عندما نتحدث عن الانتقال من المسلم إلى الإسلامي، فإننا في الواقع نتحدث عن سلسلة من التغييرات الاجتماعية في الحالة الراهنة التي يلعب فيها الإسلام دورا ثانويا في حياة الأفراد والمجتمعات إلى وضع اجتماعي جديد يسود فيه الإسلام. وإننا نعني بالوضع الاجتماعي جميع الأنشطة الإنسانية، وفي الواقع إن
أي مذهب سياسي يراد تطبيقه كبديل للنظام الحالي يكون من المفترض أنه سوف يؤدي إلى تخفيف التوتر بين الحاجات المتصارعة بالفعل، ولكن توجد إمكانية للتوفيق بينها.. إنه ليس من الممكن أن يكون هناك معنى لأي مفهوم إلا بالنظر إليه كعامل من عوامل السلوك. (جورج سابين)، “وما هي النظرية السياسية؟”. جريدة السياسة، (فبراير، 1939، 1- 16).
إن الفكر السياسي يعد بالتأكيد عاملا هاما في التغيير الاجتماعي لأي مجتمع. وهو ليس مجرد نظرية أو تجريد للمنطق الرمزي أو حتى فكر فلسفي مترابط، ولكنه “أيضا يعد بمثابة اعتقاد، وأحداث تؤثر على أذهان الناس وعوامل مؤثرة في سلوكهم. وبالنسبة لذلك الدور الأخير فإن تأثيرها لا ينبع من صحتها ولكنه ينبع من إيمان الناس بها (سابين).
ولقد أكد البروفيسور جورج إ. كانلين ذلك الرأي بالنسبة للفكر السياسي وذلك في مقالته “النظرية السياسية: ما هي” (2 مجلة العلوم السياسة التي تصدر كل فصل، 72 (مارس 1957) 3. وهو يعتبر أن العلوم السياسية “لا تتميز” عن علم الاجتماع بأية ميزة عقلية ذات شأن، ويؤكد أن دراسة علماء الاجتماع “أفعال عشرات الآلاف من الأشخاص وآلاف العلاقات بين الجماعات” تستطيع أن تقدم الأساس لعقد “المقارنات الموثوق بها، وتقدم أفضل الأساليب لملاحظة الأشياء الثابتة طبقا لأرسطو وميكافيلي” (جيمس أ. جود وفنسنت ف. ثيرزبي، الفكر السياسي المعاصر)، (نيويورك: هولت، رينهات وونستون المتحدة 1969، ص 21).
إن ما يميز المبدأ السياسي هو ما يطلق عليه كاتلن “ظاهرة السيطرة في أشكالها الكثيرة، على جميع نواحي المجالات الاجتماعية بأكملها”. (جود وثيرزبي، ص 22). وهكذا فإننا لكي نستطيع دراسة التغيير من المسلم إلى الإسلامي في الميدان السياسي، فإننا يجب أن نضع في اعتبارنا تماما تصارع حاجات الإنسان والخلفية الاجتماعية (الحقيقية والعرضية طبقا لسابين) وتلك الجرعة من النظرية السياسة المطلوبة لإحداث التغيير، أو “الزاد” طبقا لقول العلماء في العصر الحديث.
ويؤمن السيد المودودي بأن أي تغيير يهدف إلى تحقيق الدولة الإسلامية يجب أن يكون تدريجيا، وإلا فإنه سوف يكون مقدرا له الفشل، وهو يؤكد حقيقة أنه ليس من الممكن قيام الدولة الإسلامية لو لم يغير المسلمون عقليتهم ويكيفوا تصرفاتهم حتى تتوافق مع المفهوم الجديد. (نظرية الإسلام وهديه، ص 79 وما يلي). وإنه يوجد الكثير من الجدل بالنسبة لمسألة إذا ما كنا سوف نبدأ بالفرد أو بالدولة، ولكنه ليس من الممكن أن نضع لها إجابة محددة تنطبق على جميع الحالات والمجتمعات. فمن المسلمين فريق غالبيتهم مستعدون للتغير في حين أن الفريق الآخر بعيد تماما عن فهم أساس المبدأ الإسلامي الجديد، هذا بالإضافة إلى تزعزع عقيدتهم وإيمانهم.
وهكذا فإننا يجب أن نتتبع المفهوم السياسي الإسلامي بقسميه: الفلسفي أو التجريدي الذي يشير إلى طبيعة الأشياء السياسية، والنظري أو العلمي الذي يشير إلى صحة أو صلاحية النظام السياسي (قارون ليوستراوس، “ما هي الفلسفة السياسية؟” جريدة السياسة، 19 (أغسطس 1957) (343 – 68).
إن هذين القسمين هما في الحقيقة وجها العملة وإنه يتم معالجة كل منهما بشكل منفرد فقط لأغراض البحث العلمي. ولكننا لا نستطيع في هذا المجال أن نتعمق في تفاصيل كل من القسمين؛ ولذلك فإننا سوف نقتصر على النقاط الرئيسية التي ترتبط ارتباطا مباشرا بموضوعنا.
الإسلام والدولة:
إن الإسلام كنظام شامل للحياة لا يمكن أن يسود لو لم يكن هناك وجود سياسي يكون فيه معظم المواطنين المسلمين مصممين على تطبيق الشريعة أو القوانين الإسلامية. وتأمرنا الكثير من الآيات في القرآن الكريم بأن نمارس الحكم ونصدر الأحكام طبقا للوصايا الإلهية (5: 45، 47، 48، 50، 52، 53 و3: 24). ولقد أمرنا النبي أن نقوم بتعيين قائد (أمير) كلما وجد هناك ثلاثة منا أو أكثر، وأن نقدم الولاء (البيعة) إلى رئيس الأمة. (مشكاة المصابيح، ترجمة جيمس دوبسون (إيران: أشرف لاهور). 2، 780 وما يلي).
وعندما يقر المسلمون بضرورة الالتزام بعقيدتهم الإسلامية ومتطلباتها فإنه يكون حينئذ من الطبيعي إقامة دولة بكل ما يعنيه المفهوم الحديث للكلمة.
إن الإسلام قد وضع مجموعة من القواعد والتنظيمات تشمل الحقوق والالتزامات لكل فرد تجاه الآخر وتجاه الجماعة، وبما أنه فرض العقوبات على كل من ينتهك تلك القوانين، فإنه يكون من الواضح أن ذلك يحتم وجود بنيان سياسي حتى يضع تلك الدساتير موضع التنفيذ، ويقوم بتطبيق قوانينها المختلفة في حياتنا اليومية.
الأفكار الرئيسية:
1 – الفلسفة:
إن لكل نظام سياسي أفكارا أساسية أو فلسفة فيما وراءه. فمثلا تقوم الديمقراطية على أساس منح أقصى الحرية للفرد، مفترضة أن السيادة تكمن في “الشعب ككل” أو في الناس الذين يفوضون السلطة “للحكومة” التي تقوم بحكمهم. وهكذا يستطيع الناس أن يقوموا بسن أو إلغاء أي قانون بصرف النظر عن محاسن أو مساوئ ذلك القانون. إنهم يعتبرون قضاة لأنفسهم، خاضعين لأحكام أنفسهم.
وتتمثل السيادة في الحكومات الاستبدادية في الديكتاتور، أو الديكتاتورية الجماعية، تلك السيادة التي تزعم أن الشعب أو “الحزب” قد منحها للحاكم أو التي يكون قد اغتصبها الديكتاتور. وفي كلتا الحالتين فإن الحاكم يستطيع أن يقوم بتغيير القانون ويستطيع إلغاءه طبقا لمشيئته بدون الرجوع حتى إلى الشعب، وذلك أيضا بصرف النظر عن مساوئ أو محاسن ذلك القانون.
إن الفلسفة السياسية في معظم أنحاء العالم في الوقت الحاضر تقوم على أساس الافتراض النظري المحض:
(أ) إن الحاكم الذي يتم تقليده السلطة يمثل إرادة الأغلبية من المواطنين في دولة معينة.
(ب) إن الدولة ذاتها تكون ذات وحدة قومية يقدم جميع المواطنين الولاء لها وتكون مصالحها فوق كل شيء.
(جـ) إن حكم الأغلبية أو الهيئة الحاكمة يجب أن ينطبق على جميع المواطنين بصرف النظر عن عدالته، وفائدته ومنطقيته.
ومن المهم أن نستطيع حقيقة “السيادة الشعبية” أي إلى أي مدى تتركز السيادة في الشعب، خاصة في أي شكل من أشكال الديكتاتورية الحديثة. وحتى في الديمقراطية، من الجدير بنا أن نستطلع ما إذا كان “الشعب” ككل لديه هدف واضح أو حتى عزم جلي على العمل في نواحٍ معينة، أو إذا ما كان يفتقر إلى الأفكار الإيجابية والأحكام بينما يقوم الساسة “المحترفون” بتقرير ما يقدرونه ملائما له.
إن أهمية تلك المسألة تصبح واضحة عندما نتأمل في “إرادة الحاكم”، آخذين في الاعتبار أنه أيا كانت إرادة الحاكم فإنها سوف تصبح قانونا مفروضا واجب التطبيق. إن التناقض الدقيق في السيادة الشعبية يكمن في حقيقة أن ذلك الافتراض يصور الشعب كأنه يحكم نفسه بنفسه من خلال إرادته المستقلة كمجموعة بينما مثل تلك الإرادة تعد مختلفة ومنعزلة عن إرادة الأفراد.
ويوجد الكثير من الأدب الغربي الذي يتناول هذا الموضوع، ولكنه لا توجد كلمة نهائية محددة بالنسبة للتركز “الحقيقي” للسيادة. ولا يهتم السياسيون كثيرا بتلك المسألة؛ لأنها تمسهم بقوة في حياتهم اليومية. وهم دائما يخاطبون الشعب في الانتخابات كما لو كان الشعب هو صاحب السلطة العليا الحقيقية، وإذا تم انتخابهم في البرلمان فإنهم يوجهون الخطاب إلى زملائهم كما لو كانوا يوجهون الخطاب إلى أصحاب السلطة الحقيقيين، ويخاطب رئيس وزراء إنجلترا كلا من الناس. والبرلمان والملكة كأن كلا منهم هو السيد المطلق، بينما أن السيد المطلق الوحيد هو ذاته.
إن ذلك الالتباس في تركيز السيادة يشمل المفهوم الإسلامي بالرغم من أنه لم يظهر أبدا في الدولة الإسلامية في الماضي. وطبقا لبعض الكتاب فإن الفلسفة السياسية تقوم على أساس اعتبار أن الله هو وحده الكيان المطلق الذي تعد كلمته قانونا يجب أن تقوم الدولة بفرضه. وإن إقامة الدولة الإسلامية، في التطبيق العملي، تتطلب وجود الافتراض المسبق بأن الأغلبية في دولة معينة قد أقاموا عهدا فيما بينهم باعتناق جميع تعاليم الإسلام في جميع نواحي حياتهم. إن الإسلام يعد مذهبا ذا تشعب واسع في النواحي العملية والدنيوية، ولذلك فإن الناس باعتناقهم له يكونون في الواقع قد أقروا أن الله وحده هو الكيان المطلق. ويوجد عدد من النتائج التي تترتب على ذلك المفهوم السياسي وتصل إلى مدى بعيد، وهي:
(أ) الرفض الفوري والحازم للحق المطلق للناس في تقرير الأشياء طبقا لما يعتبرونه ضروريا أو عادلا إلا إذا كان ذلك القرار يتوافق مع أو يقع في نطاق فلسفة التشريع الإسلامي.
(ب) التحقق مما جاء في الوصايا الإلهية مما تضمنه القرآن الكريم والسنة.
(جـ) إسناد الوصايا أو الرعاية أو “الخلافة” للمسلمين لكي يقوموا بوضع تلك الوصايا موضع التنفيذ.********
وهكذا، فإن جميع الأمور مثل تقرير ما هو خطأ أو صواب، وما يجب أن يتم فعله أو تحاشيه، وما يسمح به وما يحرم – وحتى ما يوصى به، وما يعد مكروها، لا تترك كلية – للناس أو لحكوماتهم. وإن “العنصر التقييمي” طبقا لإصلاح (سابين) يكون راسخا في النظام ذاته وليست هناك حاجة إلى صياغته بواسطة أذهان هؤلاء الذين يكونون هم أنفسهم عرضة للتقييم. ويجب أن يتم تقرير جميع تلك المسائل الرئيسية بواسطة القوانين التي هي في الدولة الإسلامية تقوم على أساس عهد (ميثاق) بين العباد وخالقهم، يتعهد المسلمون بمقتضاه بطاعة الإسلام، فإن الشريعة أو فلسفة التشريع تكون هي مجموعة النظم والقوانين التي وضعها الإسلام للإيفاء بذلك الميثاق.
وقبل أن نتقدم أبعد من ذلك، فإنه من الضروري أن نؤكد خطر التحدث عن الدولة الإسلامية بدون إيجاد ذلك المفهوم السياسي الرئيسي والجذري في أذهان القادة وعامة الناس على السواء.
إن موضوعنا في هذا البحث هو الانتقال من المسلم إلى الإسلامي.
إن الفارق بين الكلمتين يعد اعتباطيا تماما، ولكنه ذو فائدة كبيرة. إننا نستطيع أن نزعم أننا مسلمون، ونعني بذلك إيماننا بالله، وبرسوله محمد والذين جاءوا من قبله، وبالقرآن، وباليوم الآخر وبالملائكة وبالغيب. ولكننا لا نستطيع أن ندعي أننا نعيش بأسلوب إسلامي إلا إذا بدأنا في إقامة وجود سياسي يطبق فيه الإسلام في جميع تفاصيل الحياة. إن الإيمان الحقيقي طبقا للقرآن يتطلب الخضوع التام للقوانين الإسلامية. يقول الله تعالى.
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). (4: 65).
ويقول:
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا.) (33: 36).
ويقول:
(من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) (4: 80).
وعن علي روى البخاري ومسلم عن النبي أنه قال: “لا طاعة في معصية”. (مشكاة المصابيح، ص 780).
إن معنى تلك النصوص واضح تماما. إنها تؤكد بوضوح سمو كلمة الله في كل مجتمع إسلامي يرغب في الالتزام بالإسلام والخضوع له. ولكن فيمن حينئذ تكمن السيادة؟
إن دقة الوضع الناتج من أن معظم الناس يرغبون في الحياة بأسلوب إسلامي تكون فيه سيادة الله هي الشيء الواضح، من الممكن أن تكون مصدر إرباك. وقد يتم إبداء الاقتراح بأن السيادة يجب أن تقلد إلى الناس وليس إلى الله حيث إن الناس هم الذين يقررون أي النظم يرغبون في تبنيه. وبذلك يكونون هم السلطة العليا بالرغم من قبولهم الاختياري لله كواضع القانون، والكيان المطلق الأعلى.
أن تلك المناقشة تعد صحيحة جزئيا ومضللة جزئيا:
أولا: إن الله قد خلق الإنسان وليس العكس بالعكس. وهكذا، سواء قبل الناس قوانينه أم رفضوها، فإن ذلك لن يؤثر على منزلته أو حتى بلغي قوانينه، أي أن قوانين الله خالدة وسوف تظل صحيحة سواء قبلها الإنسان أم لا.
ثانيا: أنه يوجد دائما في أي مفهوم سياسي عنصر الإيمان الذي يكون مدمجا في بنيانه ويكون منتظرا من الناس أن يقبلوا جدلا مضمون ذلك الإيمان. وفي الديمقراطية، فإن مفهوم السيادة يرتبط بالشعب من الناحية النظرية بالرغم من أنه ليس الشعب هو الذي يقوم بتشريع القوانين أو فرضها. ويؤمن أفراد الشعب بنظام التمثيل وتفويض السلطة ويقبلون جدلا النتائج المترتبة على ذلك. وإننا في هذه الحالة لا يمكننا القول بأن السلطة التنفيذية تستطيع في الممارسة العملية، أن تستعمل القوة المادية لفرض إرادتها، تاركة الشعب، وهو صاحب السيادة، بدون قوة أو اختيار. وأنه في أي مفهوم سياسي كلما كان الإيمان أكثر رسوخا وعمقا في الذهن، كان النظام أكثر ثباتا وكان الحاكم أكثر استقرارا. وأنه لا يوجد أي نظام أكثر عمقا وصدقا من الإسلام بالنسبة للمؤمن الحقيقي.
ومن الناحية الأخرى، كما يصفها المفكر المسلم المرحوم حسن العشماوي (قلب آخر لأجل الزعيم، ص 129 وما يلي)، فإن السيادة تكمن في الأفراد المسلمين الذين يختارون تكوين دولة إسلامية. وقد عرف العشماوي الدولة الإسلامية كدولة لاهوتية يحكم فيها الحاكم الناس باسم الله ويقوم بتوجيه الأمور كوكيل لله أو كأنه عين بمقتضى أمر ديني، حتى بالرغم من أنه يكون قد انتخب بواسطة الشعب. وإن اعتراضه الرئيسي على مثل تلك الدولة الإسلامية هو ميل الحاكم إلى احتكار تفسير الدين، وفرضه على الناس، – سواء كان ذلك الحاكم فردا أو جماعة ثيقوقراطية – ما قد يراه ملزما أو ملائما. ويوجد للعشماوي رأي هنا. إذا كان الله هو الكيان المطلق، واتخذ الحاكم المنتخب قرارا خاطئا، فمن ذا الذي يستطيع إلغاء ذلك القرار؟ إذا كان الشعب يستطيع ذلك، ويكون هو القوة العليا الذي تكون كلمته بمثابة قانون، حينئذ فإن السيادة الحقيقية تكمن في الشعب.
ومع ذلك، فإننا سوف نواجه نفس الوضع في الدولة الإسلامية لو أننا أرجعنا التعبير العام للسيادة إلى الله واعتبرنا أن الناس بالضرورة هم نوابه، وطبقا لذلك فإنهم من الناحية العملية سوف يكونون هم أصحاب السيادة الحقيقيين، أو أننا قد نستطيع أن ننسب السيادة مباشرة إلى المسلمين الذين يرغبون في العيش طبقا للتعليمات الإسلامية. وفي كلتا الحالتين، فإن المفهوم الإسلامي لم توجد به أية إشارة إلى الحكم الثيوقراطي، بمعنى أنه لا يوجد شيء في الإسلام يعطي الحق المطلق لشخص أو مجموعة من الأشخاص لذاتهم لأن يقوموا بتفسير كلمات الله أو حكم المسلمين ضد إراداتهم الحرة.
2 – المبادئ:
بعد أن شرحنا المبدأ الأول الرئيسي للسيادة فإننا نتساءل ما هي المبادئ السياسية التي تقوم على أساسها الدولة الإسلامية؟
( أ ) فلنبتدئ بالقول، إن مفهوم الدولة في الإسلام يختلف عن المفهوم المعتاد المعاصر. إن التصور العام لذلك المفهوم قد تم اقتباسه من دولة “المدينة” اليونانية القديمة، التي تكون فيها العلاقات الجغرافية والعراقية العامة هي التي تقرر الجنسية واعتبار المرء كمواطن في الدولة. وتقوم الدولة الإسلامية على أساس “الإيمان” فقط، وهكذا فإن أي شخص يؤمن بالإسلام ويكون مستعدا لعقد ميثاق يعيش طبقا لوصاياه، يصبح مواطنا بطريقة أوتوماتيكية بصرف النظر عن جنسيته، ولونه ولغته. وحتى إذا كان هناك شخص غير مسلم يعيش على نفس الأرض واختار أن يلتزم بالقوانين الإسلامية فيما عدا ما يتعلق بوضعه الشخصي وأمور العبادة، فإن ذلك الشخص يكون من حقه أن يعتبر مواطنا في الدولة الإسلامية وأن يتمتع بالحقوق الرئيسية التي يتمتع بها أبناء بلدته المسلمون.
(ب) إنه من المفترض أن يكون كل فرد في الدولة الإسلامية النهائية مدركا للمثل الأعلى الذي يجب أن يتم تحقيقه في الدولة أو من خلالها ولقد ركز الكثيرون من المفكرين السياسيين في الغرب على تلك النقطة الهامة، مثل سترواس، ودافيد إيستون وجورج سابين. ويتدخل هنا عنصر الأخلاق وينضم إلى المفهوم السياسي المحض في أوجه التجريدية والعملية. وقد وصل البروفيسور كاتلين إلى مدى القول أن الفلسفة السياسية تعد “فرعا من علم الأخلاق”، لأن تلك الفلسفة تجيب على أسئلة. مثل “ما هو صالح المجتمع؟” أو “ما هو الصالح القومي؟” وهو يدرك حتى وجود علاقة وثيقة بين الأخلاق وعلم الجمال في السياسة. ويقول “إنه جدير بنا أن نلاحظ كم من صفاتنا الأخلاقية التقييمية هي أيضا جمالية”. (جود وثيرزبي، ص 22).
إن ذلك يعد رأينا كنظرة ملائمة واتجه جديد في الفكر السياسي الحديث وهو جدير بالحصول على اهتمام وتقدير أكبر بالرغم من المعارضة الواضحة التي أبداها بعض قادة المفكرين ضد المضمون الجمالي (قارن سترواس وسابين). وبالرغم من ذلك، لو أننا قمنا بتطبيق “رأي سابين الذي يفيد بأنه لا بد أن يحدث شيء أو أنه هو الشيء السليم والمرغوب فيه أن يحدث”، فإننا حينئذ لا نطبق المنطق الرزين أو المقياس التجريبي، ولا تكون قد أفدنا من تعريف برتداند راسل للشعور الغير قابل للتحليل المنطقي في كتابه “مشاكل الفلسفة” (ص 12). إننا نصدر حكما يقوم على أساس معاييرنا الأخلاقية والجمالية التي إذا تخيلنا عنها سوف يصبح العنصر التقييمي في السياسية مجرد مناقشة متحذلقة.
ولكن من ذا الذي يقرر القيم الأخلاقية والجمالية التي تكمن فيما وراء التقييم السياسي؟ إنه “المجتمع” أو “الأمة” – وإن كلا من الكلمتين في الحقيقة تعنيان الشيء المألوف قبوله من أغلبية الأشخاص في الكيان السياسي الإنساني. إن مثل ذلك المفهوم القياسي سوف يؤدي إلى بعض الإرباك عندما نقوم بإصدار حكم بما “يجب أن يكون” بمقياس ما “هو موجود” أو ما كان “موجودا حتى الآن”. إن القيم الراهنة للأخلاق في المجتمعات الغير مسلمة هي نتاج عوامل متوارثة من الماضي بالإضافة إلى عوامل راهنة سائدة. وإن ذلك المركب من العناصر النفسية والاجتماعية من الممكن أن يضلل المجتمع عند تقييمه لفلسفته السياسية ويجعله يبحث عن الحرية الخاطئة، أو الكيان الغير ملائم للتوجيه أو النظام الغير عادل للحكم. وإذا وضعنا في أذهاننا أن المذهب السياسي هو الاعتقاد في الفكر السارية المفعول أو المحاولة الحقيقية لتطبيق ما يتوق إليه الناس حقيقة، حينئذ نستطيع أن ندرك خطر إصدار الحكم على الفلسفة من خلال القيم الأخلاقية السائدة.
وحينئذ ينشأ السؤال: ما هو المقياس الذي نستطيع أن نطبقه؟ إن مذهبنا الإسلامي يقدم الإجابة الحاسمة: إن المقياس يعد ويجب أن يكون دائما هو الأساس والقياس الوحيد لأي فلسفة سياسية أو أي عقيدة اجتماعية أخرى وقد تتغير تلك العقدية نفسها من وقت لآخر أو من مجتمع لآخر، ولكن المقياس الإسلامي الأخلاقي والجمال الخالد سوف يبقى ثابتا وموحدا.
هل يعتبر المقياس القرآني واضحا في أذهاننا؟ إن الإجابة بالتأكيد سوف تكون بالنفي. ويبدو أن شيوع وتعميم مثل تلك الموضوعات قد كان مسئولا إلى درجة كبيرة عن الاختلافات الواسعة بين المفكرين المسلمين، حتى أنه يكون من الصعب أن نجد مذهبا إسلاميا سياسيا مقررا ومحددا بدقة. إن ذلك الغموض غير مشجع على الإطلاق، لأنه ليس هناك شك في أن الإسلام لا يمكن أن يسود كنظام بدون وجود “دولة”. وعلاوة على ذلك، فإن أية دولة تعد بمثابة كيان سياسي ويجب أن يكون لها مذهب مميز تداوم عليه وتقوم بتطويره. ولكن هل يجب حينئذ أن نقبل إجمالي القوانين والقواعد الإسلامية كمذهب؟ إذا كان المر كذلك. فإننا نكون فقط قد تحاشينا الإجابة على السؤال، لأن مثل تلك القواعد يكون من المقصود بها إدارة العلاقات بين الأفراد في معاملاتهم اليومية، وأيضا العلاقات بين الأفراد والشعب ككل أو الدولة. وبعبارة أخرى، فإن القوانين لا تعبر عن المذهب السياسي لمجتمع معين أو تقوم بتشكيله، ولكنها تشير فقط إلى المبادئ التي تقوم على أساسها العلاقات في مجتمع معين.
ولكن هل نستطيع أن نستخلص من تلك القوانين عناصر أساسية وافية تظهر لنا خلال المذهب السياسي الإسلامي ببعض الدقة؟ أو هل نستطيع أن نستخدم القوانين المقر بها بأسلوب علمي حتى نكون ذلك المذهب ونعلنه عن ثقة كمذهب إسلامي؟ أو هل يجب أن ننسى ذلك المفهوم “النظري” ونكتفي بالمعيشة طبقا لتلك القوانين والنصائح الأخلاقية ويكون عزاؤنا هو أن النظم السياسية الأخرى المعاصرة لا تدين بمذهب مطلق ومحدد، أو على الأقل لا تدين بمذهب ثابت ودائم؟
يجب أن أعترف أن تلك الأسئلة، من بين أسئلة أخرى قد حازت على تفكيري لوقت طويل، ولكنني لم أتوصل إلى إجابة مرضية حتى الآن، ولا تزال تلك المسائل تشكل تحديا لمفكرينا المسلمين. ومع ذلك، فإنني مقتنع تماما أن القرآن والسنة غنيان بما يكفي لتقديم كل من العنصرين الأخلاقي والجمالي الضروريين لأي مذهب قابل للتطبيق وموحد القياس.
(ج) إن حقوق والتزامات المواطنين في الدولة الإسلامية لا تكون نابعة من أو لاحقة بـ “العقد الاجتماعي” أو الإرادة الجماعية للدولة التي تستطيع أن تشرع وتفرض القوانين حتى تقر تلك العلاقات القانونية. وإنه يتم تقرير الحقوق والالتزامات الأساسية في الفكر السياسي الإسلامي بواسطة الشريعة، أو فلسفة التشريع الإسلامية، ولا تكون للدولة أي سلطة أو حق في تغييرها أو إلغائها. وإن ذلك يجعل المفهوم الإسلامي فريدا تماما لأنه يعطي كل فرد حقا متساويا مع الأفراد الآخرين ومع الشعب ككل. إن الحقوق الأساسية للفرد كما أقرتها الشريعة تكون ذات حرمة وتظل فوق أي سلطة عامة، حسنة ضد التغيير والانتهاك. وإن حرمة الحقوق في حد ذاتها هي أقصى ضمان دستوري يستطيع أن يقدمه أي نظام سياسي للفرد، ولكن ماذا يضمن حرمة تلك الحقوق؟ هل يكون من الكافي، في الدولة الإسلامية أ، ينص الدستور على جميع الحقوق الإنسانية كما جاءت في الشريعة؟ وهل تعد تعليمات النبي بعصيان الحاكم الذي ينتهك أوامر الله ضابطا فعالا للشخص أو لمجموعة الأشخاص في السلطة؟ وعلاوة على ذلك، هي قام نظامنا السياسي الإسلامي بإيجاد وسيلة يستطيع الفرد من خلالها أن يميز بين حقوقه وحقوق الجماعة؟ إن تلك الأسئلة تعد أسئلة قانونية نحن في حاجة إلى الإجابة عليها إذا كنا في أي وقت سوف نضع مذهبا سياسيا ونظاما مصاحبا له.
2 – الحقوق والالتزامات:
تتركز الفلسفة السياسية الإسلامية حول الفرد ككيان متكامل مستقل وكعضو في المجتمع، وإنه من الصعب وضع خط فاصل واضح بين الصفتين. إن القوانين الإسلامية المتعلقة بحقوق المواطن تتعامل معه بكل من هاتين الصفتين في وقت واحد بدون طمس شخصيته أو انتهاك مصلحته العامة. إن مصدر المساواة في الحقوق يشتق من جوهر الإيمان بوحدة الخالق الذي تنتمي إليه جميع القوى والثروات. وطبقا لذلك المبدأ، يعهد إلى الإنسان “بالأمانة” أو “الخلافة”، وهي فرض قوانين الله على الأرض. ويعتبر جميع المواطنين مسئولين عن تطبيق القوانين ويكونون خاضعين للالتزامات المقر بها. وحتى إذا كانت “الأمانة” تظهر معنى حرية الاختيار، فإن تلك الحرية تمتد إلى الجميع بدون تحيز أو محاباة، في حين أنها في الحقيقة طبقا للقوانين الإلهية تقتصر على مدى حقوقهم وواجباتهم. وفي الحقيقة فإن مثل تلك الحرية تصبح في النهاية محاولة جادة للتوصل إلى ما يتوق إليه المجتمع كهدفه النهائي وما يأمل في تحقيقه الإنسان من غايات مجيدة وسامية.
ولصياغة الدليل على تلك الحقوق والالتزامات الأساسية، قدم بعض المفكرين السياسيين أمثلة تظهر إيمانهم بشمول الشريعة ووضوحها. ولندرس الآن بعضا من تلك الأفكار.
( أ ) الحكومة:
1 – يقوم النظام الإسلامي بأكمله على أساس الإيمان. إن الفكر هي تطبيق العقيدة وهكذا على المذهب حيا وإيجابيا. ونظرا لأن الناس ككل لا يمكن أن يكونوا المحكومين والحاكم في نفس والوقت، فإنهم يقومون بانتخاب شخص أو أشخاص للقيام بتلك المهمة، أي تطبيق أوامر الله كما أوحيت إلى نبيه. وأيا كان شكل تلك الحكومة، فإنها لن يكون لديها أي سلطة أو حق أبعد من القيام بمهامها الوظيفية كما ذكرناها من قبل. وإذا نشأت الحاجة لإيجاد تشريعات جديدة، فإن السلطة المختصة في الحكومة سوف تقوم بسن القوانين الجديدة الضرورية بشرط أن لا تتعارض تلك القوانين أو تنقض أو تنتهك أو تعدل أو تلغي أي قاعدة أصلية من قواعد الشريعة.
2 – إن أي نظام للحكم في دولة إسلامية يجب أن يقوم على أساس مبدأ “الشورى” أو المشاورات المتبادلة. وقد وجه الله الحديث إلى نبيه كما يلي:
(وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله). (3: 159).
وهو يصف المؤمنين بقوله:
(… والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم…) (42: 38)
وطبقا لذلك، فإنه يكون على أي حاكم أن يلتزم بعدم اتخاذ أي قرار بشكل قاطع أو بطريقة غير متسعة قبل التشاور مع الأشخاص المؤهلين المتعلمين الذين يكونون معنيين لذلك الغرض. وفي الحقيقة، فإنه يكون من المقصود إدارة النظام السياسي بأكمله عن طريق “الشورى” في محاولة للقضاء بقدر الإمكان على نزعة الحكام إلى الفساد والحكم الدكتاتوري.
إن الإسلام لم يزودنا بتفاصيل بالنسبة للنظام الذي يكون من الممكن تطبيق “الشورى” عن طريقه. ولكننا مع ذلك لدينا ما يكفي من الأسباب للإيمان بأنها يجب أن تكون ملزمة للحاكم، حتى إذا لم تكن تلك النقطة موضحة في قرار البيعة. ولكن تلك المناقشة ليست حاسمة، وكثيرا ما نواجه بالرأي الآخر المعتاد: إن الشورى تكون غير ملزمة للحاكم طالما لم يتم تنظيم المسألة، أي طالما أنها لم يقر بها بوضوح في القرآن والسنة.
وإنه ليس من الممكن لأي مفكر سياسي أن يتغاضى عن الشورى عند دراسته للمفهوم السياسي الإسلامي. ومع ذلك فإن صورتها وأسلوب تطبيقها يعتبران موضع جدل والتباس. ولنبتدئ بالقول أنه لا يوجد أي نصح في القرآن أو السنة لتحديد من هم الذين يستطيع الحاكم أخذ مشورتهم، أو ما هو نوع المسائل التي يجب أن يشرع الحاكم في أخذ الشورى بالنسبة لها لقد اعتاد النبي أن يعيش في مجتمع صغير يسود فيه النظام القبلي، ومع ذلك، فإنه أحيانا كان يقصر الشورى أو المشاورات على “وكلائه” الذي قام بتعيينهم، وأحيانا كان يرجع الأمر إلى رؤساء القبائل في المدينة، التي كانت هي بلدته، وفي بعض الحالات كان يلتمس آراء كثير من الأشخاص الذين كنوا يعرفون بذكائهم، لتقديم النصح حول المسألة المتنازع عليها، ولكن بدون الالتزام بتطبيق آرائهم. وفي حالات أخرى، فإنه كان يستدعي “العامة” لتقديم النصح وكان يلتزم بوجهة نظر الأغلبية، حتى لو كان هو شخصيا يختلف معهم في الرأي. وقبل أن نستطيع استخلاص إجابة جازمة بالنسبة لمسألة الشورى الإجبارية، فإننا يجب أن نقوم بدراسة تفصيلية لعدد كبير من الأحداث، وإن الشورى – في رأينا – هي أساس النظام السياسي في الإسلام، وإنه ليس من الممكن تطوير أي مفهوم قبل أن نوضح مضمونها.
إن حياتنا على دستور أو نص قانوني لا يعد كافيا في حد ذاته لتوجيه الحكومة إلى أسلوب للإدارة، خاصة بالنسبة للشئون الاجتماعية والسياسية، فإن الأمور تتطور ويختلف البنيان الاجتماعي للمجتمعات من وقت لآخر، وتبعا لذلك فإن تفسير القوانين في تلك المجتمعات المتطورة يجب أن يختلف، وهكذا، إذا قبلنا الرأي المؤيد للشورى الإجبارية، فإننا يجب أن نقرر مدى ذلك، حتى إذا كان الأمر مذكورا بوضوح في القرآن والسنة.
وإنه من المستحيل في مجتمعاتنا الراهنة أن يتم اعتناق نفس نظام التشاور الذي اتبعه المسلمون الأوائل منذ 1400 عام. إن نظامنا يجب أن يكون أكثر تحديدا، وأكثر تفصيلا وأكثر تعقيدا إلى مدى أبعد بكثير. وإن مجرد عدم وجود نظام محدد للشورى جعل الكثير من المفكرين يعتقدون أن الإسلام قد ترك أساس التنظيم السياسي بأكمله للمسلمين في كل دولة وفي كل وقت ليوجدوه بأنفسهم، ويقوموا بتطبيق وبنائه على أساس الخلاصة العامة للإسلام ومبادئه.
3 – إن المبدأ الثالث، وهو البيعة، ينص على أنه يجب انتخاب رئيس الدولة، ويجب الحصول على تعهد منه بأنه سوف يلتزم بالشريعة الإسلامية. وإذا حدث وانحرف عنها، فإنه يصبح عرضة للعزل من منصبه بواسطة الشعب أو ممثليه. وفي مقابل ذلك، فهو يمنح الميثاق بإطاعته وعدم التمرد ضده. وهو يستطيع أن يطلب الولاء والطاعة طالما أنه يراعي القوانين الإسلامية، وإلا فإن المسلمين لا يكونون ملزمين بطاعته.
4 – إنه يجب الرجوع في جميع الأمور المتعلق بالتشريع إلى هيئة من المواطنين الذين يكونون على قمة المعرفة، ويكون قد تم انتخابهم، إما بشكل مباشر بواسطة الشعب أو بشكل غير مباشر بواسطة هيئات انتخابية متخصصة. وتعرف هذه الجماعات من ذوى العلم باسم “أهل الحل والعقد”، وفي رأينا فإن الحاكم يكون ملزما باستشارتهم في جميع الأمور المتعلق بالتشريع ويكون حكمهم ملزما له. ويكون من المفترض أيضا أن يقوموا بالتعبير عن رأيهم في جميع الأمور السياسية والإدارية ومن الممكن أن يكون لديهم الحق في نقض قرارات الحاكم.
لقد قام القضاة من المسلمين الأوائل بوضع فكرة “أهل الحل والعقد” عن طريق الاستدلال من تطبيق مبدأ “الشورى”. إن المعنى الحرفي لذلك التعبير هو: “هؤلاء المؤهلون للتقرير والإلغاء”. ولكنه لا توجد أقل إشارة في الشريعة بالنسبة لضرورة وجود تلك الهيئة، أو بالنسبة للتأهيل الذي يجب أن يحوز عليه أعضاؤها، أو الاختصاصات والسلطة التي تستطيع أن تمارسها.
إن عدم وجود أي قالب سياسي للحكومة في الإسلام يجعل الإنسان يشك فيما إذا كانت تلك الجماعة من “ذوي العلم” تعد إجبارية أو إذا كانت مجرد مسألة تترك للملائمة. وكما ذكرنا من قبل، فإنه ليس من الممكن أن تكون إجبارية لأنه لا توجد هناك أية وصية تلزم بوجودها. وإذا افترضنا أنه يجب أن توجد كنتيجة منطقية لضرورة عدم انتهاك مبدأ “الشورى”، فما الذي يجبرنا حينئذ على تطبيق ذلك النظام المطلق الغامض بصفة خاصة، أفلا نستطيع أن نتبنى نظاما آخر يتم بمقتضاه انتخاب الأعضاء بواسطة المهنيين والنقابات، أو حتى بواسطة هيئات انتخابية تمثل جميع العامة المصوتين؟ إن تلك تعد أسئلة قانونية يجب الإجابة عليها قبل أن نقرر شرعية فكرة تكوين مثل تلك الهيئة.
5 – إن الهيئة القضائية في الدولة الإسلامية، يكون لها القرار النهائي بالنسبة لدستورية أي قانون شرع حديثا، وبالنسبة لتوافق أفعال الحاكم مع الشريعة.هذا بالإضافة إلى المهام القضائية المعتادة، بما في ذلك المنازعات ضد الهيئة الحاكمة أو الحاكم كرئيس الدولة. وأنه لا تمنح الحصانة لأي شخص سواء أكان من أعضاء الهيئة التشريعية أو التنفيذية. وإنه حتى رئيس الدولة الإسلامية لا يكون فوق القانون ويكون من الممكن مقاضاته بواسطة أي شخص. وهو يكون مسئولا أمام الشعب بالنسبة لجميع أفعاله. ويوجد الكثير من الأمثلة التاريخية التي قام بها الأشخاص بمعارضة الخليفة ومقاضاته.
وبالرغم من ذلك، فإنه لن يكون من العملي في الوقت الحاضر أن نترك مثل تلك المسألة الهامة بدون تحديد. وإن ذلك سوف يقودنا لتحديد دائرة اختصاص السلطة القضائية بالمقارنة مع اختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية وتلك مهمة تصبح دقيقة للغاية في الدولة الإسلامية التي يعتمد فيها التشريع كلية على “الشريعة” الموحاة والمقر بها. ولتصوير تلك الصعوبة، فلنفترض أن السلطة التشريعية قد سنت قانونا جديدا مستخدمة “القياس”، أي أنها قد قامت باشتقاقه من قانون إسلامي مقر به. ولنفرض أن أحد الأشخاص لم يقبل ذلك القياس وذهب إلى المحكمة مطالبا بإلغاء القانون بدعوى عدم تطابقه مع الدستور. ولنذكر أن أعضاء الهيئة التشريعية يعدون أشخاصا من ذوي العلم، أي أنهم متضلعون في فلسفة التشريع الإسلامي وعلى معرفة تامة بها، فلماذا حينئذ تلغي السلطة القضائية تشريعهم؟
إنه في الحقيقة ليس من الممكن تقرير نطاق اختصاصات كل سلطة لو لم يتم تكوين أو إلى أن يتم تكوين البنيان الكامل للدولة وتوضيحه تماما. وفي تلك الحالة بالذات، فإنه إذا كان أعضاء الهيئة التشريعية ضليعين في القانون، ولو أنها تستطيع المطالبة “بمراجعة” أو “إعادة دراسة” قانون معين إذا كان هناك مبرر لذلك. ولكنه إذا كان يتم اختيار أعضاء الهيئة التشريعية على أساس مهني أو حتى سياسي، حينئذ يمكن لنا أن نعهد بأمان إلى الهيئة القضائية بمهمة إصدار الحكم بالنسبة للمطابقة الدستورية. وفي تلك المرحلة، فإنه يكون من الممكن أيضا اعتبار الهيئة التشريعية كمحكمة عليا مثل مجلس اللوردات البريطاني.
(ب) الفرد:
بمقتضى فلسفة التشريع الإسلامي، فإنه يكون لكل مواطن، سواء أكان مسلما أو غير مسلم، الحقوق الأساسية التالية:
البقاء: يجب أن توفر الدولة حدا أدنى لوسائل المعيشة، مثل الطعام، والملبس، والمسكن والتعليم، طالما يكون الشخص غير قادر على كسب قوته أو على العمل.
الحماية: (1) للحياة، (2) والممتلكات، (3) والكرامة.
الحرية: (1) للعقيدة والفكر.
(2) والحركة.
(3) والعمل.
(4) والتجمع.
المساواة: (1) أمام القانون.
(2) وفي الفرص.
(3) وفي الاستفادة من المنشآت العامة.
إن تلك باختصار هي خلاصة المفهوم الإسلامي بالنسبة للشئون السياسية في الدولة. وأود أن أوضح تماما أنه يوجد القليل جدا من الاتفاق على القواعد الأساسية لذلك المفهوم بسبب حقيقة أن الحياة السياسية لأجدادنا كانت غامضة للغاية، حتى إن الإنسان يجد القليل جدا من الأدب الذي له أي دلالة من بين مؤلفات المسلمين الضليعين في القانون. وإنه لا يزال من واجبنا أن نبحث في هذا المجال الهام من الحياة، هذا إذا كنا جادين حقا في إقامة دولة إسلامية. فليعاوننا الله.