أبحاث

أبعاد العبادات في الإسلام

العدد 10

تمهيد:

اصطلاح القول على تسمية الشعائر الإسلامية بالعبادات. إلا أن هذا الاصطلاح خاطئ ومرفوض. فالعبادة في الإسلام ليست الشعيرة

فقط. ويمكن القول بأن الشعائر كلها هي الحد الأدنى للتعبد الإسلامي. الإسلام لا يقسم الحياة إلى دين ودنيا، بل يجمعهما معا في إطار واحد، هو الإسلام، فحراثة الأرض والإنتاج في المصنع أو المكتب عبادة، والحمل وتربية النسل وعناية البيت عبادة، والجهاد المسلح والترفيه عن النفس المرهقة عبادة، والتفقه في الدين والكيمياء عبادة.

لنوسع إذا تفهمنا للعبادات فنرى فيها التعبد الإسلامي ونأخذها نقطة انطلاق لبحث أعم وأشمل. ولنعي أنه لا يمكننا تحديد جميع الأبعاد بكاملها. ذلك أن التعبد من أمر الله ولا يحيط أحد بعلم الله وحكمته. فالممكن هو محاولة تبيان ما يتراءى لنا من فضائل التعبد والاكتفاء بالأهم منها، أي بما له مساس قوي بنهضتنا الحديثة، لا سيما بما أخفقنا في تحقيقه منها.

البعد الاقتصادي:

أفهم بالبعد الاقتصادي للتعبد الإسلامي البعد المادي عموما، المؤلف من جميع أنواع الخير المادي من بقاء وصحة وقوة عظيمة وتنظيمية ومادية للتغلب على المشاكل والأزمات والتخلص من آثارها. وأفهم أيضا بالبعد الاقتصادي رفاهية خلافة تعاضد الروحانية وتساندها. فماذا يقدم لنا التعبد الإسلامي في هذا المضمار؟

يقول لنا الإسلام إن الله تعالى خلق الإنسان ليكون له خليفة في الأرض. وأن معنى هذه الخلافة هو تحويل المخلوقات كلها إلى ما يطابق أمر الله وإرادته، ويقول لنا أيضا إن الهدف المرغوب في التحويل هو أخلاقية الإنسان وسعادته وجعل هذه الأرض جنى يجزى الإنسان فيها قسطا من الجزاء الأكبر.

ويصر الإسلام: أن للإنسان أن يصنع تاريخه بيده. فكل نفس بما عملت رهينة، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الإنسان إذا عمل فسيرى عمله الله ورسوله والمؤمنون، أي أن لا بد لعمله الجاد من أن يؤتي ثماره المرجوة. فالحياة ليست عبثا وليست الأرض شرا. بل وضع الله في الإنسان من المواهب والمقدرة ما يضمن تحويل ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون. ويقول لنا الإسلام أيضا إن الصلاة تدفع إلى المعروف وتمنع عن المنكر، وإن رمضان هو شهر البركات، وإن الزكاة خير محض مادي ومعنوي، أي فلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى.

إذا كان هذا هو البعد المادي العام للتعبد الإسلامي، فما ينطوي عليه هذا التعبد من معانٍ اقتصادية؟

(أ) العمل. خلق الإنسان ليعمل، وعمله هو تعبده. فلا فلاح ولا خير ولا نفع ولا تغيير لشر ومكروه إلا بعمل. والعمل هو الكد والجهد والبذل والإنتاج في كل حقل من حقول الحياة. فالذي لا يعمل يمكن أن يكون بوذيا حكم على الخلق بأنه كله شر لا خير فيه، أو مسيحيا أقعد نفسه انتظارا لمخلصه لينشله من الوجود الشرير إلى غير رجعة، أو لا دينيا متهكما آمن بعبث الوجود كله. ولكنه، أي الذي لا يعمل، لا يمكن أن يكون مسلما. ونحن المسلمون عموما مخفقون في طاعة أمر الله: بأن اعملوا. إذ لا نعمل بربع ما فينا من طاقة سواء كنا فلاحين أم حكاما. ولعل العمال الصناعيين هم الوحيدون بين المسلمين الذين يعملون الحد الأدنى كل يوم. وليس ذلك تطوعا منهم بل أجبرهم التنظيم الصناعي الذين يعملون فيه. وأسوأ المسلمين موظفو الحكومات. وما أحرى المسلم بأن يذكر بأنه بدون عمل لا يستقيم له سوى الفقر. والفقر من وعد الشيطان

(ب) شرف المعاملة: على المسلم أن يعمل بشرف، أن يبيع ويشتري بشرف، ويخدم وينتج بشرف، ويستهلك ويستعمل بشرف. وهو، إن آمن بأن الله يراه، وأنه تعالى سيحاسبه عن كل ما يعمل، ولو كان مثقال ذرة، فإنه سيعمل بشرف. عندئذ لا حاجة للمفاصلة في البيع والشراء فمن الشرف أن يكون السعر علنيا واحدا للجميع. عندئذ يحترس العامل على مال غيره أشد من احتراسه على ماله الخاص. عندئذ يكون تنفيذ العامل لخطة مديره كاملا لا يحتاج لتفتيش. عندئذ يكون استعمال الناس لمرافقهم العامة من طرق وحدائق ووسائله مواصلات وغيرها أمينا لا تشوبه شائبة.

(ج) الزكاة: يكسب المسلم رزقه من عمل مشروع. فلا يجوز له أن يرتزق من تعاطي الخمور والفساد والسرقة بل من عمل ينفع الناس. فإن حصل على الربح اعتبره حراما عليه إلى أن يزكي، أي إلى أن ترفع منه حصة الله وهي حصة المجتمع. ففي هذه التزكية يحقق المسلم معنى انتمائه للأمة. إذ لا إسلام بدون أمة ولا أمة بدون زكاة. وما أحلى أن يدفع المسلم بحصته من نفقات الأمة طوعا وتعبدا لله تعالى فيطيب خاطره وتشحذ همته بدل أن يدفعها قهرا كضريبة ألزمته بها حكومة عاتية.

وللزكاة فضل اقتصادي عظيم، هي أنها تستنزف المال الجامد. فهي لا تبقي عليه بل تستنزفه تماما على مدة أربعين عاما أي متوسط الجيل الواحد. ولهذا هي تدفع صاحب المال إلى الإسهام به في عملية أو مشروع إنتاجي يجلب الرزق على العمال والموظفين ويزيد المال خيرا. والزكاة تتفوق على ضريبة الدخل المستحدثة من الغرب. فالمال إن أديت عنه ضريبة الدخل يمكن له أن يتجمد إذ لا تمسه الضريبة مرتين. بينما الزكاة تمسه طالما أنه موجود. ولهذا كان من نتائجها الحتمية إسهام مدخرات الناس كلها في الإنتاج القومي.

ولنفس الغرض، حرم الإسلام كنز الذهب والفضة، وحرم الاحتكار والتلاعب بالأسعار. فهو يريد للمال الحركة حتى تعم المنفعة على الجميع. وما أقرب الاقتصاد الحديث إلى الإسلام عندما يسمي الجمود بكلمة arteris- sceleosisrsts المستعارة من الطب. فهي تعني تعثر المجاري الدموية. فالأمة ذات المجاري المالية المتعثرة لا تنتج ولا تستهلك، والتي لا تنتج لا خير فيها. يريد التعبد الإسلامي المجتمع ذا الشرايين المالية المفتوحة التي يجري فيها المال بسرعة ونشاط. وهذا هو المجتمع الذي ينتج أكثر مما يستهلك، ويستهلك كل ما يحتاجه كفافا دون تبذير، تتوفر فيه الطيبات والزينة والخيل المطهمة والحلي لجميع الناس، فضلا عن ضروريات المعيشة.

لنسأل أنفسنا أين نحن من تحقيق هذا البعد الاقتصادي للتعبد الإسلامي؟ نحن بعيدون كل البعد. لسنا خلائف الله في الأرض بل المتخلفون فيها. وليس تخلفنا إلا لإخفاقنا بواجبات الإسلام. ولو قمنا بما أمرنا الله به، لكنا الأسبقين.

يقع معظم الحق في تخلفنا على حكوماتنا، فهي ضعيفة البصر والبصيرة. وكل حكومة غير جديرة بحكمها إذا لم تستطع تنظيم حياة أبنائها بشكل يضمن مصاريفهم في الصغر والشيخوخة بعائد إنتاجهم في ربيع حياتهم. فالإنسان يمكنه أن ينتج خلال خمسين سنة ويتعذر إنتاجه في الصغر والعجز بنصف مدة إنتاجه. فالفقر في يومنا هذا هو إخفاق الحكومة في تنظيم الحياة، في عدم إعدادها للناس للمساهمة في الإنتاج الفعال. ولا عذر قط لأية حكومة مهما قلت مواردها. أما إنتاج الزيوت المعدنية، فهو ليس إنتاجا في عرفنا الحاضر. بل هو منحة قذف الله بها لنا ليمتحنا: فإن عملنا بما أمر نصرنا على أعدائنا وأيدنا بروح منه وكتب لنا الفلاح. وإن لم نعمل بدلنا بمن هو خير منا. نحن أمام معركة وجود وعدم وجود.

البعد السياسي:

للبعد السياسي أربعة أركان: الوحدة والمساواة والعدل والتعبئة. أما الوحدة: فهي اتحاد المسلمين يقينا وعملا على أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وعلى إقامة الصلاة والجهاد صفا واحدا وتحقيق البر والتقوى يدا واحدة، والتآخي والتواصي كأنهم البنيان المرصوص. ليست الوحدة التي يريدها الإسلام تجمهرا أو مظاهرة أو صيحة بل إجماعا على مستويات ثلاثة: إجماع فكري وإجماع إرادي وإجماع عملي:

(أ) وحدة الإجماع: الإجماع الفكري هو وعي المسلمين بأنهم أمة من دون الناس أرادا لله لها أن تكون وسطا في البشر وهو إقرار كل فرد بهذا المبدأ وتفهمه لفحواه من توحيد وقيم تفهما واضحا مسئولا. وليس هذا الإجماع متوقفا جامدا يحقق مرة وإلى الأبد، بل متحركا خلاقا بتفاعل مع الزمن ويجدد أهميته لأطواره المتتالية. وهو إذ يتحرك لا يتحرك عفويا أو انفراديا بل ضمن تنظيمات ومدارس ومعاهد ومجامع وندوات، يتفاعل فيها العلماء والأخصائيون مع عامة الناس في أخذ وعطاء. ويكون له المنابر والصفحات المطبوعة الناطقة باسمه.

الإجماع الإرادي: هو تصديق الرؤيا التي تضمنها الإجماع الفكري والتقرير بالعزم على تحقيقها أو الموت في سبيلها كما فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما طلب منه عمه أبو طالب التخلي عن الإسلام. الإجماع الإرادي ليس تعسفيا محتكرا لأفراد قلائل: غضبت الأمة إن غضبوا وفرحت إن فرحوا. بل تكون له منظماته على جميع مستويات الأمة. فالأمة إن غضبت أو هللت فعلت ذلك عن فهم وإدراك وعزم وإصرار ضمن تنظيماتها.

الإجماع العملي: وهو العمل الجماعي من قبل الأمة قياما بما قررت قيادتها تنفيذه من خطط وأعمال. يعرف فيه كل فرد مكانه وواجبه، وكل منظمة واجباتها والإنجازات المتوقعة منها.

والتنظيم على هذه المستويات الثلاثة هو الذي يحرك الدولة ويمنحها قوتها واستقرارها وهو قوام عليها، لا هي عليه. وهو ضمان نجاحها وإن ترأسها مجنون أو ضعيف فهو الوازع العالم الحكيم ذو النظر البعيد. وهو المنسق لسياسة الدولة وإن اختلف قادتها مع بعضهم البعض أو عن خلفهم أو سلفهم. والتنظيم هذا هو الفرق بين الجد والهزل، بين الارتجال العاطفي ونظر صانع التاريخ.

فالوحدة الإسلامية الكبرى التي نرجوها لا معنى لها سوى هذه الإجماعات الثلاثة والتنظيمات المجسمة لها. فإن قامت وحدتنا على غيرها فهي وحدة مصرية سورية لا تلبث أن تنفصم عراها، أو وحدة هاشمية (بين عمان وبغداد سنة 1958) لم تذكر بعد انعقادها لا بخير ولا بشر وكأنها لم تكن.

(ب) المساواة: وهي الركن الثاني للبعد السياسي. كان الإسلام –بإقراره مساواة البشر- أصرح الأديان جميعا وأبعد الأيديولوجيات شمولا. فالمساواة من قيم الإسلام الكبرى، وهي الجانب الإنساني لتوحيد الله سبحانه وتعالى. فالشهادة أن لا إله إلا الله، تعني: بأن كل ما هو دونه مخلوق يدين له بوجوده وحياته. والإنسانية كلها سواء في مخلوقيتها. وعليه: كل تفرقة بين الإنسان والإنسان لا تقوم على التقوى أو العلم أو العمل الصالح خرق لوحدانية الله تعالى. إن تسوية صفوف المسلمين في الصلاة وضمهم الكتف إلى الكتف والساق إلى الساق حتى لا ينفذ الشيطان من بينهم كما قال الحديث الشريف، تعني أن المسلمين سواسية كأسنان المشط، كلهم، مليارهم بكامله.

(ج) العدل: هو ركن من أركان التوحيد. ذلك لأن وجود الله ووحدانيته يتعارضان مع الظلم أنى وقع. والعدل مفهوم النظام الكوني كما هو مفهوم نظام الأمة والجماعة. من الظلم أن يكون للعدالة سعر يدفع للحصول عليها. يجب أن يكون للعدالة هيبتها بحيث لا يطلبها إلا المظلوم الحقيقي. لكن المظلوم يجب أن يطمئن إلى أن العدالة معه، أي أنه كبير عندها إلى أن يعادله حقه وإن الظالم صغير عندها إلى أن يعيد للمظلوم حقه، كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(د) التعبئة: وهي الاستعداد المستمر والعمل الدائب لتحقيق إرادة الله كما أجمعت على تفهمها الأمة وعزمت عليها. فالدول الحديثة تعبئ شعوبها وجيوشها في حالة الحرب للذود عن وطنها ثم تسرحها في حالة السلام. أما الأمة الإسلامية فالحرب والسلام ثانويتان بالنسبة للحرب الدائمة التي تشنها في سبيل تحقيق إرادة الله. إذ لا نهاية لهذا التحقيق وبالتالي لا تسريح لجهود الأمة قط. فالأمة مكلفة بالتحقيق ما بل يجر صوفا، -بتشديد اللام بعد الباء وفتحهما- وذلك كي يبلونا الله فيرى أينا أحسن عملا. ولو تم –فرضا- لقسم من الأمة في قربه أو بلد ما، تحقيق ما يصبوا إليه لوجب على ذلك القسم الاستمرار في التعبئة ليحقق غيره من الأقسام ما حققه لنفسه.

والآن لنتساءل: أين نحن المسلمين اليوم من تحقيق البعد السياسي للتعبد الإسلامي بأركانه الأربعة؟

الجواب على هذا السؤال مؤلم. فالعالم الإسلامي ممزق في عقله وقلبه وساعده وأنا لا أفهم رضا العالم الإسلامي بتمزيق المستعمر له بعد رحيله عنه. فالواقع أننا كنا متوحدين مجمعين تحت الاستعمار أكثر من تحت الاستقلال. فإن دل ذلك على شيء فهو يدل على عدم قيام أوجه الإجماع بيننا. وليست الفرقة اختلاف حكام فمثلما تكونوا يولى عليكم. ليس الحاكم أصلح من محكومه وإن ميز نفسه عنه بالألبسة والحرس والجاه. فحكامنا يعبدون كراسيهم. وقد حرص العدو على أن يجعل لكل دولة إسلامية أكثر من عدوة من بين أخواتها الدول الإسلامية الأخرى. هذا فضلا عن أعدائها في الداخل. فأين هي الدولة المسلمة التي لا يقوى العدو المستعمر على قهرها بواسطة أخواتها الدول المسلمة، أو بالإيعاز إلى العناصر الغير مؤلفة الكامنة فيها على أهبة الاستعداد لنسفها؟ فهل نجحت حتى الآن أية دولة مسلمة بتأليف قلوب جميع أبنائها؟ أو بتأليف الحكومات والدول المسلمة التي تحيط بها؟.

الحقيقة المرة الثانية هي أن لا مساواة عندنا. فقد تعلمنا درس العنصرية البغيض والقومية الجغرافية من أعدائنا فأتقناه أكثر منهم. إن جميع حدود الدول المسلمة خطوط مستقيمة تدل على أنها من وضع المستعمر في عاصمته. وما أبشع المسلم الذي يتغنى ببلده بحدودها المصطنعة! وما أبشع أن نعلم أبناءنا وبناتنا هذه الخريطة التعيسة لوطننا! فبينما تتوحد أوروبا وتفرق فوارقها في منافعها المشتركة يتفنن المسلمون في التفريق بين بعضهم البعض. ولو كلف الشيطان الرجيم بوضع قوانين الجنسية في كل بلد إسلامي لما أفلح كما أفلح المسلمون. في أشد بلاد العالم عنصرية تمنح لها عددا من السنين –وإن طالت- أما بلاد الإسلام، يبقى مولود الأجنبي أجنبيا إلى ما شاء الله. وليس لإقامة الأجنبي أو عمله أو خدماته أي حساب في منحه جنسية البلد المقيم فيه. فنحن بهذه القوانين أثبتنا انحطاطنا أمام العالم، بما فيه إسرائيل عدوتنا، التي ضربت مثلا يحتذى بفتحها أبوابها لكل يهودي أنى جاء. ويزيد الطين بلة أن معظم أرجاء الوطن الإسلامي قليلة السكان، بل منها ما هو شبه خاو. فبينما تتمادى حكومات البلاد قليلة السكان بعنصريتها، تدعو حكومات الدول كثيفة السكان إلى تقليل النسل. فهل من منطق أغرب من هذا؟

أما التنظيم الحزبي السياسي القائم على العقيدة لا على الشخصيات ولا على المحسوبية ولا على أمر الحكومة وتوجيهها، فغير موجود حاليا في العالم الإسلامي، اللهم إلا إذا استثنينا الأحزاب الصهيونية، في إسرائيل وحزب الكتائب المسيحية في لبنان.

ومن الأسف أن العالم الإسلامي اليوم يخلو من أي تنظيم سياسي يمكن لنا بشرف أن نطلق عليه اسم حزب الله.

وما أبعد عالمنا الإسلامي اليوم من أن يؤلف جسما عضويا إذا أصيب عضو فيه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فالمسلمون يقتلون في بلد ويسلبون حقوقهم ويشتتون فيجتمع وزراؤنا ويقررون الصراخ والاحتجاج إلى مجلس الأمن المؤلف من أعدائهم الذين لا يبيتون لهم إلا الهلاك.

البعد الاجتماعي:

قال الله تعالى: “إنما المؤمنون أخوة”. تعني هذه الآية الكريمة أن على المسلمين أن يتحابوا ويتآخوا في الله، وأن يريد الواحد للآخر سعادته واطمئنانه وفلاحه وأن يعمل جادا على تحقيقها له.

وإن كانت الصدقات قديمة قدم الإنسان، إلا أن الإسلام هذبها وجعلها قانونا إجباريا فأصبحت الزكاة ثم أوصى بالصدقات تطوعا واختيارا فوق الزكاة. وكذلك في الخدمة الاجتماعية، جعلها الإسلام حسبة ودعمها بالقوانين. فالمسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه الجميع. وهو مكلف بإعالة ذوي القربى إلى أبعد درجات القرابة طالما أن القريب محتاج ولا أقرب إليه من المسلم المكلف. فكانت العائلة الإسلامية عائلة كبيرة تتسع لعشرات من الناس، كلهم ذوي قربى. وكان البيت الإسلامي بيتا كبيرا يلقي فيه كل فرد –صبيا كان أم شيخا- من يبادله الحديث الجاد والاهتمام أو الفكاهة، من يشاركه حزنه أو فرحه، من يتتبع مزاجه ويشاركه فيه كل لحظة من النهار والليل. عاش هؤلاء جميعهم في بيت واحدا وأكلوا من مطبخ واحد فقلت كلفتهم واشتدت سعادتهم. فقل من جراء ذلك المرض النفساني والتوحد والانعزال وما تجره هذه على الإنسان والمجتمع من عقد نفسية.

وأقام الإسلام علاقة الرجل بالمرأة على المحبة والمعروف بعد أن أبرأها مما نسبته إليها المسيحية ظلما من جرم ونجاسة واعترف لها بشخصية قانونية كاملة وأعطاها حرية اختيار زوجها والتعاقد معه في الزواج على ما تبتغيه من شروط وسبل عيش. ثم فرض عليها ما فرضه على الرجل من واجبات دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية مضيفا –على ذلك كله- أن لها على الرجل حق النفقة على أساس من المعروف واللباس والسكينة.

جعل الإسلام الصيام في رمضان وسيلة للشعور مع الجائعين والمعوزين. فالشعور معهم والعطف عليهم وإيتاؤهم الصدقات محبة. وجعل الإسلام إطعامهم في رمضان وإلباسهم حلية يوم العيد زكاة صيام المسلم وكفارة لعدم صيامه. وهذا محبة.

وجعل الإسلام الصلاة بصفوفها المستقيمة إنزالا لنفس المسلم من كبريائها إلى التساوي بالمسلمين المصلين. والشعور بالتساوي محبة. والمسلم إذا فرغ من صلاته صافح إخوانه من حوله وتمنى لهم حسن القبول. وهذا محبة.

وفرض الإسلام حج بيت الله كي يتجمع المسلمون من أنحاء الأرض فيتشاورون في أمورهم ويتعارفون ويتآخون ويتعاونون على البر والتقوى لأنفسهم وللمسلمين في بلادهم. وهذه محبة.

وإن كانت المحبة صعبة التحقيق بين الغربيين، فقد اعترف الإسلام بعادات ومراسم الحياة لكل فريق من المسلمين واعتبرها مصدرا للشريعة شريطة عدم تعارضها مع ما أنزله الله، والتسامح مع الغريب واحترامه في غربته محبة.

وتعدى تسامح الإسلام ورفقه إلى الاعتراف بالأديان الأخرى وشرائعها لا موافقة على مناقضتها له بل طمعا في تأليف قلوب أصحابها ودفعهم إلى الاستمرار إلى دعوة الله ورسوله في جو يسوده الاحترام والتقدير. وهذا محبة.

ودعم الإسلام كل هذه المبادئ الاجتماعية بالقوانين حتى لا تكون مجرد نصائح تسمع أو لا تسمع. فأصبحت نظام حياة فعلي. وما من دين ولا أيديولوجيا، لا قديما ولا حديثا، استطاع أن يقدم ما قدمه الإسلام. وقد قيل –بحق- إن الإسلام هو الدين الأمتي، اعترافا بخلقه الأمة، وجعلها كيانا اجتماعيا حيا، منفتحة على البشر أجمع، عزيزة بعروتها الوثقى.

البعد الحضاري:

رفعت حضارة الإغريق من شأن الإنسان، إلا أنها رفعته كآلة لا كإنسان. وبتأليهه، ألهت الطيب والخبيث معا دون تمييز. وبهذا حاولوا استنباط الحكم على الطبيعة من الطبيعة نفسها. لكن دون جدوى. فالمؤكد والمعارض يعتمدان الطبيعة الواقعة مرجعا لحكميهما المتضادين. فمزقهم التضاد بين عناصر الطبيعة. لهذا ناقض الآلهة بعضهم بعضا وكادوا كيدا شنيعا دون حل. فجاءت كارثتهم وهي كارثة الإنسان لأنهم هو. فالمأساة، وهي أرقى ما وصل إليه الفكر الديني الإغريقي نظرة كئيبة إلى الحياة. ترى فيها العظمة والبطولة ولكن لا إلى هدف. الحياة عندهم كلها زبد وحزن وتفه فلا غرابة إن جاءت الفلسفة في عصر الانحطاط تدك أسس هذه الحضارة البالية. ولم تتمخض حضارة الإغريق عن شيء سوى المآسي الشعرية ونحت التماثيل التي تمثل أدوار المسرحية أي أنواع البشر كآلهة وشيء من فن العمارة التي تمثل تغلب الإنسان الإله على بعض قوى الطبيعة المعادية.

أما الدين اليهودي فهو –أبدا- لم يستطع أن ينشئ حضارة، بل عاش اليهود في جميع أطوار تاريخهم الطويل عالة على حضارات جيرانهم، لا يختلفون عنهم إلا بإرادة التميز التعسفية، أي بالعنصرية. ولم تكن رسالتهم التوحيد –كما يدعون- لأن التوحيد لم يتأصل في نفوسهم ولم يوجد إلا بين الأنبياء وعدد ضئيل من أتباعهم مما أوجب إعادة الدرس عليهم مرارا وتكرارا. وعندما جاء الإغريق والرومان، وجدوا اليهود مقوقعين في عنصريتهم ومنعزلين فحاولوا فرض الانفتاح عليهم بالقوة. وبقيت العنصرية تتحكم فيهم إلى اليوم. والعنصرية ليست حضارة.

وجاء عيسى بن مريم عليه السلام يدعو لإزالة العنصرية وفك الأغلال التي قيدهم بها ربانيتهم. فكانت ثورته ضد العنصرية والانغلاق. آمن برسالته عدد ضئيل من اليهود وحكمت عليه الأكثرية بالجرم والإعدام. وجاء بولس اليهودي الروحي الناهل من الدين الإغريقي، فأول بتشديد الواو المفتوحة وفتح اللام بعدها –رسالة المسيح وجعله إلها ألقى بنفسه إلى الذبح ليخلص البشر تماما كقصة ميثراس في الدين الفارسي المنيكي السائد وقصة أدونيس في أديان الجاليات اليونانية في آسيا الصغرى.

ليست المسيحية دينا واحدا، بل أديانا يجمعها: إنها جعلت المسيح محور تفكيرها، ثم اختلفت اختلاف الليل والنهار. فمنها من قال في المسيح كما قال الله تعالى في القرآن الكريم. ومنهم من قال إنه اله محض ومنهم من قال بأنه جمع اللاهوت والناسوت. ولم يتفوق الرأي الأخير إلا بدعم السلطة السياسية له لا بفضل حجته. إذ كان رأي الأقلية في القرن الخامس. ذلك أنه كما سماه صاحبه بولس: “سكاندلون” أي “ما يشمئز منه العقل ويأباه”.

يقول هذا الدين المسيحي إن الإنسان مخلوق ساقط وسبب سقوطه إجرامه في الجنة، وذلك بدفع من حواء لمعصية الله. ويقول أيضا: إن أثر هذا السقوط في جبلة الإنسان فأصبح معدوم القدرة على فعل الخير بالطبيعة، مجبولا على الشر والرذيلة بالضرورة. وعليه بعث الله بابنه (تعالى عما يصفون) شخصية الثالوث الثانية، إلى الأرض لكي يتعذب ويموت فدية للبشر على إجرامهم. إذ لا خلاص لهم إلا بفدية هائلة لا يقوى عليها إلا اله.

لم ينشئ هذا الدين حضارة. بل عمت على أصحابة ما يسمونه بالعصور السوداء أو القاتمة وهي العصور التي لم تعرف أوربا خلالها سوى المسيحية. لمدة ألف سنة بقى المسيحيون بدون حضارة وبدون نور. الإنسان محطم المعنويات والجو ملئ بالخرافات ورجال الدين مشعوذون. ولا علم ولا فن. إلى أن جاء نور الإسلام إلى أوربا فأخذ يوقظها من سباتها العميق. وسرعان ما أتت النهضة ضد المسيحية ومن داخل الكنيسة المسيطرة فأخذ جدار المسيحية يتصدع. وقد كاد ينهار تماما في يومنا هذا. أما ما وضعته النهضة مكان المسيحية فهو الطبيعة المستمدة من التراث الإغريقي دون آلهتها.

وجاء محمد صلى الله عليه وسلم داعيا إلى الله وسراجا منيرا فنزل الوحي عليه ليعيد الحق إلى نصابه وليشيد الحضارة من جديد. فقال الإسلام إن الإنسان خليفة الله في الأرض، جعل كفؤا لما خلق له، قادرا على الخير والشر مكلفا. فإن فعل الخير فهو في جنة راضية في الأرض كما في السماء. وإن لم فعل فأمة هاوية، كذلك في الدنيا والآخرة. وجعل الإسلام الإنسان جسرا كونيا تعبر إرادة الله الخلقية من خلاله فتصبح تاريخا. فرفع من شأنه وكرمه أجمل تكريم بأن جعله وزير القدرة الإلهية المنفذة لبعدها الأخلاقي الذي يتطلب تحقيقه حرية الإنسان الشخصية ومسئوليته. فأقدم الإنسان على الزمان والمكان يطوعهما لمقتضات الأخلاق، كالسيد المعتز بقوته الواعي لمقامه والوزير المسئول المطيع لأوامر الله سبحانه. فقبض على ناصية الوجود وأخذ يوجهه التوجيه المحقق لإرادة الله. فكانت الحضارة الإسلامية. وهي ليست إلا إعادة بناء الخلق بموجب التخطيط الخلقي الإلهي.

مجد الإسلام العلم والحكمة أجمل تمجيد ولم يوازه في موقفه هذا أي دين أو أية ثقافة في تاريخ البشر كافة. فجعل العلم مفتاح التقوى والفلاح. فزادت الحضارة فعالية وتقدما بما اكتشفه المسلم من سنن الله في خلقه التي لا تبديل لها.

وجعل الإسلام الأخلاق فوق القانون بل أيد القانون بها. فيجعل المسئول مسئولا أمام الله وأمام القانون. وجعل القانون سندا للأخلاق وحارسا. ولعل هذا الجمع بين القانون والأخلاق هو أعظم عناصر الحضارة إطلاقا.

لننظر إلى الإنسان الغربي الحديث الذي نقلده نحن المسلمين دون إدراك لموقفه من الحضارة. هذا الرجل نبذ المسيحية وراء ظهره واعتمد العلمانية أو الطبيعة. إلا أن الطبيعة كما وجد الإغريق القدماء لا تقدم حلا للمتناقضات الكامنة فيها. فكل موقف يجوز نقضه من الموقف المغاير له وكلا الموقفين في الطبيعة ومنها. فالحل إن جاء لا يمكن أن يأتي من الطبيعة، بل من الفرد. فالحل لكل مشكلة حل عرفي، إما فردي أو جماعي، لكن لا علاقة له بالأخلاق إلا إذا عرفت: بأنها ما يفعله الفرد أو الجماعة ابتغاء المصلحة أو اللذة. ومن هنا نشأ مبدأ الغرب منذ ماكيافيلي: بأن الحق للقوة المتفوقة. وهذا هو الإنكار الكامل للأخلاق كما نفهمها، أي التحكم بالطبيعة من خارجها، أي عن مصدر خارج عن الطبيعة. كما في الإسلام. فحكم الله في الطبيعة هو: أن لا تتخطى الحدود الأخلاقية دون إنكار للطبيعة ذاتها. لقد بارك الله لنا في غرائزنا ومشاعرنا وفي طعامنا ودنيانا وفي نفس الوقت حذرنا من أن نسمح للدنيا بالسيطرة على الحياة وخرق الأخلاق. وهذه الروحانية الصحيحة والحضارة معا.

وللإسلام هنا الفضل الأكبر بتمكين التحكم في الطبيعة والتفضيل بين عناصرها المتناقضة وحل ما يشكل منها بالمقتضى الخلقي الصادر عن الله تعالى خارج الطبيعة والمادة. ولهذا ضمن لنا الإسلام سعادة الدارين، أي طبيعة ومادة مزدهرة، وروحانية مبنية على إرادة الله وطاعة أمره. فبالإسلام يمكن للمسلم أن يحقق ما حققه الغربي آلاف المرات في العمران والحضارة المادية والعلوم دون إفساد العملية. وذلك لتوفير الوازع الخارجي.

وليست المشاكل التي تعانيها الحضارة الغربية اليوم إلا ما عجزت عن حله لأن ليس لديها مصدر خارج الطبيعة تعتمد عليه. فرجل الصناعة الذي يلوث النهر أو البحيرة بأوساخه الكيماوية لا يريد تدبر أوساخه بطريقة أخرى لأن ذلك يكلفه وهو يريد أن يربح. والمعارض له، سواء كان رجلا صناعيا آخر أم مدينة، يستطيع أن يطهر الماء قبل استعماله. ولكنه هو أيضا يريد أن يربح ولا يتكلف. فإذا اتفقنا أن إرادة الربح طبيعة وإن كل ما في الطبيعة متساوي الحقوق لوجوده في الطبيعة، أين الحل؟ ولم ينكر الربح ولا ينكر لعمرو؟ فإما القوة وإما المنفعة، ولكن إذا تضاربت المنفعة بمنفعة أخرى؟ فالحق يرجع نهائيا للقوة. وهذه هي اللاحضارة.

هذه هي مأساة الحضارة الغربية الحديثة وهي نفس المأساة التي خاضها الإغريق وقضوا نحبهم بها. هي التي تفصل تمام الفصل بين الأخلاق التي نراها فردية نسبية إلا ما اتفق مع منفعة الأكثرية وهذه أيضا نسبية، وبين التجارة والسياسة والعلاقات الدولية. وهي التي تبعد القانون والعدالة القانونية أي إبعاد في علاقة الإنسان بنفسه وبالطبيعة من حوله، في علاقة الزوج بزوجته والأب بابنه وبنته والمعلم بتلميذه والمتصدق بالمتصدق عليه. فالأخلاق للفرد يتصرف فيها كيف يشاء والمجال العام للقوة.

فمن الأسف أن نرى شبابنا وحكامنا يسعون وراء هذه اللا حضارة سعيا. أما إسلامنا، والحضارة العظيمة التي أنشأها، وقوته الحضارية القادرة على أن تنشئ أكبر الإنجازات الإسلامية فنحن مشفقون منه لجهلنا به. وهو لا ينقصه عبث، فهو مبعوث حي لا يموت فهو دين الله الذي لا يموت. إنما نحن الأموات المحتاجون إلى البعث. فالإسلام بحاجة اليوم إلى من يعيشه ويحياه دينا ودنيا، قانونا وأخلاقا، فنا وثقافة، علما وهدى. فعسى أن يتحرك الدم الإسلامي في عروقنا فيبعثنا كما كنا في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وجودنا يسبق فعلنا، وفعلنا يسبق قولنا.

ولا قول لنا إلا: أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فذلك نعم القول ونعم الثقافة ونعم الحضارة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر