كلمة التحرير

نظرة إلى الإنجازات الإيجابية للحركة الإسلامية المعاصرة

العدد 11

بين السلبيات والانجازات

يشعر كثير من الإسلاميين الذين مارسو العمل  في الحركات الإسلامية المعاصرة بالفشل أو خيبة الأمل في هذه الحركات ، نتيجة عدم تحقيقها لما عقد عليها من آمال ، ونتيجة الشعور بعدم التعادل بين التضحيات الباهظة التى قدموها والنتائج التى حققتها هذه التضحيات .

كما أن كثيراً من الإسلاميين الذين لم يمارسوا العمل فى هذه الحركات يشاركون إخوانهم نفس الشعور ، وخاصة وأن الحديث عن سلبيات هذه الحركات سواء من أبنائها أو من أعدائها لم يقابله في أذهانهم تصور واضح عن إنجازاتها الإيجابية لا من الأعداء بطبيعة الحال ، ولا من الأنباء لغلبة شعورهم بالفشل وانصرافهم عن بيان الإنجازات….

فإلى هذين النوعين من الإسلاميين أوجه هذا الحديث.

على أن نوعاً ثالثا من الإسلاميين لا يقل حاجه عن النوعين الأولين إلى بيان انجازات الحركات الإسلامية ، وهو النوع الذى يدافع عن هذه الإنجازات بحماس لا يخلو من المبالغة في بعض الأحيان ويلبس ثواب الإنشاء فى معظم الأحيان….

وبين الحماس والمبالغات من ناحية ، وبين شعور الفشل وحديث السلبيات من ناحية أخرى ، ضاعت الحقيقة أو أوشكت أن تضيع.

وهذا الحديث هو محاولة لبيان بعض الحقائق التى ينبغي الوقوف عندها بغير حماس ، وبعيداًً عن المبالغات.

وأشعر أن حديثاًً عن الإيجابيات وحدها هو كحديث عن السلبيات وحدها: حديث ناقص ، وأن الأصل أن يقوم – بتشديد الواو المفتوحة – العمل كوحدة واحدة بايجابيات وسلبيات ، وأن يكون حديث الإيجابيات هو الأصل وحديث السلبيات هو النبع ، لأن تقيم العمل هو رد على سؤال: هل حقق العمل أهدافه؟

وطبيعى أن يبدأ – بضم الياء – بتعداد ما حقق العمل من أهداف ثم يوضح ما لم يحققه.

وقد نسى الإسلاميون هذه القاعدة لسبب بسيط هو حبهم لحركاتهم وحرصهم على ان تحقق كامل أهدافها ، وقلقهم لعجزها وضعفها ، فهم كالطبيب تشغله نواحى الاضطراب في جسم المريض عن الحديث عن الأعضاء السليمة التى تعمل بانتظام وتؤدى وظيفتها بفعالية و إتقان…

لذلك أظن أنه من المفيد أن نلقى بعض الضوء عى إنجازات العمل الإسلامى رغم كل ما يقال – وكثير منه صحيح – عن سلبياتها.

إن من أهم ما يلزم الناقد – سواء تحدث عن الإيجابيات أم عن السلبيات هو أن يكون موضوعياًً في تفكيره وحكمه على الأمور(( ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى))

ومن أهم ما يلزم الناقد – كذلك  – أن يكون واقعياًً في تفكيره وحكمه على الأمور….

والواقعية ضرورية في تقيم الماضى ، وهى لذلك ضرورية في تخطيط المستقبل.

ومن مظاهر الواقعية في تقيم مدى النجاح أن تقيسه بالإمكانات بالآمال.

إن سباحاً طاقته أن يقطع مائة متر يعتبر ناجحاً وبطلا إذ قطع خمسمائة متر. ولا يعيبه أنه كان يحلم بسباحة عدة كيلو مترات ، وشعوره بالفشل  في تحقيق حلمه ظلم لنفسه وتحبيط لعزيمته عن متابعة تدريباته ، كى يصل يوماً ما إلى تحقيق حلمه.

من هذا المنطلق – ومع الوعى الكافى لإمكانات العمل الإسلامى في الماضى ، ودون دخول في تفاصيل هذه الإمكانات – أتناول هذا الحديث بيان بعض ما حققه العمل الإسلامى من إنجازات.

وأعرض لذلك من منظورين: منظور الماضى ثم منظور الحاضر.

الانجازات الايجابية فى منظور الماضى

وحديثى هنا هو جواب على سؤال: ما الذى حققه العمل الإسلامى في الماضى مما لم يكن موجوداً؟ أو ما هو الجديد – في وقته – الذى أتت به الحركات الإسلامية حينذاك؟

ونتناول البحث هنا عن مجالات ثلاث هى: الفهم – الممارسة العلمية – التحرك السياسى ، وأضرب في كل منها أمثلة لقصور المجال عن الاستيعاب والحصر:

الفهم:

لقد كان الإمام حسن البنا – أحد أئمة النهضة الإسلامية المعاصرة – واعياًً كل الوعى لأهمية

(( الفهم )) في الحركة الإسلامية ، ولضرورة بلورة هذا الفهم وتوضيح أصوله ومظاهره ، لدرجة أنه أوجز أصول فهمه للإسلام في عشرين نقطة. كان إخوانه يحفظونها عن ظهر قلب ويتدارسونها ويشرحونها في اجتماعاتهم التنظيمية ترسيخا لها وتوضيحاًً.

أقصد بذلك الأصول العشرين من ركن الفهم في رسالة التعاليم للإمام حسن البنا ، وهذه الأصول تقع في خمسين صفحه ، ثم لم تحظ – حسب علمى – بأى اهتمام آخر من الناحية العلمية ، وإن كانت من الناحية العلمية هى السمة العام الذى يحد فهم الإسلاميين المعاصرين.

أول هذه الأصول أن (( الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا))

ولا شك في أن هذا الفهم كان ثورة تجديدية في عصره بالنسبة إلى الفهم السائد حينذاك من أن الإسلام قاصر على العقيدة والعبادة. وإذ تعداهما: فإلى دائرة الأحوال الشخصية ، ولا غير.

وثانى هذه الأصول أن (( القرآن الكريم والسنة المطهرة هما مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام))…. ولا شك في أهمية هذا التحديد للمرتبة التى يشغلها هذان الأصلان بالنسبة لسائر الكتب الإسلامية. فهما الميزان الذى يوزن به أى رأى ، مهما كان صاحبه عالماًً مشهوراًً أو صالحاًً متبوعاًً.

كما أن الأصول 3 ، 4 ، 11-5 ، قد أوضحت الفهم الصحيح للإسلام وميزته عن الانحرافات الصوفية والدروشة والخرافات والبدع والمنكرات وبينت الرأى الشرعى في الكشف والرؤى والتهائم والرقى والودع والرمل. وبذلك اتضحت المعالم بين الإسلام الصحيح والصورة المشوهة التى كانت سائدة حينذاك.

وكانت إحدى أهم الثورات الفكرية التى جاءت بها الحركة الإسلامية المعاصرة هى الانتقال بالمسلمين من عصر التقليد إلى طريق الاجتهاد.

لذلك جاء الأصل السابع موضحا أن  لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين ، ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع فى تعرف أدلة إمامه ،  وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل ،. متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته ، وأن يستكمل نقصه العلمى ، إن كان أهل العلم ، حتى يبلغ درجة النظر. بهذا التحديد لمراتب المسلمين بين التقليد والاجتهاد ، وبهذا التوضيح لواجب المسلمين في الانتقال من مرتبة الى مرتبة ، اتسمت الحركة الإسلامية المعاصرة بسمة التجديد التى وضعتها في طريق البعث الإسلامى وصنفتها بين حركات الإصلاح الدينى في التاريخ. وكان طبيعيا أن ينتج عن هذه الثورة على التقليد المذهبى والدعوة إلى الاجتهاد أثر مباشر في أبواب العبادات التى كانت المذهبية قد أوصلت المسلمين إلى حد أن يكون في أكبر جامعاتهم – الجامع الأزهر – أربعة أئمة على المذاهب السنية الأربعة. يصلى كل مسلم خلف الإمام الذى يتبع مذهبة. لذلك كان من الضرورى – حتى لا يؤدى التحرر من التقيد الكامل بالمذاهب إلى الفوضى والاضطراب – أن يوضح في مسائل العبادات على الأقل(( فقة السنة)) ، وكان قد صدر بهذا الاسم وفى فترة مبكرة (1365ه)أول كتاب فقهى مذهبي للشيخ السيد سابق ، ومازال هذا الكتاب يمثل أهمية خاصة في الفقة غير المذهبى …. وقد أوضحت الأصول: الثانى والسادس والسابع والثامن بعض أسس هذا المنحى الفقهى الجديد الذى هو في حقيقته عودة إلى كتاب الله وسنه رسوله صلى الله وعليه وسلم.

ولم يقف أمر هذه الثورة على المذهبية عند حد المذاهب السنية الأربعة ، بل تعداها إلى معالجة أصول الخلاف بين مذاهب السنة ومذاهب الشيعة. لذلك نجد تأصيلا لبعض وسائل هذا العلاج في الأصول: السادس والثامن والتاسع.(( فكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله وعليه وسلم))(( ولا نعرض للأشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح))(( والخلاف الفقهى في الفروع لا يكون سبباًً للتفرق في الدين ولا يؤدى إلى خصومة ولا بغضاء))…. ((وكل مسألة لا ينبنى عليها عمل: فالخوض فيها من التكلف الذى نهينا عنه شرعاًً ومن ذلك الكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف)).

وقد استجاب بعض أئمة الشيعة لهذه الدعوة إلى الحوار والتعاون فأنشئت في القاهرة (( دار التقريب بين المذاهب الإسلامية)) ، كما امتد التعاون بين الإسلاميين من المذهبين إلى أقصى مداه. ويكفى فى هذا المقام: الإشارة إلى حركة فدائيان إسلام في إيران ، وزعيمها الشهيد

( نواب صفوى) عليه رحمة الله وفي مجال المواجهة بين الدين والعلم أوضح الأصلان: الثامن عشر والتاسع عشر أن (( الإسلام يحرر العقل ويحث على النظر في الكون ، وان كلا من النظر العقلى والنظر الشرعى قد تناول ما لا يدخل في دائرة الآخرة ولكنهما لن يختلفان في القطعى)) وبهذه (( المصالحة )) بين العلم والدين – إن صح هذا التعبير – انفتح عهد جديد من اتساع أفق المتدينين للعلوم العصرية ، ومن إقبال المتعلمين للعلوم العصرية على الدين ، وأصبحت ظاهرة الأفندى الذى يصلى ويتحدث في الدين ، وظاهرة الشيخ الذى يتحدث في الاقتصاد وعلوم الذرة والفضاء ، أمراًً مألوفا بعد أن كانت القطيعة تامة والحرب على أشدها بين الطائفتين .

ولعل مسك الختام في الأصول العشرين التى أوضحها الإمام حسن البنا قوله (( لا نكفر مسلماًً أقر بالشهادتين ، وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض –  برأى أو معصية – إلا ان أقر بكلمة الكفر ، أو أنكر معلوماًً من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن أو فسره على وحه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل عملا لا يحتمل تاويلا غير الكفر )).

ولعلنا اليوم –  ونداءات التكفير تتجاوب حولنا من أكثر من مصدر – أحوج ما نكون إلى وعى هذا الأصل من أصول فهم الإسلام.

ونكتفى بهذه الأمثله من مظاهر فهم الحركة الإسلامية المعاصرة للإسلام والتى توضح أحد الإنجازات الكبرى التى حققتها الحركة  في مجال ((الفهم)) .

وإذا كنا قد أخذنا هذه الأمثلة من كتابات الأستاذ حسن البنا ، فبالإمكان أن نجد نظيرا لها فى كتابات الأساتذه: عبد الحميد بن باديس ، وبديع الزمان النورسى ، وأبو الأعلى المودودى وأبو الحسن الندوى. وغيرهم من زعماء الحركات الإسلامية المعاصرة في مختلف أنحاء العالم الإسلامى.

الممارسة العملية:

وننتقل الآن إلى مجال الممارسة العلمية.

إذا لم تقف الحركة الإسلامية عند البحث النظرى أو التأليف العلمى فحسب ، بل حققت إنجازأ هائلا على صعيد الممارسة العملية لهذا الفهم الذى هو في ذاته ثورة تجديدية كما أوضحنا.

ونقصد الممارسة بشقيها: الفردى؛ والجماعى.

ونضرب هنا بعض الأمثلة التى تغنى عن الاستيعاب والحصر ، ونقف بالذات عند النواحى التى تعد مؤشرات هامة في مجال الممارسة العلمية للإسلام.

لقد اهتمت الحركة الإسلامية المعاصرة بتربية الفرد اهتماما أساسيا واعتبرته حجر الزاوية في عملها ، وأمكن – بمختلف البرامج التى وضعتها لهذا الغرض – ان تحول الألوف من حياتهم العادية –  حيث تغلب الأنانيات الشخصية والاهتمامات المادية – إلى أن يصحبوا صورة متحركة للإسلام: به وله يعيشون ويموتون. إن صهر هذه النفوس في بوتقة العمل الإسلامى سواء ببرامجه الثقافية والروحية والرياضية أو بممارسة العمل في حقل الدعوة الإسلامية ، عملية فريدة لم تخط – حتى الأن؛ مع الأسف الشديد –  بعناية الدراسات العلمية لها حتى يمكن تطويرها وتعميمها ، وخاصة وأنها تشمل مختلف مراحل العمر من الشيبة الغضة حتى كبار السن.

وعلى صعيد الاصلاح الاجتماعى قامت الحركة الإسلامية – في إطار النظم القانونية القائمة –  بتجارب مباشرة فذة. سواء في مجال الحركة الكشفية ، أو الخدمات الصحية ، أو المؤسسات الاقتصادية أو إنشاء المدارس أو فصول تحفيظ القرآن الكريم ومحو الأمية ، أو غير ذلك من المشروعات. هذا فضلا عن اهتمام الحركة الإسلامية بمختلف مجالات الإعلام والثقافة من إصدار الصحف والمجلات على اختلاف أنواعها. ومجالات المسرح الإسلامى والأدب الهادف.

كما وضعت الحركة الإسلامية اللبنة الأولى في مجال التكافل بين الأفراد بإقامة نظم تحقق معنى التضامن المادى بتوزيع المخاطر بين المشتركين فيه فى جو من الأخوة والبذل يعيد إلى الأذهان صورة المجتمع الإسلامى الأول ، وثبت أن النظم البديلة القائمة على الاستغلال التجارى لتوفير أمن مصطنع؛ ليست بالضرورة هى الحل الوحيد في المجتمعات المعاصرة.

وكنتيجة لإحياء مفهوم الأمة الإسلامية – بعد أن قطع الاستعمار الغربى أوصال دولة الخلافة وآثار النعرات القومية في كل جزء منها تخطت الحركة الإسلامية هذه الحدود القومية المصطنعة إلى أفق الوحدة الإسلامية شعوريا في البداية ثم ما لبثت أن اتصلت الحركات الإسلامية  في كل مكان اتصالا عضويا قائماً على أساس الأخوة الإسلامية الصادقة وانمحاء الفواصل القومية والفوارق العرقية.

كما أنه نتيجة لإحياء مفهوم الدولة الإسلامية وتوضيح أركانها ونظمها وتوعية المسلمين بمبدأ الشورى وحقوق الإنسان وواجباته في ظل دولة الإسلام ، حدثت صحوة أساسية في المجال الدستورى بتعرية نظم الاستبداد السياسى – سواء ما قام منها على أساس الحكم الوراثى أو العسكرى – باسم الإسلام بعد أن كانت هذه النظم تستغل الشعور الدينى لتثبيت أركانها أو ما  قام منها على غير هذه الأساس ، كما أنه نتيجة – كذلك – لإحياء مفهوم الدولة الإسلامية وتوضيح الجانب الاقتصادي في الإسلام ونظرته إلى المال على أنه استخلاف من الله للإنسان ، وأن له وظيفة اجتماعية إلى جانب كونه حقا فردياً: حدثت صحوة أساسية كذلك في المجال الحقوقى والاقتصادى ، وكانت مجلة الفجر الجديد التى أصدرها الأستاذ سيد قطب – على قصر مدتها مؤشراًً هاما في هذا المجال بتحديها – باسم الإسلام – للنظم الاقطاعية والمفاهيم الاستغلالية. بعد أن كانت هذه النظم تستغل الشعور الدينى للدفاع عن مكاسبها.

