قبل تقنين أحكام الشريعة كأساس لتطبيقها
لا بد من حوار علمي بين أهل الاختصاص في مناخ ديمقراطي صحيح
بعض المتحمسين لتطبيق الشريعة الإسلامية يلحون على أن تتضمن دساتير بلادهم النص على أن الشريعة هي مصدر التشريع.
وقد يحدث أن يوضع مثل هذا النص بصيغة من الصيغ التي قلد تلقى الرضا المطلق من هؤلاء المتحمسين أو تلقى بعض التحفظات. ثم تجد الدولة التي وضعت في دستورها مثل هذا النص مصاعب شتى في سبيل إعمال النص تشريعيا. فهناك أكداس من القوانين التي صدرت لا بد من مراجعتها في ضوء أحكام الشريعة، ثم هناك قوانين تبدو الحاجة المتجددة إلى إصدارها ولا بد من مراعاة أحكام الشريعة فيها. وأمام الصعوبات الواقعية التي تصحب عادة فترات الانفصال، قد ترى السلطة التنفيذية التي تقترح مشروعات القوانين، أو السلطة التشريعية التي تقرر إصدار هذه القوانين –في حدود صلاحياتها المقيدة بأحكام الشريعة طبعا- التراخي “عمليا” في إعمال النص الدستوري الذي يقرر أن الشريعة مصدر التشريع!!
يضاف إلى هذا صعوبات عملية إجرائية، في تحديد جهة الاختصاص من علماء الشريعة التي تقرر موافقة أي تشريع مقترح لأحكام الشريعة والتي يكون لرأيها وزنه الفقهي إذ لا بد من تحديد جهة استشارية فقهية ثابتة تتبع مجلس الدولة إذا وجد، أو تتبع وزارة العدل، أو تتبع السلطة التشريعية نفسها. ولا يكتفي بما ينتج عرضا عن المصادفة وحدها من أن يكون بين أعضاء السلطة التنفيذية أو التشريعية بعض علماء الشريعة، وإن كان من الأفضل، أو من اللازم أن يكون بعض هؤلاء الأعضاء من العلماء بل من المجتهدين، حتى يتحقق شرط “الاجتهاد” في الهيئات القائمة بمسئوليات الحكم “كجماعة”، ما دام يتعذر أن يتحقق في كل فرد أو عضو من أعضائها على حدة.
محمد فتحي عثمان
لكن تبقى الصعوبة الكبرى الأهم أمام تقنين أحكام الشريعة وهي “الصعوبة الموضوعية” التي تمس بعض القضايا الأساسية المتعلقة بالحريات العامة وكيفية ممارستها والحدود القانونية لهذه الممارسة، أو المتعلقة بالحقوق العامة لبعض فئات المواطنين، إلى غير ذلك من القضايا التي تتصل بأسس النظام السياسي أو النظام الاجتماعي أو النظام الاقتصادي للدولة.
فلقد قطعت بعض الدول الإسلامية –مثلا- شوطا في “تأميم” وسائل الإنتاج، وفي تحديد الملكية الفردية، وفي توسيع نطاق الملكية العامة الاقتصادية بما تتطلبه من تحديد علاقات التعايش؛ أو التنافس، أو التعاون بين القطاعين: العام والخاص، بينما لم ترتض دول مسلمة أخرى أن تمضي في هذا الشوط، واكتفت بتأمين بعض “الخدمات” الضرورية عن طريق الدولة. مثل التعليم، أو العلاج، أو المواصلات، مع السماح للجهود الفردية بالنشاط في هذه المجالات نفسها، إلى جانب تملك الدولة للمؤسسات العاملة في موارد محددة –على سبيل الحصر- مثل البترول والثروة المعدنية، أو لنسبة كبيرة من رؤوس أموال هذه المؤسسات بما يحقق إشراف الدولة عليها وإخضاعها لسياستها وإدارتها.
وقد يستثير مسلك هذه الدول أو تلك المناقشات حول مدى “إسلامية” سياسة التأميم، وممارسة الدولة للنشاط الاقتصادي، وتوسيع نطاق الملكية العامة الاقتصادية أو مدى “إسلامية” سياسة ابتعاد الدولة عن هذا كله وانحصارها في المهام التقليدية للدولة في مجال الخدمات. فليست الصعوبات التي تقابل تطبيق أحكام الشريعة مقصورة على نطاق قواعد قانونية جزئية تحكم بعض المعاملات أو تشرع بعض العقوبات، فإن مثل هذه الصعوبات “الفنية” قد تثير جدلا أقل بكثير من الصعوبات “السياسية” التي تتعلق بفلسفة الدولة وسياستها العامة في الحكم. والحوار في قضية تتعلق بالفلسفة السياسية للدولة، أو بالأيدولوجية العامة للحكم لا يمكن حصره في نطاق محدود من أهل الذكر والاختصاص، فهو يمس عقيدة كل مسلم من مواطني الدولة، ويمس حقوق غير المسلمين ومصالحهم، كما يتعلق “بسياسة” لها جذورها وكيانها وآثارها من نواحٍ متعددة: نفسية، واجتماعية، واقتصادية، ولا بد من تقرير آراء الخبراء المتمرسين بهذه النواحي والمتابعين لها.
لذلك لا بد أن يتجاوب الخبراء “الأيدولوجيون” والخبراء “التكنولوجيون” في مناخ ديمقراطي صحيح، يتابعه الجمهور في يقظة ووعي وايجابية، على ألا تعني “الايجابية” ممارسة لضغوط مادية أو معنوية على المتحاورين، بل مشاركة بالكلمة الصادقة المخلصة، حين يحس أي فرد الحاجة لذلك، والقدرة عليه. ومثل هذه التجربة الفذة في تاريخ المسلمين الحديث، يفسدها أي إرهاب أو إغراء للمتحاورين، سواء أكان ذلك مقصودا بصورة مباشرة أو لم يكن كذلك، وسواء أصدر ذلك بحسن نية، أو بسوء نية، فإن الجناية على هذا “الحوار” -البناء الجليل- واقعة في جميع الأحوال، أيا كان حجم الضرر أو صورته.
ولندع أمور السياسة الاقتصادية جانبا في هذا المقال، مع التأكيد على أهميتها والضرورة الملحة على مناقشتها والتماس الرؤية الواضحة من جانب المتحمسين لتطبيق الشريعة الغراء. ولنتناول ما قد يبدو للغالبية أهم وأخطر، أو ما قد يظن أن الاتفاق في شأنه أيسر وأعم.
إنه من الواضح أن إطلاق “الحريات العامة” بدون أي قيد من القانون الذي ترعى تنفيذه السلطة المختصة، قد صار شيئا “تاريخيا” قررته الليبرالية الكلاسيكية وعدله التطور المعاصر في الديمقراطيات الغربية القائمة، وهي المثل الأعلى التطبيقي للديمقراطية في عالمنا. فكل الديمقراطيات التي نعرفها تقرر تدخل الدولة –بصورة من الصور- في تلك الأنشطة والعلاقات المتشابكة الخاصة التي لا يمكن للدولة أن تقف إزاءها متفرجة أو محايدة، وبخاصة أن النشاط “الخاص” في عصرنا: لا يعني النشاط “الفردي” لأن أي نشاط خاص لا يضمن لنفسه الاستقرار والفعالية، إلا إن ارتكز إلى “جماعة” تتآزر طاقاتها الرأسمالية على العمل، وقد تصل هذه “المؤسسة الجماعية الخاصة” إلى قوة تهدد الحرية الحقيقية للفرد.
ومن هنا كان ضمان ممارسة الحريات العامة بصورة حقيقية فعالة، قد يتطلب تدخل الدولة لحماية الأفراد والمجتمع، لا حيادها أو سلبيتها. فليس الخلاف إذن حول الحاجة لوضع “حدود” قانونية لممارسة الحرية، وإنما منشأ الخلاف حول ما يمكن أن تكون عليه هذه الحدود. وللإسلام أحكامه وآدابه –مثلا- في اختلاف الرأي حتى لا تتمزق وحدة الأمة.
وإذن: فهل يجوز قيام الأحزاب في دولة تتحاكم إلى الإسلام؟ وللإسلام أحكامه وآراؤه في ممارسة “النقد”، وفي التفرقة بين ما يجوز إعلانه على الملأ وما لا يجوز، وما يجوز ممارسته في نقد “الشخص العام” أو من يتولى مسئولية عامة للمسلمين وفي نقد أي فرد آخر من الأفراد لا ينبغي أن تقتحم خصوصياتها أو أن تشاع على الملأ. ولكن هذا كله قد لا يكون جليا بالصورة الكافية. ومن شأن الحوار: أن يزيد الصورة وضوحا ويزيد الموضوع ثراء، حتى لا يتجه فريق من المسلمين، أو من علماء شريعة إلى الإسراف في وضع القيود على ممارسة بعض الحريات مما يضيق على الناس الخناق ويفتح الطريق إلى استبداد مقنع –بتشديد النون المفتوحة- بالدين وهذا كله مسيء إلى الإسلام أمام المسلمين، وأمام العالم أجمع. والحوار ضروري لتحديد اتجاهات الإسلام –مثلا- في حرية الرأي والاعتقاد وحرية الاجتماع، وحق التظاهر وحق الإضراب…الخ.
ولا بد أن نسلم: أن تمرس فقهائنا بالقانون العام محدود. إذ أن تميز أحكام القانون العام عن أحكام القانون الخاص –بحكم طبيعة المجال الذي يحكمه كلا الفرعين- ظاهرة حديثة في مجال التطور القانوني بوجه عام. على أن لفقهاء الشريعة نظرات جزئية متفرقة صائبة في هذا التمييز، وإن لم تتحول إلى قاعدة عامة مطردة.
وتستطيع أن تتابع بعض هذه الجزئيات فيما تناوله به الماوردي، وأبو يعلي، وابن تيمية، وغيرهم، مركز “الدولة” القانوني في العلاقات التي تكون طرفا فيها. ولكن هذا لا ينفي الحاجة إلى نظرة كلية شاملة تترتب عليها تطبيقات مطردة متسقة في مختلف الحالات. أو مجالات “النشر” أو “الإعلام” في عصرنا –مثلا- قد تطورت وتقدمت واتسع نطاقها ومجالها حتى ترتبت عليها آثار لم تكن في تقدير فقهائنا السابقين –بطبيعة الحال- وأصبح لا بد من نصب ميزان العدل بين ضمان “الحرية” التي تمثل هذه الوسائل (رئتها) الضرورية، وبين توقي الحيف على بعض القيم الأخلاقية والنظم الاجتماعية، ثم لا بد من نصب ميزان العدل لضمان حرية الاعتقاد وحرية الرأي بين أصحاب العقائد والآراء المتباينة بتقرير واضح للحقوق والواجبات بالنسبة لصاحب العقيدة أو الرأي، فردا كان أو جماعة.
ويحتاج تناول هذه القضايا الحساسة والعلاقات المتشابكة والاجتهاد في تقرير ما يبدو أنه وجه الحق فيها على هدي أحكام الإسلام، إلى حوار علمي بين الفقهاء المسلمين المعاصرين، يستهدف تقرير أحكام مفصلة محددة لا سرد عموميات، ومطلقات، قد فرغ من تقريرها تراثنا الفقهي من قديم، أو إزجاء خطب وأحاديث لا تقطع بحكم بات في أية قضية مفصلة بعينها من القضايا التي تثار في صدد الموضوع. وبدون هذا التحديد: قد تغلب على اجتهاداتنا في قضايا النشر أو الإعلام طابع “الحظر” والإسراف في النهي والتحريم، أو قد تواجه وسائل النشر والإعلام تراخيا وسلبية من جانب أولي الأمر والتوجيه، بما يجعل نشاطها مجرد استمرار ومواصلة لما كانت عليه قبل تطبيق أحكام الشريعة، مع بعض الحرص “الشكلي” على إعلان مواقيت الصلاة والصوم، أو الاحتفال بالمناسبات الدينية المعدودة، في حين أن حقيقة الدين أن ينبث في كل الثنايا والحنايا بأسلوب موفق كثيرا ما يأتي بصورة غير مباشرة.
وقد يرتبط بمجالات النشر أو الإعلام كثير من مسائل “الفن” التشكيلي أو التعبيري، وما يجوز منه –في حكم الإسلام- وما لا يجوز. فمثلا: هل النهي عن “النحت” –وربما اقترن به التصوير أيضا- عام شامل أو مقصور على ما يتخذ فقط للعبادة أو التقديس، أو ما قد تثور حوله هذه الشبهات؟ وهل هذا النهي مؤبد أو موقوت بزمن كان فيه العرب المسلمون “حديثي عهد بكفر” أو وثنية؟. هل الموسيقى فن يبيحه الدين أو هو من مزامير الشيطان، أو أن من الموسيقى ما هو رفيع مباح، ومنها ما هو خسيس مبتذل مرفوض؟؟ وما حكم الغناء من الرجل أو المرأة، في الحب وغيره؟ هل يجوز اشتراك المرأة مع الرجل في المسرح والسينما؟؟ وهل يجوز أن يدور الأدب والفن حول ذلك المحور الذي طالما دار في فلكه التعبير الأدبي والفني منذ أقدم القدم، وأعني الحب بين الرجل والمرأة. وما هي الحدود المشروعة للتعبير في هذا المجال؟؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة مفصلة تكون حاضرة عند إعداد قوانين جديدة للنشر والإعلام بمختلف الوسائل والأساليب، أو عند مراجعة القديم منها ليبدو متوافقا مع أحكام الإسلام. وهذه الأجوبة لازمة لتحديد مهمة “الفن” ووسائل الإعلام في التثقيف والتسلية.
ويسوقنا هذا إلى الحديث عن “المرأة” ووضعها القانوني في مجتمع يحتكم إلى شريعة الإسلام. وما يجوز لها وما لا يجوز. فإن تحديد هذا الوضع لازم لمجالات متعددة من مجالات التشريع.
فما هو زي المرأة المشروع، وماذا يجوز أن يبدو من جسمها؟ وهل تشرع عقوبة –من باب التعزير- على تجاوز المرأة حدود الزي المباح؟؟… وهل تقتصر عليها شخصيا أم تشمل وليها أيضا؟.
وما هو نشاط المرأة المشروع في المجتمع الإسلامي: سواء في مجال طلب العلم، أو في مجال العمل، أو في مجال الخدمة الاجتماعية، أو في المجال السياسي؟؟… هل هو مباح بإطلاق أم أن هناك حدودا وضوابط، وماذا عسى أن تكون تلك الحدود والضوابط؟؟ هل ينبغي أن يكون تكافؤ الفرص هو القاعدة لكل رجل وامرأة في مجال طلب العلم وفي مجال العمل، بحيث تغدو كل تفرقة إخلالا بالمساواة. مثلا هل يجوز للمرأة أن تكون قاضية وجيولوجية ومهندسة مناجم؟ هل يجوز أو تستثنى دراسات أو وظائف معينة لا تباح لغير الرجال، أو يتجه التشريع لإيثار تفرغ المرأة للواجبات الأسرية وتشجيعها على ذلك؟؟ هل يجوز للمرأة أن تكلف بواجبات الخدمة العسكرية؟؟ وفيما يتاح للمرأة من تعلم وعمل هل يجوز اختلاطها بالرجال أو يكون الفصل بين الجنسين هو الأصل والقاعدة؟ وما هي حدود الاختلاط المباح؟؟.. وكيف يحارب الاختلاط غير المباح؟ هل يكون من وسائله التشريع العقابي أم يقتصر الأمر على التربية والتوعية ورقابة الأسرة وسلطان التقاليد؟؟… وهل يعمل الطبيب والطبيبة والمدرس والمدرسة وغيرهم بين الرجال والنساء معا؟؟ وهل ثمة قواعد تنظيمية في مثل هذه الحالات؟.
والحقوق السياسية هي الأخرى قضية –أي قضية- عند علماء الشريعة. هل يجوز للمرأة المسلمة أن تكون ناخبة؟ وهل يجوز أن تكون ذات نشاط ومسئولية قيادية في حزب سياسي إذا أجيز قيام الأحزاب؟؟ وهل يجوز أن تكون نائبة عن الرجال والنساء معا بطبيعة الحال؟ وهل يجوز أن تكون وزيرة، ولا نقول رئيسة وزراء؟ وهل يجوز أن تكون رئيسة على مجموعة كبيرة من الرجال؟ أم هناك قيد عام في الحديث “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”؟؟ وما هي الحدود بين ما يجوز وما لا يجوز؟؟ هل يجوز أن تشترك المرأة في مظاهرة –إذا أبيح حق التظاهر- وفي الإضراب والاعتصام بمكان ما –إذا كان ذلك من الحقوق المباحة للرجال؟؟.. إن التشريعات الخاصة بتنظيم ممارسة الحقوق السياسية وتشريعات الجمعيات والأحزاب والتظاهر والإضراب تنتظر كثيرا من ثمار الحوار البناء في هذه الموضوعات.
وهل تظل شهادة المرأة هي نصف شهادة الرجل أيا كان مستوى التعليم والخبرة لكل منهما، باعتبار وجود فارق فسيولوجي وظيفي بين الرجل والمرأة يبرر هذا الفارق على وجه التأييد، أو أن العلة التي ذكرها القرآن هي شرط الحكم “أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى- البقرة 283″، وهي علة موقوتة مرهونة بالظروف الاجتماعية المتغيرة، ويدور معها الحكم وجودا وعدما؟.
ثم تأتي مشكلة أخرى ينبغي أن تعالج بصراحة وفي نقاش مثمر: هي مشكلة وضع المواطن غير المسلم –أو ما اصطلح على تسميته بالذمي- في الدولة التي تطبق شريعة الإسلام.
هل يكون الأصل هو المساواة التامة بين جميع المواطنين في جميع الحقوق والواجبات؟؟ هل يجوز أن يكون المواطن غير المسلم نائبا ووزيرا، وقاضيا، ومسئولا في الجيش، هل شهادته مقبولة في حق المسلم، ودمه سواء هو ودم المسلم، ولو قتله مسلم عمدا قتل به المسلم؟؟ هل “الجزية” حكم لازم مؤبد، وما هو تكييفها القانوني المقبول؟ وقد اختلفت فيه الفقهاء قديما وحديثا؟ هل يستمر القول بأنها “عوض عن حق الدم” أو يؤخذ بأنها “أجر لسكنى الدار” أو يقبل التكييف الذي قدمه فقهاء معاصرون استنادا لوقائع تاريخية رواها مؤرخون ثقات كالطبري والبلاذري: أنها “بدل عن الخدمة العسكرية الواجبة”؟؟ وهل يجوز لقانون التجنيد أن يفرض على كل مواطن غير مسلم أداء واجب الخدمة العسكرية كقاعدة عامة أصيلة؟؟ وما هي القواعد التي تحكم وضع غير المسلم في الجيش؟؟ ثم ماذا عن “الصغار” المفروض؟؟ هل يكون المقصود ما ذكره بعض الفقهاء –ومنهم ابن القيم- من أنه جريان أحكام الإسلام على غير المسلم؟؟
ما هي حقوق غير المسلمين في إنشاء معابد مستحدثة، وهل هناك أية قيود مفروضة على أشخاصهم في الزي أو الركوب والسكن أو غير ذلك، أو على ممارستهم لشعائرهم؟؟
كل هذه مسائل لا بد أن تجلي تماما للمسلمين ولغير المسلمين.. فلا تكفي النوايا الغامضة أو العبادات المائعة أو الخطب الرنانة، ثم التهامس من وراء الظهور!! ولا يعني أبدا –أن نتجاهل- في هذا الصدد المشكلة أو نقول إنها غير موجودة، أو نسقط من تراثنا الفقهي بعض ما يخشاه غير المسلمين من أحكام ونزعم أنها لم ترد أصلا أو أنها خاطئة. لا بد من تناول القضية بأمانة المؤمنين.
إن غير المسلمين قد عاشوا في ظل “الدولة العلمانية”، وتابعوا الثقافة الغربية التي ترى أن مثل هذه الدولة هي الغاية والمثل الأعلى المنشود الذي يحقق المساواة بين المواطنين، وعايشوا مكائد الاستعمار التي استغلت “حقوق الأقليات” لعرقلة الاستقلال وطالما استثارت القلاقل بين المسلمين وغيرهم وبين المواطنين والأجانب، وهم قد تكون لهم ذكريات سيئة عن حكم طاغية تسمى بأسماء المسلمين أو عن حوار غير كريم من جانب أحد المسلمين.
ومن حق هؤلاء المواطنين غير المسلمين أن يؤمنوا على مركزهم القانوني وحقوقهم ومستقبلهم، وأن تبسط لهم وجهة النظر الإسلامية في معاملتهم، وأن يبين لهم الفرق بين الأحكام الثابتة القطعية المؤبدة، وبين الشروح والآراء الفقهية الاجتهادية التي يؤخذ منها ويترك، والتي تتأثر بالظروف التاريخية المتغيرة. من حقهم أن يبصروا بالقول الفصل في شأن ما قدمنا من مسائل وأمثالها، حتى تتضح الحقيقة بكل أبعادها، لا أن يصدموا بتشريع دستوري مفاجئ ينص على أن شريعة الإسلام هي مصدر التشريع، وبمراجعة تشريعية شاملة لكل ما فات من تشريعات لتتمشى مع هذا الأصل الدستوري، بينما بعض الأحكام التي تتضمنها كتب الفقه تثير لدى غير المسلمين شبهات، وتغشى بالضباب والغبار الأصول العامة وللإسلام نفسه كدين ووقائع التعايش التاريخي بين المسلمين وغيرهم التي كثيرا ما لفتت أنظار مؤرخين أعلام من غير المسلمين.
لا بد من الشروع في الحوار حول هذه القضايا والمسائل فورا، دون أي إبطاء. فالقضية ليست قضية “توفيق” أو “تلفيق” جزئي بين أحكام المعاملات الواردة في كتب الفقه وأحكام التقنين المدني القائم، أو بين أحكام الحدود والقصاص الواردة في كتب الفقه وأحكام قانون العقوبات القائم. إنها قضية أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية عامة هامة، تحتاج إلى إيضاح حكم الإسلام فيها على هدى ونور، وبعد المناقشة المتأنية المتبصرة على علم، والحوار الجاد الرصين بمنطق وذوق، لأن لهذه الأوضاع آثارها الكبرى في تشريعات متعددة، تمس الحريات العامة والحقوق السياسية والنشر والإعلام والعمل كما تمس الأسرة والحقوق المدنية والمعاملات التجارية والإثبات والعقوبات والإجراءات… الخ.
ولهم –الجمهور، مسلمين وغير مسلمين، أفرادا وجماعات- أن يتابعوا النقاش ويتعرفوا على ما يستقر عليه الرأي، حتى يتبين الهدي لكل ذي رشد، ولا يشذ إلا معتد متجن مفرق مستحق لتحمل جريرته “ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى” – النساء 115 ذلك أن هذا الحوار ليس “جدلا أكاديميا” بين المتخصصين، وإنما يمس المعتقدات والآراء والتقاليد الفكرية والاجتماعية كما يمس الحريات والحقوق السياسية والمراكز القانونية للمواطنين فهو يهم جمهور الأمة في الصميم.
وقد ينبغي البدء بتشكيل لجنة موسعة من علماء الشريعة وأحبار الدين غير المسلمين أو دعوة هؤلاء إليها في جلسات معينة، كما تضم لجنة المفكرين البارزين والمتخصصين والخبراء في مختلف مجالات الإنسانيات من قانون واجتماع واقتصاد وتربية وتاريخ وغير ذلك، ثم تتفرع اللجنة العمة إلى لجان أضيق وأكثر تخصصا لمناقشة موضوعات بعينها. وتنشر المداولات الهامة والنتائج التي يتوصل إليها في هذه الاجتماعات.
وقد ينبغي الاتجاه مستقبلا إلى تحديد “جهة فقهية معينة” لعرض أي تشريع مقترح عليها للتأكد من موافقته للشريعة، بدلا من ترك هذا للمصادفات التي قد تأتي ببعض علماء الدين إلى مجلس الأمة أو إلى مقعد وزارة الأوقاف. ويمكن أن تتبع هذه الجهة “مجلس الدولة” أو الهيئة التشريعية المختصة على أن ينص على وجوب عرض التشريعات المقترحة كلها على تلك الجهة، سواء أكانت مقدمة من السلطة التنفيذية، أو مقترحة من أحد أعضاء الهيئة التشريعية. وعلى أن يكون الرأي في هذه الجهة “جماعيا” لا فرديا. فلا يكتفي مثلا بمراجعة مفت واحد كما فعل وزير المالية المصري في مشروع قانون الضرائب إذ عرضه على المفتي التابع لوزارة العدل.
وقد ينبغي تعبئة أجهزة الإعلام والتوجيه ومؤسسات التربية والتعليم لتنوير الجماهير في هذه القضايا، وبيان الحق في حرص تعاليم الإسلام على كفالة حرية الاعتقاد وسائر الحريات العامة، وعلى توفير الضمانات الأخلاقية والسلوكية والقانونية لإقامة مجتمع يسوده حسن المعاملة وإتقان العمل وطيب القول ورعاية حقوق الأفراد الآخرين ومصالح الجماعة ولتنظيم الحوار الرصين البناء في جو من الصراحة والمودة والتفاهم والتعاون بين مختلف العقائد والآراء.
وقد يكون من آثار هذه التعبئة الإعلامية التوجيهية التربوية، أن تألف الأمة “الحوار” ومناهجه وآدابه، بحيث يصير من عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة بدل ما يشيع فينا وعنا من فرض الآراء والتهرب من أية مناقشة، والحوار مع النفس فقط أو مع من يعرف المرء اتفاقهم معه أو سكوتهم عن مخالفته، أو الحوار “المفترض” مع الآخرين خلف ظهورهم!!
وأنا أقدر لمثل هذا الحوار الضروري لتحديد المفاهيم قبل تطبيق أحكام الشريعة في شتى المجالات، مدة تتراوح بين عامين وثلاثة أعوام حتى يكون الحوار جادا له نتائجه التي يمكن أن يستفاد منها. على أن أمد هذا الحوار (التأصيلي) لا ينبغي أن يطول بحال عن أربع أو خمس سنوات، لأن الحوار سيظل موصولا ما وجد التفكير وما وجد الاختلاف في التفكير عند الفرد الواحد نفسه وبين الأفراد المتعددين. وإنما المقصود هنا حوار (تأصيلي) كما قلت، وهو ضروري لتحديد المفاهيم الأساسية في القضايا الكبرى، وليس المقصود إجراء حوار شامل يتناول كل الجزئيات والتفاصيل في شتى المجالات وتعتبر هذه الفترة “انتقالية” تسبق التقنين والتطبيق لأحكام الشريعة على وجه الشمول ولا يتعارض حكم هذه الفترة الانتقالية الضرورية مع النص الدستوري بجعل الشريعة مصدر التشريع. إذا كان مثل هذا النص قد تقرر في دستور الدولة. وهي تقي عثرات كثيرة في التطبيق قد تؤدي إلى تأخير أطول أمدا أو تراجعا نهائيا لا قدر الله.
ولما كان المناخ الديمقراطي الصحيح شرطا أساسيا لقيام هذا الحوار بين أهل الذكر المتخصصين ونجاحه، ولمتابعة الجمهور له ومشاركته فيه، فغني عن القول أن توفير مثل هذا المناخ لا بد أن يكون مطلب كل داعٍ للإسلام مناصر لتطبيق شريعته.. وإنه ينبغي أن يتقدم حتى على الدعوة إلى تطبيق أحكام الشريعة نفسها.. وأن ضمان الحريات العامة مطلب أساسي لرسالة الإسلام وشريعته، وهو مطلب حيوي ضروري لكل إنسان، ومن ثم يجب أن يتضافر عليه سائر المخلصين “للإنسان” وليس إلحاح الإسلاميين على توفير الحرية بحال بمجرد “تكتيك مرحلي” حتى يقفزوا إلى السلطة، بل هو أصل شرعي حاكم على المسلمين سواء أكانوا دعاة بين جماهير الشعب أو حاكمين في مقاعد السلطة. فالإسلام الصحيح لا يعرف تناقضا بين إسلام “الدعوة” وإسلام “الدولة” ويحذر من النفاق والرياء وفتنة القول والعمل والشرك الخفي “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تعلمون”- الصف 3.