ليس بوسع النظام الاقتصادي في الإسلام أن يتطلع إلى تلك المرحلة “المثالية” من الشيوعية التي تذوب فيها الدولة.
إن الدين الإسلامي يؤثر النظام والتنظيم ويرفض الفوضى الفوضوية بصريح الآية الكريمة:
– وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
وبصريح الحديث الشريف الذي شدد فيه النبي صلى الله عليه وسلم على النظام والسلطة في المجتمع المسلم:
– السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤثر بمعصية. فإذا أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة.
وبطلبه من المسلمين أن يؤمروا شخصا عليهم ولو كانوا ثلاثة في سفر.
وأكد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحاجة إلى سلطة سياسية فقال: لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة وعبر الإمام الشافعي عن هذا بروح عصره (150 – 204 هـ) قائلا: وهكذا كانت كتب خلفائه بعده وعمالهم وما أجمع المسلمون عليه من أن يكون الخليفة واحدا.
وموقف الدين من السلطة والتنظيم أثر ولا يزال يؤثر على الفكر السياسي عند المسلمين كافة، فيما عدا الخوارج. وأثره يتجلى في قولين لفقيهين بارزين (أبو يعلى والماوردي) عاشا في بغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) وكتبا في السمات التي تتمتع بها الدولة المثالية، حيث أكد كل منهما على أن السيادة ضرورة مطلقة ونص عبارتهما: قال أبو يعلى: نصبة الأمامة واجبة وقال الماوردي: الإمامة واجبة بالإجماع ويقتبس أبو يعلى من الإمام أحمد بن حنبل قوله: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس وفي رأي الماوردي: فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم.
لكن مهما تعددت الآراء واختلفت فإن للدين مسلكا وسلطا حول السلطة السياسية. فلا إفراط في ممارسة السلطة كواقع الدولة القائمة على الاستبداد، ولا تفريط كحال الدولة القائمة على حرية العمل. إن الدولة أداة تعمل على تحقيق أهداف الإسلام، وعليها أن تحترم حرية الفرد، وتمارس قدرا من السلطة تقيم فيه حكم الآداب الإسلامية، وتنفذ مقاصد العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتقسط في توزيع الدخول.
والدولة، قبل أن تصبح جديرة بحمل اسم “دولة إسلامية”، لا بد لها من أن تستوفى شروطا معينة، هي: تطبيق الشريعة الإلهية في الأمور كلها، والديمقراطية، وتكريس العمل لتحقيق الرخاء أما السلطان فهو سلطان الله، وإرادته وحدها هي التي يجب أن تسود العالم.
– (ألا له الخلق والأمر).
– (إن الحكم إلا لله).
– (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون)
وسلطان الله معناه سيادة القانون الأخلاقي الذي جاء به القرآن والسنة، وليس بمقدور الإنسان أن يضع هذا القانون أو يبطله. إنه قانون لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما على الإنسان إلا طاعته.
لقد نعت بعض الثيوقراطيين الدولة الإسلامية بشتى النعوت بسبب قبولها المطلق بأحكام الله. وردا على ذلك نقول: إن الدولة الإسلامية ليست بدولة ثيوقراطية، وهي يقينا ليست كذلك بالمعنى المفهوم للثيوقراطية لدي الغرب. إن سلطان الله يعني سيادة القانون الإلهي أو سيادة القيم الأخلاقية وليس دكتاتورية كنيسة أو فرد أو أفراد. فالناس جميعهم خلائق الله في الأرض:
– (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون).
– (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا).
وبصفتهم هذه يتساوى الناس في المشاركة في تطبيق هذا القانون.وبها تكتسب الدولة الإسلامية بنية ديمقراطية قائمة على القانون الأخلاقي الذي أوضحه كل من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وعند إقرار شرعة الله تصبح السلطة في يد الأمة كلها حيث تتخذ القرارات بأسلوب ديمقراطي من خلال مشاورة الأمة أو ممثليها الشرعيين.
– (وشاورهم في الأمر). (وأمرهم شورى بينهم).
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. وهو نفسه عاش حياته كلها على هذا المبدأ القرآني حتى أن أبا هريرة الصحابي الجليل قال: ما رأيت أحدا قط أكثر مشاورة من الرسول، يعني من رسول الله لأصحابه وسأله ذات مرة علي كرم الله وجهه: يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل به القرآن ولم نسمع منك فيه شيئا. فقال صلى الله عليه وسلم:
– اجمعوا له العالمين – بكسر اللام – (أو العابدين) من المؤمنين واجعلوه شورى بينكم ولا تفضوا فيه برأي واحد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي تشرب هذه الروح الديمقراطية من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا خلافة إلا عن مشورة.
أما السمة الثالثة التي تتميز بها الدولة الإسلامية فهي أنها دولة رخاء. قد جاء في الحديث الشريف:
ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة.
– لعمل الإمام العادل في رعيته يوما واحدا أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام.
– من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه.
لقد استوعب الصحابة الكرام هذه الوظيفة للدولة فبرزت في وصايا الخلفاء الأولين إلى ولاتهم. وجاء في وصية أمير المؤمنين عمر إلى عامله أبي موسى الأشعري:
– أما بعد، فإن أسعد الرعاة عند الله من سعدت به رعيته وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته.
أما كتاب الخراج المقدم من أبي يوسف إلى الخليفة هارون الرشيد ففيه حرص شديد على مفهوم الرخاء في الدولة الإسلامية. وترى الحرص نفسه في كتابات المفكرين السياسيين المسلمين أمثال أبي يعلي والماوردي. وسوف يزداد هذا المفهوم وضوحا إذا جرى بحثه من خلال دراسة المهام الخمس الكبرى للدولة الإسلامية في سياق نظامها الاقتصادي، والتي هي:
( أ ) صيانة القانون وسلامة الأفراد في أنفسهم وممتلكاتهم.
(ب) تطبيق آداب العمل التجاري في الدين الإسلامي.
(جـ) ضمان سير آلية السوق لمنفعة الناس.
(د) توفير رأس مال مادي واجتماعي عام.
(هـ) التكافل الاجتماعي (التأمل الاجتماعي).
( أ ) صيانة القانون والنظام وسلامة الأفراد في أنفسهم وممتلكاتهم
يعترف العالم كله بهذه الوظيفة، ولا حاجة بنا للتأكيد على أهميتها، فدرجة احترام القانون والنظام ومدى حفظ النفس والمال في المجتمع هما العنصران اللذان يحددان سعادة الناس واستقرار اقتصاد الدولة وازدهاره، وفي خطبة الوداع حدد عليه الصلاة والسلام بصورة جامعة مبادئ النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الإسلام بقوله:
– يا أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا وفي مناسبة قبلها قال: كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
وعلى أساس هذين الحديثين أجمع على أن واجب الدولة الإسلامية هو حفظ دماء الناس وأموالهم داخل حدودها بحيث، كما قال صلى الله عليه وسلم، تستطيع المرأة المسلمة أن تسافر من الحيرة إلى الكعبة وهي مطمئنة لا تخشى إلا الله.
(ب) الدولة وآداب العمل التجاري
يعلق الإسلام أهمية كبيرة على القيم الأخلاقية، ولذلك لا تستطيع الدولة الإسلامية أن تقف موقفا سلبيا إزاء مجريات الآداب فيها. وقد أكد علماء الأمة الإسلامية ومفكريوها السياسيون على ضرورة تطبيق قانون الأخلاق، والتطبيق لا يعني أن الدولة الإسلامية هي دولة شرطة يقسر الناس فيها على السير في مسالك معينة. ذلك أن النظم كلها فيها شيء من تشريب المبادئ والنظام الإسلامي ليس استثناء. غير أنه يربا بنفسه عن التطرف في إخضاع الفكر والعمل لقوالب محددة. فهو يعطي قيمة كبيرة لحرية الفرد، ويشدد على التعليم، وعلى إيجاد الظروف التي تؤدي إلى تطبيق آداب الدين التي يشاد عليها صرح الاقتصاد في الإسلام.
ولكي تصل الدولة إلى هذه الغاية عليها أن تناضل في ثلاث جهات.
الأولى: تعزيز الظروف التي من شأنها أن توجد البيت الذي ينشئ الجيل الصاعد نشأة أخلاقية. لقد رسم الدين مخططا عاما لبث روح المحبة والود والتضامن والتعاون بين أفراد الأسرة الواحدة. وهذه الأمور ستتخلق بدورها البيئة الملائمة للنشأة السليمة.
الثانية: صيغ النظام التربوي بصبغة إسلامية ليخرج إلى الحياة شباب يعي المثل العليا في الإسلام.
الثالثة: تقنين القواعد والقيم الإسلامية التي يمكن تنفيذها تنفيذا شرعيا والتي تحوي من النصوص الجزئية ما يكفل ردع من تسول له نفسه مخالفتها.
(جـ) الدولة والاقتصاد:
ما لم تلعب الحكومة دورا هاما فإن العديد من الأهداف الاقتصادية كالاستقرار، وتصاعد النمو، والتوزيع العادل للدخول والثروات، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، سوف يعسر تحقيقه بواسطة عمليات السوق بمفردها. ولهذا يجب على الدولة أن تعمل على تنظيم الأسعار حينما تدعو الحاجة، وأن تقوم بدور هام تحقيقا لأهداف النظام الإسلامي. ومن الخطأ الافتراض أن حرية الأفراد تتناسب عكسيا مع ضخامة الدور الذي تلعبه الحكومة في الحياة الاقتصادية. وللتأكد من أن الدولة في حماية الحرية كقوة موازنة، وفي التربية الأخلاقية وفي رفاهة الفرد والمجتمع، وفي الدرجة والأسلوب اللذين تنهض بهما الدولة في تحمل مسؤولياتها. وإذا كبرت هذه المسؤولية فلا يعني بالضرورة أن الدولة أصبحت دولة استبدادية. إن الدولة تصبح كذلك إذا لم ترتكز سلطاتها على أساس أخلاقي ولم تخضع للضوابط التي رسمها الدين لصيانة الحرية الشخصية.
والسؤال الذي يبرز هنا هو: ما هو مقدرا التنظيم أو المراقبة الذي يمكن للدولة أن تمارسه أو يجب أن تمارسه، وما هو الدور الذي ينبغي أن تقوم به في الاقتصاد؟ الجواب الواضح هو المقدار الذي يكفي لتحقيق أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي مثل توفر العمل للجميع، والاستقرار الاقتصادي، ومعدل مناسب في النمو، والأكثر أهمية عدالة اجتماعية واقتصادية وإنصاف في توزيع الدخول والثروات، مع عدم الإخلال بحرية الفرد بطبيعة الحال. والاعتبار الهام هو احتواء مصلحة الفرد الشخصية داخل ضوابط أخلاقية تفاديا لاستغلاله للمجتمع لإشباع رغباته، ومنع المجتمع من استغلال الفرد بطمس حقوقه الطبيعية أو حرمانه من جني ثمار قدرته وعمله الشرعيين. وذلك ليكون منسجما مع ما قاله النبي الكريم: “لا ضرر ولا ضرار” والضرر خلاف النفع، والضرار بين الاثنين، المعنى ليس لأحد أن يضر صاحبه بوجه، ولا لاثنين أن يضر كل منهما بصاحبه ظنا أنه من باب التبادل فلا أثم فيه.
ولإعطاء فكرة عن هذا المبدأ الذي نحن بصدده سندرس فيما يلي قضايا معينة هي: الأسعار والمراقبة والمصادرة وفرض الضرائب والتأميم والتخطيط.
وفي الأحوال العادية لم يشجع رسول الله المراقبة. حدث ذات مرة أن ارتفعت أسعار الحاجيات:
روى أنس ابن مالك رضي الله عنه قال:
غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله، قد غلا السعر، فسعرنا. فقال “إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، إني لأرجو أن ألقي ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال.
على أنه ينبغي لهذا أن يحجب عن ناظرينا تعاليم الإسلام في العدالة الاجتماعية والاقتصادية، هذه التعاليم التي تصدق على المستهلك كما تصدق على العارض. وهي نفسها تدعو إلى تقييد الأسعار إذا كان الغلاء ناشئا عن نقص مصطنع وليس عن ظروف طبيعية. وقال الفقهاء إنه إذا كان ارتفاع الأسعار بسب الاحتكار أو التكديس فإن على الدولة أن تتدخل إما بتحديدها أو بالطلب إلى خازن السلع ليطرح ما عنده للبيع، أو بالطلب إلى المحتكر أن يزيد إنتاج كي تزول علة ارتفاع السعر وبالتالي يرتفع الحيف الذي لحق بالناس. وفي هذا الشأن أدلى الفقيه الحنفي برهان الدين المرغياني بمبدأ في كتابه الهداية فقال:
وقال أبو حنيفة “ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس”… لأن الثمن حق العاقد، فإليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة على ما تبين، وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر يأمر المتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك، وينهاه عن الاحتكار، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له، ودفعا للضرر عن الناس، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة.
إن غاية هذا البحث هي بيان أن التسعير لا يطبق في الظروف العادية. لكن إذا استلزم الأمر اللجوء إليه رعاية لمصالح الناس وضمانا للعدالة الاجتماعية فإن اتخاذ جانب الحذر فيه مطلوب مع عدم الإخلال بقانون العرض والطلب. وعدم تشجيع تدخل الدولة في الأسعار في الظروف العادية لا يعني أنه لا يحق لها أن تفرض قيودا غيرها إذا استدعت “المصلحة العامة” و”العدالة الاجتماعية” التدخل. فقد يكون من المستحسن جدا على سبيل المثال أن تفرض الحكومة قيودا على جودة المنتجات المعروضة حماية للمستهلك، وعلى الدعاية والإعلان توفيرا لأكبر قدر من الأمانة، وعلى حسابات الشركات العامة صيانة لمصلحة المستثمرين. والحكومة التي لا تتخذ هذه الإجراءات تعتبر مقصرة في واجباتها، ولعل أظهر مثال نضربه على هذا البحث الحادثة التالية التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
– مر رسول صلى الله عليه وسلم في السوق على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى تراه الناس؟ من غشنا ليس منا.
وعلى غرار هذا يحق للدولة حماية لمصلحة الطبقة العاملة ومنع استغلال اليد العاملة أن تتدخل لتأمين حد أدنى من الأجور ومن ظروف العمل المناسبة، وللإقلال ما أمكن من مخاطر العمل. وقد تستدعي الضرورة أيضا أن تحد الدولة من ملكية الأراضي أو من حيازة أسهم الشركات المساهمة لتوسيع الدخول والثروات،ولرفع الظلم الاجتماعي والاقتصادي، لا يجوز للدولة أن تتدخل فقط، بل وأن تلجأ للقوة أيضا. وهذا هو الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه يعلن سياسته في خطابه الذي وجهه إلى المسلمين إبان انتخابه:
– أيها الناس إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأسلوب الصريح:
– ولست أدع أحدا يظلم أحدا ولا يعتدي عليه حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق.
هذا عن الأسعار والتسعير. فماذا عن مصادرة الممتلكات العائدة لأفراد أو لشركات. هل تتمتع الدولة الإسلامية بصلاحية المصادرة؟ إن الإجابة اعتمادا على ما ورد في القرآن والسنة من أحكام ستكون حتما (لا). وقد سبق لنا بحث الموضوع إبان دراستنا للقواعد التي لا تبيح أخذ مال الغير دون رضاه. ويرى الفقهاء أنه ليس للإمام أن يخرج شيئا من يد أحد إلا بحق ثابت معروف ومع ذلك فللدولة حق استملاك بعض الممتلكات الشخصية إذا كان فيه مصلحة عامة شريطة أن تدفع لأصحابها تعويضا عادلا.
وتقييد حرية الدولة في المصادرة لا يعني تقييد حريتها بفرض الضرائب. لقد ذكر القرآن والسنة ضرائب تجبى لأغراض معينة لا سيما أغراض التأمين الاجتماي. لكن الأمر لا يقف عند هذه الضرائب بل يتجاوزها إلى ضرائب أخرى يحق للدولة أن تجبيها عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في أموالكم حقا سوى الزكاة) وحق الدولة الإسلامية هذا يؤديه المبدأ المعترف به والذي سبق ذكره وهو: التضحية بالمنفعة الأصغر في سبيل المنفعة الأكبر، ودرء الضرر الأكبر بالضرر الأصغر.
والفقهاء مجموعون على حق الدولة بفرض ضرائب للمصلحة العامة على أن تكون عادلة غير مرهقة. ورأى أبو الحسن على المرغيناني أنه إذا لم تكن الموارد كافية فعلى الدولة أن تزيد من جباية الأموال لتفي بها متطلبات المصلحة العامة لأن زيادة منفعة الناس تزيد من تحملهم للأعباء. ويقول أبو يوسف إنما أمر الله عز وجل أن يؤخذ منهم العفو (أي التيسير) وليس يحل أن يكلفوا فوق طاقتهم. وفي جميع الحالات فإن النظام الضرائبي المقبول هو النظام العادل اللين لأنه ينسجم مع روح الإسلام، وإن النظام المرفوض هو النظام التعسفي الشديد الوطأة على الناس. وكثيرا ما أكد الخلفاء الراشدون، عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز – رضوان الله عليهم – على وجوب اتباع العدل في جباية الأموال، وعلى الرفق بالناس، وعلى عدم حرمانهم من حاجاتهم الأساسية. وكان أبو يوسف محقا في تنبئه عندما قال ما معناه أن النظام الضريبي العادل هو الذي يزيد من واردات الدولة. ومن تطور البلاد وقد أكد الماوردي أن الزيادة ظلم في حقوق الرعية والنقصان ظلم في حقوق بيت المال ويعكس ابن خلدون هذا الاتجاه الفكري في العدل في تعميم العبء الضريبي فيما أورده من كتاب طاهر ابن الحسين إلى ابنه:
– فوزعه (الخراج) بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم ولا تدفعن شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك. ولا تأخذن منه فوق الاحتمال.
وبالنظر لأهداف العدالة والإنصاف في توزيع الدخول فإن نظام الضرائب التصاعدية هو على ما يبدو النظام الذي يتماشى تماما وأهداف الإسلام.
وفي مجال الضرائب خلاف الزكاة وغيرها مما فرض في القرآن والسنة النبوية، ينبغي لنا أن نؤكد أن ما في بحوث العلماء التي لها صلة بالوقت الحاضر هو المبدأ المتعلق بحق الدولة الإسلامية في فرض الضرائب فرضا عادلا. ومن غمط الحق الظن أن ما ذكر في القرآن والسنة هي وحدها الضرائب التي يجوز جبايتها. لقد تغيرت الظروف والأحوال وصار الوضع يستدعي وضع نظام ضرائبي ينسجم وأهداف الدين ويعطي من العائدات ما يؤهل الدولة الحديثة للنهوض بمسؤولياتها كدولة رخاء.
وفيما يخص التأميم. هل من صلاحية الدولة الإسلامية أن تقدم على هذا الإجراء فتؤمم بعض وسائل الإنتاج؟ الجواب: نعم، إذا استدعت المصلحة العامة ذلك. وفي كتب الفقه بحث يبين متى يكون بعض وسائل الإنتاج قطاعا خاصا ومتى لا يكون. وخير مثال نضربه بهذا الصدد واقعة ملح مأرب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم بالذات طرفا فيها. وهي كما يلي:
“إن ابيض بن حمال استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملح مأرب فأقطعه. فقال الأقرع بن حابس التميمي: يا رسول الله إني وردت هذا الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس فيها غيره، من ورده أخذ وهو مثل ماء العد بالأرض فاستقال ألأبيض في قطيعة الملح. فقال قد أقلتك على أن تجعله مني صدقة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو منك صدقة. وهو مثل ماء العد من ورده أخذه.
وقد خلق الفقهاء من هذه الواقعة إلى أن الموارد السهلة الاستثمار (المعادن الظاهرة) يجب أن تكون قطاعا عاما إذا تضررت المصلحة العامة من وجودها كملكية خاصة. وخلاف هذه الواقعة لم يرد في كتب الفقه بحوث تتناسب والأوضاع الراهنة من حيث تخصيص الموارد الاقتصادية بين النشاط الإنتاجي العام والنشاط الإنتاجي العام والنشاط الإنتاجي الخاص. وهذا ليس غير طبيعي. إذ من غير المعقول أن نتوقع العثور على بحث حول قضايا لم تظهر إلى الوجود إلا منذ عهد قريب. وعلى كل، إن البت في قضايا كهذه إنما يتم في ضوء الأهداف الإسلامية ومبادئ الشريعة. لكننا نود أن نورد فيما يلي بضعة مبادئ عامة في تخصيص الموارد بين القطاعين العام والخاص.
أولا: تدعو الحاجة إلى القطاع الحكومي في الخدمات التي لا يقدر على تأمينها على الوجه الأكمل سوى الحكومة.
ثانيا: تدعو الحاجة إلى القطاع الحكومي في المشاريع الضرورية ذات الفوائد الاجتماعية الكثيرة لكنها لا تثير اهتمام القطاع الخاص لقلة مردودها المالي أو لكثرة مخاطرها. بالعكس، فحسب الرأي الذي تستند إليه الملكية العامة للمعادن الظاهرة يجوز للحكومة أن تؤمم مصادر الإنتاج (لا سيما المناجم) التي تكون فيها مخاطر الإنتاج وتكاليفه قليلة جدا وبالتالي يكون معدل مردودها المالي أكثر بكثير من المعدل السائد. ومع ذلك يجوز استملاك المعادن الظاهرة من قبل ملكيات خاصة شريطة أن تدفع من الرسوم ما يضمن تحويل القسم الأكبر من الأرباح “الفائض” إلى خزانة الدولة لتنفق في أشغال ذات نفع عام. كما يجوز فرض الرسوم على المناجم الصعبة الاستثمار (المعادن الباطنة) لكنها ستكون بطبيعة الحال رسوم منخفضة نسبيا.
ثالثا: تدعو الحاجة إلى القطاع الحكومي في الأعمال التي تكون نتائجها فيما لو إديرت بواسطة القطاع الخاص – مع أنها يمكن أن تدار به – أقل قبولا وإرضاء من ناحية المساواة والرفاه الاجتماعي.
وعلى أي حال، فإن حجم القطاع العم يتحدد بأهداف العدالة والرفاهية الاجتماعية بالموازنة مع هدف الحرية الفردية.
بعد أن تكلمنا عن القطاعين العام والخاص في الدولة الإسلامية آن لنا أن نعرف، ولو معرفة يسيرة، عن وضع التخطيط فيها.
إن التخطيط إذا أريد به صب الاقتصاد في قوالب معينة وتدخل الحكومة تدخلا لا أخلاقيا فيه فأمر لا مجال للتفكير فيه في هذه الدولة. لكن بما أن الدين يشجع على رعاية الشؤون الاقتصادية، فإن الدولة إذا بادرت بتوجيه الموارد النادر توجيها واعيا – بواسطة التخطيط – لتسير في اتجاهات أكثر ملاءمة وفق نظام الافضليات كي تتمكن من الوفاء بأهدافها، فإن مبادرتها هذه تعتبر جائزة فحسب، بل ومستحسنة وضرورية أيضا.
(د) الدولة ورأس المال العام
يحتاج نماء الاقتصاد وتكوين مجتمع صحي سليم إلى أرضية معينة يعتبر وجودها ضرورة مطلقة. وتتخذ هذه الأرضية طابع رأس مال عام: مادي واجتماعي.
ورأس المال هذا يطور الاقتصاد كما يطوره رأس المال العادي. بيد أن من المشاهد إحجام القطاع الخاص عن الاستفادة منه، لسببين: ضآلة عائده المادي المباشر، وكبر حجم المطلوب منه، وهو حجم يفوق عادة قدراتهم المالية.
لكن نظرا لكون الفوائد التي يجنيها المجتمع أكثر بكثير من الفوائد التي يحصل عليها بعض الأفراد فإن الاستثمار في رأس المال هذا يجب أن يأتي في مقدمة خطط التنمية في الدولة الإسلامية وفي أي اقتصاد متطور. ووقفة عند الفقه الإسلامي توضح ما نرمي إليه.
يأمر القرآن الكريم المسلمين أن يعدوا ما يستطيعون من قوة. والقوة هنا لا تؤخذ بمعناه العسكري فحسب. بل تعني أيضا القوة الاقتصادية التي تستمد منها القوة العسكرية كيانها. ومن النواحي الجوهرية في القوة الاقتصادية ناحية إعداد قاعدة أساسية بتحسين الطرق ومدها، وبناء الجسور والسدود وتسهيلات الري، وغيرها من الخدمات التي تؤمن الاقتصاديات الخارجية لمختلف قطاعات القوام الاقتصادي. ومن الجلي أن دور الدولة في هذا المضمار دور ذو أهمية أولية في التيسير على الناس. فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره يقول له: بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا.
ولهذا حظيت برامج الأشغال العامة باهتمام كبير في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشقت الطرق، وأنشئت القنوات، وحفرت الآبار مما يسر على الناس حصولهم على الماء. وقال الماوردي عمارة البلدان باعتماد مصالحها وتهذيب سلبها ومسالكها… بإصلاح شربهم وبناء سورهم وبمعونة بني السبيل في الاختيار لهم.
وأشار أبو يوسف في كتابه إلى هارون الرشيد أن بناء قنوات للري يزيد من المحصول وبالتالي يزيد من الخراج وعلى الدولة أن تسير قدما في بنائها مستعينة بأموال الخزانة العامة. وقال السرخسي في كتابه المبسوط – في الفقه الحنفي: أنه يتعين على الدولة أن تستعمل الأموال العامة لبناء الجسور والخانات والقنوات وصيانتها. وأكد المرغيناني في كتابه (الهداية) أن على الدولة أن تنفق ما يرد إليها من مال عام في ما يوفر الرخاء للناس كالدفاع عن الحدود وبناء الجسور ودفع رواتب حسنة للقضاء والولاة والعلماء والمدرسين، وتخصيص معاشات أو منح دراسية لأولاد الجنود.
قال أبو حنيفة (رحمه الله):
وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية يصرف في مصالح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطر والجسور ويعطي قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم ويدفع منه أرزاق المقاتلة وراريهم لأنه مال بيت المال.
وتأمين رأس المال الاجتماعي (تربية وتعليم، صحة عامة.. الخ) ليس موضوع نقاش في مهام الدولة. فالتعليم مهمة واضحة وسبق لنا البحث فيها، والإنفاق عليه ضروري وفق الحديث الشريف: طلب العلم فريضة على كل مسلم. وثمة سوابق تدل على هذا أيام الخليفة عمر وغيره من الخلفاء حيث كانوا يوفدون الكثير من الوعاظ إلى مختلف الأمصار لتعليم الناس.
والجهود التي تبذل في التربية والتعليم يجب أن تتعدى مجرد تعليم القراءة والكتابة ذلك أن محو الأمية ليس إلا وسيلة للوصول إلى الثقافة الحقيقية. وغاية التربية في المجتمع المسلم هي تكوين الإنسان المسلم المثالي الذي جاء وصفه في القرآن والسنة، وتعميم التغيير الاجتماعي لتكوين البيئة الإسلامية، وتدريب الناس على مختلف المهارات، حفزا لهم على البحث العلمي وعلى التقنيات الجديدة للإنتاج والتوزيع لتسريع النمو الاقتصادي. ولعل هذا الغرض التربوي الواسع هو الذي أكده صلى الله عليه وسلم عندما قال:
– من ظن أن للعلم غاية، فقد بخسه حقه ووضعه في غير منزلته التي وضعه الله بها.
وإذا كان التعليم يشكل ميدانا من ميادين رأس المال الاجتماعي الذي يتوجب على الدولى أن تتخذ فيه خطوات إيجابية، فثمة ميدان آخر لا يقل عنه أهمية هو ميدان الصحة العامة. وقد بين عليه الصلاة والسلام أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وأن “الطهور شطر الإيمان” ويتبين من هذين الحديثين أن توفير التسهيلات الصحية التي تعمل على منع انتشار الأمراض وعلى تحسين صحة الناس وفعاليتهم، كلها أمور تقع مسؤوليتها على عاتق المسلمين فرادى وجماعات. وقد يحبذ البعض أيضا تأمين المحيط الصحي بإزالة المياه الراكدة الآسنة، وجلب المياه النقية، وعمل المجاري وتنظيف الأحياء الفقيرة، وتهيئة المساكن الحسنة.
(هـ) الدولة والتأمين الاجتماعي:
لما كان النظام الاقتصادي في الإسلام يسعى في أحد أهدافه إلى توفير مستوى معاشي لائق، وعدالة في توزيع الدخول، فإن على الدولة إذن وبالإضافة إلى توفير فرص التدريب وشروط العمل للجميع، أن تتخذ من الترتيبات ما يساعد العاطلين عن العمل والمحتاجين والأيتام والأرامل والمسنين والمعوقين وكل من لا تكفيه موراده أو قدراته على سد حاجته بنفسه. ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا الشأن تبين كفالة الدولة لأمثال هؤلاء، فقال عن الحاكم الذي لا يسهر على مصالح الناس ذوي الحاجة:
من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وفقره يوم القيامة.
وطمأن من يخشى إن ترك ذرية ضعافا عند وفاته:
من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلى الله ورسوله.
وكفل من لا معيل له: “فالسلطان ولي من لا ولي له”.
وقد فسرت هذه الأحاديث، وغيرها مما في نصها، على أنها إرساء لحجر الاساس لصرح التأمين الاجتماعي في الإسلام. وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يعلن في إحدى خطبه:
إني حريص على ألا ادع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض.
ومن خطبة عمر في الولاة:
ألا وإني لم ابعثكم أمراء ولا جبارين ولكن بعثتكم أئمة الهدى يهتدي بكم، فأدروا على المسلمين حقوقهم، ولا تضربوهم فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم، ولا تجهلوا عليهم، وقاتلوا بهم الكفار طاقتهم، فإذا رأيتهم بهم كلالة فكفوا عن ذلك، فإن لك أبلغ في جهاد عدوكم، أيها الناس. وقال الخليفة التقي الورع عمر بن عبد العزيز:
وما أحد منكم تبلغني حاجته إلا حرصت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه ورأى النووي المحدث المشهور أن واجب الجماعة المسلمة أن تطعم جائعها وتكسو عاريها. ويشدد ابن خلدون في مقدمته على واجب الدولة في بذل المال على التأمين الاجتماعي مسترشدا بما كتبه طاهر بن الحسين إلى ابنه:
وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم وأجعل لم أرزاقا من بيت المال… وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقواما يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم واسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى إسراف في بيت المال.
لكن، ما هي الحاجات التي يجب سدادها وإلى أي مدى ينبغي تعهدها؟ لقد شغل هذا الموضوع جزءا ليس باليسير من كتب الفقه. قال الماوردي:
واختلف الفقهاء إذا تقدر رزقه بالكفاية هي يجوز أن يزاد عليها؟ فمن الشافعي من زيادته على كفايته وإن اتسع المال لأن أموال بيت المال لا توضع إلا في الحقوق اللازمة، وجوز أبو حنيفة زيادته على الكفاية إذا اتسع المال لها.
وتباين الرأيين يدل على أن الحصول على جواب محدد قاطع غير ممكن، لأن ظروف الدولة الإسلامية هي التي تقرر أي الرأيين أو الآراء يتبع. فالغداء والكساء والطبابة والتعليم هي الحاجات الأساسية للفرد. بيد أنه لا يستبعد أن لا تكفي الموارد رغم ما لدي الدولة من رغبة شديدة للوفاء بها. لذلك يتوجب عليها أن تضع برنامجا بالأفضليات التي تتيحها مواردها بالنسبة للأفراد المعوزين وحاجاتهم.
ونجمل فنقول: إن الدولة الإسلامية هي دولة رخاء ديمقراطي قائم على أساس أخلاقي. وهي ليست ليبرالية إلى الحد الذي تقف عنده غير آبهة برفاه شعبها الخلقي والمادي، ولا هي بالاستبدادية. فمجال نشاطها محدد بأهداف النظام الإسلامي التي هي: سيادة القيم الأخلاقية، الرخاء الاقتصادي، العدالة الاجتماعية والاقتصادية، التوزيع المقسط للدخول والثروات، حرية الفرد في إطار الرفاه الاجتماعي. ولتؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل عليها أن تتقيد بآداب الدين، وتطبيق هذه الآداب واجبها المقدس. وأسلوبها فيه هو القول الحسن مصداق قوله تعالى: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.
والامتثال الصارم لمكارم الأخلاق، والتقيد بأحكام العدل، والسعي الحثيث في سبيل الرخاء الاجتماعي والتوزيع العادل للدخل، هي السمات التي تتميز بها الدولة الإسلامية عما عداها من الدول الاشتراكية والرأسمالية.
خاتمة
للإسلام نظام اقتصادي متميز، يعتمد على قيمة ويهتدي بأهدافه. والإسلام يؤكد على أهمية الإنماء الاقتصادي، ويهيب بالمسلمين أن يقيموا جهودهم على أساس أخلاقي.
واستناد النظام الإسلامي على القيم الروحية هو أول بون شاسع يفرق الإسلام عن الرأسمالية والاشتركية. إن الرأسمالية والاشتراكية نظامان اقتصاديان لكنهما إما أن يكونا علمانيين أو غير متصفين بصفة أخلاقية.
يبث الإسلام روح الأخوة ويؤيدها بالمساواة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية حيث ينظر إليهما كجزئين غير منفصلين عن تعاليمه الخلقية. وهذه الروح الأخوية المدعومة بالمساواة والعدالة هي سمة فريدة من السمات والتي يتحلى بها النظم الإسلامي، ولا تضاهيه بها أية عقدية من العقائد التي تفتقر إلى معايير أخلاقية موضوعية.
تزداد قواعد الأخوة والعدالة صلابة بما يعيره الإسلام من الاهتمام الشديد بالقسط في توزيع الدخول والثروات، إلى الحد الذي صبح عنده المجتمع المسلم غير أهل لأن يكون مجتمعا مسلما إذا لم يكفل لموطنيه مستوى من المعيشة في حده الأدنى على الأقل.
يتعهد النظام الإسلامي الحرية الشخصية، بيد أنه في الوقت نفسه يقيد بضوابط أدبية ضمن إطار الرفاهية الاجتماعية.
يلتزم الإسلام بالقيم الأخلاقية، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، والتوزيع المقسط للدخول والثروات، والحرية الشخصية في نطاقها الأخلاقي الاجتماعي. وهو بذلك يتميز بجلاء عن الرأسمالية والاشتراكية.
تلتزم الرأسمالية بالحرية الشخصية، لكنه التزام ليس في إطار أخلاقي اجتماعي كالتزام الإسلام بها. والاشتراكية، إنها تهدف إلى تحقيق عدالة اقتصادية وإنصاف في توزيع الدخول، إلا أه هدف خلو من المعايير النزيهة التي يضمنها الإسلام لهذه المفاهيم.
نلمس من ذلك كله أن تأكيد الإسلام والرأسمالية على الحرية الشخصية لا يقارب بينهما، كما أن الاهتمام بالعدالة الاقتصادية والتوزيع المقسط للدخول والثروات لا تجعل من الإسلام والاشتراكية نظامين مترادفين. إن البذور تختلف ولا بد للطلع أن يكون كذلك.
ولنتدبر قوله تعالى:
(اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) (سورة الأعراف: 3).
(ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) (سورة النساء: 125).
(… فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا، والله سريع الحساب) (سورة البقرة: 200 – 202). صدق الله العظيم