوى الكفاية ك ك/ هو الحد الأدنى من الاستهلاك الذي يجب أن يسعى المسلم للوصول إليه إن استطاع ولا يقبل الزهد قبل الوصول إلى هذا الحد.
فعندما يتحرك الفرد من النقطة (ب) في اتجاه النقطة (هـ3) يزداد ثوابه (أو على الأصح يقل عقابه) لأنه يزيد استهلاكه، وعندما يصل إلى النقطة (هـ3) أي إلى حد الكفاية (ك ك/) فإن نيته إما أن تبقيه عند النقطة هـ3) ذات الثواب المعدوم، وإما أن ترفعه إلى مستوى الثواب العظيم (ث3).
لكن من الناس من لا يستطيع الوصول إلى حد الكفاية (ك ك/) رغم محاولته ذلك فهو فقير وليس في يده حيلة. ومثل هذا الإنسان لا يستحق عقابا أخرويا على ترك الكفاية لأنه فقير، ولكن في مصيره تفصيل بحسب نيته: فإن كان خالي الذهن وقف عند مستوى الثواب المعدوم، وإن كان ذا نية صالحة ارتفع إلى مستوى الثواب العظيم، وإن كان ذا نية سيئة هبط إلى أتعس منطقة في الرسم البياني وهي الممثلة بالمستقيم (ع1ع3) فهنا يقع الفقير ذو النية السيئة، فهو محروم في الدنيا ومعاقب في الآخرة.
(انظر حول الزهد الأعجمي والبخل النصوص 1/10 إلى 8/10، و 1/1 إلى 3/1، و 2/2 و 3/3 و 6/4 من الملحق في نهاية البحث).
5/7/5 الإيثار والزهد الإسلامي:
يمثله في الرسم البياني المنحنيات الواقعة فوق المستقيم (ث3ث7)، إن فردا يقف عند النقطة (ث8) له دخل يسمح له بأن يكون استهلاكه عند النقطة (ث6) ولا تثريب عليه لو وصل إليها، لكنه عوضا عن أن يفعل ذلك خفض استهلاكه إلى المستوى المقابل لـ (ث8)، بغية تحقيق هدف نبيل، فقد يكون هذا الهدف معونة الآخرين المالية أو الإنفاق في سبيل الله أو تخصيص بعض جهوده لأهداف اجتماعية نبيلة عوضا عن أن يخصصها لاكتساب المزيد من الرزق الحلال، والمفهوم ضمنا أن هذه الأهداف النبيلة التي يسعى مثل هذا الفرد لتحقيقها تتجاوز الحد الأدنى المفروض شرعا على كافة المسلمين.
ومن الضروري في هذا المقام إيضاح مفهوم الزهد الإسلامي المتميز عن الزهد الأعجمي، إن حرمان النفس من الحلال لمجرد الحرمان لا يثاب عليه المسلم بل لا يقره الإسلام أصلا، أما الحرمان الذي يثاب عليه فهو الذي لا بد منه لتحقيق هدف نبيل، ذلك أن ترك الحلال والزهد فيه لمجرد الترك أو لمعاقبة النفس مفهوم أجنبي عن الإسلام، فالحرمان وسيلة ولا يمكن أن يكون غاية أبدا، وهذا هو فرق جوهري بين الإسلام وديانات أخرى تشجع حرمان النفس لمجرد الحرمان.
المنحنيات المرسومة فوق المستقيم (ث3ث7) تمثل الإحلال الاختياري للثواب محل الاستهلاك عن طريق الإيثار وعن طريق الزهد الإسلامي، ومثل هذه التصرفات الاختيارية الطوعية يحبذها الإسلام ويشيد بفاعليها ويثيبهم الله عليها ثوابا عظيما.
ويلحظ أن المنحنيات المذكورة محدبة نحو نقطة الأصل لتظهر المبدأ الإسلامي الذي يتضمنه الحديث الشريف “درهم سبق ألف درهم”.
أي أن تضحية قليلة من المقل قد تنال ثوابا أعظم من تضحية أكبر يقدمها غني.
كما يلحظ أيضا أن المنحنيات لا تقطع الطريق المستقيم (ك ك/) بل تقاربه مقاربة لأن الإسلام عادة لا يقر صدقة التطوع ممن لم يصل إلى مستوى الكفاية، والاستثناءات التي قد يستشهد بها خلافا لهذا المبدأ والتي تؤكد أن الإسلام حبذ مثل هذه التضحيات محصورة فيما أظن بحالات طارئة فردية أو جماعية كالحالات التالية:
(أ) حالة الحرب وغيرها من الطوارئ الاجتماعية والتي تقع خارج نطاق السلوك العادي للمستهلك، والإسلام يقدم لمثل هذه الحالات الاستثنائية توجيهات محددة تخرج عن نطاق بحثنا هذا.
(ب) لإنقاذ شخص آخر من ضرر عظيم أو دائم ففي مثل هذه الحالة يسمح الشرع للفرد بأن يضحي إلى حد قد يرجع به إلى دون مستوى الكفاية (ك ك/)، لأنه يعطي من هو أشد منه حاجة.
ففي هذه الحالات الاستثنائية يمكن للمنحنيات المذكورة أن تقطع المستقيم (ك ك/) وأن تقارب مستقيم الضروريات (ض ض/).
وهذا فيما أرى تأويل محتمل للنصوص 11/5 و 12/5 من الملحق في نهاية البحث، والله أعلم.
8/5 نتائج:
لقد تركزت مناقشاتنا في هذا القسم الخامس من البحث على العلاقة المباشرة فقط بين الاستهلاك والثواب من حيث كونهما متغيرين من جملة المتغيرات التي تدخل في دالة المنفعة للفرد المسلم، والآن نستخلص هنا بعض النتائج العامة من المناقشة السالفة:
أولا: إن من أهداف الإسلام الرئيسية أن يساعد الإنسان على مجابهة حقيقة كبرى هي: أن هناك حياة وثوابا بعد الموت، وهذا الثواب أعظم بكثير من أي خير يمكن أن يناله الإنسان في هذه الحياة، كما أن عقاب الآخرة أشد بكثير من أي شقاء يمكن أن ينزل بالإنسان في هذه الحياة، إن هذه الحقيقة الكبرى بل الهائلة قد تحمل الإنسان على أن يهمل السعي الاقتصادي وسواه من نشاطات الحياة، لكن الله سبحانه الرحيم العليم وازن هذه الحقيقة الكبرى بحقيقة كبيرة أخرى هي فطرة الإنسان التي فطره عليها وهي غريزة استعجال النتائج وابتغاء الطيبات عاجلة لا آجلة.
ومن رحمة الله بنا أنه لم يضع لنا نظاما للحياة تصطرع فيه هاتان الحقيقتان بل اختار لنا نظاما يسعى لتحقيق الانسجام –بينهما- بعدة طرق، وإحدى هذه الطرق هو أنه حرم أنماط السلوك المتطرفة في أي اتجاه كان، فالزهد عجمي محظور كما أن الترف محظور وكلاهما يتناقضان مع أهداف رئيسية في النظام الإسلامي.
ثانيا: إن التصرف العقلاني للمستهلك المسلم يحدو به أن يختار لنفسه مكانا ما بين حد الكفاية (ك ك/) و حد الإسراف (ف ف/)، لكن هذين الحدين متباعدان حقا ويتركان بينهما مجالا كبيرا للاختيار يخشى معه أن يتولد في نفس المستهلك صراع بين إيمانه بعظيم ثواب الآخرة وميله الفطري لاكتساب الطيبات في هذه الحياة الدنيا، وقد تفادى الإسلام وقوع هذا الصراع بأن جعل استهلاك الفرد يتكامل مع ذاتيته الإسلامية ومع دوره الاجتماعي.
فالإسلام يعتبر السلوك الاستهلاكي إحدى الطرق التي يعبر بها الفرد عن شكره لله، والمسلم العاقل يسعى جهده ليجعل نمط استهلاكه منطبقا على ما وصفناه في الفرع (2/7/5) حتى يكسب ثواب الله في الآخرة، وأن سعيه في هذا السبيل يعبر عن عقيدته ويقويها ويزيد استعداده لإشراك الآخرين في بعض ما عنده.
وثمة مظهر آخر من مظاهر تكامل الاستهلاك في النظام الإسلامي مع العقيدة فكل إنسان بصرف النظر عن عقيدته ينال بعض الرضا مما يستهلك، لكن رضا المسلم باستهلاكه أعمق من ذلك لعلمه أنه ما دام ذا نية صالحة فيه، فإن استهلاكه نفسه يصبح عبادة يتمتع بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
(انظر حول تكامل العقيدة مع الاستهلاك النصوص (1/8 إلى 6/8) وغيرها كثير مثل (1/7 إلى 9/7 و 2/5).