وترجع أهمية هذين الجانبين الدستورى والاقتصادى إلى التوعية بهما كانت تتم على الصعيدين الفكرى والشعورى في القاعدة الشعبية العريضة مما مكن لها النفوس ، وغير بها المفاهيم.

وكنتيجة لإحياء مفهوم الجهاد في الإسلام ، استطاعت الحركة الإسلامية تجنيد الألوف من شباب الإسلام للدفاع عن قضاياه وإن تعدت الحدود القومية ، مما أعطى بعدا هاما لهذه القضايا ، ولم يعد استغلال سوريا ولبنان يهم السورين واللبنانيين وحدهم ، ولم تعد قضية فلسطين تهم الفلسطينيين وحدهم.

وبدأت موجات العمل الفدائى تعم المنطقة باسم الإسلام مما أوجد صحوة تحريرية تجاوبت أصدئها في القناة والجزائر وأريترية والفلبين وقبرص وتشاد وزنجببار وغيرها.

ولم يقف أثر الحركة الإسلامية عند حدود قضايا الإسلام والمسلمين ، بل استشرقت – نتيجة إحياء الصفة العالمية لهذا الدين – أفقاًً عالمياًً من الناحيتين الفكرية والحركية ، وأصبح يسمع للإسلام صوت في مشاكل العالم ، بدأ مزاحما يثبت وجوده بين القوى الأخرى التى لا تعترف به ، ثم أصبح صوتاً قوياً يتحدى الأيديولوجيات السائدة ، ويقدم الحلول لمشاكل العالم الجديد.

ولا ننسى اهتمام الحركة الإسلامية في كل هذه المجالات بدور المرأة في الأسرة والمجتمع؛ وتوعيتها بحقوقها وواجباتها ، وإعدادها لأداء رسالتها مما أوجد حركة نسائية إسلامية في ساحة الإصلاح الاجتماعى التى لم يكن يسمع فيها قبل ذلك سوى أصداء التقليد للغرب في هذا المجال.

ونكتفي بهذه الأمثلة من مظاهر الممارسة العملية للمفاهيم الإسلامية التى تعد أحد الإنجازات الكبرى للحركة الإسلامية المعاصرة.

التحرك السياسي:

ونتقل الآن إلى مجال التحرك السياسى:

ذلك الحركة الإسلامية التى لم تقف عن حد الممارسة العلمية فى إطار القوانين والأنظمة القائمة ، بل حاولت تغير هذه القوانين والأنظمة بما يتفق ومفاهيم الإسلام. وقد سلكت في هذا السبيل الطرق الطبيعية المتاحه فقدمت قي مختلف المناسبات اقتراحاتها المحددة إلى الحكومات المعينة لإصلاح الأوضاع بما يتفق مع مفاهيم الإسلام ، وكانت تقترح في هذا المجال إصلاحات محددة تتسم بالواقعية والمرحلية ، وكانت تدعمها شعبياً بمختلف أساليب الإعلام المتاحة لها توصلا إلى نوعية المسلمين بمطالبها وإلى تكوين نوع من الضغط الشعبى على الحكومات لإجبارها على مراعاة شعور المسلمين ورغباتهم.

ولم تقف جهود الحركات الإسلامية عند هذا الحد ، بل دخلت معترك العمل السياسى على مستوى القاعدة الشعبية وهى أسا أى تحرك سياسى أصيل ، فخاطبت المثقفين من العمال داخل تجمعاتهم النقابية والمهنية وجندت أنصار لها في هذه المجالات وكسبت لأنصارها مواقع قيادية في كثير منها ، وبذلك غطت مساحات كانت – لخلوها من العمل الإسلامي – شبة احتكار للقوى اليسارية واليمينية.

وقد أدى الوجود الإسلامى في هذه المجالات إلى دخول مساحة الانتخابات من حين لآخر ، سواء على المستوى النقابى والمهنى أو على المستوى القومى ، انتهازاًً لفرصة متاحة للتوعية الشعبية واختباراًً لإمكانات الحركة في هذا المجال.

تلك بإيجاز هى أمثلة لأهم الإنجازات الإيجابية للحركة الإسلامية المعاصرة ردا على سؤال: ما الذى حققه العمل الإسلامى في الماضى مما لم يكن موجوداًً من قبل؟ أو ما هو الجديد – في وقته الذى أتت به الحركات الإسلامية حينذاك؟.

ولا بد لنا بعد هذا الاستعراض من استدراكين هامين:

أولهما: آن ما نسبنا إلى الحركة الإسلامية من انجازات لا يعنى أنها بدأت من فراغ ، فلا مجال لإنكار البدايات التى سبقتها في كل من مجالات الفكر والممارسة والسياسة ، والحركات الوهابية والمهدية والسنوسية وغيرها والمصلحون المجددون كمحمد إقبال؛ وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم لا سبيل إلى إنكار دورهم الريادى في زمانهم وأثرهم على العمل الإسلامى من بعدهم.

فالعمل الإسلامى على كل حال حلقات متصل بعضها ببعض منذ بعثة الرسول صلى الله وعلية وسلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

والاستدراك الثانى: أن تعداد الإنجازات الإيجابية لا يعنى نكران السلبيات من تقصير وأخطاء ، ولا يعنى أن يكون بعض هذه الأخطاء جسميا خطير النتائج. فليست العصمة لأحد سوى الأنبياء صلوات الله عليهم وليس المهم هو وقوع الخطأ وإنما أخذ العبرة منه وتصحيح المسار وتدارك النقص.

ويبقى بعد هذين الاستدراكين سؤال هام:

إذا كان صحيحاًً أن الحركة الإسلامية قد حققت – في حينه – كل أو معظم هذه الإنجازات. أليس من المحتمل أن تكون هذه الإنجازات تاريخا انقضى ؟ أو بعبارة أخرى: هل يقى من هذه الإنجازات ، أو من آثارها شئ معاصر لنا ينبغى أن ندخله في اعتبارنا عند تخطيط الحاضر والمستقبل؟

الانجازات الايجابية في منظور الحاضر

ونتناول هذه الآثار في مجموعتين:

أحداهما خاصة بخارج الحركات والثانية خاصة بداخل الحركات.

خارج الحركات الإسلامية:

من السهل على من يستعرض واقع الحياة المعاصرة مقارنا مع الوضع الذى كان سائداً منذ 3- 40 سنة أن يلحظ بوضوح أثر إنجازات الحركة الإسلامية التى نشير إلى أهمها بإيجاز.

أول ما نلاحظه هو أن الجماعات الإسلامية التقليدية والتى كان من اهتمامها قاصراً على نواحى العقائد والعبادات قد تحولت مفاهيمها وكثير من ممارستها إلى اتجاه الحركة الإسلامية المعاصرة.

ومن ناحية أخرى استمر المد الإسلامى في الأجيال الجديدة من الشباب بصورة واضحة رغم انقطاع الصلة الظاهرة بينهم وبين الحركة الإسلامية. بل ورغم نشأتهم في بيئة إعلامية مناهضة للحركة الإسلامية. وقامت جماعات دينية جديدة يتسم بعضها بالتطرف وهو رد فعل طبيعى لعدم إتاحة جو علنى للعمل الإسلامى ، وقد أدى تعد الحركات الإسلامية بهذه الصورة إلى إطلاق تسمية جديدة تجمعهم هى لفظ (( الإسلاميين)). فإذا تركنا هاتين الظاهرتين الحركيتين وجدنا أن رجل الشارع العادى قد تغيرت نظرته كذلك للإسلام ، وأصبحت قناعته الذاتية هى بحتمية الحل الإسلامى ، بعد أن فشلت الحلول الأخرى في تقديم العلاج لمشاكله المستعصية. ولم يقف الأمر عند حد رجل الشارع العادى ، بل امتد إلى المثقفين والمتخصصين مهم بالذات ، إذ أصبحت تلمس عندهم اقتناعاًً عاما بالإسلام كفكرة ومنهاج حياة ، وأصبحت تصرفاتهم من خلال مواقعهم منطلقة من هذا الاقتناع. تلمس ذلك في كثير من الكتابات العامة والمؤلفات المتخصصة والمناقشات التى تثار داخل الأجهزة الرسمية ذاتها من تنظيمات سياسية ومجالس شعبية ومجالس وزراء في بعض الأحيان.

ولقد اضطرت الحكومات الإسلامية تحت ضغط هذا المد الإسلامى الجارف إلى اتخاذ موقف ممالئ للإسلام تحاول به امتصاص الشعور الإسلامى الشعبى واحتواءه ، وأصبحت وسائل الإعلام الرسمية تردد ما كانت الحركات الإسلامية تقوم بنشره بين الناس من مفاهيم إسلامية ، بل وبدأت تصريحات الوزراء والبيانات الحكومية أمام المجالس النيابية تتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية وتؤلف اذلك اللجان ، محاولة بذلك تهدئة النفوس وكسب الوقت وامتصاص الشعور.

واتسع نطاق هذا الموقف الحكومى ليصبح ممارسة جماعية من الحكومات الإسلامية مجتمعه على صعيد منظمة المؤتمر الإسلامى والمؤسسات المنبثقة عنه.

ولم يكن هذا الموقف من المد الإسلامى قاصراً على الحكومات الإسلامية ، بل وقفته كذلك الحركة الشيوعية في البلاد الإسلامية وتحول مخططها من مصادمة الإسلام ومحاربته إلى احتوائه ، فبدأت الكتابات اليسارية عن الإسلام كثورة يساويه بعد أن كانت تصفه بأنه دين رجعي وبدأت التخصص في الكتابة عن الإسلام أقلام يساويه معروفة.

بل أن الجبهة الرأسمالية المسيحية قد أخذت تهتم بالإسلام اهتماما مغايراً لموقفها السابق ، فكثرت اللقاءات الإسلامية المسيحية ، وبدأ الاهتمام بتغير مناهج تدريس الأديان غير المسيحية في الغرب لإزالة التهجم على الإسلام من الكتب والمناهج ، وحدث تغير جذرى في سياسة الدوائر الاستشراقية يلمسه المتصلون بهذا المجال.

إن هذا الموقع الذى أشرنا إلى بعض مظاهره لا يعني أن الحركة الإسلامية قد حققت أهدافها ، وإنما يعنى أن نتاج تحركاتها ونشاطاتها قد وصل إلى درجة من الأهمية تبرر هذه التحركات المقابلة ، وهذا ما ينبغى أن نضعه فى الاعتبار عند النظر إلى مستقبل العمل الإسلامى.

داخل الحركات الإسلامية:

لقد كان البعض يظن خلال السنوات العشرين الماضية – حين يفكر في أمر الحركات الإسلامية التى تحارب بلا هوادة في كل مكان – أنه قد أصبح أمام فلول جيش منهزم. وقد أثبتت الأيام سخف هذا التفكير. ذلك أن الحرب الطاحنة – ولمدة طويلة – التى تعرضت لها الحركات الإسلامية المعاصرة ، لا يصح أن يتصور معها بقاء الأمور على حالها داخل هذه الحركات التى كانت تضم – حين كانت تعمل في ظروف الحرية المتاحة لها – أصنافاًً مختلفة من الأعضاء وليسوا على نفس المستوى من النضج والصلابة. كما أن طبيعة النفوس البشرية تختلف حين تتعرض للمحن ، فلا يصمد فيها ولا يستمر بعدها كل من يخوضها ، ويمكن أن نتبين بوضوح بين الصامدين نوعين من الأشخاص:

النوع الأول: هو ما يكمنتسميته (( بالكوادر العامة التنفيذية ))  وهم على درجة عالية من التفانى والإخلاص والفهم العام لأهداف العمل الإسلامى ، وعلى أكتاف هؤلاء يمكن أن يقوم كثير من العمل المقبل بشرط أن تنظم لهم دورات دراسية وتدريبية تعيد تشكيلهم وفقاًً لمقتضيات المرحلة القادمة حتى لا يستمر تصورهم للعمل السابق عائقا لهم عن الإنتاج في الصور الجديدة للعمل الإسلامى.

النوع الثانى:هو ما يمكن أن نسميه (( بالكوادر المتخصصة القيادية )) ، وهم على درجة عالية من التفانى والإخلاص والوعى لمتطلبات المرحلة القادمة والقدرة المتخصصة على حمل مسئوليات قيادية محددة ، ومن مجموع هؤلاء – وفي إطار من التنسيق الجماعى بين أفكارهم وجهودهم – ينبغي أن تتكون القيادة المقبلة للعمل الإسلامى.

هذان النوعان من الكوادر هما التراث البشرى الثمين الذى أنتجته الحركة الإسلامية خلال نصف قرن من العمل الدائب. فإذا أضفنا إليها الأجيال الجديدة من الإسلاميين بعد العناية بتوجيههم وتنسيق أفكارهم وجهودهم بما يزيل تنافر اتجاهاتهم – أصبح لدى الحركة الإسلامية المعاصرة رصيداًً بشريا كا فياًً لمواصلة العمل للمرحلة القادمة.

ولعل سؤالا ينتظرنى هو: هل تختلف صورة العمل الإسلامى المقبل عن العمل الإسلامى الماضى؟

وأبادر بالإجابة ((بنعم)). ينبغي أن تختلف صورة العمل من عدة نواح ، فالأهداف المرحلية – ولا أقول العامة – مختلفة ، والظروف المحيطة بالعمل مختلفة ، ومن الطبيعى أن يعاد النظر لا فى خطة العمل فحسب ، وإنما كذلك في التشكيلات والتنظيمات بما يناسب العمل الجديد ، إذ أن التنظيمات والتشكيلات القديمة لم تعد ممثلة لواقع العمل ولا وافية بمتطلباته ، وأصبح الحفاظ على شكلياتها وتسمياتها عائقا عن الانطلاقة المرجوة للعمل الإسلامى المقبل ولتفصيل ذلك حديث آخر .

وإذا كنا قد أوضحنا الرصيد البشرى الثمين الذى خلفته لنا جهود عشرات الأعوام ، فلا ينبغي أن ننسى رصيدا آخر لا يقل اهمية هو: الخبرة والتجربة الناتجة عن هذا العمل. هذه التجربة الضخمة بإيجابياتها وسلبياتها لا يجوز أن تظل حبيسة في صدور وعقول الرجال. فالرجل إلى زوال ،  لكن خبراتهم ملك للأجيال من بعدهم. ينبغي أن تسجل وتجمع وتكتب وتحلل. وكل تأخير فى هذا المجال يجعلها أدخل في كتابة التاريخ منها في كتابة التجربة الحية المستمرة. حتى لا تتكرر الأخطاء من الأجيال الصاعدة نتيجة عدم إلمامهم بتجربة السابقين عليهم. وحتى تتبين لهم أصول كثير من مظاهر العمل الحاضر التى قد يظنها البعض تجديداًً وابتكاراًً. وهى فى الحقيقة: امتداد لتجربة سابقة أو ثمرة لها ، وإن اختلفت الأسماء وتعددت الصور.

ولا يقل أهمية عن هذا وذاك: أن تحذر الأجيال الجديدة من انتكاس العمل في إنجازاته الإيجابية التى تحدثنا عنها ، وليس هذا مجال التفصيل ، ويكفى التنبيه إلى خطورة بعض المظاهر التى تبينت فى الأعوام القليلة الماضية كالدعوة إلى المذهبية الفقهية ، وتصدر المشايخ التقليدين لبعض مواقع العمل ، وتبلور النشاط الحكومى الإسلامى بمفهومه الخاص. وفى هذه الإشارة كفاية.

وأظن: ألا حاجة بى – في نهاية الحديث –  إلى أن أؤكد أن الحديث عن سلبيات العمل الإسلامى لا يجوز أن يؤدى بنا إلى اليأس ، وكذلك الحديث عن إنجازاتها الإيجابية لا يجوز أن يؤدى بنا إلى الدعة والاطمئنان. فمن السلبيات نأخذ العبرة ، ومن الإيجابيات نأخذ العزم ونجدد العهد. ،

((والله غالب على أمره )) 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر