أبحاث

ظاهرة الغلو في التكفير

العدد 9

جاءتني الرسالتان التاليتان:

الأولى تقول بعد الديباجة: لعلكم قرأتم وسمعتم ما نشرته بعض الصحف، وما تداولته الألسنة حول الظاهرة الدينية الجديدة، التي يتبناها من سموهم “جماعة التكفير” أو “جماعة الكهف” أو “جماعة الهجرة” أو غير ذلك من الأسماء، فضلا عن آخرين لم يعرفوا باسم ولا لقب.

وهذه الظاهرة تمثل اتجاها عاما يمكن أن يتلخص تحت عنوان “الغلو في التكفير”، وإن كان أصحاب هذا الاتجاه يختلفون بعد ذلك في أسباب التكفير وموجباته عند كل فئة منهم.

فمنهم من يكفر مرتكب الكبيرة، على نحو ما كان يذهب إليه الخوارج من قبل.

ومنهم من يقول أنا لا أكفر مرتكب الكبيرة، بل المصر عليها فقط.

ومنهم من يقول: إن جماهير الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام ويسمون “المسلمين” اليوم، ليسوا مسلمين.

ولهم على ذلك أدلة ومجادلات لعلكم قرأتم بعضها، ورد عليها بعض العلماء في بعض الصحف.

ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت: إن هذا الأمر ليس بالهين كما يتصوره أو يصوره بعض الناس، بل هو خطير للغاية، وهو يشغل كثيرا من الشباب في مجالسهم ومنتدياتهم، ويريدون فيه قولا فصلا، وحكما عدلا.

ولما كان لنا ثقة بعلمك وفهمك، ودينك وإخلاصك للحق دون تحيز لفريق ضد فريق، أو تعصب لرأي دون رأي، لمجرد التقليد أو العصبية أو إرضاء الجمهور –نريد منك أن تبين لنا موقف الإسلام الحق من هذا الاتجاه في ضوء النصوص والأدلة الشرعية المعتبرة عند علماء الأمة. راجين أن ينال هذا الأمر منكم ما يليق به من الاهتمام والعناية، مهما يكن لديكم من المشاغل الأخرى. فهذا –في رأينا- من الأهم الذي يجب أن يقدم على المهم. ونحن في انتظار بيانكم، داعين لكم بالتوفيق.

جماعة من الشباب المسلم بالقاهرة

والرسالة الثانية: من مجموعة أخرى من الشباب المسلم، ولكنها من صنعاء، من اليمن الشمالية، ونصها يقول: ما رأيكم في مسلم يعتقد أن جميع أفراد الأمة في اليمن وغيرها (والمجتمع اليمني) وغيره، كفار مرتدون، سواء من كان منهم ملتزما بأركان الإسلام أم لا، وسواء العالم فيهم والجاهل، الذكر والأنثى. وإن الدار دار حرب أو دار ردة، وإن الجمعة والجماعة في المساجد لا تصح لأنها صلاة وراء كفار ومرتدين، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب في مجتمع مرتد، أو أمة مرتدة أو كافرة بل يدعون إلى “لا إله إلا الله محمد رسول الله” أولا.

وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يلزم في “المجتمع المسلم” والأمة المسلمة يعني “دار الإسلام” فقط.

فهل هذا المعتقد صحيح، وله سنده الصريح من الكتاب والسنة الصحيحة وعقيدة السلف الصالح وإجماع الأمة.. أم أنه فاسد لفقد سند من الكتاب والسنة الصحيحة وهدي السلف الصالح وإجماع الأمة.

نرجو الجواب الكافي.

أشكر لهذه المجموعة وتلك، من الشباب المسلم في القاهرة وصنعاء ثقتهم بي. وأدعو الله أن يجعلني عند حسن ظنهم، ويغفر لي ما لا يعلمون، وأبادر فأقول:

إنني أقدر خطر الموضوع الذي يسألون عنه، والذي يشغل فكر الكثيرين من أمثالهم. وهو موضوع “الغلو في التكفير”.

وقد لمست بنفسي شيئا من آثاره الفكرية لدى بعض الشباب المخلص النية، السليم الطوية، في أكثر من بلد عربي. وسمعت من بعضهم بعض ما يستندون إليه من أدلة أو شبهات، وقرأت بعضا آخر. ولكني كنت أود أن أقرأ شيئا مكتوبا محددا يوضح فكرة هؤلاء توضيحا تاما مؤيدا بالأدلة التي تؤيد وجهة نظرهم. وبهذا يستطيع الفقيه المسلم أن يرد عليهم بما أعلنوه والتزموه كتابة لا مشافهة.

على أن الغلو الذي وددته، إذ لم يتحقق، لا يمنع من مناقشة فكرة التكفير والغلو فيه في حد ذاتها، دون نظر إلى تفصيلاتها.

والقضية لها جذورها في تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد الخوارج، ولعلها أول قضية فكرية شغلت المسلمين، وكان لها آثارها العقلية والعملية (عسكرية وسياسية) لعدة أجيال. ثم لم يلبث الفكر الإسلامي أن فرغ منها. واستقر على ما عليه أهل السنة والجماعة.

ولا أكتم الأخوة السائلين: أني أعد كتابا في “قضية التكفير” منذ سنوات، ولم أفرغ من إتمامه بعد. مع إلحاح الكثيرين من الغيورين على وجوب الإسراع بإكماله، ومع شعوري بشدة الحاجة إليه، ولكن كثرة المشاغل الآنية من ناحية، وإيماني بوجوب الأناة في تحقيق الموضوع من ناحية ثانية، وحرصي على أن أعرف وجهات من يسمونهم “جماعة التكفير” من ناحية ثالثة –كل هذا أخرني عن إخراج الكتاب للناس حتى اليوم.

وأسأل الله تعالى أن يمدني بالتوفيق والعون لإتمامه على وجه يرضيه جل شأنه.

ولا يمنعني هذا أن أقول في الموضوع شيئا سريعا، قد يبل الغلة، إن لم ينقعها.

ظاهرة تحتاج إلى دراسة لأسبابها:

وأول ما ينبغي أن أقوله هنا:

إن هذه الظاهرة –ظاهرة الغلو في التكفير- تحتاج إلى دراسة لأسبابها وعواملها، حتى نستطيع علاجها على بصيرة.

أما الذين يفكرون (من رجال السلطة) في علاجها بالقمع والاضطهاد والاعتقال، وما إلى ذلك من ألوان العنف، فهم مخطئون بلا ريب، لأمرين:

أولهما: أن الفكرة لا تقاوم إلا بالفكرة، واستخدام العنف وحده في مقاومتها قد لا يزيدها إلا توسعا، ولا يزيد أصحابها إلا إصرارا عليها. إنما الواجب أن تعالج بالإقناع والبيان وإقامة الحجة، وإزاحة الشبهات.

ثانيهما: إن هؤلاء المكفرين –في مجموعهم- أناس متدينون مخلصون، صوامون قوامون، غيورون،  قد هزهم ما يرونه في المجتمع من ردة فكرية، وتحلل خلقي، وفساد اجتماعي واستبداد سياسي.

فهم طلاب إصلاح، حريصون على هداية أمتهم، وإن أخطئوا الطريق وضلوا السبيل.

فينبغي أن نقدر دوافعهم الطيبة، ولا نصورهم في صورة سباع ذات مخالب وأنياب، تريد أن تنقض على المجتمع، فتهدمه وتجعله يبابا! والدارس المتتبع لأسباب هذه الظاهرة يجد أنها تتمثل في أمور:

  • انتشار الكفر والردة الحقيقية جهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، واستطالة أصحابها وتبجحهم بباطلهم، واستخدامهم أجهزة الإعلام وغيرها لنشر كفرياتهم على جماهير المسلمين دون أن يجدوا من يزجرهم أو يردهم عن ضلالهم وغيهم.
  • تساهل بعض العلماء في شأن هؤلاء الكفرة الحقيقيين، وعدهم في زمرة المسلمين، والإسلام منهم براء.
  • اضطهاد حملة الفكر الإسلامي السليم، والدعوة الإسلامية الملتزمة بالقرآن والسنة، والتضييق عليهم في أنفسهم ودعوتهم، والاضطهاد والتضييق لأصحاب الفكر الحر، لا يولد إلا اتجاهات منحرفة، تعمل تحت الأرض، في جو مغلق بعيدا عن النور والحوار المفتوح.
  • قلة بضاعة هؤلاء الشبان الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، وعدم تعمقهم في العلوم الإسلامية واللغوية. الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهما سطحيا سريعا، إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى في هذه الأمور الخطيرة، دون أهلية كافية.

فالإخلاص وحده لا يكفي، ما لم يسنده فقه عميق لشرع الله وأحكامه. وإلا وقع صاحبه فيما وقع فيه الخوارج من قبل. الذين صحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه، كما قال الإمام أحمد. هذا مع شدة حرصهم على القعيد والتنسك.

ولهذا كان أئمة السلف يوصون بطلب العلم قبل التعبد والجهاد، حتى لا ينحرف عن طريق الله من حيث لا يدري.

وقد قال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم، ما يفسد أكثر ما مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا.

تكفير من يستحق التكفير: ومن هنا ينبغي أن نكفر من يجاهرون بالكفر دون استحياء، ونكف عمن ظاهره الإسلام وإن كان باطنهم خرابا من الإيمان. فإن هؤلاء يسمون في عرف الإسلام “المنافقين” الذين يقولون: آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، أو لم تصدق أعمالهم أقوالهم. فلهم في الدنيا أحكام المسلمين بمقتضى ظاهرهم، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، بموجب ما يبطنونه من كفر.

فمن الكفرة الذين يجب أن يدفعوا بالكفر دون مواربة ولا استخفاء الأصناف التالية:

  1. الشيوعيون المصرون على الشيوعية، الذين يؤمنون بها فلسفة ونظام حياة، رغم مناقضتها الصريحة لعقيدة الإسلام، وشريعته وقيمه، والذين يؤمنون بأن الدين –كل دين- أفيون الشعوب، ويعادون الأديان عامة، ويخصون الإسلام بمزيد من العداوة والنقمة؛ لأنه عقيدة ونظام وحضارة كاملة.
  2. الحكام العلمانيون، ورجال الأحزاب العلمانية، الذين يرفضون جهرة شرع الله، وينادون بأن الدولة يجب أن تنفصل عن الدين، وإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله، أبوا وامتنعوا، وأكثر من ذلك أنهم يحاربون أشد الحرب من يدعون إلى تحكيم شريعة الله، والعودة إلى الإسلام.
  3. أصحاب النحل التي مرقت من الإسلام مروقا ظاهرا، مثل الدروز والنصيرية، والإسماعيلية، وأمثالهم من الفرق الباطنية، الذين قال عنهم الإمام الغزالي وغيره: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، وقال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: إنهم أكفر من اليهود والنصارى، وذلك لإنكارهم قطعيات الإسلام وأساسياته وما علم منه بالضرورة.

ومثلهم في عصرنا: البهائية، التي هي دين جديد قائم برأسه، ويقاربهم القاديانية التي جاءت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله به النبيين.

وجوب التفرقة بين النوع والشخص المعين: وهنا أمر يجب أن نلفت النظر إليه، وهو ما قرره المحققون من العلماء، من وجوب التفرقة بين الشخص والنوع في قضية التكفير.

ومعنى هذا: أن نقول مثلا: الشيوعيون كفار، أو الحكام العلمانيون الرافضون لحكم الشرعة كفار، أو من قال كذا أو دعا إلى كذا فهو كافر، فهذا وذاك حكم على النوع. فإذا تعلق الأمر بشخص معين، ينتسب إلى هؤلاء أو أولئك، وجب التوقف للتحقق والتثبت من حقيقة موقفه، بسؤاله ومناقشته، حتى تقوم عليه الحجة، وتنتفي الشبهة، وتنقطع المعاذير.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال هذا فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها”.

وهذا كما في نصوص الوعيد. فإن الله تعالى يقول: “إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا”.

“فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرط، أو ثبوت مانع. فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم… وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم…. وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع…”.

قال: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق..

قال: ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفضيل بين النوع والمعين..

فإذا كان كل هذا الاحتياط واجبا في شأن المصرحين بالكفر، فكيف يجترئ مسلم على تكفير الجماهير التي تشهد أن “لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله” وإن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟.

إن الإقرار بالشهادتين، قد عصم دماءهم وأموالهم –إلا بحقها- وحسابهم على الله تعالى. فإنما أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.

وقد صح الحديث بل تواتر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى”.

خطورة التكفير: والذي ينبغي أن نؤصله هنا: إن الحكم بالكفر على إنسان ما، حكم جد خطير، لما يترتب عليه من آثار هي غاية في الخطر. فمنها:

  • أنه لا يحل لزوجته البقاء معه، ويجب أن يفرق بينها وبينه؛ لأن المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقن.
  • أن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه؛ لأنه لا يؤتمن عليهم ويخشى أن يؤثر عليهم بكفره، وبخاصة أن عودهم طري. وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي كله.
  • أنه فقد حق الولاية والنصرة على المجتمع الإسلامي، بعد أن يقاطع، ويفرض عليه حصار أدبي من المجتمع، حتى يفيق لنفسه، ويثوب إلى رشده.
  • أنه يجب أن يحاكم أمام القضاء الإسلامي، لينفذ فيه حكم المرتد، بعد أن يستتيبه ويزيل من ذهنه الشبهات، ويقيم عليه الحجة.
  • إنه إذا مات لا تجري عليه أحكام المسلمين، فلا يغسل ولا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورث له.
  • أنه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في نار جهنم.

وهذه الأحكام الخطيرة توجب على من يتصدى للحكم بتكفير خلق الله أن يتريث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول.

وجوب الرجوع إلى القرآن والسنة: ومن هنا يجب أن نرجع إلى النصوص من القرآن والسنة، لنقرر في ضوئها القواعد أو الحقائق الشرعية التي يجب الاحتكام إليها في مثل هذا الموضوع الخطير في دين الله، وفي حياة الناس.

واعتمادنا الكلي إنما هو على النصوص الثابتة المعصومة من كتاب الله وسنة رسوله، فهي وحدها الحجة والعمدة بلا نزاع.

وإذا استشهدنا بأقوال بعض العلماء، فليس ذلك لاعتبار أقوالهم حجة بنفسها، ولكن لنستأنس بفهمهم للنصوص، حتى لا نتيه في المتشابهات، أو نضرب الآيات والأحاديث بعضها ببعض. مع تأكيد أصل مهم هنا، وهو أن سلف الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان هم أهدى هذه الأمة سبيلا، وأصحها أفهاما، وأقومها طريقا، وأفقهها لروح الإسلام، وأحرصها على اتباعه. فما وجدنا لهم هديا معروفا لم نعدل عنه إلى ابتداعات من بعدهم، فهم بشهادة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خير القرون.

بماذا يدخل الإنسان في الإسلام؟: الحقيقة أو القاعدة الأولى: أن الإنسان يدخل الإسلام بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فمن أقر بالشهادتين بلسانه فقد دخل في الإسلام، وأجريت عليه أحكام المسلمين، وإن كان كافرا بقلبه؛ لأنا أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن نكل إلى الله السرائر. والدليل على ذلك:

  • أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يقبل الإسلام ممن أقر بالشهادتين، ولا ينتظر حتى يأتي وقت الصلاة، أو حول الزكاة، أو شهر رمضان.. مثلا. حتى يؤدي هذه الفرائض، ثم يحكم له بالإسلام. ويكتفي منه الإيمان بها، وألا يظهر منه إنكارها.
  • حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن البخاري وغيره: أنه قتل رجلا شهر عليه السيف، فقال: “لا إله إلا الله” فأنكر عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- أشد الإنكار، وقال: أقتلته بعد ما قال: “لا إله إلا الله”؟ فقال: إنما قالها تعوذا من السيف؟ فقال: هلا شققت عن قلبه؟‍ وفي بعض الروايات: كيف لك بـ “لا إله إلا الله” يوم القيامة؟
  • حديث أبي هريرة: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله” متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به.

وفي البخاري عن أنس مرفوعا: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.

والمراد بـ “الناس” في الحديث مشركو العرب. كما قال العلماء، وكما فسره أنس في حديثه؛ لأن أهل الكتاب يقبل منهم الجزية بنص القرآن.

والشاهد هنا: أنهم إذا قالوا لا إله إلا الله، دخلوا بها في الإسلام، بدليل عصمة دمائهم وأموالهم، لأن العصمة إما بالإسلام أو بالعهد والذمة، ولا عهد ولا ذمة هنا، فلم يبق إلا الإسلام.

وقد صح هذا الحديث عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة. ولهذا قال الحافظ السيوطي في “الجامع الصغير”: هو حديث متواتر. قال شارحه المناوي: لأنه رواه خمسة عشر صحابيا.

وقد روى عن سفيان بن عيينة –أحد أئمة الحديث في زمنه- أنه قال: كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة.

وعقب العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه “جامع العلوم والحكم” على هذا بقوله: وهذا ضعيف جدا، وفي صحته عن سفيان نظر. فإن رواة الأحاديث إنما صحبوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وبعضهم تأخر إسلامه”.

ثم قوله: عصموا مني دماءهم وأموالهم، يدل على أنه كان عند هذا القول مأمور بالقتال، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة.

قال: ومن المعلوم بالضرورة: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام، الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلما. فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال: “لا إله إلا الله” لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه. ولم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روى أنه قبل من قوم الإسلام واشترطوا ألا يزكوا.

ففي سند الإمام أحمد عن جابر –رضي الله عنه- قال: اشترطت ثقيف على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: سيتصدقون، ويجاهدون.

وفيه أيضا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أتى النبي – صلى الله عليه وسلم- فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه.

قال ابن رجب: وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها.

واستدلوا أيضا بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي – صلى الله عليه وسلم- على أن لا أخر إلا قائما.

قال أصحه: معناه أن يسجد من غير ركوع. ا هـ كلام ابن رجب والذي يهمنا من هذه النقول أمران:

الأول: أن الدخول في الإسلام إنما يكون بالشهادتين، وإذا اقتصر في بعض الأحاديث على شهادة التوحيد، فهو إما من باب الاكتفاء أو الاختصار من بعض الرواة. وإما لأن مشركي العرب المقصودين بكلمة “الناس” في الحديث، لم يكونوا ليقروا بشهادة التوحيد إلا إذا شهدوا لمن جاء بها، وهو محمد رسول الله.

ولهذا جاء عن بعض السلف: الإسلام الكلمة. يعني: كلمة الشهادة. وأما الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام وفرائضه فإنما يطالب بها بعد أن يصبح مسلما. إذ هي لا تصح ولا تقبل إلا من مسلم. أما الكافر فلا صلاة له ولا صياح ولا حج.. الخ لفقدانه شرط القبول.. وهو الإسلام.

والثاني: ما دلت عليه الأحاديث الأخيرة التي ذكرها ابن رجب، والتي رواها إمام السنة أحمد بن حنبل من المرونة وسعة الأفق، التي كان يعالج بها النبي –صلى الله عليه وسلم- الأمور، ويواجه بها المواقف. وخصوصا مع الداخلين في الإسلام.

فقد قبل من بعضهم ما رفضه من غيرهم. فقد جاء عن بشير بن الخصاصية أنه أراد أن يبايع النبي –صلى الله عليه وسلم- على الإسلام دون أن يتصدق أو يجاهد، فكف يده عنه وقال: يا بشير، لا جهاد ولا صدقة! فبم تدخل الجنة إذن؟!

ولكنه قبل هذا من ثقيف؛ لعلمه بأنهم لن يجمدوا على هذا الموقف، وإنهم إذا حسن إسلامهم سيصنعون ما يصنع سائر المسلمين، ولهذا قال في ثقة عنهم: سيتصدقون ويجاهدون.

من مات على التوحيد استوجب الجنة:

القاعدة الثانية: إن من مات على التوحيد (أي: لا إله إلا الله) استحق عند الله أمرين:

الأول: النجاة من الخلود من النار، وإن اقترف من المعاصي ما اقترف، سواء ما منها ما يتعلق بحقوق الله كالزنا، أو بحقوق العباد كالرقة. وإن دخل بذنوبه النار فسيخرج منها لا محالة، ما دام في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.

الثاني: دخول الجنة لا محالة، وإن تأخر دخوله، فلم يدخلها مع السابقين بسبب عذابه في النار لمعاصي لم يتب منها، ولم تكفر عنه بسبب من الأسباب.

والدليل على ذلك أحاديث صحاح مشهورة في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة. منها:

عن عبادة بن الصامت أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: “من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل”.

وعن أبي ذر قال: أتيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: “ما من عبد قال “لا إله إلا الله” ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة”.

“إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله” أي لم يقلها لمجرد أن يعصم بها دمه وماله كالمنافقين في عهد النبوة.

وعن أنس: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: “يخرج من النار من قال: “لا إله إلا الله” وكان في قلبه من الخير ما يزن برة (يعني حبة القمح)”.

وهذه الأحاديث كلها متفق عليها في الصحيحين.

وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي ذر، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: آتاني جبريل فبشرني: أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق”.

وفي صحيح مسلم من حديث الصنابحي عن عبادة قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: “من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار”.

وغير هذه الأحاديث كثير، ودلالتها صريحة واضحة على أن كلمة الشهادة موجبة لدخول الجنة والنجاة من النار.

والمراد بدخول الجنة: دخولها ولو في النهاية، بعد استحقاق العذاب في النار زمنا ما.

وكذلك المراد بالنجاة من النار: النجاة من الخلود فيها. وإنما قلنا هذا، جمعا بين هذه الأحاديث وأحاديث أخرى حرمت الجنة، وأوجبت النار على من ارتكب بعض المعاصي.. فلا يجوز أن نضرب النصوص بعضها ببعض.

نواقض الإسلام:

القاعدة الثالثة: أن الإنسان بعد أن يدخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين، يصبح –بمقتضى إسلامه- ملتزما بكافة أحكام الإسلام، والالتزام يعني الإيمان بعدالتها وقدسيتها، ووجوب الخضوع والتسليم لها، والعمل بموجبها. أعني الأحكام النصية الصريحة الثابتة بالكتاب والسنة.

فليس له خيار تجاهها بحيث يقبل أو يرفض، ويأخذ أو يدع، بل لا بد أن ينقاد لها مسلما راضيا، محلا حلالها، محرما حرامها، معتقداَ بوجوب ما أوجبت، واستحباب ما أحبت.

يقول تعالى: “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم” “وإنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا” “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما”.

ومن المهم أن نعرف هنا، أن من أحكام الإسلام من الواجبات والمحرمات والعقوبات وغيرها من التشريعات، ما ثبت ثبوتا قطعيا، وأصبح من الأحكام اليقينية، التي لا يتطرق إليها ريب ولا شبهة، أنها من دين الله وشرعه، وهي التي يطلق عليها علماء الإسلام اسم “المعلوم من الدين بالضرورة”.

وعلامتها أن الخاصة والعامة يعرفونها، ولا يحتاج إثباتها إلى نظر واستدلال، وذلك مثل فرضية الصلاة والزكاة وغيرها من أركان الإسلام، وحرمة القتل والزنا وأكل الربا وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، ومثل الأحكام القطعية في الزواج والطلاق والميراث والحدود، والقصاص وما شابهها.

فمن أنكر شيئا من هذه الأحكام “المعلومة من الدين بالضرورة” أو استخف بها واستهزأ، فقد كفر كفرا صريحا، وحكم عليه بالردة عن الإسلام. وذلك أن هذه الأحكام نطقت بها الآيات الصريحة، وتواترت بها الأحاديث الصحيحة، وأجمعت عليها الأمة جيلا بعد جيل، فمن كذب بها فقد كذب نص القرآن والسنة. وهذا كفر.

ولم يستثن من ذلك إلا من كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن أمصار المسلمين، ومظان العلم، فهذا يعذر إذا أنكر هذه الضروريات الدينية، حتى يعلم ويفقه في دين الله، فيجري عليه بعد ذلك ما يجري على سائر المسلمين.

كبائر المعاصي تنقص الإيمان ولكنها لا تهدمه:

القاعدة الرابعة: إن المعاصي والكبائر –وإن أصر عليها صاحبها ولم يتب منها- تخدش الإيمان وتنقصه، ولكنها لا تنقضه من أساسه، ولا تنفيه بالكلية.

والدليل على ذلك:

  • أنها لو كانت تهدم الإيمان من أصله. وتخرج صاحبها إلى الكفر المطلق. لكانت المعصية والردة شيئا واحدا. وكان العاصي مرتدا. ووجب أن يعاقب عقوبة المرتد، ولم تتنوع عقوبات الزاني والسارق وقاطع وشارب الخمر والقاتل. وهذا مرفوض بالنص والإجماع.
  • إن القرآن نص على أخوة القاتل لأولياء المقتول في آية القصاص حين قال: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان”.
  • إن القرآن أثبت الإيمان للطائفتين المقتتلتين في قوله تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله.. إلى أن قال: “إنما المؤمنون أخوة، فأصلحوا بين أخويكم” فأثبت لهم الإيمان والأخوة الدينية مع وجود الاقتتال، ومع قوله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم وجوه بعض” وقوله: “إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار” وبهذا الحديث الأخير استدل البخاري –فيما استدل- بأن المعاصي لا يكفر صاحبها؛ لأن الرسول سماهما مسلمين مع توعدهما بالنار.

والمراد: إذا كان الاقتتال بغير تأويل سائغ.

  • إن حاطب بن أبي بلتعة ارتكب خطيئة تشبه ما يسمى الآن “الخيانة العظمى” حيث أراد نقل أخبار الرسول وتحركات جيشه إلى قريش قبيل فتح مكة. مع حرص الرسول –صلى الله عليه وسلم- على كتمان ذلك عليهم. وقال له عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق. واعتذر الرسول – صلى الله عليه وسلم- بأنه من أهل بدر، ولم يعتبر عمله ناقلا له من الإيمان إلى الكفر. ونزل القرآن يؤكد ذلك حيث نزل في شأنه أول سورة الممتحنة “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق.. إلى أن قال: تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم”.

فخاطبه الله فيمن خاطب بعنوان الإيمان، وجعل عدوه سبحانه وعدوهم واحدا، مع قوله “تلقون إليهم بالمودة”.

  • وقريب من ذلك ما نزل في شأن الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر. وكان أبو بكر حلف ألا يصله، فأنزل الله في شأنه: “ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم”.

وإن قيل أن مسطحا وأمثاله تابوا، لكن الله لم يشترط –في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم- التوبة، كما قال ابن تيمية رحمه الله.

  • ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في قصة شارب الخمر الذي أمر النبي – صلى الله عليه وسلم- بضربه فضربوه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان” وفي رواية أخرى للبخاري “لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم” وفي سنن أبي داود في هذه القصة زيادة. ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم أرحمه”.

فهذه هي النظرة المحمدية المتسامحة إلى شارب أم الخبائث، فهو يأمر بضربه، ولكنه لا يرضى بلعنه وطرده من رحمة الله، ولا إخراجه من نطاق المؤمنين، بل يثبت الأخوة بينه وبينهم، وينهاهم أن يفتحوا ثغرة للشيطان إلى قلبه إذا سبوه وأذلوه علانية، بل يأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة، ويشعروه بالأخوة والمحبة، والحرص على هدايته، فعسى أن يرده ذلك عن غوايته..

  • وأكثر من ذلك ما رواه البخاري أيضا عن عمر بن الخطاب: أن رجلا على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله: وكان يلقب (حمارا) وكان يضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأتى به يوما، فأمر به فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- لا تعلنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله” وفي بعض روايات الحديث “ولقد علمت أنه يحب الله ورسوله” وفي بعضها “ما علمت إلا إنه يحب الله ورسوله”.

فهذا مع إدمانه الشرب، وإصراره عليه، وإنكاره منه، حتى نقل ابن حجر في الفتح عن ابن عبد البر أنه ضرب خمسين مرة –ينهى النبي عن لعنه، ويقرر أنه يحب الله ورسوله.

يقول الحافظ بن حجر في بيان فوائد هذا الحديث في “الفتح”:

(أ) فيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له.

(ب) وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر عنه.

(ج) وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله.

(د) ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان –عن شارب الخمر- (أي في حديث: لا يشرب الخمر وهو مؤمن)- لا يراد به زواله بالكلية، بل نفي كما له. ا هـ من فتح الباري.

  • الأحاديث السابقة التي أوجبت لمن قال: “لا إله إلا الله” الجنة وإن زنى وإن سرق.
  • ما صح واستفاض عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه سيشفع لأهل الكبائر من أمته.

وهذا يدل على حكمين كبيرين:

أولهما: أنه لم يخرجهم باقتراف الكبيرة عن حظيرة أمته.

والثاني: أن الله سيرحمهم بهذه الشفاعة، أما بإعفائهم من دخول النار أصلا، وإن استوجبوها بذنوبهم. وإما بإخراجهم منها بعد أن دخلوها وعذبوا فيها زمنا. فهم غير مخلدين في النار قطعا.

ما عدا الشرك تحت إمكان المغفرة:

القاعدة الخامسة: هي تأكيد القاعدة السابقة –أن الذنب الذي لا يغفر هو الشرك بالله تعالى، وما عداه من الذنوب –صغرت أو كبرت- فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه.

قال تعالى: “إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا”.

والمراد بالشرك في الآية وأمثالها: الشرك الأكبر، وهو اتخاذ اله أو آلهة مع الله تعالى. وهو المراد بهذا اللفظ عند الإطلاق.

ومثله الكفر الأكبر: أعني كفر الجحود والإنكار.

قال الحافظ بن حجر: لأن من جحد نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم- مثلا، كان كافرا. ولو لم يجعل مع الله إلها آخر والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف.

أما المعاصي الأخرى دون الكفر أو الشرك، فهي تحت سلطان المشيئة الإلهية. من شاء غفر له، ومن شاء عاقبه، كما ذكرت الآيتان السابقتان “ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء”.

قال الإمام ابن تيمية: ولا يجوز أن يجعل هذا التائب، بأن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره كما قال سبحانه في الآية الأخرى: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا” فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق.

وقد جاء الحديث الشريف يؤيد مضمون الآية الكريمة في آن ما عدا الشرك من المعاصي موكول إلى المشيئة الإلهية.

ففي حديث عبادة بن الصامت عند البخاري، أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: وحوله عصابة من أصحابه-: “بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه”.

والحديث واضح الدلالة على أن ارتكاب الموبقات التي اشتملت البيعة على اجتنابها لا يخرج صاحبها من الإسلام، بل من عوقب عليها كانت العقوبة طهارة وكفارة له، وإلا فهو في المشيئة.

يقول العلامة المازري: في الحديث رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب. ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- أخبر بأنه تحت المشيئة ولم يقل: لا بد أن يعذبه.

وقال الطيبي: “فيه الإشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد إلا من ورد النص فيه بعينه”.

انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغر:

القاعدة السادسة: أن الكفر في لغة القرآن والسنة، قد يراد به الكفر الأكبر، وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، بالنسبة لأحكام الدنيا، ويوجب له الخلود في النار بالنسبة لأحكام الآخرة.

وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام. إنما يدمغه بالفسوق أو العصيان.

فالكفر بالمعنى الأول، هو الإنكار أو الجحود المتعمد لما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- أو بعض ما جاء به، مما علم من دينه بالضرورة.

والكفر بالمعنى الثاني، يشمل سائر المعاصي التي يخالف بها أمر الله تعالى، أو يرتكب بها ما نهى عنه. وفيه جاءت أحاديث كثيرة، مثل: “من حلف بغير الله فقد كفر” أو “فقد أشرك” “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” ” لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض” “لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم” “من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما”.

وإنما قلنا: إن الكفر الوارد في هذه النصوص وأمثالها ليس كفرا ناقلا عن الملة، لأدلة أخرى.

فقد تقاتل الصحابة، ولم يكفر بعضهم بعضا بذلك.

والمنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقينا: أنه لم يفكر من قاتله في معركة الجمل، أو صفين، وإنما اعتبرهم بغاة. وقد صح الحديث: أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية.. كما صح الحديث في الخوارج أنهم “تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق” وقد قاتلهم علي رضي الله عنه ومن معه.

كما أثبت القرآن إيمان الطائفتين المقتتلتين (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) وكما أثبت الأخوة الدينية بينهم (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم).

ومثل ذلك، حديث: “من قال لأخيه يا كافر” فقد أثبت الأخوة بينهما، وهي لا تثبت بين مسلم وكافر، فدل ذلك على أنه لم يخرج من دائرة الإسلام بقوله.

ومثل ذلك قوله: “من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك” أو “من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقوله فقد كفر بما أنزل الله على محمد” ونحوها.

فلم يعتبره أحد من علماء المسلمين طوال القرون الماضية كفرا مخرجا من الملة، وردة عن الإسلام.

وما زال الناس في مختلف الأزمان يحلفون بغير الله، ويصدقون العرافين والكهان، فينكر أهل العلم والدين عليهم ويضللونهم أو يفسقونهم، ولكن لم يحكموا بردتهم، ولا فرقوا بينهم وبين نسائهم، ولا أمروا بعدم الصلاة عليهم عند موتهم، أو بعدم دفنهم في مقابر المسلمين. وقد جاء في الحديث المرفوع: إن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.

ولهذا ذكر ابن القيم عددا من الأحاديث التي أطلقت الكفر على بعض المعاصي ثم قال:

“والقصد: إن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما الشكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا”.

فالكفر بالمعنى الأول –أعني الكفر الأكبر- يقابله الايمان. يقال: مؤمن وكافر. كما في مثل قوله تعالى: “فمنهم من آمن ومنهم من كفر” وقوله تعالى: “والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات” “كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم”.

أما الكفر الثاني –أعني الكفر الأصغر- فيقابله: الشكر، فالإنسان إما شاكر للنعمة، أو كافر بها، غير قائم بحقها، وإن لم يكفر بمنعها. قال تعالى في وصف الإنسان: “إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا” وقال: “فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم”.

وجاء في صحيح البخاري حديث ذكر فيه سبب دخول النساء النار: إنهن يكفرن! قيل: يا رسول الله: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان.

ولهذا لما نقل الحافظ بن حجر عن القرطبي قوله: حيث جاء الكفر في لسان الشارع، فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية. عقب عليه بقوله: وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه، كما تقدم تقريره في كتاب “الإيمان” في باب “كفر دون كفر” في حديث أبي سعيد “يكفون الإحسان الخ”.

وذلك أن الإمام البخاري –رضي الله عنه- وضع في كتاب الإيمان عدة أبواب للرد على الخوارج الذين يكفرون المسلمين باقتراف الكبائر. منها: باب “كفران العشير، وكفر دون كفر”.

وعبارة “كفر دون كفر” هذه وردت عن ابن عباس وبعض التابعين في تفسير قوله تعالى: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”.

وهذا يدلنا على أن تقسيم الكفر إلى درجات متفاوتة بين أكبر وأصغر، تقسيم مأثور عن سلف الأمة.

وهذا التقسيم نفسه يجري في الشرك وفي النفاق وفي الفسق وفي الظلم. فكل منها ينقسم إلى الأكبر الذي يوجب التخليد في النار، والأصغر الذي لا يوجب ذلك، ولا ينقل عن الملة.

وقد ذكر البخاري في صحيحه: “باب: ظلم دون ظلم” واستدل بحديث ابن مسعود لما نزلت آية الأنعام “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون” قال الصحابة: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون: لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك. أو لم تسمعوا إلى قوله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم”.

ووجه الدلالة من الحديث ما أراده البخاري: أن الصحابة فهموا من قوله “بظلم” عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي –صلى الله عليه وسلم- ذلك، وإنما بين لهم أن المراد: أعظم أنواع الظلم وهو الشرك. فدل على أن الظلم مراتب متفاوتة”.

اجتماع بعض شعب الإيمان مع شعب الكفر أو النفاق أو الجاهلية:

القاعدة السابعة: أن الايمان قد يجامع شعبة أو أكثر للكفر أو الجاهلية أو النفاق.

وهذه الحقيقة قد خفيت على كثيرين في القديم والحديث، فحسبوا أن المرء إما أن يكون مؤمنا خالصا أو كافرا خالصا، ولا واسطة بينهما، إما مخلصا محضا أو منافقا محضا. وقريب منه من يقول: إما مسلم محض أو جاهلي محض. ولا ثالث لهذين الصنفين.

وهذه طريقة كثير من الناس. حيث يركزون النظر على الأطراف المتقابلة دون الالتفات إلى الأوساط. فالشيء عندهم إما أبيض فقط أو أسود فقط، ناسين أن هناك من الألوان ما ليس بأبيض خالص ولا بأسود خالص، بل بين بين.

ولا عجب أن نجد فئة من الناس، إذا وجدت فردا أو مجتمعا لا يتحقق بصفات الإيمان الكامل، بل توجد فيه بعض خصائص النفاق، أو شعب الكفر، أو أخلاق الجاهلية، سارعت إلى الحكم عليه بالكفر المطلق، أو النفاق الأكبر، أو الجاهلية المكفرة، لاعتقادهم أن الإيمان لا يجامع شيئا من الكفر أو النفاق بحال. وإن الإسلام والجاهلية ضدان لا يجتمعان.

وهذا صحيح إذا نظرنا إلى الإيمان المطلق (أي الكامل) والكفر المطلق، وكذلك الإسلام والجاهلية والنفاق.

إما مطلق إيمان وكفر، أو مطلق إيمان ونفاق، أو مطلق إسلام وجاهلية، فقد يجتمعان. كما دلت على ذلك (النصوص) وأقوال السلف رضي الله عنهم.

ففي الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لأبي ذر رضي الله عنه: إنك امرؤ فيك جاهلية! هذا وهو أبو ذر في سابقته وصدقه وجهاده.

وفيه: “من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق”.

وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: “القلوب أربعة: قلب: أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب”.

وقد روي مرفوعا، وهو في مسند أحمد مرفوعا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الذي قاله حذيفة يدل عليه قوله تعالى: “هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان” فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب، فلما كان يوم أحد، غلب نفاقهم، فصاروا إلى الكفر أقرب.

“وروى عبد الله بن المبارك –بسنده- عن علي بن أبي طالب قال: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانا ازداد القلب الأبيض، حتى إذا استكمل الإيمان أبيض القلب كله.

وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا، حتى إذا استكمل العبد النفاق أسود القلب. وأيم الله، لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود”.

وقال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.

قال شيخ الإسلام: وهذا كثير في كلام السلف: يبينون أن القلب قد يكون فيه إيمان ونفاق.

والكتاب والسنة يدلان على ذلك. فإن النبي –صلى الله عليه وسلم– ذكر شعب الإيمان، وذكر شعب النفاق، وقال: من كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها وتلك الشعبة قد يكون معها كثير من شعب الإيمان.

ولهذا قال: “ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان” فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن من كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار.

وعلى هذا فقوله تعالى للأعراب: “لم تؤمنوا ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم” ففي حقيقة دخول الإيمان في قلوبهم، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم شعبة منه، كما نفاه عن الزاني والسارق، ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن لا يأمن جاره بوائقه، وغير ذلك.. فإن في القرآن والحديث من نفى عنه الإيمان لترك بعض الواجبات شيء كثير”.

وفي موضع آخر عرض ابن تيمية رحمه الله للأمر فقال: “والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا، تجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة. فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى (مسلما) إذ ليس هو دون المنافق المحض، وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان، بل اسم المنافق أحق به، فإن ما فيه بياض وسواد، وسواده أكثر من بياضه، هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض. كما قال تعالى: “هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان”. وأما إذا كان إيمانه أغلب، ومعه نفاق يستحق به الوعيد، لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة (أي مع السابقين، وإن استحقها بإيمانه بعد العذاب إن لم يشفع له أو يعف الله عنه)..

قال: وطوائف أهل الأهواء –من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة- يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق. ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك. ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع مخالفة صريح المعقول.

بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية تستحق بها العقاب.

ولا يكون الشخص الواحد محمودا من وجه، مذموما من وجه، ولا محبوبا مدعوا له من وجه، ومسخوطا ملعونا من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعا عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار.

وحكى عن غالية المرجئة: أنهم وافقوهم على هذا الأصل، ولكن هؤلاء قالوا: “إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار” مقابلة لأولئك.

“وأما أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام… فيقولون…

إن الشخص الواحد، قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الشخصية.

وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق. فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه.

فقالت المرجئة: هو مؤمن كامل الإيمان.

وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان. ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين.

وهل يطلق عليم اسم “مؤمن”؟

هذا فيه القولان… والصحيح التفصيل.

فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة. قيل: هو مؤمن. وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين أي في مثل قوله تعالى: “يأيها الذين آمنوا”.

الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار، إن لم يغفر الله له ذنوبه.. لهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.

والذين لا يسمونه مؤمنا من أهل السنة والمعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله تعالى: “بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان” وقوله: “أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟”.

قال: وعلى هذا الأصل، فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر، ومعه إيمان أيضا.

وعلى هذا ورد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في تسمية كثير من الذنوب كفرا، مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان، فلا يخلد في النار. كقوله: “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” وقوله: “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”.

وهذا مستفيض عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في الصحيح من غير وجه، فإنه أمر في حجة الوداع أن ينادي به في الناس. فقد سمى من يضرب بعضهم رقاب بعض –بلا حق- كفارا، وسمى هذا الفعل كفرا. ومع هذا فقد قال تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما” إلى قوله: “إنما المؤمنون أخوة” فبين أن هؤلاء لم يخرجوا من الايمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر، وهو هذه الخصلة، كما قال بعض الصحابة: كفر دون كفر. وكذلك قوله: من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فقد سماه أخا حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه، بل فيه كفرا” ا هـ.

تفاوت مراتب الأمة في الطاعة:

القاعدة الثامنة: وهي تأكيد للسابعة: أن مراتب الناس متفاوتة في امتثالهم لأمر الله تعالى، واجتنابهم لنهيه.

ولهذا تفاوتت درجات إيمانهم وقربهم من الله عز وجل، ومن هنا قرر سلف الأمة أن الإيمان يزيد وينقص، ودل على ذلك بالكتاب والسنة، فمن الخطأ الفاحش تصور الناس جميعا ملائكة أولى أجنحة، بلا أخطاء ولا خطايا، ناسين العنصر الطيني الذي خلقوا منه، والذي يشدهم إلى الأرض لا محالة.

وهذه الحقيقة –حقيقة تفاوت الناس في الإيمان والطاعة لله- قد قررها القرآن الكريم، كما أكدتها سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

قال تعالى في سورة فاطر: “ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ذلك هو الفضل الأكبر، جنات عدنٍ يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير”.

فقد قسم الله عز وجل الأمة التي أورثها الكتاب، واصطفاها من عباده ثلاثة أصناف:

  • ظالم لنفسه، وهو كما قال ابن كثير، المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب بعض المحرمات.
  • ومقتصد، وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات. ويفعل بعض المكروهات.
  • وسابق بالخيرات، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات.

فهؤلاء الثلاثة على ما في بعضهم من عوج وتقصير وظلم للنفس داخلون في الذين اصطفاهم الله من عباده.

وهؤلاء الأصناف الثلاثة ينطبقون على الطبقات أو المراتب الثلاث المذكورة في حديث جبريل المشهور. وهي: “الإسلام” و “الإيمان” و “الإحسان”.

وأخبر الله تعالى عن هؤلاء الأصناف الثلاثة –وفيهم لظالم لنفسه- بأنهم من أهل الجنة.

وصح عن ابن عباس في تفسير الآية قوله: هم أمة محمد –صلى الله عليه وسلم- ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.

وليس المراد بـ “المحرمات” التي يرتكبها الظالم لنفسه “الصغائر” فقط دون “الكبائر”، ولا المراد به التائب من جميع الذنوب؛ لأن هذا وذاك –كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- يدخل في صنف المقتصد أو السابق “فإنه لبس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب. كلهن من تاب كان مقتصدا أو سابقا”.

كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: “إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم السيئات”.

فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه، وموعود بالجنة. ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا”.

على أن المسلم مهما يكن مقتصدا أو ظالما لنفسه، فعليه أن يكره الكفر والفسوق والعصيان، ولا يرضى بالمنكر الذي تطفح به الحياة من حوله. فإن أدنى درجات الايمان أن يغير المسلم المنكر بقلبه، أي يكرهه ويتألم له ويسخط عليه، وأرفع من ذلك درجة أن يغيره بلسانه إن استطاع، وأرفع من هذه أن يغير بيده إن استطاع. وهذا ما جاء به الحديث الصحيح المشهور على الألسنة “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.

فإذا كان التغيير بالقلب –بالمفهوم الذي شرحناه- أضعف الايمان، فمعنى هذا أن من فقد هذه الدرجة –درجة أضعف الايمان- فقد الايمان كله، ولم يبق منه شيء.

وهذا ما صرح به الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي –صلى الله عليه وسلم- “ما من بني يبعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”.

فالحديث الشريف يصرح بأن من لم يجاهد هؤلاء الفسقة والظالمين بقلبه –أي يكره أعمالهم وظلمهم وفسقهم- ليس عنده من الإيمان حبة خردل. وبعبارة أخرى، ليس عنده أقل القليل من الإيمان.

غير أن هذا الأمر مرده إلى ضمير المسلم وقلبه، فهو الذي يستطيع أن يحكم على نفسه: أهو راضٍ عن المنكر أم هو ساخط عليه؟ وإن كان راضيا عن صاحب المنكر: أهو راضٍ عنه لأجل فسقه وظلمه وانحرافه عن شرع الله أم لأجل شيء آخر. مثل مصلحة أصابها منه. أو قرابة بينه وبينه، أو غير ذلك. وإن كان الواجب على المؤمن أن يكون مناط قربه أو بعده من الناس هو مدى اتصالهم بالإسلام، أو انفصالهم عنه.

خاتمة:

بعد هذا البيان في ضوء ما ذكرنا من قواعد جامعة ونصوص قاطعة وأدلة ناصعة، يتبين لكل ذي عينين مدى الخطأ الجسيم، والخطر العظيم، الذي سقط فيه “إخواننا” الذين أسرفوا في “التكفير” حتى غدوا يكفرون الأفراد والمجتمعات بالجملة؛ معرضين عن كل ما يخالف وجهتهم من نصوص الشرع وأدلته، متذرعين بالتعسف في التأويل، والاستدلال بما ليس بدليل. مخطئين كل من لا يوافقهم من علماء الأمة وأئمتها في القديم والحديث، زاعمين لأنفسهم أنهم بلغوا درجة “الإمامة” والاجتهاد المطلق، وأن لهم أن يخالفوا الأمة كلها وما أجمعت عليه سلفا وخلفا، وهذا والعياذ بالله –من العجب المهلك، والغرور الموبق، والغلو الضار، وليس لهذا مصدر إلا الجهل بالله تعالى، والجهل بالناس، والجهل بالنفس، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه، وفي الحديث الصحيح: “إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو” وفي حديث آخر: “هلك المتنطعون” –قالها ثلاثا- ومع هذا كله لا أريد أن أقع فيما وقع فيه هؤلاء الأخوة المسرفون، فأكفرهم كما كفروا الناس، وإن جاءت الأحاديث بتكفير من كفر مسلما؛ لأن هذه الأحاديث فيمن كفر مسلما بغير تأويل، وهؤلاء لهم تأويلهم وإن كان مرفوضا. ولهذا اختلف السلف في تكفير الخوارج، برغم ما ورد في ذمهم من أحاديث مرفوعة صحاح، والثابت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لم يكفرهم، ولم يبدأهم بقتال. ولما قيل له: أهم كفار؟ قال: من الكفار فروا.

ولهذا أصر على القول بأنهم (إخواننا) على الرغم من غلوهم وانحرافهم عن جادة الصواب في أفكارهم. ويقيني أن الكثيرين منهم سيرجعون عن فكرتهم في التكفير إذا قرءوا ما كتبت بروح الحيدة والإنصاف، والإخلاص في طلب الحق، والبراءة من العصبية والتحرر من الخوف من ملائمة زملائهم، أو تهديد رؤسائهم، الذين يعتبرونهم “مرتدين” بمجرد اختلافهم معهم، أو رجوعهم عن رأيهم، ويفتون بوجوب قتلهم، لأنهم بدلوا دينهم.

وإني لأعلم علم اليقين أن في هذه الجماعات المتطرفة شبابا مخلصين، لا يريدون إلا وجه الله، والدار الآخرة، ونصرة الإسلام، ولكنهم لم يتحصنوا بثقافة إسلامية أصيلة. وفقه إسلامي عميق، فصادفت هذه الأفكار قلوبا خالية، فتمكنت منها.

وأعلم أن عددا من هؤلاء الشباب تبين له الحق فرجع إليه، غير مبال بالتهديد ولا بالوعيد، بل تعرضوا للإيذاء فصبروا وصابروا.

وأعلم أن هذه الظاهرة نتيجة لخلو الميدان من حركة إسلامية واعية ناضجة تعمل في النور جهرة، وفي وضح النهار، فلاذ هؤلاء بالسراديب والكهوف يعملون في الظلام، ويوم تشرق شمس الدعوة إلى الإسلام المتكامل، وترسل أشعتها في الأفاق، ويعلو صوتها بلا خوف ولا إرهاب لن يكون هناك مكان لأهل السراديب من الغلاة والمتطرفين، ولعلنا نعود إلى هذا الموضوع الخطير مرة أخرى إن شاء الله تعالى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر