{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
شرعة الإسلام
مسلمات:
1 – افترض الداعون إلى هذه الندوة أن العالم الإسلامي اليوم يتعثر في خطوه نحو نهضة جديدة أثر فقدان لحضارته التي تقوضت منذ
أكثر من خمسمائة عام. وأن أهم أسباب تكفئه: هو ذلك التيه الفكري الذي يخيم عليه فهو حيران بين إسلاميته التي يؤمن بصحتها وأحقيتها وصلاحها كأساس لحضارته المستقبلة، وبين المذاهب الفلسفية المادية: رأسمالية واشتراكية، التي تسود العالم كله، بما في ذلك دول المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهذه قضية مسلم بها عند الغالبية من الناس.
2 – المسلمة الثانية هي عدم وضوح “الإسلامية” بالدرجة التي يمكن معها للمسلم أن يجابه المذاهب السائدة، وأن يقرعها بالحجة حتى يظهر عليها. إن أشد المسلمين اقتناعا بإسلاميته ليجد الحرج الشديد حين يضطر إلى مناظرة يطلب فيها منه أن يبين كيف سيحل تطبيق مذهبيته مشاكل الحكم والاجتماع والاقتصاد والقيم الأخلاقية في مجتمع القرن العشرين الذي يتميز بالعلم التجريبي والتجمعات البشرية الهائلة والتقنية الآلية والإنتاج الصناعي المهول، هذا الحرج قائم يحسه العام والخاص من المسلمين.
3 – والثالثة التي لا محيص عنها هي: أنه لن تقوم للمسلمين حضارة ولن يلتئم لهم شمل بل لن يستطيعوا أن يتميزوا في الخلق كجماعة لها رسالتها ما لم تتوحد لديهم فكرة “إسلاميتهم” وتتضح معالمها بحيث تصبح دستور العالم وعقيدته، ويعيش من أجل تحققها ويحس في قرارة نفسه حرارة الإيمان بها والسعادة الغامرة في الجهاد في سبيلها وحتى تصبح تلك الإسلامية المعين الثري الصافي الذي يستقي منه العلماء والمصلحون والمشرعون حين يعالجون جوانب الحياة المختلفة ويرسمون للمجتمع الجديد نظم حياته المعاشية، واعين مشاكل العصر، ومجيبين على ما تطرحه من أسئلة وقضايا مستحدثة.
هذه مسلمات ثلاث. لا أحسبني إلى التدليل عليها، أو تحليل العوامل التي أدت إليها فقد كتب في ذلك الكثير. وكل قول في هذا الموضوع معاد. لذلك أعرض مباشرة مشروع صياغة “الإسلامية” محاولا سد ما يوجد من نقص، وتجلية ما هو شائع من تيه، مستعينا بالله القوي المتين متسعصما، به متوسلا إليه: أن يهديني إلى سبيل قد يوصل من قريب أو بعيد إلى الأمل المنشود.
منهج البحث:
إن المتفحص للبحوث الإسلامية التي كتبت في هذا القرن يجد: أن غالبية الباحثين يتناولون موضوعاتهم منجمة، بمعنى: أن من يكتب في الاقتصاد مثلا يحاول رسم نظام اقتصادي إسلامي قائم بذاته غير منبثق من الفلسفة الإسلامية أو المذهبية الإسلامية الشاملة وسرعان ما يجد أن سبيله في بحثه قد قاده إلى متاهات تؤدي به في النهاية إما إلى تعميم لا يفيد وإما إلى محاولات فاشلة تهدف إلى المواءمة بين أوضاع قائمة مستقرة تحت مذهبيات غير إسلامية وبين مبادئ إسلامية ثابتة بالنص في الكتاب والسنة.
هذا التناول الجزئي المتشعب كان سببا مباشرا في تشتت الأفكار العلمية التي انصبت على دراسة نفس الموضوع، ذلك: أن كل باحث سلك طريقا معينا من خلال خصوص فهمه للإسلامية المحدودة -إن لم تكن المجهلة- فتفرقت بهم السبل ولم يوفقوا إلى وحدة الرأي ولم يجمعوا على حل موحد لما عالجوه من قضايا ومشاكل.
الرأي عندنا: إنه ما دمنا نؤمن بأن الإسلامية فلسفة حياة تفسير الكون ووجوده والإنسان وغايته، وترسم للحياة صورا: إن حققتها فقد حققت الهدف من وجودها واتسقت مع الحكمة من خلقها. ما دمنا نؤمن بهذا فيجب أن نبدأ بتقرير هذه الإسلامية وفهم فلسفتها، ومعرفة مذهبيتها التي تمدنا بالقواعد الأساسية التي تقوم عليها مختلف النظم التي تضبط حياة البشر في هذا الكون. سواء منها ما كان منصبا على علاقة الإنسان بخالقه أم علاقته بمن حوله من الخلق، والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والقيم الجمالية في مجتمع معين إنما تستمد قواعدها الأساسية من المثالية أو المذهبية التي تسود هذا المجتمع وهي في نفس الوقت ترسي من دعائم هذه المثالية حين تطبق في واقع الحياة.
من أجل هذا لا تقبل النظم السياسية أو الاقتصادية الشيوعية في بلاد ديمقراطية رأسمالية ولا العكس.
ومن أجل هذا أيضا: ينبذ الإسلام أي نظام من هذه النظم (مستوردة) من بلاد اتخذت لنفسها عقيدة ومذهبية غير الإسلام.
وليس أخطر على الإسلامية من تطعيمها بنظم نابعة من غيرها من العقائد؛ إذ لن يفيء مثل هذا الخلط إلا السم في الجسد والخسارة في العمل والفساد في الروح.
سنبدأ إذن بتحديد المثالية الإسلامية، وبعني بها: الكلية التي يقول بها الإسلام، والتي تفسر للإنسان هذا الخلق كله، وتحدد دور الإنسان فيه، وتربطه بالقوة الخالقة له، ثم ترسم له الغاية من وجوده والسبل الرئيسية التي سنتها الفطرة للوصول إلى هذه الغاية، وسنطلق عليها لفظ “شرعة” تمييزا لها عما سواها لما اختص به الإسلام من أصالة وانفراد في الجوهر والمظهر.
ونحب أن نشير في مستهل هذا البحث إلى: أن الإسلامية ليست هي المثالية الخيالية أو الطوبائية التي يعرفها دارسو الفلسفة والتي يعيبها بعدها عن واقع الإنسانية وما ركب فيها من غرائز ونزعات وما يعتورها من نقص وقصور. إذ الإسلامية شرعية واقعية أبعد ما تكون عن خيال الشعراء ومن إليهم من الحالمين.
وسنتحدث عن شرعة الإسلام حين نطبقها على واقع الحياة البشرية باعتبارها “مذهبية” تستمد ركائزها من فلسفة المثالية العامة والحق الذي لا مرية فيه أن الإسلام أقرب إلى فكرة “المذهبية” منه إلى المثالية فهو هدي من الخالق سبحانه وتعالى إلى البشر ينير لهم سبل الخير ويرسم لهم قواعد السلوك وقوانين المعاملات، كل ذلك في إطار فلسفته العامة الواضحة. من أجل ذلك: كان من الصعب فصل المثالية عن المذاهبية. اللهم إلا إذا تحرينا التجريد الفلسفي عند الحديث عن المثالية، ولسنا نحسب أن في ذلك أي عناء، فالأحرى إذن أن نعالج “الإسلامية” مثالية ومذهبية كشرعة متكاملة، وأن تصرف النظر عن التقسيم المألوف عند المعاصرين من فلسفة الغرب، فلهم دينهم ولنا دين.
وإذا كان لب المقصود من هذا البحث: إخراج المذهبية الإسلامية بأسلوب العصر، وإذ غلب على الناس في هذا الزمن المنهج التجريبي بشقية الاستقرائي والاستنباطي، وأصبح للمنطق العقلي -بذلك- مركز الصدارة في تقرير ما هو حقيقة في ذاته، لذلك تعمدنا أن نورد سياق المذهبية الإسلامية في شكل علمي، والعلم لدينا: معرفة الحق بدليله، مستعينين بالمدخل التجريبي والاستخلاص المنطقي لإقامة الدليل على الحق الذي هو لدينا كمال الإسلام كشرعة تفسر معالم الكون تؤدي دون سواها إلى تحقيق الغاية من حياة الإنسان ووجود الكون كله على مر العصور.
وليس في ذلك حرج:
إذ ليس يخفى أن العلوم الدينية وهي “فقه طريق الآخرة أنما تدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء. والعقل أشرف صفات الإنسان. إذ به تقبل أمانة الله، وبه يتوصل إلى جوار الله سبحانه” على أن هناك فارقا واحدا بين منهجنا والمنهج التجريبي البحث ذلك أننا نؤمن بما لا سبيل إلى نكرانه من: أن الإنسان مادة وروح، وهذان العنصران وإن اتحدا في الإنسان الحي، إلا أنهما مختلفتان تماما في ماهيتهما، ونحن ننكر أن المادة سابقة على الروح ليست إلا نتاج تفاعل لطاقة صادرة عن مادة، فذلك مجرد فرض علمي قال به الماديون لم يرتق بعد إلى مرتبة “النظرية” دع عنك الحقيقة العلمية الثابتة.
والروح لدينا (واعية مدركة)، ولهذا نعتبرها مصدرا من مصادر المعرفة. وإن خفي علينا كنهها وطرائق اكتسابها لهذه المعرفة، وليس في ذلك ما يعيب: إذ إن جهلنا بكيفية عمل العقل -وهو مادي لا يتصور إلا ما كان ماديا- هذا الجهل لا يبرر إلغاء وليس مطعنا في النتائج والمعارف التي يتوصل إليها.
كذلك تعمدنا أن نجتهد في سوق الكليات التي جاءت بها شرعة الإسلام دون أن نورد الآيات والأحاديث التي تستند عليها هذه الكليات مع سهولة هذا التخريج ووضوحه. وإنما دعانا إلى ذلك: تنكر كثير من المسلمين للنصوص الموحى بها بدعوى الاختلاف في التفسير والتأويل أو بدعوى عدم اليقين من صحة السند في الأحاديث الشريفة.
وهذا أمر مؤلم مؤسف، ولكنه واقع مرير. وعسى الله أن يهدي من ضل عن سبيله.
شرعة الإسلام
1 – وحدة الخالق ووحدة المخلوقات:
تقوم شرعة الإسلام على أساس عقدي منطقي ألا وهو (مبدأ توحيد الخالق ووحدة الكائنات). والإسلام في ذلك قد بين العقائد والأديان. إذ لا يكاد المرء يجد بين أحكامه أمرا ينفر منه المنطق السليم أو يجحده العقل المقسط.
هناك وجود تعكسه الحواس، فهو وجود حسي محدود، إذ غير المحدود مطلق والمطلق فوق مرتبة الحواس.
وهنا وجود يدرك بغير الحواس الخمس: إما بآثاره المحسوسة أو بالشعور به. فنحن ندرك وجود الحياة بتتبع الحركة المحسوسة في الكائن الحي. ونحن ندرك الحب والبغض، والسماحة والضن، والكرم والبخل، والخير والشر، وغير ذلك من القيم بشعور غريزي مستتر لا يدرك العقل كنهه، لأن العقل لا يدرك إلا ما تعكسه الحواس الخمس، والحواس لا تدرك القيم المعنوية.
ويدلنا منطق البديهة على: أن الموجود لا بد له من موجد أو خالق، وخالق الموجودات كلها – في دين الله – هو البارئ المصور ذو الأسماء الحسنى، ولا يضيرنا أن يسميه الصائبة ما شاء لهم هواهم أن يسموه: السبب الأول، أو القوة الخالقة، أو الطبيعية، أو غير ذلك.
ويدلنا منطق الاستقراء على: أن الموجودات كلها متصلة منسقة، وأنه يستحيل على موجود أن يستقل بذاته، فوجوده مرهون بوجود غيره، وما اجتمعت جواهر ذرة ولا كتلة جسم ولا كهرب أو نواة لخلية بغيرها إلا وانتظمت هذه التجمعات قوانين فطرية أزلية. عرف الإنسان بعضها عن طريق رسل الخالق إلى خلقه وعن طريق الفطرة والبديهة. وعرف بعضا آخر عن طريق البحث العلمي على مر العصور وما زال أمامه الكثير مما لا يعرف.
ومن هنا استقرت في الشرعة الإسلامية قواعد بديهية:
(أ) فالكون كله مخلوق.
(ب) والكائنات كلها متصلة متسقة، فيها انطلاق واستمرار، ومردها إلى أصل واحد.
(جـ) وانطلاق الكائنات مستمر في اتجاه واحد لا يعرف التضاد ولا الاحتراب، ما تركب قوانين الفطرة تعمل عملها، سواء أكانت هذه الكائنات عضوية أو غير عضوية، بشرية أم فيزيائية، ومنطق البديهة يثبت على خلاف ما استقر في أذهان الناس منذ القدم: إن “فلسفة الأضداد” تصور خاطئ: فليست الأشياء بين حق وباطل، أو بارد وساخن، في شكل مطلب، ولكن هذه الأوصاف نسبية. تلحق بمحل الشيء في ركب نوعه المتسق في اتجاه واحد. فحرارة جسم -مثلا- هي معامل الحركة الذرية من دون الصفر إلى أعلى ما نعرف أو ندرك من درجات الحرارة، أما البرودة والسخونة فهما أمران ينتسبان إلى جسم الإنسان وذلك بالبداهة: أمر عارض.
والحمضي والقلوي ليسا ضدين، ولكنهما معاملان لتركيز حبة الهيدروجين والأسود والأبيض ليسا ضدين ولكنهما انعكاس للضوء الذي هو قطاع للموجات الكهربائية المغناطيسية التي تتأثر بها العين؛ إذ المقرر أن الأجسام كلها، حتى الأسود منها تشع موجات شبه ضوئية، وإن اختلفت ذبذبتها.
والذكاء والغباء ليسا قطبين متعارضين، ولكنهما نقطتان متباعدتان في منحنى الإدراك البشري ومدار القوى الفكرية.
والحب والبغضاء ليسا قطبين متعارضين، ولكنهما نقطتان متباعدتان في منحنى شعور البشري الممتد من دون الحياد السلبي إلى الانفعال الحسي.
وهكذا نجد أن الأجسام حين ينظر إليها بمنظار الفيزياء إنما هي نظام متسق دائب السمت يصف حركة الذرة.
وحين ينظر إليها بمنظار الكيمياء، فهي نظام متسق دائب السمت يصف مركبات هذه الأجسام. كذلك نجد أن الإنسان في تركيبه وتصرفاته حين ينظر إليه بمنظار المعيار الحياتي الفطري فهو نظام متسق دائب السعي نحو الاستكمال البشري، يوصف بما هو عليه في ركب المجتمع الإنساني: بدئا من مدى عزوفه عن القوانين الأزلية وانتهاء بما يصل إليه انصياعا لها.
2 – النسبية الوجودية:
وإجمال القول: إن الشرعة الإسلامية تقوم على حقيقة أزلية لم يلتفت إليها الناس إلا القليل منهم في العصر الحديث ألا وهي (وحدة هذا الكون ووحدة خالقه).
فالكائنات كلها من خلق واحد أحد هو الله سبحانه وتعالى، وهي كلها تسبح بحمده وتسبيحها اتباع لازب دائب لقوانينه الأزلية، إذ كل ما في الوجود يخضع لقوانين تتناول تركيبه الذاتي وعلاقته بغيره من الموجودات، يستوي في ذلك ما على الأرض، وأفلاك السماوات وما فيهن، والإنسان حيثما كان.
ووجود أي جوهر مرهون بوجود الكائنات الأخرى، ولا يوجد “مطلق المنفرد” خلا الله تبارك وتعالى فهو وحده المطلق المنفرد في وجوده وإطلاقه، ولا يتصور وجود كائن –عداه- إلا منتسبا إلى غيره، تلك هي “النسبية الوجودية”.
و”النسبية الوجودية” لكل جوهر كائن تفرض التسبيح في شكل علاقات ثابتة مطردة تنتظم الكائنات جميعا وتوجد بينها نسقا بالغ الدقة باهر النظام، وكل ما يحدث في الكائنات إنما هو نتيجة تفاعل هذه العلاقة المطردة أو القوانين الأزلية، وهو أمر “بقدر” وليس مجرد صدفة بحتة، ولا وليد عمل الطبيعة، إذ ليست الطبيعة إلا مجموعا في الكون من كائنات تخضع للنسبية الوجودية التي فطر الله الكائنات عليها.
وإذا كانت الكائنات من خلق واحد أحد.
وإذ كانت نسبتها الوجودية راجعة إلى قوانينه وقدره.
لذلك فلا معدى من التسليم بوجود وحدة تضم هذا الوجود بأكمله، ما كان ذا طاقة كامنة فيه أو ذا حياة تسري في أجزائه أو روح تتقمص بدنه.
ومقتضى الوحدة الكونية أن يكون الانسجام والاتساق والتضام من صفات القوانين التي تحكم النسبية الوجودية، إذ لو انعدمت هذه الصفات لتنافرت جواهر الكائنات وانشعبت وانفرطت وحدتها.
وهذه الصفات الكونية مدلولها الاتساق بين ذوات الطاقات، والنماء بين ذوات الحياة والخير والحب والسلم بين ذوات الأرواح.
فحين يهطل المطر مدرارا على قمم الجبال فيفتت الصخر منها، وحين ينحدر هذا الصخر يحمله الغيث جارفا ما يعترضه، ثم حين يحفر هذا السيل لنفسه مجرى في الأرض على سفوح الجبال، والوديان، ثم حين يسري الماء هادئا في مجراه على البسيطة ويتخلل تراب الأرض ويتفاعل مع ذراتها فإذا بالحياة تدب على شطآنها. حين يحدث هذا كله إنما يحدث بقدر. وهو توحد بين ذوات الطاقات، وإنما لذوات الحياة وخير وحب وسلام بين ذوات الأرواح. وليس ثورة في الطبيعة كما يصورها الماديون، ومن والاهم من ذوي القلوب المريضة، بل تسبيح لصاحب القدرة، واتساق مع قانون الله الأزلي.
3 – الإنسان والكون:
والإنسان في هذا الكون على أعلى ذروة فيه، فهو وحده الذي أعطى “الأمانة”: العقل المميز والإرادة المتصرفة، وهب الطاقة في تكريمه المادي، والحياة منذ كان نطفة، والروح ساعة أن نفخ الله فيه من روحه. من أجل هذا كرمه الله سبحانه على كثير من خلقه وفضله، واختص بما لم يختص به سواه.
وعماد تكريم ابن آدم حريته في عبوديته: الإنسان عبد الله، كائن مخلوق يخضع في الكثير لما تخضع له باقي الكائنات، يتأثر بها كما يؤثر فيها بحكم النسبية الوجودية، ويتميز عنها بالعقل، حرا في تصوره. (ولا جدوى لتصور لا يخرج في شكل رأي)، ومن هنا أصبحت حرية الرأي في شرعة الإسلام ركنا أساسيا لا غنى عنه.
أما شطرين مرتبط بالعبودية ارتباط لزوك وليس ارتباط إرادة حرة مردها إلى اختياره: إذ سواء آمن الإنسان بخالقه أو جحده، فهو كائن مخلوق يخضع للقوانين الأزلية، فأما إيمانه وأمانته وكرامته فتهديه إلى الاتساق مع هذه القوانين والاستفادة من النسبية الوجودية، وأما كفرانه وجحوده وكنوده فتلك نقائص فيه تخضعه لقانون يعاقب الخارج عن النسق بما يحلق به الضرر والتلف والبوار.
الإنسان في عبوديته يخضع للنسبية الوجودية فيستحيل عليه أن يعيش منفردا بذاته بل لا بد له من مجتمع إنساني وبيئة طبيعية، وهو في مجتمعه وبيئته يخضع للقوانين التي تحكم الموجودات، وهي كما سبق ذكره قوانين تحقق الانسجام والاتساق، والنماء والبقاء، والخير والحب والسلام، وهذه القوانين ذاتها تحكم سلوك الفرد وتصرفاته؛ إذ هي التي تحدد الغرائز فيه، وما الغريزة إلا ذلك التركيب “الشعوري الفيزيائي” الذي يحدد انعكاسات الكائن الحي ويقرر دوافع نشاطه الحسي والعاطفي.
والغاية من خلق الإنسان أن يعبد خالقه. والمقصود بالعبادة هنا تحقيق قوانين الخالق الأزلية والائتلاف مع مجموع هذا الكون الذي يكون الإنسان جزءا منه، وبقدر ما يطبق الإنسان مع القوانين الأزلية بقدر ما يتقرب من خالقه ويستعلي بنفسه ويستكمل من شخصيته، وهذه هي الغاية القصوى من حياة الإنسان في الشرعة الإسلامية. وما الحياة المادية إلا مطية السمو الروحي.
والغرائز في الإنسان على نوعين، وإن صعب الفصل الكلي بينهما: غرائز تنصب على المادة فمنها المتعلق بحفظ النوع (الغريزة الجنسية) وبحفظ الحياة (غريزة الطعام) ويتفرع منها الأمن الحسي (غريزة الدفاع عن النفس)، وبإدراك الذات (غريزة التمايز ويتفرع منها غريزة الملكية).
وبجانب هذه الغرائز توجد غرائز تتعلق بالمعنويات وهي التي يختص الإنسان بها نتيجة ما حمل من أمانة وما تميز به من تكريم، وأهمها غريزة الانتماء، وهي الصورة الإنسانية لقانون النسبة الوجودية، وهي غريزة عميقة بالغة الأثر، فكما يجب أن تظل جواهر الذرة متجمعة مسبحة في دائب حركتها الذرية، كذلك يجب أن يظل الفرد (جوهر المجتمع) مجتمعا مسبحا في فلك مجتمعه، وما الإنسان العليل إلا ذلك الذي يفشل في أن يندمج مع مجتمعه والخطأ في المذهبية المادية راجع إلى اعتبار الإنسان كائنا خلا من الغرائز فهو يعيش بحافز من غرائزه المادية فحسب وهذا عندنا هو سر البلاء الذي تعانيه الشعوب الغربية ومن اتبع مذهبيتها من الشعوب الشرقية.
وهناك غريزة التسامي والبناء وهي التي تحفظ على الإنسان كرامته ومكانته في هذا الوجود، وتعكس القوى التصورية والإرادة فيه، وهي التي تجعله يرنو إلى “تخليد” نفسه، ويجب أن يمتد فرعه من بعده، وأن يطيب ذكره بعد انقضاء أجله.
وإشباع هذه الغريزة الفطرية يؤدي بالإنسان في شرعة الإسلام إلى باب الإيمان، إذ تهديه الفطرة إلى أمرين متداخلين:
الأول: أنه يخضع لسنة الهلاك، أي أنه لن يخلد على هذه الأرض فهو راحل عنها لا محالة يوم يحين أجله، إذ لا يوجد على الأرض من المحسوسات ما لا يهلك، وإن اتخذ الهلاك شكل الاستحالة من جوهر إلى جوهر آخر.
والثاني: أن الموت لا يعني أكثر من خلالك الجسد المحسوس الذي يستحيل إلى غازات وفلزات أولية، أما روحه التي هي من أمر الله فسترد إلى خالقها، وستمتد حياتها إلى ما شاء أمره وأنها في حالها الجديد تخضع للقانون الأزلي الذي يتمثل في الفعل ورد الفعل أو في الثواب والعقاب. وما بعد الموت في الحالين إلا استمرار لما قبله.
وهكذا تطرد حياة الإنسان في حركتها على منحنى الزمن اللانهائي من يوم خلقها إلى يوم بعثها في الأزل المحتوم.
وهناك غريزة الحب وهي التي تنصب على ذاتية الفرد، فتعرفه بذاته وترشده إلى سلك سبيل الانتماء والاتحاد مع غيره.
وأخيرا هناك غريزة الذات وهي التي تجعل الفرد يشعر بأنه هو “هو” أو بعبارة مستحدثة يحس بمعنى “أنا”، أي أنه كائن له إرادة ووعي وتصور، فهو ليس مجرد مخلوق ينساق دون شعور لحكم القانون الأزلي، ولكنه كائن فيه نوع من الاستقلال عن الطبيعة ينعكس في قدرته على تسخيرها والاستفادة منها والانسجام معها والعيش في ظلها.
وهكذا نجد الإسلامية تقرر:
1 – أن الكون كله مخلوق وخالقه واحد أحد.
2 – أن الإنسان يعيش ليعبد الله باتباع ودوام استكشاف قوانينه الأزلية.
3 – أن الإنسان يعمل: تحفزه غرائزه مادية ومعنوية في آن واحد.
4 – أن الإنسان ينشد السعادة ويتوصل إليها بالدأب على العبادة وإشباع الغرائز بشقيها.
5 – أن الإنسان يتمتع بحمل الأمانة وهو حر في عمله.
6 – أن الإنسان حي في دنياه وأخراه وهو مسئول عن عمله.
4 – الإنسان خليفة في الأرض:
إن الحرية التي اختص بها الإنسان جعلته الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يسخر ما حوله من الكائنات لمنفعته ومتاعه، فهو بذلك في مركز الولي على هذه الأرض وما احتوته، المشرف على ما فيها من طاقات وخيرات، لا منازع له ممن عداه.
وسواء أكفر الإنسان بالله أم آمن به، فلا معدى له من الإقرار بأنه مخلوق، وبالرغم من أنه أعلى الكائنات درجة على هذه الأرض، إلا أنه – لحق اليقين – غير قادر على الخلق، وبالتالي فليس الإنسان هو رب الكون وليس مالكه الأصيل، وإنما الأرض والسماوات وما فيهن من خلق “السبب الأول” أو القوة الواحدة الخالقة، أو ما يعبر عنه المسلمون من أتباع الرسل: هن من خلق “الله” تبارك وتعالى.
الإنسان مخلوق، وخلقه من قبل غيره “سبحانه” وليس من ذاته والإنسان موهوب بصفات تسوده على سائر المخلوقات، والهبة من غيره، وليست من صنع يده، بل هي من صنع خالقه (جل جلاله).
ومن هنا وجد العلاقة بين الإنسان وسائر الكائنات وهي علاقة سببية ثابتة الأطراف مطردة الحكم، فيها اللزوم والالتزام.
فيها لزوم: إذ الخالق هو المسبب لهذه العلاقة، وتلك إرادته التي لا بد للإنسان فيها، فهي أمر منه وهي لازمة أو فطرة مقضية.
وفيها التزام: لأن الكائنات كلها – فيها عدا الإنسان – تخضع “تلقائيا” لقوانين تضبط حركتها وطبيعتها وتفاعلاتها ونماءها، وهذا الخضوع التزام لا يقبل النقض ولا يعتوره من ذاته افتئات.
والإنسان مخلوق وهب الأمانة: الوعي والإرادة أو الخيار. ولكن وعيه واختياره ليستا مطلقين، إذ هو بحكم خلقه خاضع أيضا لقوانين أزلية تحدد نطاق ما وهب من أمانة فليس تسلطه على غيره تسلطا غير محدود، وليس الحد نابعا من مجرد الإدراك والخيار بل إن ذلك مرده إلى طبيعة العلاقة السببية ذاتها، فهو ملتزم بما تفرضه هذه العلاقة من قوانين وأسباب منظمة وإن كانت متعددة وهو حر في اختيار الأفضل له منها في كل علاقاته مع غيره.
وإذ وهب الإنسان خصوصية الوعي والإرادة، وإذ كرم بأن جعل له الروح مصدرا إضافيا للمعرفة والإدراك فقد اختص بالخلافة على هذه الأرض بحكم القانون الأزلي، أو بحكم الواقع الذي تقرره العلاقة السببية الثابتة، ومضمون خلافته في الأرض وإصلاحه فيها، ولن تم ذلك على الوجه الأمثل اللهم إلا بقبوله القوانين الأزلية واتباع سنننها. وذلك لب العبادة، وحقيقة معنى التسبيح.
خلافة الإنسان في الأرض تعني قوامة ابن آدم على ما عداه، والقوامة تتضمن أمرين:
الحماية والإصلاح:
الحماية:
المحافظة على الذات غريزة أساسية في كل إنسان، بل في كل كائن حي، والفرق بين الإنسان وما دونه من الكائنات أن الإنسان يتحكم بعقله في غريزته بينما تنصاع باقي الكائنات تلقائيا لقوانين البقاء دون إرادة أو وعي.
وإذ يستحيل على الإنسان – كجنس – أن يعيش مستقلا بجنسه عما عداه، إذ هو محتاج إلى ما في الكون بداهة حتى يعيش، وذلك مضمون النسبية الوجودية، اقتضاه ذلك أن يحافظ على (بيئته) التي هي مساك حياته وأن يحميها ما استطاع إلى ذلك سبيلا وهذه البديهة المقررة توصلنا إلى كنه العلاقة بين الإنسان وغيره من الكائنات (الطبيعة أو البيئة) فهي على كل حال علاقة اتساق وليست علاقة تنافر، وهي في جوهرها نابعة عن ضرورة الحياة واستمرارها وعمرانها، فهي علاقة تكتسي في ظاهرها وباطنا معنى السلم، وهي تتنافى مع كل فلسفة أو فكرة تصمها بالاحتراب أو التعارض.
الإصلاح:
أما الإصلاح المتضمن في القوامة فينصب على علاقة الفرد بما عداه، سواء أكان من البشر أم من سائر الكائنات ومقتضى الإصلاح تحقيق النماء وإزالة العوائق التي قد تعترض تنفيذ القوانين الأزلية، بحيث يستمر كل كائن في مسيرته نحو الغاية من جوده دون حدوث فجوة في خط سيره، ودون أن يعترضه ما يغير سمته، أو يرجعه القهقري.
وتفرض سنة الخلق عن طريق النسبية الوجودية قانونا يربط بين الإصلاح وفاعله، فما من مصلح إلا وترك الإصلاح في نفسه أثرا إيجابيا يسمو به على نقائصه ويغريه بالقيام بإصلاح جديد، إذ الإصلاح استكمال، والاستكمال فطرة غريزية، وما من بشر إلا وكره لنفسه النقص والنقيصة، فإصلاح الغير موجب أصلا لإصلاح الذات، وتلك آية من آيات وحدة الكائنات، والخلافة بهذا المعنى تتضمن عنصرين متلازمين:
الأول: معنوي:
وهو السعي الدائب للاستكمال البشري الذي فطر عليه الناس وذاك طريق السعادة، وهو أيضا سبيل إشباع الغرائز المعنوية كلها، إشباعا يرسي في النفس البشرية المعاني التي تحقق ما يجب للخلافة من مقتضيات قيمية: كالعدالة والمساواة والمحبة والأمانة والقوة والقسط في القول والعمل وما إليها.
الثاني: مادي:
وهو ما تستوجبه الخلافة من حقوق وواجبات على الفرد، إذ مدلول اللفظ يهدي إلى تحديد نشاط الأفراد المنصب على ما استخلفوا عليه من طيبات وما يقومون به من أعمال في نطاق القوانين التي يفرضها عليهم الاستخلاف ذاته.
وهكذا نجد – مثلا – الملكية بجميع صورها: خاصة وجماعية وعامة، مقيدة بقيود الحماية والإصلاح.
والحكم والحاكم والمحكوم وما يسن من تشريعات وقوانين جزئية، كل أولئك مقيد بما يفرضه الاستخلاف من شروط.
والفرد في أسرته وبين أقرانه وعشيرته وبني وطنه وجلدته إنما هو مستخلف يتصرف في نطاق هذا القانون الأزلي الشامل.
وعلاقة الجماعات البشرية فيما بينها تبني على أساس أن كل جماعة مستخلفة في محيطها وليست بحكم وصفها أو تاريخها بأفضل من غيرها بحيث تدعي لنفسها الحكمة والوصاية أو الولاية على من عداها.
وهكذا نجد أن مبدأ الاستخلاف – وإن كان ركنا أساسيا في شرعة الإسلام وفلسفته – إنما يستمد وجوده أصلا من مبدأ وحدة الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء: فهو وحده مطلق المنفرد والمالك الواهب والمقدر المقنن، وليس الإنسان – في شمول جنسه – إلا خليفة فطر بحكم خلقه على القوامة والإصلاح، وهو يقوم بذلك نتيجة لما حمل من أمانة عن وعي وإدراك وشعور كمين عميق تجعله يحس بصلته بالكون وخالقه وبأبناء جنسه، كما يستشعر معالي الاستكمال كلما أمعن في العبادة واستقر في قلبه الإيمان، ومرة أخرى: ليست العبادة في جوهرها إلا اتباع القوانين الأزلية المطردة.
5 – المجتمع البشري:
يخاطب الإسلام الناس جميعا فمن اهتدى إلى الحق واتبع شرعته فقد اهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، وهو خارج على القوانين الأزلية ظالم لنفسه.
لقد ظل الإنسان منذ خلقه يدأب على كشف الحقيقة الثابتة وهي دالة القانون الأزلي، تدفعه إلى ذلك فطرته الغريزية وما جبل عليه من رغبة لا تفتر إلى الاستكمال البشري؛ يقينًا منه أن ذاك هو طريق السعادة. والسعادة لفظ مبهم في مدلوله، ولكنه يتعلق في أصله بإشباع الغرائز المادية والمعنوية إشباعا مطرد الحركة متوازن القوى، ويتوصل الإنسان إلى هذه الحالة حين يتوحد الفرد في أعماق ذاته داخل نطاق قانون الوحدة الخالقة ووحدة الكائنات ووحدة المجتمع الذي يعيش فيه.
أما المقصود بتوحد الفرد في هذا المجال فهو: ألا تتشعب شخصيته وتتعارض تصرفاته إذ يحدث ذلك حين لا يستطيع الفرد أن يوائم بين وعيه وإرادته. بحيث لا ينقض أي قانون أزلي، ويرجع ذلك عادة: إما إلى عجز الفرد عن هذه المواءمة، أو إلى جهله بالقوانين التي تحكم تصرفاته أو تغاضيه عنها أو نكرانه لها.
ولعل خير مثال نضربه لتوضيح هذا الانشعاب هو الإنسان الذي يعيش في ظل الحضارة المادية السائدة، إذ يتجاهل الفرد فيها الغرائز المعنوية ويحاول -دون جدوى- أن يصل إلى التوازن الذي يجلب عليه الأمن والسعادة، إنه يضل لأنه يستبدل قانونا من صنع يديه بالقانون الفطري، ويراعي في قانونه إهدار القيم المعنوية وإخضاعها لمتطلبات الغرائز المادية ووجه الضلال في ذلك أن من يفعل ذلك يغالط نفسه: إذ في أعماق ضمير الفرد شعور فطري بالقيم العليا مهما نشئ على احتقارها، فلن يستطيع أن يجحد أثرها، بل سيظل ضميره يلح عليه كي يرجع إليها، كما سيجد من تجربته الظالمة أنها تؤدي به إلى ما فيه الإضرار به، سواء أحدث هذا الأضرار في صورة مادية أم معنوية، وحينئذ يحس الفرد بالانشعاب والازدواج: يقول ما لا يفعل، ويقترف ما ينهى عنه، ويحارب هدي عقله، ويحبس صوت ضميره، وقد يدعوه هذا إلى أضرار جديدة، ويظل سامدا محمولا في حلقته المفزعة، إلا أن يقدر له الهدي والرشاد.
6 – نشأة المجتمع:
جرت سنة الأزل على أن يجتمع في جنس الكائنات الموجب والسالب أو الذكر والأنثى، وباجتماع الصنفين يتكاثر الأحياء.
فالمجتمع البشري ليس إلا نتيجة طبيعة لسنة التكاثر الناتجة عن اجتماع الذكر بالأنثى، يضاف إلى ذلك عامل خاص ببني آدم هو احتياجه منذ القدم إلى التجمع نظرا لعوامل غريزية وبيئية، والواقع أن المتمعن فيما ركب في الإنسان من غرائز يجد أنها لا تشبع إلا بالتجمع، فالمادي منها يحتاج إلى نوع من التكتل والتعاون والتبادل لإنتاج ما يحتاجه الإنسان، وما أكثر ما يحتاج. ولتأمين حياته ضد ما قد يصيبه من ضرر أو ما قد يعصف بأمنه وسلامته.
وكذلك الحال في الغرائز المعنوية، من انتماء إلى حب، إلى تسام إلى غير ذلك، إذ يقتضي إشباع هذه الرغبات الفطرية أن يعيش المرء في مجتمع إنساني ينتسب إليه، ويتبادل فيه مع أقرانه عاطفة الولاء والمحبة، بل أن الفرد لا يستطيع أن يعرف نفسه ما لم تنعكس صورتها على غيره من الناس، وليس للاستكمال البشري معنى ما لم يسند هذا الاستكمال إلى مقياس مدارج السمو في المجتمع المحدد الذي يعيش فيه الفرد.
كما أن البيئة التي يعيش فيها الفرد تدعوه إلى تكوين مجتمعة، سواء أعاش الإنسان في بيئة بدائية كما هي الحال في حياة الصيد والرعي أم في بيئة أكثر تقدما كما هي الحال في حياة الزراعة والتجارة أم في بيئة متحضرة كما هي الحال في حياة الصناعة الكبيرة المكثفة.
فالمجتمع البشري ضروري تقتضيها ضرورة أبعد عتقا هي إشباع الغرائز الإنسانية، والتجمع أيضا انساق مع قانون الوحدة الكوني، لذلك كان الأصل فيه أنه خير وإن كان ما قد يشوبه من عوارض تواهن من ترابطه أو تعمل على تشتته فهو شر، إذ مما لا شك فيه أن معيار الخير والشر في أمر ما هو مقدار تمشيه مع القوانين الأزلية أو مفارقته لها.
وتذهب شرعة الإسلام إلى أن الأصل في التجمع البشري هو فعل الخير وتحقيق الرفاهة وحسن القيام بالعبادة كما سبق تعريفها، وليس صحيحا البتة: أن يفترض بغير دليل مقبول أن الإنسان ما اجتمع بغيره من بني جنسه إلا ليستغلهم ويستعبدهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن القوي فيهم آكل الضعيف لا محالة، وأن الصراع محتوم بين الأقوياء من جهة والضعفاء والمستضعفين من جهة أخرى، وأن مساك المجتمع هو الحاجة المادية التي تأسر الفقير وتضع عليه الأغلال.
ليس هذا كله صحيحا، وليس صحيحا ما يستدل به عليه من أن حقبا في التاريخ البشري مرت وكان هذا الاستبداد والاستبعاد هو الصفة الغالبة في العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد إذ مع التسليم بقيام تلك الصور الظالمة في تاريخ المجتمع البشري -ماضيه وحاضره- فليس معنى ذلك أن تلك هي سنة الكون أو قوانين الفطرة، إذ لو كان الأمر كذلك لما ثار الناس على هذه المظالم ولاستقرت تلك العلائق دون تغيير، ولما كانت محل نظر ومدعاة إلى الثورة عليها.
وفي شرعة الإسلام إن الإنسان يولد على الفطرة السوية وأن المولود لا يتصف بالخير أو الشر، ولئن كان من المقرر أن للوراثة أثرا على المولود إلا أنه من الحق أيضا أن نقرر أنه لو أحسن تربية هذا المولود لأمكن التغلب على آثار الوراثة التي تخالف قانون الفطرة، كما أنه حق أيضا أن يقرر: أن انحراف الآباء عن جادة الهدى خطأ للمجتمع حظ فيه قل أم كثير وليس ذلك ببرهان على فساد الأساس الذي يبني عليه أي مجتمع بشري، بل هو دليل على قيام قانون الوحدة فيه، إذ وجود مرض يصيب أي عضو من أعضائه لا يقتصر على ذات العضو ولكنه يمتد منه إلى سواه، وهو ما يعبر عنه بالتكافل بين أفراد المجتمع الواحد.
7 – مساك المجتمع:
لن يتكون مجتمع سليم ما لم يتوافر فيه عنصران أساسيان:
الأول: وحدة العقيدة وسلامتها: إذ لو اختلفت العقيدة لاختلفت أنظار الأفراد إلى قضاياهم في حياتهم المعاشية ولاختلفت بالتالي أحكامهم عليها، ويضاف إلى هذا أن الجماعة البشرية السليمة لا تدب فيها الحياة إلا أن توحد هدفها لدي العام والخاص من أفرادها، فالعقيدة هنا بمثابة المذهبية التي ترمي إلى تحقيق مثل أعلى يعتز به الفرد ويكرم به المجتمع ويسعى الجميع إلى تحقيقه.
ومن هنا تتضح أهمية “سلامة العقيدة” فكم من مذهبية فاسدة أضلت أقواما اتبعوها وزادوا عنها بالأنفس والأموال، وكم قاست البشرية من جراء العقائد الفاسدة التي اعتنقها الناس على مر التاريخ حتى يومنا هذا، وإن المتتبع لكتابات فلاسفة القرن العشرين في العالم المادي ليجد التحذير الشديد من مغبة اعتناق العقيدة المادية، وكثير منهم أولئك الذين يتنبئون بأنه ما لم يطرأ تغيير جوهري على هذه المذهبية فإنها ستجر معتنقيها إلى هلاك لا نجاه منه.
وكلما رسخت العقيد في أذهان الناس واستقرت في قلوبهم وأصبحت رمزا لأعمالهم وآمالهم كلما قويت الوشائج بين الأفراد وتزايد التعاطف بينهم وتحد بالتالي مجتمعهم.
وكلما صحت العقيدة وقربت من قوانين الفطرة كلما أفاءت على معتنقيها الخير والقوة والنماء – وبهذا لا تكون مشكلة الحكم على سلامة العقيدة في المجتمع من التعقيد بحيث يعز حلها كما يتوهم ذلك كثير من الفلاسفة العرب ومفكريهم، وإن كانت دون ريب من الأهمية في بناء المجتمع بمكان.
فإن أخذنا بهذا المعيار للمذاهب والشرائع فسنجد أن شرعة الإسلام أصحها جميعا. فهي بحكم منطوقها المتطابقة تساما مع نواميس الكون، المشتملة على قوانين الفطرة جميعا، ما انصب منها على المادة أو ما تعلق بالروح.
والثاني: وحدة النظم:
ويعني النظام في هذا المجال مجموعة القواعد المستقرة في مجتمع ما، والتي تنظم وتحدد علاقات الأفراد بعضهم ببعض ثم علاقاتهم بالمجتمع ككل، ثم علاقة مجتمعهم بسائر المجتمعات، وبعبارة أخرى: يشمل هذا الفظ ما يعبر عنه بالنظام الاجتماعي والنظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الجمالي، وهي الميادين الأربعة التي تضم نشاط أفراد أي مجتمع بشري.
إن المقصود من وحدة النظم هو وحدة الفكر المنصب على النظر في أي ناحية من هذه النواحي الأربع، وإنما يتأتى ذلك حين يتوحد الإيمان بالشرعة أو المذهبية أو المثالية. وحينئذ يكون استخلاص قواعد النظم والأحكام التي تضبط المعاملات من قبلها ليس مجرد تقنين أو تشريع أو فلسفة بل تقرير لواقع يؤمن به الأفراد وترتضيه غالبيتهم وتسير عليه الجماعة، بوازع من الضمير قبل أن تطبقه خشية من طائلة عقاب القانون.
وغني عن التفصيل أن نقرر: أنه حين تشتق هذه النظم من معين شرعة واحدة فستغلب عليها وحدة النظر إلى الإنسان في مجتمعة ووحدة الحكم على تصرفاته، وستكون القواعد التي تحكم تصرفاته في مختلف نواحي نشاطه وعلاقاته متجانسة متسقة، تسعى كلها إلى هدف واحد هو تحقيق ما تنشده شرعته.
وبدون هذه الوحدة في النظم: فلن يكون للشرعة وجود، ولن تترك في نفوس الناس الأثر المرجو، بل إن انفصام النظم عن شرعتها وعدم توحدها يؤدي إلى الفصل بين الشرعة أو العقيدة، وبين الحياة البشرية في نواحي نشاطها المتعددة، وهذا يؤدي إلى انشعاب شخصية الفرد وازدواجها وإلى هدر ما للقيم المعنوية من أهمية في معاملات الناس وقلوبهم.
وحين تقرر شرعة الإسلام قانون “الوحدة في الكون” وقانون “التناقص” في الكائنات وحين تجعل ابن آدم “مستخلفا” لا يجوز له أن يستعمل سيادته على الكائنات إلا في حدود قواعد استخلافه من حماية، إلى استصلاح. وحين يجعل من ذلك كله سبيلا إلى عبادة الخالق ومحاولة دائبة للاتصال به، حين تقرر شرعة الإسلام هذا وما سواه أنما ترسم للفرد والمجتمع الخطوط الرئيسية للعلاقات التي تقتضيها النسبية الوجودية متسقة مع ما ركب في الفرد من غرائز قد تبدو أو تكون – بغير هذا التنسيق – متعارضة أو متنافرة.
فالأثرة – مثلا – والإيثار صفتان مشتقتان من غريزتين أصليتين هما حب الذات والانتماء مع الحب. والأثرة تدعو إلى تفضيل الذات على الغير والاستئثار بما تهواه النفس وبما تحسبه أنه الخير لها والإيثار على نقيض ذلك، وكلا الأمرين مطلوب، بل هو طبيعي بمقتضى متطلبات كل غريزة فطرية.
وهنا تتدخل أحكام الاستخلاف فتتوقف الأثرة عند حدود حماية المجتمع والبيئة وبشرط الإصلاح الذي يقتضي الاتساق والنماء وسرعان ما تلتقي حينئذ الأثر بالإيثار، وينعم الفرد ومجتمعة بنشاط الفرد الذي حفزته الأثرة، ونتيجة عمله الذي در خيرا على المجتمع الذي حققه إيثاره.
ولعل الملكية خير مثال يضرب لتوضيح أثر الشرعة الإسلامية في توجيه غرائز الإنسان وطاقاته إلى غاية موحدة دون احتراب أو تضاد، إذ الملكية الخاصة مباحة في حدود امتلاك ما هو حل للمسلم وبشرط أن يكون التملك عن طريق حلال، وللفرد أن يملك ما استطاع وما شاء من الثروات على هذا الوجه المشروع. ومع ذلك فملكيته في أساسها خاضعة لقانون الاستخلاف فمن واجبه المقابل لملكيته أن يحافظ على ما تحت يديه من نعم الخالق وآلائه وأن يصلح من شأن ما ملك، فإن قصر في واجبه انتقصه المجتمع من حقه بمقدار ما قصر.
من أجل هذا تقرر شرعة الإسلام أن مالك الأرض الذي لا يزرعها مع الحاجة إلى غلتها، عليه أن يمكن غيره من زراعتها ولا عائد له منها، فله حق الرقبة (الملكية) وليس له حق الانتفاع الذي حققه غيره.
وتقرر أن للمجتمع أن يحجر على مال السفيه حتى لا يضيع، بل إنها تقرر أن من يحتجز ماله دون استعماله، فعليه أن يزكيه ومن كان عنده فضل زاد أو دابة، فيعد به على من ليس عنده طعام ولا دابة.
وتقرر شرعة الإسلام تطبيقا للاستخلاف أن الحاكم مستخلف على رعيته فهو ليس الأمير المطلق الذي يتصرف كيف يشاء فيما يشاء ولكن حدود استخلافه تطبيق القوانين التي سنتها الشريعة والتي أقرها المجتمع بما رأى ضرورة استحداثه، وهو في منصبه السياسي أول الخاضعين لهذه القوانين وأول المنفذين.
وفي مجال الأسرة نرى الرجل مستخلف على أهله، عليه أن يعاشرهم بالمعروف. وطاعة الزوج محدودة في نطاق ما أمر الله به، والزوجة بدورها مستخلفة في بيتها وعلى أهلها: ترعاهم وتنفق من مال الزوج عليهم وذلك في حدود ما كلفتها به الشريعة السمحاء.
وهكذا دواليك ما من تصرف إنساني في المجتمع إلا وصدر أصلا عن حق للفرد في التصرف، وواجب يقيد هذا الحق، وكما تخضع الحقوق كلها لشروط اكتساب شرعيتها، كذلك يخضع الواجب لشرطي الاستخلاف: الحماية والإصلاح. سواء أكانت الحقوق والواجبات مادية أم خلفية معنوية.
8 – المجتمع المسلم:
المجتمع المسلم هو ذلك الذي يؤمن أفراده بشرعة الإسلام.
والإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالقضية ليست مجرد تصديق بغيب، أو شعائر تؤدى تقربا إلى الله زلفى، ولكنها قضية واحدة ذات وجهين، الأول: إيمان قلبي، أو يقين روحي، بوحدة الخالق وما له من صفات حسني، وبأن الدين عند الله الإسلام وأنه لحق اليقين وبالرسل جميعا، وبخاتمهم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم).
أما الوجه الثاني: فهو العمل بمقتضي شرعة الإسلام، إذ لن يصدق إيمان فرد ما لم يكن عمله موافقا لهذه الشرعة الإسلامية التي تقوم على ما قدمنا من أركان تمس حياة الفرد في كل زاوية من زواياها.
هذه الوحدة بين حياة المسلم الروحية وحياته المادية، وهكذا التواؤم بين الروح والعقل، وهذا المزج غير المنفصل بين الضمير والفعل، هذا الشرط الأساسي هو أهم ما يميز شرعة الإسلام عن غيرها بميزة تضفي عليها الأفضلية من حيث المضمون، والواقعية من حيث التطبيق.
أما أفضلية المضمون: فذلك أنها تجمع بين القيم المعنوية والنواحي التعبدية وبين عمل الفرد الحسي في نطاق واحد، وذلك حين تقرر أن العبادة عمل يصدق به الإيمان.
وأما واقعية التطبيق: فذلك أن تلك الشرعة تراعي غرائز الإنسان الحسية والمعنوية وتنسق بينها وتسمو بها، فتأخذ بعين الاعتبار أن ما من عمل مادي إلا امتزاج بشعور معنوي، باد أو خفي، فلا تحاول كبته فينقلب وبالا على صاحبه أو ينحرف به عن الجادة، ولا تتجاهله بحيث يتحلل الفرد المعنوية دون شعور بإثم ما يقترف من الذنب.
الإيمان أصل وغاية.
والعمل تبع ووسيلة.
فالمسلم يؤمن بالله الواحد القهار، يقضي حياته في محاولة دائبة للاتصال بنوره واكتساب مرضاته ولا يتم ذلك إلا عن طريق العمل الصالح واتباع شرعة الإسلام التي تقوم أساسا على قوانين الفطرة، وهو في هذا المسعى يؤدي واجب العبادة، ويستشعر في ذلك دواعي الأمن والسلام، ذلك أن العمل الصالح: هو ما جلب على صاحبه وعلى المجتمع خيرا ورفاهية، أو ما يدفع عنهما شرا وخسارة. والعمل الصالح يسهم في زيادة “إنتاجية” الفرد والمجتمع حتى لو كان نصيحة مقبولة من مسلم لأخيه المسلم.
على أن شرعة الإسلام لا تترك أمر الفرد في الجماعة الإسلامية رهوا لا يحكمه إلا رأي الفرد ذاته، بل إنها تضع تفصيلات كثيرة تحد من تصرفات الأفراد وتصرفات المجتمع وتنظم العلاقات كلها في إطار قوانين كلية وقواعد شرعية يلتزم بها الجميع في نطاق الجوانب الأربعة للحياة البشرية:
العلاقات الاجتماعية.
والعلاقات السياسية.
والعلاقات الاقتصادية.
والقيم الجمالية (المعنوية والأخلاقية).
ليس المقصود من البحث تحديد العلاقات والقيم كل على حدة، إنما المقصود معرفة الشرعة التي تستقي منها هذه العلاقات والنهج الذي يجب أن يتبعه الباحث حين يحاول الخوض في أي ميدان من هذه الميادين الأربعة.
الواقع أن دراسة أي جانب من جوانب الحياة البشرية منفصلا عما عداه ليس بالأمر المستطاع نظرا لأنه لا يمكن عزل وجهة عن الوجهات الأخرى فالعلاقات الاجتماعية تتأثر بسائر العلاقات والقيم، كما تؤثر فيها، ومن المستحيل أن يتصور مثلا علاقة مادية اقتصادية لا ينفعل بها “الشعور” بالقيمة الجمالية، أو الحالة المعنوية أو الخلقية بطرفي هذه العلاقة. من أجل هذا تطورت دراسة العلوم الإنسانية في السنين الأخيرة بحيث يدرس الإنسان من جوانبه المختلفة في آن واحد وإن ضلت الدراسات التفصيلية مستقلة في تخصصها وبعدها عن غيرها من النواحي الإنسانية الأخرى.
ذكرنا فيما سبق أن شرعة الإسلام تقرر وحدة الخالق ووحدة الكائنات ووحدة المجتمع البشري ووحدة الفرد في ذات الفرد.
وتقرر أن الكائنات جميعا تخضع في وجودها لقانون النسبية الوجودية الذي يحدد علاقتها بعضها بالبعض، وإنها في ذاتها تخضع لقوانين أخرى تحدد حركاتها ونماءها.
وتقرر أن الإنسان سيد المخلوقات بما وهب من أمانة تتضمن الوعي والإرادة، والوعي يتضمن الإدراك العقلي للمحسوسات، والشعور المستتر الروحي بالقيم والمعنويات، كما تتضمن الإرادة مكنة الفرد في أن يختار لنفسه بين ما هو خير (أي متسق مع قوانين الفطرة) وما هو شر (أي متعارض مع هذه القوانين).
وتقرر أن الإنسان لا بد له ا، يعيش في مجتمع، إذ يستحيل عليه البقاء بمفرده، وهو في تجمعه مدفوع بحكم غريزته، والغريزة صورة من صور القوانين الأزلية، أو الفطرية.
وتقرر أن الإنسان مستخلف على كل ما في الأرض، إذ كل ما هو كائن فهو من خلق الله، وهو وحده المالك، وإن الاستخلاف يفرض على الإنسان قيودا على حريته في التصرف، وهي قيود تؤدي إلى خير. ففيها الحماية والإصلاح، كما يتضمن حكم كل ما يتعلق بالتصرفات البشرية المادية منها والمعنوية، فيضع أسس المعاملات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والقواعد الجمالية، أما في الناحية المعنوية: فالاستخلاف يرسم نطاق الاستكمال البشري وآماد إشباع الغرائز المعنوية ويوجد الصلة والتوازن وبين الغرائز الحسية.
وما أن يوجد المجتمع المسلم حتى يظهر أثر هذه الكليات في دورة الحياة البشرية، وحتى تمد الشرعة الإسلامية هذا المجتمع بالكثير الجديد.
أولا: العمل:
العمل هو الوسيلة المباشرة لإشباع غرائز الإنسان، المادية منها والمعنوية، والغرائز ضرورة، وكل ما هو لازم للضرورة فهو ضرورة: سد الجوعة محافظة على البقاء، ومزاولة الجنس، حفظا للنوع، وحرب المعتدين حماية للأمن وإبقاء على الذات، كل هذا عمل لا محيص عنه وكل لازم لمقابلة الغرائز الفطرية في البشر.
ثم إن الانتماء للجماعة يقتضي أن يبذل الفرد شيئا من وقته وماله وأن يضحي ببعض حريته حتى يشبع هذه الغريزة. وفي البذل عمل..
ومحبة الأهل والعشيرة تقتضي نوعا من التضحية المحببة والتضحية بذل العمل.
وحب الذات أو أثره النفس لا تتصور إلا إذا عنت اختصاص الإنسان نفسه بنتيجة عمل.
والتسامي وحب التخليد لا يتوصل إليهما إلا بعمل.
فالعمل إذن ضرورة لأزمة الحياة، وليس كما يتوهم البعض أمرا خياريا قد يتأتى للمرء أن يستغني عنه، وثابت أن الذين لا يعملون يكونون أقرب إلى التلف والمرض والهلاك من العاملين، وتلك سنة فطرت الكائنات عليها.
من أجل هذا تقرر شرعة الإسلام: ضرورة العمل على من يستطعيه، وتحدد صفة مشتركة في كل عمل، وهي التي يقتضيها الاستخلاف ويعني بها الإصلاح. فالعمل الصالح هو المنشود في المجتمع المسلم وهو ما تتطلبه شرعة الإسلام، وهو ما يؤجر ويثاب الإنسان عليه. أما العمل الطالح، أي الذي يضر بالفرد أو بالمجتمع أو بهما سويا فذلك منهي عنه وجزاؤه العقاب.
ثانيا: مساواة: تامة كاملة بين الناس جميعا من حيث هم من خلق الله، فلا تمييز في الإسلام بين جنس وجنس، أو لون وآخر، وبين قوم وقوم. إنهم جميعا على قدم المساواة من حيث إنسانيتهم وإنما يتمايزون بصالح العمل.
وجدير بالذكر أن نثبت ما قرره الإسلام من شموله لكافة الخلق وما جحده من عصبية أو وطنية أو عشيرية أو جنسية يعتد بها صاحبها على غيره، فالأوطان كلها أرض الله والإنسان مستخلف عليها، والعشيرة أو القوم “المواطنون” أناس من خلق الله ولدوا وانتسبوا إلى أرض الله، والأجناس كلها من صنعه يتمايزون شكلا ولونا لاختلاف البيئات الجوية والجغرافية التي نشئوا وتوالدوا فيها، والمساواة في شرعة الإسلام ليست تجريدا وقيمة معنوية دون حدود أو ضوابط، وإنما هي أمر ينعكس على الكفالات التي تقررها الشريعة حين يفرض التكافل بين أفراد المجتمع الإنساني، وحين تضمن للإنسان – من حيث هو إنسان يعيش بين المسلمين – مستوى لائقا لحياته المعيشية المادية حتى تحفظ عيه كرامته التي وهبها الخالق له يوم خلقه وحتى يسعى بين الناس وقد تساوت رأسه برأسه من هو أكثر جاها أو غني أو أقوى جسدا.
والناس كلهم سواء أمام الخالق وأمام الشرعة الإسلامية فيما تفرضه من قوانين، لا تمايز بين حاكم ومحكوم، ولا بين عالم وجاهل ولا بين مسلم وكتابي إلا ما استثني بنص، أو ما في حكمه.
ثم إن ميزان المساواة قائم بالقسط في كل العلاقات بين الأفراد اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية، وهنا أيضا تأخذ المساواة شكلا تنفيذيا إيجابيا بالتقرير والتقنين وسلبيا بالنهي والعقاب.
ثالثا:عدل شامل: ينتظم كل أحكام المعاملات، والعدل قرين المساواة، إذ هو بدوره لا يقر التمايز. وإلا انقلب ظلما وحيفا.
والعدل في شرعة الإسلام على نوعين:
(أ) عدل في الحكم إذا نشب نزاع بين طرفين في المجتمع المسلم، ومحله القضاء، وليس في شرعة الإسلام من يعلو على الخصومة مهما سما مركزه، وذلك آية المساواة، فالحاكم والمحكوم على مستوى واحد أمام القاضي.
(ب) عدل في التكليف والتقنين والتنفيذ، إذ الإسلام يعطي الحاكم حقوقا ويفرض عليه واجبات، وعلى الحاكم أن يعدل في تكليف الناس بما هو حق له، ويجب أن تكون أواخره (قوانينه) عادلة بالنسبة للرعية كلها لا يحابي طبقة على حساب طبقة ولا فردا على حساب آخرين، ثم عليه أن يعدل في تنفيذ ما وكل إليه إنقاذه، فيعامل الناس كلهم معاملة واحدة لا تفضيل ولا تنكيل.
رابعا: تكافل: بين أفراد المجتمع جميعا على اختلاف درجاتهم ونزعاتهم، والمقصود بالتكافل إيجاد رابطة شرعية مقررة تلقي على عاتق كل فرد مسئولية معينة قبل غيره في نطاق عنصري المساواة والعدل ومتطلبات المجتمع. وليس في تاريخ البشرية كلها تكافل يعدل ما جاءت به شريعة الإسلام. ويكفي أ، تقرر في هذا المقام أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، فإن أجار هذا الأدنى عدوا مقاتلا جازت إجارته وعصم دم العدو حتى يحله المسلم من عهده.
وأساس التكافل راجع إلى وحدة المجتمع أصلا، إذ يتكون المجتمع من سلسلة مكونة من حلقات متعددة، هي أفراده، فإن وهنت حلقة وهنت السلسلة كلها ثم أن قانون الاستخلاف يقضي بأن المال أصلا لله، وأن على صاحبه المستخلف واجبا نحو مجتمعه، وهو الواجب هو إحدى صور التكافل الإسلامي.
خامسا: الجزاء: يقتضي تطبيق المبادئ الأساسية السابقة أن ينال المرء جزاء ما قدمت يداه. وتقوم فلسفة الجزاء في شرعة الإسلام على الأسس الآتية:
(أ) لا جزاء بلا عمل، ولا عمل بلا جزاء، ولكل امرئ ما اكتسب.
وإذا كان العمل فطرة في الناس، وناموسا في الحياة، فإن العدل يقتضي أن يحصل العامل على نتيجة عمله، والناس – في هذا – كلهم متساوون.
ولا يرد على هذه القاعدة من حد، إلا ما قرره مبدأ التكافل. وهو – كما ذكرنا – مستند على الاستخلاف، لذلك فإن من حق العاجز عن الكسب لسبب خارج عن طوقه أن يأخذ من مال الغير ما يحفظ عليه كرامته الإنسانية.
كذلك تأبى شرعة الإسلام أن ينال صاحب المال جزاء على مجرد ملكيته لماله، فذلك مناف لعدل. ومن هنا حرم الربا، وما في حكمه من صور استغلال عمل الغير لفائدة صاحب المال.
(ب) للعامل الحق الكامل في جزاء عمله باستثناء ما تفرضه الشريعة من الزكاة وما تفرضه الدولة على المال مقابلة الحاجات الجماعية التي تختص الدولة بالقيام عليها.
وشرعة الإسلام تقر المجتهد. وتبارك عمله، وتجيز له الحصول على جزاء اجتهاده وأن كثر، فالتفاوت في الثروة أمر راجع إلى تفاوت الجهود المبذولة في سبيل الحصول عليها. على أن الفقر والغنى الماديين ليسا المعيار الأصلي لمنزلة الناس في مجتمعهم الإسلامي ولكن المعيار هو العمل الصالح كما بيناه من قبل.
(جـ) هناك فوق جزاء الدنيا جزاء الآخرة. فالمسلم الحق يؤمن عن يقين أن الحياة ممتدة إلى ما بعد الممات، وإن قانون الجزاء قانون أزلي، يسري في هذه الدنيا كما يسري في الآخرة، فهو حين يسعى في هذه الأرض إنما يبتغي وجه الله، ويرجو جزاء الآجلة، رجاءه جزاء العاجلة. وهذا عنصر روحي من أهم ما يتميز به المجتمع الإسلامي، وهو سر قوته في ماضيه وحاضره ومستقبله.
هذا ما عن لي أن أقدمه كمحاولة أدرك ما فيها من قصور، وإن عجزت عن استكماله، فلست أقلل من شأنه. ولكنها محاولة مجتهد يأمل أن يجد فيها القارئ ما قد يصلح أساسا لما هو أفضل وأكمل.
ولله الشكر والمنة.