أبحاث

نظرة فاحصة في التغير الاجتماعي الإسلامي

العدد 9

يعتبر التغير الاجتماعي من ملامح المجتمعات المعاصرة وعاملاً من عوامل التأثير في تطورها، كما يعتبر ظاهرة من ظواهر حياة الإنسان في الأنظمة الاجتماعية. وقد تطورت عوامله في ضوء التجارب الإنسانية والأبحاث العلمية المتعلقة بالإنسان الاجتماعي. ولذلك، كان قد عرف بأنه: “التغير الهام البارز للتكوين الاجتماعي ولنماذج السلوك الاجتماعي ومركباته، وما ينتج عنه من تغير في العادات والقيم والنتاج الثقافي وأهدافه، فالتغير الاجتماعي في حد ذاته يشير بشكل فعلي للسلوك الإنساني”.

ولقد ركز علماء الاجتماع في القرن التاسع عشر على حركية وفعالية التغير الاجتماعي. فاعتبروا المجتمعات أنظمة وظيفية متعادلة!

بمعنى أن أي تغيير في متغيرات معينة فيها، لا بد وأن ينتج عنه تغيير في متغيرات اجتماعية أخرى معادلة لها. ومن هنا كانت المجتمعات التي لا تستجيب لعوامل التغير ومتطلباته هي مجتمعات غير متطورة وليست وظيفية. وقد حدد علماء الاجتماع تلك المتغيرات في أربعة نماذج:

  • المتغيرات المقاسية ذات التأثير المحدود في النظام كتأثير التركيب السياسي للمجتمع على العادات المحلية.
  • المتغيرات الموجودة ذات المدى القصير، كتأثير التشريعات المحلية أو التخطيط المحلي.. إذ يتم دون حدوث ردود فعل آنية.
  • المتغيرات المتكررة، والتي لا تقتصر على وحدة اجتماعية مستقلة زمناً ومرحلة، بل تتعداها للتأثير في المتصورات الثقافية للمجتمع.
  • المتغيرات البعيدة المدى والأغراض، كتأثير الثورات السياسية أو الثورات الصناعية، أو التغيير في المؤسسات الاجتماعية العامة.

أما الاتجاهات المعاصرة في التغير الاجتماعي فإنها تعني أولياً بالمقاييس الاجتماعية ومظاهر السلوك الاجتماعي بهد فتحقيق الإصلاح الاجتماعي والعدالة الاجتماعية. وتركزت في تحليل لمفهوم العدالة الاجتماعية، والظلم الاجتماعي، والحرمان الاجتماعي، وللتفريق بين مفهومي الظلم الاجتماعي والحرمان الاجتماعي، فقد ذهب علماء الاجتماع إلى اعتبار ذلك أمراً نسبياً يعتمد على مدى شعور ضحاياهما: فإذا ما لجئوا للاستجداء والتوسل لذوي السلطة لمنحهم العدل الاجتماعي، فإنهم ضحايا الحرمان الاجتماعي، أما  إذا اختاروا المطالبة كوسيلة للعدل الاجتماعي، فإنه ضحايا الظلم الاجتماعي.. ومن هنا فإن أية حركة تعبر عن مطالب الجماهير ما هي إلا حركة تغيير اجتماعي، أو إصلاح اجتماعي.

وتشمل هذه الحركات. بهذا المفهوم، خمسة عناصر (المسماة Five C’s إذ أنها تبدأ جميعاً بحرف C الإنجليزي).

1-   القضية: (Cause) وتشمل الهدف الرئيسي للتغير.

  • الهيئة: (Change Agency)، وهي الحركة أو المنظمة أو المؤسسة التي نذرت نفسها لذلك الهدف.
  • البيئة: (Change Target) وتعني الميدان، أو المجال أو الجزء من المجتمع أو كله، المراد إيجاد التغيير فيه.
  • الوسائل: (Channels)، وهي ما تتخذه الهيئة من طرق لتحقيق القضية في البيئة المعينة.
  • الاستراتيجية: (Chauge Strategy) وهي مجموعة برامج التغير التي أعدت لتحقيق أهداف القضية، والمتبناة من قبل الحركة أو المنظمة أو المؤسسة العاملة للتغير ويمكننا بهذه المقدمة أن نعالج موضوع التغير الاجتماعي أو الإصلاح الاجتماعي للإسلاميين:

أسس التغير الاجتماعي الإسلامي:

تعتبر الخدمات الاجتماعية في شمولها لإنقاذ المستضعفين ومساعدة المحتاجين، ورفع الظلم عن المظلومين. إحدى جوانب التعاليم الإسلامية. ومن هنا، فإن البداية الحقيقية للتغير الاجتماعي قد بدأت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في تحقيق تغيير شامل في جميع أنظمة المجتمع. فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم تهدف أول ما تهدف إلى تعميق السلوك الاجتماعي الإسلامي، معنى وعملاً، على أسس تسبر غور النفس الإنسانية:

“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وبهذا المفهوم للتغير الاجتماعي، فإنه يمكننا تحليل حركة التغير الاجتماعي الإسلامي في عهد النبوة كما يلي:

1-   إن الهدف الرئيسي لوجود البشرية.. هو الخضوع للإرادة الإلهية.. فهي الإرادة المطلقة.. “فعال لما يريد”.. وعلى سائر مخلوقاته الطاعة أو العصيان: فإن هو  أطاع واتقى.. والتزم وحدانية الخالق… ترتب عليه الالتزام الأدبي والحركي والفعلي في تحرير عقله من ضيق الأفق.. وتحرير ضميره من ضيق المتسع.. كانت هذه هي القضية (Cause) التي نذر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لها.

2-   أما الهيئة التي أريدت لهذه القضية فكانت تنحصر في فكرة أمة.. ذات أواصر وارتباطات معينة، على أسس أخوة الإيمان والعقيدة. وهذه هي الأمة التي وصفت في القرآن الكريم “بأمة الإيمان بالله” و “الأمة الوسط بين أمم الإنسانية” و “خير أمة أخرجت للناس”.

3-   أما البينة لقضية الرسول صلى الله عليه وسلم فكنت أولاً المجتمع العربي والذي أراد إعادة صياغته وتركيبه وتكوينه وفق استراتيجية للتغير تنبثق من مفهوم التوحيد ورفع المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأمة، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين أبناء المجتمع.

4-   وأخيراً، فقد كانت وسائله (Channels) صلى الله عليه وسلم متغايرة، متباينة، متطورة، متعددة. تنطلق ابتداء من مخاطبته الضمير الإنساني، وتتعداه لاستخدام القوى الخارجية الميسورة في مؤسسات  المجتمع بشتى صورها ومن هنا:

(أ) فقد كانت الصولات والعبادات خالية من الروح.. إن لم يرافقها شعور بتقديم الخدمات الاجتماعية لطبقات الأمة المعوزة.

(ب) وكانت عملية اختزان الثروات دونما اعتراف وإدراك بحق المعوزين فيها.. تنطوي على عقوبة في الآخرة.. كما كانت إحدى ظواهر تفسخ المجتمع واضمحلال الأمة وكيانها.

(ج) وكانت رسالة “منع المنكر” “لإزالة الفساد من الأرض” إحدى عوامل التزام المؤمنين والدعاة بالجهاد في سبيل الله، لا لفرض الإسلام على الناس، بل لتمهيد الطريق لنشره بين الناس بالهدى.. والرحمة والموعظة الحسنة. والتجربة الحقة. والنموذج الصادق.

وهكذا يمكننا إجمال الجانب الاجتماعي في رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم:

1-   مساواة جميع أفراد الأمة: في الحقوق والواجبات والامتيازات.

2-   وحدة صف الأمة لمقاومة الظلم الاجتماعي، والحرمان الاجتماعي، والفساد.

3-   اعتبار الظالم والمفسد والمستغل. خارجاً عن المجتمع.

4-   التعاون على البر والتقوى واجب الأمة، أفراداً وجماعات، من أجل الاستمرارية والبقاء للمؤسسات الاجتماعية الإيجابية البناء.

تطور التغير الاجتماعي الإسلامي:

مع اتساع الرقعة الجغرافية للإسلام، فقد نجحت تحديات للمجتمع الإسلامي.. أدرك أبعادها الخليفة عمر بن الخطاب فقد أدرك أخطار تضخم الثروات، وأخطار نشوء طبقات جديدة، وأخطار انحراف خط السير للمجتمع الإسلامي على أثر سقوط أضخم دولتين مجاورتين للمجتمع الإسلامي ودولته، فكانت إجراءاته للمحافظة على المجتمع الإسلامي الناشئ من تلك الأخطار.. هي احتياطات مستقبلية.. تضمن توازن المجتمع: فأمر ببقاء الشعوب المحررة آمنة مطمئنة مع التزاماتهم نحو الدولة الفتية، ورتب للمسلمين الفاتحين الناشرين للدعوة الإسلامية أن يقيموا في ضواحي مستقلة وحض على رحالات مكة والمدينة المنورة لتلك الأقطار المحررة، وأخضع الولاة لمبدأ “من أين لك هذا”.

فكانت هذه الإجراءات الاحتياطية أول برنامج ريادي تقوم به سلطة سياسية حاكمة في المجتمع.. لتحفظ كيان المجتمع نفسه..

ولم يكن ذلك الدور السياسي هو العامل الوحيد.. في حفظ كيان المجتمع الإسلامي.. فإن حركة أبي ذر الغفاري.. لم تكن سوى ترجمة لتطلعات الجماهير.. وتحذيرها للنظام من أن يبتعد عن أهدافه ومبادئه.. فكانت حركته هي استمرار طبيعي على مستوى جماهيري لمبادئ الخليفة عمر.. فقد ركزت رسالته الاجتماعية على أمور ثلاثة هامة:

  • تذكير الحاكم والمحكوم.. بأنهم سواسية في الحقوق والواجبات والامتيازات.
  • تحذير مؤسسات المجتمع: الرسمية والشعبية، من ظهور مراكز القوى.. وتفشي عوامل الظلم الاجتماعي.. برفع شعاره “وبشر الذين يكنزون”.
  • وضع الجماهير أمام مسئولياتها في المحافظة على العدل الاجتماعي في المجتمع. لقد حمل أبو ذر مسئوليته تجاه الأمة: أفراداً وجماعات وسلطة، وفي نفس الوقت، فقد كان مثال الالتزام للسمع والطاعة للسلطة الشرعية، باستجابته للطلب إليه بالتوقف بعد أن أدى أمانته للأمة وسلطتها.

ويمكننا القول هنا، بأنه لو أتيح لأبي ذر الغفاري الاستمرار في رسالته، لنتج عنها حلول نموذجية في حل المشكلات الاجتماعية مبنية على وعي الأمة لمسئولياتها.. واستجابة السلطات لرعيتها.. ولكانت تلك الحلول نبراساً للأجيال المسلمة في معالجة مشكلاتها الاجتماعية.

ومع اتساع الرقعة الجغرافية الإسلامية بعد ذلك.. فقد واجه المجتمع الإسلامي ثلاث مشاكل جديدة منذ عهد بني أمية:

1-   علاقة الخلافة بالقبائل العربية المسلمة.

  • علاقة الخلافة بمراكز التثقيف الإسلامي أو المدارس الفكرية الإسلامية.
  • علاقة القبائل المسلمة بالشعوب المسلمة غير العربية.

وكان لهذه المشكلة الأخيرة أهميتها.. نظراً لإقبال الشعوب غير العربية على الإسلام.. وكانت عملية اندماجهم مع العرب متأخرة وبطيئة في عصر بني أمية: إذا كان ينبغي أن يتم اندماج العرب بالمجتمع الحضاري الجديد، وائتلاف المسلمين العرب ملاك الأراضي مع نظائرهم المسلمين من غير العرب في أقصر فترة ممكنة.

أما المدارس الفكرية الإسلامية.. فقد اختارت الزهد الاجتماعي كوسيلة للتعبير عن احتجاجها لتسرب مادية جديدة في المجتمع الإسلامي الناشئ.. فكان الحسن البصري أول من نادى بأن كنه التقوى يكمن في تجنب الخلافات المذهبية. وفي المقاومة الصامتة لما يراه المرء من ظلم اجتماعي.. فأخذ التغير الاجتماعي منطلقين أساسيين في تلك الحقيقة التاريخية:

1-   المنطلق السياسي لتحقيق البوتقة الاجتماعية الواحدة والولاء القبلي لرسالة المجتمع بتصعيد الجهاد.

  • والمنطلق الديني الذي أرسى قواعد المعارضة الصامتة (Passive Opposition). ويمكننا القول هنا، بأن ما استجد من مشكلات اجتماعية في المجتمع الإسلامي بعد ذلك لم تكن لتختلف كثيراً عن هذه المشكلات الأساسية إن لم تكن ناتجة عن حلولها.. كما لم يعتمد المجتمع الإسلامي.

المنهج التحليلي لمشكلاته إلا بعد ظهور “علم العمران” الذي أرسى قواعده وأسسه العلامة ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي والذي عرفه بقوله “إن هذا العلم.. علم العمران.. له موضوعه الحاضر وهو المجتمع الإنساني.. ومشكلاته المرئية بالتطور الاجتماعي المتلاحق في طبيعة المجتمعات”.. فاشتمل كتابه “المقدمة” على تعريف عام بعلم الاجتماع، وعلم المعرفة، وعلم البيئة الحضارية، وعلم السياسة.. وكانت قمة إنتاجه هي وضعه لمبادئ علم الاجتماع قبل أن يدركه الغرب بقرون..

وإذا ما تتبعنا تطور المجتمع الإسلامي بعد ابن خلدون.. لحقبة أخرى طويلة من الزمن.. فإننا نرى حالة ركود في التشريع والإنتاج الفكري تميز بها القرنان السابع عشر والثامن عشر وقد أدت هذه الظواهر إلى إدراك مفكري المجتمع الإسلامي لخطر إغلاق باب الاجتهاد ولسلبية التحجير على الفكر الإنتاجي.. مما أدى إلى رفض المدارس الفكرية والمذهبية الموروثة عن القرن الرابع عشر الميلادي.. وكانت حركة ابن تيمية في تحريك الاجتهاد هي إحدى العوامل المؤثرة في قيام حركات إصلاحية على مبدأ التوحيد: كحركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية.. ومثيلتها.. حركة شاه ولي الله في الهند.. واللتين ظهرتا في القرن الثامن عشر وكانت هاتان الحركتان.. هما العامل الرئيسي لظهور حركات الإصلاح الجريء في القرن التاسع عشر والذي جعل هدفه مجالات التشريع، والسياسة، والمؤسسات الاجتماعية.

وهكذا تميزت حركات الإصلاح في القرن التاسع عشر بما يلي:

  • تصفية الإسلام من الشوائب الدخيلة. والطقوس المبتدعة.
  • مناقشة –أو الرفض أحياناً- للمذهبيات الموروثة من مدارس القرن الرابع عشر.. والتركيز على معنى وأهداف الاجتهاد.
  • التركيز على الجوانب الاجتماعية والخلقية للمجتمع الإسلامي أكثر من الاستغراق في الإيمان بالأخرويات وما وراء الطبيعة.
  • تبني استراتيجية حركية لفرض هذه الأيديولوجية في التغير الاجتماعي الإسلامي.

وانطلاقاً من هذه الاعتبارات، فقد طور مفكرو الإسلام اتجاهات جديدة في التغير الاجتماعي ركزت على تحالف “العلم والإيمان” وشمول الإسلام على مبادئ الديموقراطية في تحالف واع بناء بين الحاكم والرعية، وأهمية المؤسسات الاجتماعية، ودور التربية الإسلامية ومكانة المرأة في المجتمع.. وكان من قادة هذا الفكر: الأفغاني ومحمد عبده.

وما أن بدأ القرن العشرون، حتى وجد المسلمون أنفسهم في صراع مفروض للتحرر من النفوذ الأجنبي بشتى صوره. ونتج عن هذا الصراع.. شعور برفض معطيات الحضارة الغربية كتعبير عن رفض ذلك النفوذ.. وتمثلت هذه الحركات بالمفكرين الشهرين إقبال ورشيد رضا. ونتيجة لانتشار هذه الاتجاهات فقد ظهرت أهم وأشد حركتين إسلاميتين إصلاحيتين في العالم الإسلامي: حركة الأخوان المسلمين في الشرق الأوسط وحركة الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية.. ولم تكن هاتان الحركتان معاديتان للغرب فحسب، بل كانتا كذلك معاديتين لأنظمة الحكم في العالم الإسلامي… في نظرهما، لم يكن حكام الشعوب الإسلامية منذ سقوط الخلافة ممثلين حقاً أو مخلصين للجماهير والشعوب الإسلامية.. وكانت أهم مظاهر رفضهما للغرب تتركز في التركيبات الخلقية والاجتماعية للغرب، المتمثلة في مظاهر الانحلال الاجتماعي والتفسخ العائلي.. وعفن المؤسسات الاجتماعية المفتوحة.

ومن هنا، فإنه يمكننا أن نجعل مميزات حركات الإصلاح الاجتماعي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين بما يلي:

  • النهضة الروحية… متميزة بصفاء العقيدة، والعطاء الثقافي والمنهج التربوي، منبثقة جميعاً من تصور إسلامي سليم.
  • الاستغلال الذاتي.. متميزاً بمقاومة الاحتلال والنفوذ الأجنبي.
  • التطبيق الكامل المتكامل للأنظمة الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم في جميع مجالات المجتمع.

لماذا.. ومن أجل من؟

وانطلاقاً من هذا التحليل الموجز لأسس وتطور التغير الاجتماعي الإسلامي، فإنه يمكننا أن نخلص إلى الإجابة عن سؤالين أساسيين في التغير الاجتماعي: لماذا نريد التغير الاجتماعي؟ ومن أجل من يهدف هذا التغير المنشود.

إنه لمما لا جدال فيه أن العالم الإسلامي كان غائباً عن عجلة التوجيه القيادي في الشئون الدولية والعالمية منذ عشرات السنين… فلقد استسلم للوهن والكسل لدرجة كادت توحي بفقدانه للتطلعات والطموح والحوافز لتحقيق حياة ومستقبل أفضل. ولذا، كان لا بد له من حركة إيقاظ ويقظة.. ليدرك دوره الطليعي في بناء حضارة إنسانية تحقق كون أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. وكان السؤال الرئيسي ليثار حول مقدرة وكفاءة وفعالية الأمة الإسلامية في القيام بهذا الدور. ولتفسير ذلك فإنه يمكننا القول بأن القرآن الكريم قد هيأ للأمة قاعدة أساسية وعاملاً نفسياً فعالاً للتغير: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

ولإثبات فعالية ومقدرة واستمرارية هذا المبدأ في التغير الاجتماعي فإننا نقول:

1-   إن التوافق التاريخي والواقع القرآني قد أثبتا فعالية هذا المبدأ: فالقرآن يحض الأمة لتقصي الأسباب، بعلم ومعرفة، لنشوء وتطور وازدهار وأفول الحضارات في عناصر تركيبها الثلاث: الزمان والمكان والإنسان ولإدراك مدى أهمية ائتلاف هذه العناصر الثلاث في تقويم الحضارة، أي حضارة.

2-   قابلية التطبيق والفعالية الإيجابية لمبادئ القرآن في الوقت الحاضر: فإن جوهر الدين هو العامل الفعلي في التغير الاجتماعي دونما اعتبار لزمان أو مكان… فإن التوافق المحكم بين العناصر الآنفة الذكر على أسس دينية.. سيحدث تغيراً جوهرياً مرئياً في الشخصية الإسلامية، أفراداً وجماعات. وينتج عن ذلك أن استمرارية عملية التغير الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية لهو أمر واجب كما أنه عملية أساسية لحفظ التوازن والتقويم الذي تبنى عليه المجتمعات. وخاصة المجتمع الإسلامي المتوازن أصلاً. وتتركز عملية التوازن والتقويم على دعائم ثلاث يمكننا تصورها على شكل المنحنى التكرري: دعامته الأساسية من البداية هي الدافع الروحي، وقمته هي الإبداع الفكري، ودعامته من الجانب الآخر هي الإنتاج المادي.

ويتوقف توازن واستمرار المجتمع الإسلامي على التوازن بين هذه الدوافع الثلاث.. وإن أي اختلال لأي من هذه العناصر سينتج عنه حتماً اختلال في عناصر تركيب ومقومات الحضارة: الإنسان والزمان والمكان.

ويكمن دور الحركات الإسلامية الأساسي في مدى تطلعاتها نحو طبيعة ومستقبل الأجيال المسلمة.. ومهما كانت الظروف، فإن تلك التطلعات ينبغي أن لا تقل عن هدف إيجاد حضارة إسلامية وثقافة إسلامية تستعملان كوسائل لاستمرار عملية التغير الاجتماعي الإسلامي في المجتمعات الإسلامية.

النجاح والفشل!!

تميزت حركات التغير الاجتماعي الإسلامي في الخمسين سنة الأخيرة بقدر محدود من النجاح وآخر من الفشل. ويكمن نجاحها بقدرتها على الاستمرارية في برامج الإصلاح والتغير الاجتماعيين، بينما يبدو فشلها بمنجزاتها الطفيفة نتيجة لعدم اتضاح الأهداف المحددة، أو الغايات المرحلية، أو التخطيط الشامل البعيد المدى..أو جميعها معاً لبعض الحركات. فكانت تفتقر للنظرات الفاحصة المنتظمة (Systematic) والتي ذكرت آنفاً، ووجدناها مطابقة لحركة الإصلاح الاجتماعي الإسلامي في عهد النبوة.. وربما كان ذلك لانعدام المعالجات الموضوعية وأساليبها (Problem Solving) وربما لأنها اعتمدت ما أوتيت قياداتها من إدراك في بعث الجماهير وتحركها آلياً بدلاً من التحليل الموضوعي للحركية القيادية. ويضاف إلى ذلك، أنها أعطت تركيزاً واهتماماً بالغين لظواهر المشكلات الاجتماعية بدلاً من تقصي لب تلك المشكلات.. ونتيجة لذلك، فقد كانت لكل حركة إصلاحية أو اجتماعية إسلامية طريقتها الخاصة المتميزة مبنية على بيئتها، والتركيب النفسي لوجودها.. وتخصصها فعرفت تلك الحركات المسلم السياسي كجمال الدين الأفغاني، والمصلح الديني كالشيخ محمد عبده، والاتجاه الصوفي الذي نهج الانعزالية عن المجتمع… لقد كان العالم الإسلامي يكافح من أجل الإصلاح في هذا الإطار الواسع: برنامجنا هنا ضد الجهل بالدين، وحركة أخرى لمقاومة الفقر، وثالثة لمحاربة الإخلال، وعلاجاً آخر لتخفيف آلام الجماهير. وهكذا..إلى أن نتج عن ذلك حركة من الركود.. رافقها مزيج من الشعور بالنقص لدى الأجيال المسلمة.. لعجزها عن تحقيق ولو انتصار واحد ملموس.. ففقدت بذلك قدرتها على تلمس الاتجاه السليم في الحركة.

وهذا المقدار من الفشل، ينبغي ألا ينقص من قدر وأهمية النجاح النسبي الذي حققته الحركات الإسلامية كما قلنا.. فإن تحديات تلك الحركات لكافة الحركات المضادة للإسلام في الديار الإسلامية ليست بالأمر الهين.. فقد كانت الحركات الإسلامية مضطرة من حين لآخر أن تواجه التحديات.. ولو في جزئيات أو مشكلات جانبية ولكنها كانت جوهرية بالنسبة لبقاء واستمرار عقيدة الأمة وأغلب ما كانت تلك التحديات مع القوى المضادة للإسلام أو القوى الغازية المحتلة لأراضي الإسلام…. فاستطاعت أن تحقق مكاسب جوهرية ونجاحاً ملموساً في تقرير عقيدة الأمة المسلمة في أرضها.. فكانت إمكانات تلك الحركات قادرة على نشر الفكر الإسلامي السليم للأجيال المسلمة.. وأهم من ذلك. فإن وجود تلك الحركات كان العامل الوحيد في عدم نشر العلمانية المتمثلة في الغزو الفكري ومقاومته في العالم الإسلامي.

الأبعاد الجديدة:

يتميز التغير الاجتماعي في النصف الثاني من القرن العشرين بمظاهر عامة ترتبط بفعالية وكفاءة برامجه. وهذه المميزات:

1-   التصور المستقبلي: ويرتكز على ثلاث منطلقات لبناء المستقبل (أ) الوقائي Preventing (ب) التكيفي adaptive (ج) والإبداعي Inventive فالوقائي يعتمد على استقراء الماضي لبناء المستقبل، والتكيفي ينتهج الحاضر لمواجهة المشكلات القائمة والمنتظرة في حين أن الإبداعي، رغم أنه ما زال في أولى مراحل اختياره، يعتمد على مرتكزين اثنين: أولاهما أن المستقبل ليس مجرد استقراء للماضي فحسب وثانيهما أنه ينبغي أن يشتمل على الايجابية في الحاضر لإبداع حلول بديلة ممكنة ومرغوبة للتغيير.

ويمكننا القول، هنا، أن الحركات الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر قد استخدمت المنطلق الوقائي، وحركات الإصلاح الإسلامي في أوائل القرن العشرين قد انتهجت المنهج التكيفي في برامجها.. وأصبح بذلك انتهاج المنهج الإبداعي ممكناً وواجباً على الحركات الإصلاحية الإسلامية المعاصرة.

2-   القوة العاملة في التغير: لقد ظهرت في العصر الحديث ثلاث قوى مؤثرة في التغير الاجتماعي:

(أ) التغير المبرمج.

(ب) العوامل الخارجية المؤثرة في التغير.

(ج) والتغيرات الاجتماعية في داخل المجتمع والتي تولد تغيرات تلقائية أخرى في المجتمع ومؤسساته.

ويمكننا القول، أن الحركات الإسلامية في الإصلاح الاجتماعي كانت تفتقر للتغير المبرمج، ولم تتمكن من تكييف العوامل الخارجية المؤثرة في المجتمع للسيطرة على عملية التغيير، وبالتالي، فإنها لم تستخدم نتائج التغير في مؤسسات المجتمع لتوجيهها نحو تغير جديد.. بدلاً من أن يفرض ذلك التغير نفسه على مؤسسات المجتمع… وإنه لما يترتب على الحركات الإسلامية المعاصرة… أن تكون قادرة على استيعاب واستخدام هذه المؤثرات الحتمية في التغير الاجتماعي.

3-   المحتوى المتغير للتخطيط: لقد عرف المجتمع المعاصر تعريفاً ذا أربع عناصر للتخطيط وهي:

(أ) المدى البعيد.

(ب) الشمول.

(ج) التكامل.

(د) والعمومية.

ومن الجدير بالقول، أن حركات الإصلاح الاجتماعي الإسلامي، ربما لمحدودية رقعتها الجغرافية والقومية، لم تأخذ تلك العناصر بعين الاعتبار. فالإصلاح الاجتماعي الإسلامي المعاصر. ينبغي ألا يشتمل على التخطيط البعيد المدى.. وقصر المدى فحسب، بل يتعداه لابتداع التصور المستقبلي لشكل وطبيعة العالم الإسلامي لعشرات السنين القادمة. وينبغي أن تكون برامجه شاملة لجميع مؤسسات المجتمع، وعامة لجميع المنطقة الإسلامية… ثم متكاملة في تحديها للحركات والقوى المضادة للإسلام.

عوامل متكاملة في التغير الاجتماعي الإسلامي:

يبدو أنه من الصعوبة بمكان أن نستخلص معادلة للإصلاح الاجتماعي الإسلامي والتي يمكنها أن تؤدي إلى  ارتباطات أساسية جوهرية بين الحركات الإسلامية في برامجها. للإصلاح الاجتماعي.. إلا أنه يمكن للباحث أن يتصور إمكانية وقابليات تلك الحركات للاتفاق على المنطلقات التالية في برامجها:

1-   تنقية وتصفية المعتقدات كعنصر أساسي لتقوية معتقدات الأمة. وما لم يتضح للأمة معنى التوحيد “لا  إله إلا الله” بجميع أبعاده التعبدية والتطبيقية الأخرى.. فإن الجاهلية، بمفهوم أو بآخر، ستظل تنحسر في عقيدة الأجيال المسلمة.

  • التغير الروحي: كمتطلب جوهري للإصلاح الاجتماعي الإسلامي في تحقيقه لشكل جديد وسليم للتركيب الاجتماعي.. وما لم تحدث الحركات الإسلامية التغير الروحي المتوازن في عناصرها، فلن تكون مؤهلة لدورها القيادي والطليعي للأمة والجماهير.
  • التغير الثقافي: كمؤشر لحجم وأبعاد حضارة الأمة –وحتى تكون ثقافة الأمة ايجابية وخلافة فلا بد لها من:

(أ) العنصر الديني للسلوك.

(ب) العنصر المجالي لتنقية السلوك الاجتماعي المكتسب.

(ج) العنصر العقلي العلمي لتقييم معطيات الثقافة.

(د) والتقنية.. لاستخدام واستكشاف طاقات الأمة في الإنتاج والإبداع.

  • التحليل السياسي: إنه لمن المؤلم.. أن نلمس سطحية التحليل السياسي للحركات الإسلامية في مواقعها.. و نتج عن ذلك معاناتها من إعطاء العموميات في مواقفها السياسية حيث وجدت.. وعلى سبيل المثال… لقد اتفق مفكرو الحركات الإسلامية على أن أسس الحكم في الإسلام تقوم على عدل الحاكم وطاعة الرعية والشورى.. ولكننا لم نجد في برامج الحركات الإسلامية تعريفاً أو تحديداً، ولو نسبياً لوسائل تطبيق هذه الأسس في المجتمع الإسلامي المنتظر!!.

مجال جديد:

وبالإضافة لما تقدم، فإن الحركة الإسلامية قد دخلت في طور جديد في العشرين سنة الماضية، فقد اكتسبت الدعوة الإسلامية، لأول مرة في تاريخ الإسلام، الإطار العالمي –في جميع القارات فقد انتهجت الدعوة الإسلامية في العالم غير الإسلامي كاستجابة لاحتياجات الأفراد والجماعات البشرية: فإن المجتمع العالمي المعاصر، بمعطيات حضاراته التكنولوجية: قد فرضت على الأفراد أن ينتهجوا مسالك ومناهج حياة.. غير ما يريدونه أو يتطلعون إليه، سواء للصالح العام أو الخاص. فنتج عن ذلك العزلة أو الغربة الفردية (alienation) عن المجتمع وإيجابياته ومؤسساته.. وفي ظل هذه الظروف القاهرة للإنسان، يمكن للإسلام أن يأخذ دوره، ويحقق رسالته وأهدافه في تحرير الأفراد من التشنج والتوتر، وفي نشر شعور من الطمأنينة في النفوس، والانتماء لمجتمع الإنسانية، والثقة بالنفس في المجتمع…

وإنه لاستنتاج واقعي أن نقول أن عالمية الدعوة الإسلامية والحاجة إليها، هي ليست استجابة لاحتياجات الأفراد، مسلمين وغير مسلمين فحسب، بل هي ضرورة حتمية لبقاء واستمرارية الإنسان في بحثه عن الحقيقة المبسطة، وتحقيق ذاته في وجوده.. ومن جهة أخرى، فإن تحقيق العدالة الاجتماعية الإسلامية –كدين عالمي- أصبح أمراً حتمياً. ولم تكن الهجرة النبوية في بحثها عن مناخ وإطار جديدين للحركة الإسلامية خارج المناخ والإطار المكي سوى نموذجاً ومثالاً لما تتطلع إليه ولما نلمسه من تجاوب الدعوة الإسلامية لاحتياجات الأفراد في تخفيف آلام المعذبين، وانقياد الناس لطريق الله، ولتحقيق حياة أفضل للناس أجمعين.. وهي استجابة لاحتياجات المجتمعات في “إيجاد وتحقيق واستمرارية العدل الاجتماعي”. وهذه النظرة الأخيرة تؤدي بنا إلى إدراك واقعية الحركات والجماعات المسلمة في العالم غير الإسلامي فهي أينما وجدت:

(أ) أقلية الأقليات.

(ب) وتفتقر لقوة الضغط الاجتماعي لتحقيق حقوقها وطلباتها واحتياجاتها.

(ج) وتفتقر لتنظيم واع يقوم بتمثيلها حق تمثيل سواء على شكل منظمة فعالة كفء، أو قوة اجتماعية منظمة.. ومن هنا كان أمام تلك الجماعات اختيارات ثلاثة:

(أ) الانصهار مع المجتمعات غير المسلمة.

(ب) أو رفض تلك المجتمعات والعزلة عنها.. فالأولى ما هي إلا كارثة ذوبان المسلمين أفراداً وجماعات، والثانية ليست في صالح مستقبل الإسلام.. ولم يبق أمامها سوى الاختيار الثالث.

(ج) وهو تحقيق الشخصية الإسلامية، أفراداً وجماعات، بقيم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالح المسلمين عامة.. وهذا الارتباط الجماعي سيؤدي إلى:

(أ) حفظ النفس و الشخصية المسلمة للأفراد في حياتهم.

(ب) الاعتدال في الأخذ والعطاء الايجابيين بشكل جماعي ما بين الجماعات المسلمة وغير المسلمة.

(ج) ومواجهة المسئوليات العامة على مستوى فردي وجماعي.

الخلاصة:

ويمكننا أن نستخلص من هذا البحث:

1-   أن الأهداف الكبرى والتطلعات للحركات الإسلامية كانت واضحة بشكل عام، مستقيمة في استراتيجيتها.. مستهدفة إيجاد مجتمع إسلامي متسم بالعقيدة الخالصة، والدوافع الروحية، والعقل المبدع، والإنتاج المادي.

2-   ينبغي ألا تظل وسائل الدعوة، وأساليب الاتصال بالجماهير، والاتجاهات لتحقيق الأهداف الكبرى والتطلعات. جامدة.. محدودة… معلقة… فلا بد من حركيتها، ومرونتها وقدرتها لتستوعب جميع الطاقات والقوى والخبرات المتوافرة لدى الحركات الإسلامية المعاصرة.

3-   ينبغي أن يكون تركيز الحركات الإسلامية على الوضوح والتخصيص والتحديد، بدلاً من العموميات، في معالجة القضايا الاجتماعية.. وأن تتجنب المعارك والقضايا الجانبية التي قد تستنفذ طاقاتها، أو تغير مجرى سيرها في برامجها في تحديد ومعالجة القضايا الكبرى المصيرية التي تهدد الأمة.

4-   لا بد للحركات الإسلامية من البحث والتوصل لحل بديل في معالجة قضاياها وأمورها الداخلية آخذة بعين الاعتبار الأبعاد العالمية والإطار العالمي الجديد للدعوة الإسلامية… معتمدة التخطيط الشامل المتكامل، والتحليل الموضوعي، واستخدام معطيات التكنولوجيا في الاتصال الجماهيري- والعمل الحركي.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر