في دورة من دورات الزمن تخلف المسلمون عن ركب الحضارة بعد أن حملوا لواءها قرون عديدة، فانتقل اللواء إلى أمم ذات مذاهب مختلفة تركت آثارها على التراث الإنساني عامة، وعلى كتابات العلوم بصفة خاصة في عصر تميز بأنه عصر العلوم.
ففي الغرب الديمقراطي الليبرالي كان العداء التقليدي بين المشتغلين بالعلوم والكنيسة سببا في دفع الكتابات العلمية خطأ إلى الوقوف في جانب منكر للدين معاد للإيمان بصفة عامة، وفي الشرق الشيوعي أسست الدولة على المادية الجدلية التي تبنت حربا منظمة ضد الأديان، ودفعت بالناس كرها إلى الكفر بكل ما هو فوق المادة، وانعكس ذلك على كتاباتهم خاصة العلمية منها والتي تميزت بحشو متكلف للمفاهيم الملحدة..
وعندما استيقظ المسلمون للحاق بالركب… نقلوا كتابات هؤلاء وأولئك بما تحمله في طياتها من خلفية إلحادية منكرة لا تؤمن بغير المادة.. وبقيت العلوم في غالبيتها تكتب وتدرس عندنا من نفس المنطلق وبنفس اللغات، وما ينشر منها باللغة العربية أو باللغات المحلية لا يكاد يخرج –في معظمه- عن كونه ترجمة مباشرة أو غير مباشرة للأفكار الوافدة بكل ما فيها من غث وثمين، بل وتعارض واضح أحيانا مع نصوص الدين..
وهذا يمثل إحدى صور التحدي الحضاري الذي يواجهه المسلمون اليوم، والذي يستلزم إعادة كتابة العلوم.. كتابة تضعها في إطارها الصحيح على أنها محاولات بشرية محدودة.. للتعرف على هذا الكون وتفهم سننه، محدودة بحدود حواس الإنسان وقدراته ومكانه من الكون وزمانه.. مما يجعل ملاحظاته وقياساته واستنتاجاته كلها نسبية وبالتالي يجعل حصيلة العلم التجريبي لا تعدو أن تكون مظهرا خارجيا للحقيقة كما يراها الإنسان. ويؤكد على أن الحقائق الكونية العليا هي أمور غيبية لا سبيل للإنسان إليها بفكره المجرد. ولا بوسائل العلم التجريبي المحدودة وهنا تبرز ضرورة رسالات السماء إلى الأرض. وينتفي الادعاء الباطل بأن العلم يقف في مواجهة الدين. لأن العلوم التجريبية تتعامل مع المادة والدين فوق المادة..
ثم إن العلوم المادية ذاتها هي وسيلة للإنسان للتعرف على خالقه من خلال تعرفه على عظمة الكون ودقة صنعه ووحدة بنائه.. وهي تؤكد على وجود الله وعلى حقيقة الغيب، وعلى حاجة الكون في كل لحظة من لحظات وجوده إلى رحمة الله ورعايته، وعلى حقيقة الآخرة بل وحتميتها.. وهذه أمور تنكرها الكتابات العلمية المعاصرة أو تتجاهلها.. الأمر الذي أغرقها في كثير من الضلال كالادعاء الباطل بأزلية المادة والطاقة ومن ثم بأزلية الكون وانتفاء الخلق، أو نسبة كل شيء جهلا إلى الطبيعة، أو رد الخلق إلى العشوائية والصدفة، أو محاولة تفسير التدرج في عمران الأرض بصورة الحياة المختلفة مع الزمن على أنها عملية مادية تلقائية بحتة…إلخ. وما صاحب ذلك من تعبيرات خاطئة واستنتاجات مغلوطة، تعاني منها الكتابات العلمية بصفة عامة، وفي الإمكان التطهر منها إحقاقا للحق، وانتصارا للعلم والإيمان معا. دون أدنى مساس بالمنهج العلمي ذاته، أو حجر على العقل البشري في انطلاقه للتعرف على هذا الكون وسننه.
ولما كان ذلك لا يمكن أن يتم بجهود فردية يمكن أن تتبدد وسط تيار المد الإلحادي الجارف، فقد أصبح من الضروري إنشاء منظمات علمية إسلامية تتبنى ذلك وترعاه، وتيسر له السبل والوسائل وأولها جمعيات علمية متخصصة تنبثق عن اتحاد عالمي للعلماء والمهندسين المسلمين. لكل منها مراكز نشاطه ووسائل إعلامه، ودورات تجمعه في إطار كل جمعية على حدة وعلى مستوى الإتحاد ككل، وتقوم كل منها –في مجال تخصصها- بالعمل على كتابة العلوم ونشرها من خلفية إيمانية موقنة واعية. دون تكلف أو تزيد أو مغالاة. وبذلك يمكن للعالم الإسلامي أن يقوم بدوره الرائد في تقديم المعرفة للناس في إطارها الصحيح. وأن يتغلب على إحدى صور التحدي الحضاري الذي يتعرض له اليوم.
مقدمة: يمر المسلمون اليوم بفترة من أقسى فترات التحدي الحضاري في تاريخهم الطويل، ويبلغ هذا التحدي مداه في مجال العلوم والتقنية. حيث تخلفت الدول الإسلامية تخلفا ملحوظا وتقدمت المعارف من حواليهم في هذين المجالين تقدما مذهلا خلال القرن الحالي بصفة عامة. وفي النصف الأخير منه بصفة خاصة مما ميز عصرنا بأنه “عصر الصواريخ والفضاء” و “عصر الذرة والطاقة النووية” و “عصر الإلكترونات والعقول الإلكترونية” أو بصفة أعم “عصر العلوم البحتة والتطبيقية” وهذه مجالات لم تدخلها معظم الدول الإسلامية بعد، أو دخلتها بجهود فردية محدودة لا تكاد تساير تقدم العالم من حواليها في ذلك مما تسبب في وجود هوة شاسعة تفصل الدول الإسلامية (في زمرة الدول النامية) عن الدول المتقدمة علميا وتقنيا.
وليس التحدي الحضاري الذي يتعرض له المسلمون اليوم هو في مجرد وجود هذه الهوة ولا في ازديادها اتساعا وعمقا يوم بعد يوم. ولا فيما صاحب ذلك من تخلف فكري واقتصادي وسياسي وعسكري أدى إلى احتلال معظم العالم الإسلامي لفترات متفاوتة خلال القرنين الماضيين، واغتصاب أجزاء عزيزة علي قلوبنا منه. إنما التحدي الحقيقي يكمن فيما يحمله تيار العلم –الوافد إلينا من الغرب ومن الشرق- من خلفية إلحادية واضحة بين طياته، جعلت من الكفر بكل ما هو غير مادي سمة من سمات هذا العصر، الأمر الذي حدا ببعض الكتاب إلى التجاوز بتسميته “عصر الإلحاد”. وفي غمرة الانبهار بما حققه العلم والتقنية من إنجازات تسربت هذه المفاهيم الخاطئة إلى عالمنا المسلم، وترددت زورا باسم العلم. في إلحاح مقصود حتى كادت أن تنفذ إلى عقول نفر منا ونحن حملة آخر الرسالات السماوية وأكملها. وأولى الناس بقيادة البشرية وهدايتها.. وهذه هي نقطة التحدي الحقيقي الذي يتعرض له المسلمون اليوم والذي يوجب علينا العمل العاجل على إعادة كتابة العلوم من وجهة النظر الإسلامية.
ماهية العلوم: تعرف العلوم بأنها مجموعة ما توصل إليه الإنسان من معارف في مختلف الأماكن والعصور، مرتبة حسب ما تتعلق به من أمور سواء كان ذلك عن طريق الفكر الإنساني وإبداعه، أو عن طريق ميراثه وتراثه، أو بوحي من السماء، إلا أن الاتجاه السائد يقصر لفظ “العلم” على الدراسات الطبيعية والتجريبية لكل ما هو محسوس أو مدرك في هذا الكون (المادة والأحياء والظواهر الطبيعية) بالشاهد والاستنتاج أو بالتجربة والملاحظة والاستنتاج. في محاولة لمعرفة خصائص المادة والطاقة والأحياء وتصنيف ذلك وتبويبه، والتعرف على الظواهر الطبيعية والسنن التي تحكمها، ووضع الفروض والنظريات اللازمة لذلك، واستنتاج القوانين للمضطرد منها.
وبهذا التحديد تنقسم المعارف الإنسانية عامة إلى دراسات العلوم (البحتة والتطبيقية) ودراسات الآداب والفنون، ودراسات العقائد. وإن اختلف الكتاب في تبويبها وتصنيفها.
فالمنهج العلمي هو طريقة بحثية تستلزم استخدام مبادئ المنطق في تفسير الملاحظات التي يمكن جمعها من الطبيعة مباشرة، أو عن طريق تجارب تجرى لاستخلاص عدد من الاستنتاجات، ووضع الفروض والنظريات في عملية من التعليل المنطقي هدفها الوصول إلى قدر من المعرفة.
ومن هنا تتضح حدود العلم التجريبي في الإطارات التالية:
أولا: مهما كانت المشاهدة أو التجربة والمشاهدة مباشرة فإنها لا تعدو أن تكون مظهرا خارجيا للحقيقة الواقعة وليست للحقيقة ذاتها، وهناك فرق هائل بين إدراك الأشياء ومعرفة حقائقها، فالأولى تكمن عند حدود الوقائع الحسية فقط، وهي ليست إلا واجهة تكمن وراءها حقائق لا تستطيع حواسنا إدراكها. فالأمر المراد دراسته قد تمكن مشاهدته مشاهدة كاملة، وقد لا يشاهد على الإطلاق ولكن يمكن الاستدلال عليه بآثار يستطيع الإنسان إدراكها في تجارب قابلة للإعادة، والنتائج المستقاة من مثل هذه المشاهدات تقع تحت ما يعرف “بالبيانات المحددة”، ووسيلة الإنسان في إدراكها هي حواسه التي يؤكد العلم التجريبي على أنها محدودة، ولذلك فكثيرا ما يسارع العقل البشري إلى دعم حواسه بأجهزة التقنية المختلفة التي صنعها على أساس ما عرفه من قوانين المادة وخصائص المخلوقات المحيطة به، وبواسطة هذه الأجهزة يمكن أن تتمثل أمام أعيننا أمور لا تستطيع حواسنا المجردة إدراكها، ولكن تبقى هذه الأجهزة –مهما كانت معقدة- مجرد وسائل تساعد الحس البشري في الإدراك عن بعد وتبقى قراءتها مجرد إحساس بالحقيقة وليس جوهرها.
ثانيا: من أمور الكون ما لا يمكن إدراكه بالحس المباشر أو غير المباشر، ولكن يمكن الاهتداء إليه بوجود شواهد على قرينة منطقية تكفي في الاستدلال على صحة الدعوى بوجوده، رغم عدم التمكن نم تجربة ذلك كليا أو جزئيا، أو تجربة آثاره مباشرة وهذا ما يعرف “بالاستنباط”. وهو أسلوب مقبول في ………………
تاسعا: إن المشتغل بالعلم يرث طريقة سابقة للتفكير، وإن أبحاثه لا تمثل إلا جزءا يسيرا من قدر من المعرفة دائم النمو، مبني في أساسه على التقليد، فالعلم بالإضافة إلى انشغاله بالحاضر والمستقبل لا يهمل ما توصل إليه في الماضي من معارف لأنه لو فعل ذلك ما تمكن من أي قدر من التقدم، وبالإضافة على الاكتشافات العلمية فإن المحافظة على التراث ونقده وتطويره يعتبر جزءا أساسيا من رسالة العلم فالعالم لا يستطيع أن يبني جديدا إلا على أساس من المعارف السابقة، ولما كانت هذه المعارف –وهي تراث الإنسانية جمعاء- قد تلقفها الغرب والشرق طوال القرنين الماضيين بصفة خاصة وأعادوا صياغتها على أساس الحادي منكر لكل وجود غير مادي تتضح حدود الكتابات العلمية.
كيف تكتب العلوم اليوم وأخطار ذلك: تكتب العوم اليوم –في غالبيتها- من منطلق مادي بحت منكر لكل ما هو فوق المادة وذلك بحجة أنها –بمفهومها المحدد- تتعامل مع المادة فقط، أو بدعوى المعاصرة وأخطاؤها وأخطارها.
أنه إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن تنسب إلى أسباب فوق الطبيعة، أو انطلاقا من قاعدة خاطئة مؤداها أن الاعتقاد بدين ما قد يفقد المشتغل بالعلوم قدرا من حريته في التفكير.
ولقد تعاونت على إبراز ذلك الاتجاه المادي في الكتابة العلمية عوامل عدة منها العداء التقليدي الموروث بين المشتغلين بالعلوم والكنيسة في العالم الغربي والحرب المنظمة التي تشنها الدولة وتتبناها ضد كل الأديان في العالم الشيوعي وتخلف المسلمين عن ركب الحاضرة خلال القرنين الأخيرين تخلفا عرض معظم بلادهم للاستعمار من قبل دول علمانية تركت بصماتها على مختلف نواحي الحياة فيها… استعمارا فكريا جعل منهم أتباعا لهؤلاء أو أولئك، وهم حملة آخر الرسالات السماوية وأكملها، وأولى الناس بقيادة البشرية وهدايتها… وقبل ذلك وبعده يأتي نشاط قوى الشر على اختلاف صورها، وتباين أهوائها، وتعدد مواطنها، والتي عملت على تغذية ذلك الاتجاه الإلحادي وإذكاء ناره، ودعمه بالفلسفات المادية المتعددة، والحملات الإعلامية المدسوسة، والحركات العنصرية والسياسية المتطرفة، والهيئات الاجتماعية الهدامة، والأعمال العسكرية الظاهرة والمستترة من أجل انحسار الدين وسيادة الفكر العلماني وتحكمه في كل منحى من مناحي الحياة.
ولم يكن في مقدور العلم ذاته أن يصحح مسيرته وذلك لأنه بازدياد حصيلة العلوم ازدادت التخصصات عددا وعمقا، وتحددت أفقا بشكل ملحوظ، الأمر الذي جعل من العسير على المتخصص أن يكون النظرة الشمولية اللازمة لعملية تصحيحية كهذه فبقيت العلوم –على الرغم من إنجازاتها الهائلة- تكتب من ذلك المنطلق الخاطئ الذي أضر بالعلم والإنسان معا.
فلقد كان قصر الكتابة العلمية على الجانب المادي فقط سببا في الدوران بها في دائرة الحس الإنساني المجرد وهي أصغر دوائر المعرفة في هذا الكون الذي يتميز في كثير من أموره بأنه غيبي لا يمكن إخضاعه كلية للمنهج العلمي، ولا تستطيع حواسنا المحدودة إلا إدراك ظاهر منه كما يتراءى لنا في حدود زماننا ومكاننا وقدراتنا وطبيعة أجسادنا.
واحتباس الفكر العلمي في حدود الإطار المادي البحث أعاقه عن الانطلاق في أفاق أكبر وأوسع، وتخلف به عن الكثير من الغايات التي كان بمقدوره الوصول إليها –فالعلم بالشيء لغة هو إدراكه بحقيقته- والعلم هو إذن أسلوب لاكتساب المعرفة بالحقيقة، والمادة ليست إلا جزءا يسيرا منها، وهنا وضعت الكتابات العلمية أمام طريق مسدود حين أريد لها أن تنتهي باستنتاجاتها عند حدود المادة، فاضطرت إلى الانزلاق في كثير من الأخطاء كالادعاء بأزلية المادة والطاقة (المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم وكذلك الطاقة) وما قاد إليه من دعوى أزلية الكون ومن ثم انتفاء الخلق..!!.
أي نسبة كل شيء في هذا الكون إلى الطبيعة وقوانينها وبالتالي عدم جواز إرجاع أي أمر فيه إلى أسباب فوق الطبيعة ثم نكران الخالق..!!.
أو محاولة تفسير التدرج في عمران الأرض بصور الحياة المختلفة مع الزمن على أنها عملية مادية تلقائية بحتة (التطور المادي، التطور الكيميائي والتطور العضوي) وما تبع ذلك من ادعاء باطل برد الخلق إلى العشوائية والصدفة، ومن ثم انتفاء الحكمة والتدبير وانعدام القصد والغاية..!!.
وما صاحب ذلك من فلسفات مادية اتخذت من تلك الاستنتاجات الخاطئة مبررا لها في إنكار الله، وإنكار الخلق، ونبذ رسالات السماء والتهجم عليها والكفر بالآخرة والتنكر لضرورتها… فدارت بالإنسان المعاصر في متاهات من الضلال أشقته وأتعسته، بل أخرجته من إطار إنسانيته الحقة، وأبعدته عن درب رسالته النبيلة وحولته إلى كيان أناني لا يعرف إلا حاجته المادية الآنية المحدودة، وتبقى الفطرة السليمة في صراع مع هذا المد الإلحادي الجارف إلى أن يشاء الله ولولا ذلك… ولولا رحمته بنا ورعايته لنا لانتهت الحياة على هذا الكوكب من زمن بعيد خاصة وأن التقدم العلمي والتقني الهائل قد أعطى الإنسان من وسائل الدمار ما يمكنه من القضاء على كل ما حقق من عمران، ولكنه لم يعطه من القيم ما يمكن أن يردعه عن ذلك…!.
وما البؤس والحزن والخوف والضياع…. والعنف والقسوة والظلم والاستهتار… والأزمات النفسية والروحية التي يحياها إنسان هذا العصر إلا نتيجة حتمية لمجموع المفاهيم الخاطئة التي شاعت في الكتابات العلمية.. وروجت زورا باسم العلم ومنجزاته وتلقفها المشتغلون بالدراسات الفلسفية والإنسانية فجسدوها كفرا صراحا.
ولقد تسربت هذه التصورات المنحرفة إلى كتاباتنا عندما تلقفنا التراث العلمي الغربي في محاولة للحاق بالركب، ونقلنا كما هو بما يحمل في طياته من خلفية مادية منكرة، وبقيت العلوم –في غالبيتها- تكتب وتدرس في العالم الإسلامي بلغات أجنبية وتنشر في دوريات أجنبية أو محلية على نمط الكتابات الوافدة تماما ومن منطلقها، وحتى ما ينشر منها باللغات المحلية لا يكاد يخرج في معظمه عن كونه ترجمة مباشرة أو غير مباشرة للفكر الغريب بكل ما فيه من غث وثمين، بل وتعارض أحيانا مع نصوص الدين. ولقد عرض ذلك نفرا من الناس في شرقنا المسلم لشيء من التمزق الفكري بين ما تؤكده عقيدتهم وما يملأ كتب العلوم التي بين أيديهم من أخطاء تنسب زورا إلى حقائق العلم، والعلم و الحقيقة منها براء.
ونظرا لطغيان الفكر المادي على الكتابات العلمية فقد ضاعت الأصوات القليلة المنادية بالحق وسط ذلك الطوفان الذي تميز بفتنة كبيرة بالعلم والتقنية، ومبالغة في غرور الإنسان بنفسه وبقدرته على الطبيعة، والاعتداد بعلمانية التفكير في شتى نواحي الحياة..
وعلى الرغم من ذلك كله فقد برزت جهود فردية لكتابة العلوم من منطلق إيماني صادق أمثال كتابات الأساتذة والدكاترة إبراهيم فرج، محمد أحمد الغمراوي، محمد محمود إبراهيم، خطاب محمد، مالك بن نبي، وحيد الدين خان، محمد السعيد كيرة، أحمد عبد السلام الكرداني، محمد جمال الدين الفندي، عبد الرازق نوفل، أحمد زكي، حنفي أحمد، مصطفى محمود، خالص كنجو، حسن زينو، عفيف طبارة، قيس القرطاس (من الكتاب العرب)، سير جيمس جينز، أ. كريسي موريسون، الكسيس كاريل، جراهام كانون، البرت اينشتين (من الكتاب الأجانب) بالإضافة إلى أربعين متخصصا أمريكيا استكتبهم جون كلوفر مونسما إلى مؤلف حرره تحت عنوان “الله يتجلى في عصر العلم” نقله إلى العربية الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان وراجعه الدكتور محمد جمال الدين الفندي.
وهذه المؤلفات في غالبيتها تدور في إطار الكتابات العلمية العامة أو الكتابات الفلسفية البعيدة عن مجال التدريس والبحث العلمي، وهنا يبرز كتاب أستاذنا الدكتور إبراهيم فرج في مجال علوم الأرض، وكتاب الأخ الدكتور خالص كنجو في مجال الطب (وأولهما مرجع جامعي والثاني رسالة لدرجة الدكتوراه) عملان رائدان على الطريق لإعادة كتابة العلوم من وجهة النظر الإسلامية.
وفيما عدا ذلك تبقى كتب العلوم التي بين أيدينا مراجعها ودورياتها ومختلف نشراتها منطلقة من منطلق مادي بحت، منكر أو متجاهل لكل ما هو فوق المادة، ومن هنا أتت بالتعبيرات الخاطئة في حق العلم وحق الإيمان معا.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أورد هنا بعض نماذج لأخطاء شاعت في الكتابات العلمية نتيجة لانطلاق تلك الكتابات من خلفية مادية بحتة، وهي أخطاء تتردد على أنها من حقائق العلم الثابتة بينما نظرة متفحصة لها تؤكد بعدها عن الحقيقة وتورطها في الضلال. ومن أمثلة تلك الأخطاء:
1-الادعاء بأزلية العالم: وهو افتراض قديم تنادي به زعماء الإلحاد وأدعياؤه على الرغم من أن العالم يثبت أن هذا الكون مستحدث فان، كانت له في الأصل بداية، ولا بد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، فمن المعروف اليوم أن العناصر في مجرتنا قد تكونت في الفترة من سبعة آلاف إلى ستة آلاف سنة مضت. وأن الشمس قد تكثفت على هيئتها الحالية منذ ستة آلاف مليون سنة، وأن الكواكب الابتدائية قد تحولت إلى كواكب عادية منذ حوالي خمسة آلاف مليون سنة، وأن الفصل الكيميائي في أجسام الكواكب قد تم منذ أربعة آلاف وخمسمائة مليون سنة. وأن القشرة الخارجية للأرض قد جمدت على هيئة صخور منذ أربعة آلاف مليون سنة، وأن أقدم أثر للحياة على الأرض يرجع إلى ثلاثة آلاف مليون سنة، وأن الحياة قد ازدهرت على الأرض منذ ستمائة مليون سنة، بينما يقدر عمر أقدم بقايا للإنسان على الأرض بأقل من مليون سنة. كذلك فإن قانون الطاقة المتاحة يثبت أن الكون لا يمكن أن يظل موجودا إلى الأبد لأن الحرارة تنتقل دائما فيه من وجود حراري إلى وجود غير حراري والعكس غير ممكن وبذلك لا بد من أنه سيأتي على هذا الكون وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات وحينئذ تنتهي العمليات الكيماوية والطبيعية وتنتهي تلقائيا الحياة. وانطلاقا من ذلك فإن وجود الحياة الآن واستمرار العمليات الكيماوية والطبيعية يثبت بطريقة قطعية أن الكون لم يكن أزليا، إذ لو كان كذلك لكان من اللازم أن يفقد طاقته منذ زمن بعيد، ولما بقي فيه بصيص من الحياة إلى اليوم.
وهنا يتقدم أحد العلماء الأمريكيين المعاصرين فيقول “وهكذا أثبتت البحوث العلمية –دون قصد- أن لهذا الكون بداية فأثبتت تلقائيا وجود الله، لأن كل ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأول ألا وهو الخالق العظيم”.
2- قوانين المادة والطاقة: من وضعها؟ وهل يعقل أن تكون المادة الصماء هي التي وضعت القوانين التي تحكمها وتحد من حريتها؟ وإن لم يكن ذلك معقولا، أليس من الأفضل أن تسمى فطرة المادة التي فطرها الله عليها حتى يستقيم تعريفنا لها؟ فمن تلك القوانين ما ينص على “أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم وكذلك الطاقة” بينما يعلمنا الإسلام بأن الله جلت قدرته قد أوجدها كلها من العدم فقد كان سبحانه وتعالى ولم يكن معه شي، ويؤكد لنا العلم أن هذا الكون كانت له في الأصل بداية وسوف تكون له في يوم من الأيام نهاية كما سبق أن أسلفنا، وعلى الرغم من ذلك نرى هذين القانونين للمادة والطاقة يرددان في مختلف الكتب وعلى مختلف المستويات وهما بمنطوقهما الحالي يتعارضان تعارضا كاملا مع روح الإسلام وعقيدته. ويمكن أن يستقيم منطوق هذين القانونين بجملة تصحيحية كما يلي: “في حدود طاقة الإنسان المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم وكذلك الطاقة”.
وربما كان كثير من العلماء المسلمين الذين كتبوا هذين القانونين أو تحدثوا عنهما مؤمنين تماما بهذا الفهم ولكنه التقليد للكتابات الغربية والنقل الحرفي بلا تصرف وأمثال ذلك كثير كثير.
3- التحدث عن حقيقة الطبيعة وقوانين الطبيعة: وهذه عبارات قد نقلت إلى كتابات المسلمين دون وعي حقيقي لأبعادها، فما هي الطبيعة؟ وما هو تعريفها؟ يختلف العلماء في تعريف الطبيعة فمنهم من ينادي بأنها الصفات الأساسية للأشياء ومنهم من يقول بأنها القوى الطبيعية التي تسبب ظواهر العالم المادي، وهنا يبدو واضحا أنه قد يكون من الأفضل أن تسمى “فطرة الله التي فطر الأشياء عليها” أو أنها مجموع القوانين التي وضعها خالق الكون وأودعها المادة الصماء وكل الأحياء وعلى أساسها يدور الكون من أدق دقائقه إلى أعظم وحداته. وفي ذلك يقول أحد العلماء الأمريكيين “أن الطبيعة لا تفسر شيئا من الكون، وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير” فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة حتى أن العلماء يستطيعون أن يستنبطوا منها قوانين علمية؟.
والحقيقة أن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون –ليس سوى خدعة لنفسه- فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة ثم يزيد “ومن المستحيل أن يتحقق وجود هذا النظام المدهش باتفاق محض فقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن الله يعمل بقوانينه العظمى التي خلق بها الحياة”. فهي إذن قواني الله وسننه وليست قوانين الطبيعة.
4- الادعاء بأن أصل الحياة عملية مادية بحتة حدثت بمحض الصدفة: وهو ادعاء كثر تردده مؤخرا وجاوزت الكتابات فيه حدود المنطق. فقد انفردت مجموعة من الكتاب وعلى رأسهم الكاتب الروسي أ. ي. أوبارين بحمل لواء الادعاء الباطل بأن أصل الحياة تفاعل كيميائي حدث بمحض الصدفة دون تخطيط مسبق، وتحدثوا عن التطور الكيميائي كعملية سبقت التطور العضوي وحاولوا في جهود مستميتة تفسير إمكانية نشأة الحياة عن طريق ذلك التفاعل الكيميائي، ولكن هؤلاء قد تناسوا قدرا هائلا من الحقائق التي لو تفحصوها بدقة ما انزلقوا إلى ما تهاووا إليه، ولتكشفت لهم الأمور بصورة أصدق ويكفي أن نسطر في هذا المعرض ما يلي:
أ- من الثابت علميا أن الخلايا الحية تتركب من مادة هلامية تعرف باسم البرتوبلازم وهذه المادة تتركب بدورها من جزئيات معقدة لمركب كيماوي يعرف باسم البروتين. وجزئ البروتين بدوره يتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية وهذه يدخل في تركيبها خمسة عناصر رئيسية هي الكربون والهيدروجين والنتروجين والأكسجين والكبريت وأن الجزيء البروتيني الواحد يحتوي على ما يقرب من أربعين ألف ذرة من ذرات هذه العناصر والتي يمكن تجميعها في (10) 48 صورة وطريقة، وقد حسب رياضيا أن تكون جزئ بروتيني واحد عن طريق الصدفة يتطلب مادة تبلغ بليون ضعف مادة الكون الحالية كلها، بحجم يزيد محيطه عن (10) 82 سنة ضوئية وفي زمن يزيد عن (10) 243 بليون سنة (أي ملايين الأضعاف المضاعفة لعمر الأرض التي نعيش عليها والذي يقدر بخمسة آلاف مليون سنة) ثم أن من الفرص المتاحة لتجمع ذرات الجزيء البروتيني ما يجعلها سما زعافا أو مادة صالحة لتقبل الحياة. والاحتمالات في هذا المجال أكبر من أن نسجل فكيف إذن قدر لهذه المادة الصماء أن تختار بدراتها الصورة الحالية والطريقة التي نسمح لها بأن تكون صالحة لتقبل الحياة، ثم إن هذا الجزيء البروتيني في حد ذاته ذو وجود كيماوي لا يتمتع بالحياة… فكيف إذن دبت فيه الحياة وهو جزء من الخلية الحية؟ وكيف ظهرت الحياة على هيئة مليون نوع من أنواع الحيوان وأكثر من ربع مليون نوع من النبات على ظهر الأرض في مدة قصيرة نسبيا.
ب- منذ مطلع القرن الحالي والمحاولات العديدة تبذل لاستحداث الحياة في مركبات صناعية لها نفس التركيب الكيميائي للخلية الحية ولكن باءت كل هذه المحاولات بالفشل وذلك لجهل العلم التجريبي بسر الحياة ذاتها.
ج- إنه من المعروف اليوم أن بجسم الإنسان –وهو أرقى المخلوقات- أكثر من ألف مليون خلية في المتوسط، تتجدد منها في كل ثانية من عمره 125 مليون خلية تقريبا، وبعملية حسابية بسيطة نجد أن خلايا جسد الإنسان تتجدد كلها مرة في كل عشر سنوات تقريبا، وهذا يعني أن علمية فناء الجسد المادي تستمر ولكن يبقى الإنسان في الداخل كما كان من قبل بقدراته الذهنية ومواهبه المختلفة وعلمه وحافظته وصفاته الشخصية المميزة وعاداته وأمانيه وأفكاره وعواطفه… تبقى كلها كما كانت دون أن تتأثر بتبدل جسده التدريجي.. إنه يشعر أنه هو نفس الإنسان الذي وجد منذ عشرات السنين ولا يحس بأن شيئا من حقيقة وجوده قد تغير وهذا المثل وحده كافٍ ليقطع بأن في الإنسان شيئا آخر أخطر من هذا الجسد وهو الذي يحدثنا عنه الإسلام بأنه الروح، ولما كانت الروح أمرا غير مادي فلا يمكن للعلم التجريبي أن يتمكن من التعرف على حقيقة كنهها وصدق الله العظيم إذ يقول “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر بي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”.
د- على الرغم من ذلك كله فإن الإسلام لا يمانع من التصدي للإجابة على جميع التساؤلات بكل الأساليب المشروعة ومنها الأسلوب التجريبي وفي ذلك نجد التنزيل ينطلق “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”.. فالإسلام لا يمانع في البحث في أصل الحياة وكيف بدأت ولكنه يلزمنا بالإيمان بما يقتضيه المنطق بأن هذه المادة الصماء لا يمكن أن تكون قد تحولت إلى مادة حية بمحض إرادتها أو بمجرد الصدفة.
5- تفسير نشأة الحياة وتطورها على أنها تمت تلقائيا بالانتخاب الطبيعي: وما صاحب ذلك من تعبيرات مثل “الانتخاب الطبيعي”، “التطور بالانتخاب الطبيعي”، “انتخاب الطبيعة” وهي عبارات انتشرت في كتابات المشتغلين بعلوم الحياة عامة وبقضية التطور بصفة خاصة ولكن دون فهم حقيقي لمدلولها، فمن الذي يختار أو ينتخب؟ هل هي الطبيعة؟ وإذا كان ذلك فما هي الطبيعة؟ وما هي قدرتها على الاختيار؟ هل هي كيان يمكنه أن يختار وينتخب؟ وإذا كان كذلك فهل يعقل أنها قد أوجدت نفسها بنفسها ثم وضعت القوانين ما يحدها ويحيط بها؟
هذا الكلام لو دقق فيه الإنسان ما قبل أن يردده أبدا. ولكن على الرغم من ذلك فإننا نجد هذه العبارات وأمثالها تملأ صفحات كتب العلوم، وتردد في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والفلسفية بل تتناقلها الصحف والمجلات والمنابر والإذاعات دون أن يحاول كاتبوها أو الناطقون بها أن يقفوا عندها وقفة قصيرة متبصرة.
ولو استعيض عن ذلك بالتعبير “تطور بواسطة التوجيه الإلهي” أو “تطور بواسطة الانتخاب بالفطرة الإلهية” فضلا عن “الانتخاب الطبيعي” لكان أقرب إلى تفسير الواقع. وفي ذلك يقول أحد العلماء الغربيين المعاصرين “إن الاستدلال بقانون الانتخاب الطبيعي قد يفسر عملية بقاء الأصلح ولكنه لا يستطيع أن يفسر حدوث هذا الأصلح” ويقول آخر “إن الانتخاب الطبيعي كان في عمل العلماء أنفسهم”.
6- الحديث عن التطور العضوي على أنه حقيقة علمية ثابتة: وما صحب ذلك من تعبيرات مثل “حقيقة التطور” وهو تعبير يتردد كثيرا ويتصدر صفحات الكتب والدوريات التخصصية والعامة، وهو لا يصف لنا حقيقة أبدا لأن عملية التطور كما يفسرها المنادون بها عملية بطيئة جدا، لا يمكن إخضاعها لتجربة معملية ولا إلى مشاهدة حسية مباشرة أو غير مباشرة، فكيف إذن يمكن أن تكون حقيقة ثابتة؟ إنها مجرد محاولة لتفسير تدرج الحياة مع الزمن على سطح كوكبنا الأرض، قد تكون صحيحة وقد لا تكون، وعلى ذلك فمن الخطأ إشاعتها بين الناس على أنها حقيقة مؤكدة، ومن التضليل استخدامها بطريقة شيطانية لهدم معتقدات الناس وإيمانهم، خاصة وأن أدلتها في معظمها محل جدل كثير ولا مجال لاستعراضها هنا ولكن تكفي الإشارة إلى أن فكرة التطور كما قدمها داروين (ولم يكن أول المنادين بها) تقوم على أسس ثلاث هي “التكيف” و “التخصص” و “الانعزال الجغرافي” وهي تعبيرات لا معنى لها ذلك في كتابات داروين ذاتها وبخاصة في سيرة حياته يذكر صراحة أن العهد القديم “عرض تاريخي زائف للعالم وأحداثه”.
هذه العبارات وردت بحذافيرها في تمهيد لعدد عن النشوء والارتقاء من مجلة عربية تصدر في بلد عربي مسلم، كتبها أستاذ جامعي مسلم وواضح في كتابته نقل هذه الأفكار بكليتها عن عالم غربي يدعى ج. س. جرين في كتابه “داروين ونظرة العالم الحديث” الذي نشر في نيويورك سنة 1963م. والمجلد ملئ بمثل هذه الأخطاء التي تسربت إلى أقلام المسلمين عن طريق الكتابات الغربية، وأمثال هذا النقل غير الناقد كثير جدا فيما نشر وينشر في العالم الإسلامي المعاصر ولست أجد هنا ردا أبلغ على ذلك من قول سير آثر كيث “إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر وهاذ ما لا يمكن حتى مجرد التفكير فيه”. ثم قول جيمس جينز في كتابه “عالم الأسرار”: إن في عقولنا الجديدة تعصبا يرجح التفسير المادي للحقائق”. ومن العجب أن الأضواء لا تسلط إلى على هذه الأخطاء الشائعة بينما يتجاهل الناس في عالمنا ما يكتبه علماء غربيون بارزون جدا في هذا المجال ومنهم العالم البريطاني الشهير جراهام كانون أستاذ علم الحيوان بجامعة مانشستر سابقا والذي ألف كتابا بعنوان “نظرات في تطوير الكائنات الحية” وفيه يقول عن كتاب داروين “الواقع أن عنوان الكتاب خطأ، وأن به نقصا واضحا، ولكن لم يفطن لهذا الخطأ وقتئذ أحد، والكتاب متخم بالتخبط المبالغ في التفكير وبكثير من الحشو الذي لا يمت إلى موضوعه بصلة”. ويستشهد الأستاذ كانون في ذلك بقول أحد أصدقاء داروين “أجدني مضطرا إلى القول بأن الناس قد ضللوا وسيقوا إلى الاعتقاد بأنهم فهموا الموضوع كله، ولكنهم مع ذلك هل وقفوا هنيهة وتساءوا عما أضاف كتاب أصل الأنواع لمعارفنا فعلا؟ ثم يرد على ذلك بقوله “لا” إن هذا لم يحدث إلا بعد ذلك بسنين عديدة بل إني لا أشعر أنه حتى يومنا هذا قليل من علماء الأحياء هم الذين استطاعوا الإجابة على هذا التساؤل ويخيل إلينا أن نجاح كتاب أصل الأنواع كان من تلك الحالات القائمة على نفسية الجماهير حين يصبح كتاب بعينه بدعة رائجة لسبب خفي غير واضح؟؟.
وفي ذلك المعنى أيضا يقول كانون “إن ما يدعيه الداروينيون والمندليون من أن الصدفة المحضة هي الأصل في التطور قول ساذج لا يتفق مع الملاحظة والرأي السليم إذ أن في الكائن الحي قوة موجهة كامنة في نفسه هي التي تتحكم في التطور وتقود خطاه”.
ويختتم كانون كتابه بقوله “وإن جميع الأدلة التي حللتها في الفصول السابقة لتؤدي في نظري –إلى وجهة واحدة لا تنثني عنها، فهي تنتهي إلى فكرة وجود قوة موجهة هادية مستقرة في أعماق كل كائن حي تتحكم في تطوره وتوجهه لا عن طريق التغييرات العشوائية وإنما عن طريق تحولات مختارة. وعلى أية حال، فقد برزت فكرة تلك القوة الموجهة –ولتسميها كيفما شئت- المرة تلو المرة منذ عهد أرسطو حتى أيامنا هذه، ولكن هل من دليل موضوعي على وجودها؟ لقد دأب المفكرون في كل العصور على تقديم هذا الرأي بأنه فكرة مجردة لا يستطاع وضعها موضع الاختبار التجريبي العملي. فهل ثمة من سبيل إلى فهمها في نطاق معارفنا الكيماوية والفيزيقية؟ يخيل لي أن هناك سبيلا إلى ذلك ولكن هذا لن يتضح إلى إذا رجعنا إلى الوراء فدرسنا أول صور الحياة الباكرة أو في الواقع الطريقة المحتملة لنشأة الحياة نفسها”. ويضيف “وفي نظري أن هذا القانون للتطور صورة من صور الجمال الخاص بسبب قدرته الشاملة. أما القدرة التي تديره فهي شيء رائع للغاية، ولكنها أيضا شيء قد يكون فوق طاقة تلك الآلهة الواهية التي يسمونها العقل البشري ولكنها بكل تأكيد فوق أفق هذا الكتاب وخارج نطاقه”.
هذا رأي لأحد العلماء الغربيين قلما يشار إليه في كتاباتنا العلمية على الرغم من مكانة صاحبه، بل على العكس من ذلك تواصل الكتابات العلمية غيها فتقرر أن الإنسان حيوان متطور عن القرد، وتحاول ربطه في سلاسل تطورية متكلفة تضم ما أسموه “بالقرد الإنساني” و “الإنسان القردي” و “الإنسان الأول” إلى غير ذلك من الأسماء، وتقوم بنشر صور لهذه المخلوقات على أسس من بقايا نادرة متناثرة لها متجاهلين تماما أن الإنسان ليس إنسانا بجسده بل بإنسانيته المتميزة بالعقل والبصيرة والإرادة والاختيار والقدرة على التعبير، وغير ذلك مما كرمه به الله وأنه ربما كانت هناك مخلوقات تشبه الإنسان في الهيكل ولكنها ليست بأناسي على الإطلاق، وتعرض القضية في الكتب المدرسية وتدرس في أذهان طلابنا الصغار على أنها إحدى الحقائق العلمية المسلمة علميا بأن عالما غربيا بارزا مثل بورن كيرتن أستاذ علم الحياة القديمة بجامعة هلسنكي يسجل في كتابه “ليس من القردة” الذي نشر في لندن سنة 1972 “أن أصل الإنسان منفصل تماما عن القرد منذ زمن طويل وأن الإنسان لم ينحدر عن القرد بكل تأكيد”. وفي سياق عرضه للموضوع يؤكد كيرتن على أن عملية التطور عملية موجهة، ولا يمكن أن تكون عملية عشوائية أو نتيجة للصدفة، ثم إن البقايا الأحفورية الرئيسية التي تم العثور عليها والطرق التي تم استخدامها في تزييف بعضها على صورة شاعت بين الناس ثم اضطروا إلى التسليم بها لمجرد رواجها لا على أساس علمي ملموس، والاستنتاجات المستقاة منها بأن للإنسان صلة مباشرة بالقردة –ليست دليلا على صحة الدعوى، بل تنقضها وتدحضها.
وفي عرض لكتابه “ليس من القردة” كتبت جريدة الجارديان البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 3/6/1972 “في كل الأماكن التي وجدت بها بقايا للحياة الإنسية القديمة يلاحظ أن التحول من المخلوقات السابقة للإنسان قد تم بعملية إحلال فضلا عن عملية التطور. وقد تم إحلال المخلوقات البدائية بالإنسان فجأة.. وفي مدى خمسة آلاف من السنين، بينما أخذت تحولات ضئيلة جدا في هياكل الكائنات السابقة مئات آلاف من السنين…. فهل يا ترى وصل الإنسان إلى الأرض بين يوم وليلة؟ وإذا كان ذلك قد حدث فمن أين؟ هل هي عودة بنا إلى قصة آدم وحواء أم هو سؤال لا يقوى على الإجابة عليه إلا علماء الروح؟
هذه نماذج لتباين الآراء البشرية في قضية واحدة نتيجة لتباين الخلفيات الذهنية والنفسية والعقائدية والتربوية والحضارية للكاتب، فالتطور بالنسبة للإنسان الملحد عملية ذاتية تلقائية بحتة تمت بصورة عشوائية لا ضابط لها ولا رابط، سواء قام على ذلك منطق أم لم يقم، أما بالنسبة للإنسان المؤمن فالنظرية إذا صحت بتفسيراتها الراهنة فهي أسلوب الله في الخلق وطريقته في إبداعه.
خطوط عريضة لإعادة كتابة العلوم من وجهة النظر الإسلامية: يتضح مما تقدم أن الكتابات العلمية التي تم نشرها خلال القرنين الماضيين –بصفة خاصة- قد كتبت معظمها بخلفية مادية الحادية منكرة، وقد بدأ ذلك الاتجاه في الكتابة العلمية أول ما بدأ كموقف معارض للكنيسة في ثورة على محاولاتها للحجر على العقل البشري. وحده بحدود معينة لم يقتنع بها، ثم ما لبث هذا الموقف أن أصبح تقليدا انتشر بين الناس، وغذته قوى الشر على اختلاف صورها، وتباين أهوائها، فأصبح بدعة العصر حتى أن الكثيرين من المشتغلين بالعلوم انساقوا إلى هذا الأسلوب في الكتابة دون وعي حقيقي لما يقودهم إليه.. فاعتبرت كل الانتصارات العلمية خطأ انتصارا على معاني الإيمان واتخذت معاول لهدم الدين بدلا من أن تكون وسلة لمزيد من التعرف على الخالق العظيم.. ولما كان العلم تراث الإنسانية جمعاء، وكان المسلمون هم الأمة الوسط، وحملة آخر الرسالات السماوية وأكملها أصبح من واجبهم المحافظة على هذا التراث الإنساني وتطهيره من كل ما يشوبه أو يعكر صفاءه، فإن ترك هذا التراث في أيدٍ لا تحسن عرضه قد أضر بمجموع العلم الإنساني كتراث ورسالة، وهنا تبرز ضرورة إعادة كتابة العلوم من وجهة النظر الإسلامية وفيما يلي بعض الخطوط العريضة لذلك:
1- التأكيد على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والعمل على تطهير الكتابات العلمية من آية إشارة يمكن أن تشكك في ذلك من قريب أو بعيد، في غير مساس بالمنهج العلمي ذاته أو حجر على العقل البشري في انطلاقه للتعرف على هذا الكون وسننه.
2- التأكيد على قيمة العلم في الإسلام والدعوة إليه، والإقرار بأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة، فالإسلام يطالب العقل البشري بالنظر في هذا الكون والتأمل في بديع صنعه لأنه بذلك يتعرف على خالقه، ويستخلص شيئا من السنن الكونية التي تمكنه من عمران الأرض والآيات القرآنية التي جاءت في هذا المعنى قد جاوزت السبعمائة آية.
3- إبراز عظمة الكون وكل ما فيه وكل ما فيه من مخلوقات (جمادا ونباتا وحيوانا وطاقات وظواهر) والتأكيد على أن هذا الكون الشاسع، المحكم البناء لا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه، وإنما لا بد له من موجد قد أوجده وهو الذي يرعاه فالاحتمالات الرياضية للصدفة في نشأة الكون معدومة فعلا مما يجزم بأن الكون لا يمكن أن يكون قد تواجد إلا بتدبير مسبق وحكمة بالغة ولا أن يستمر في وجوده هذا إلا برعاية خالقه.
4- التأكيد على أن هذا الكون المتناهي في الاتساع مبني على نفس النظام من الذرة إلى الخلية الحية، إلى المجموعة الشمسية ثم إن مكوناته على تباينها يمكن ردها إلى لبنات أربع: هي المادة والطاقة (في مختلف صورها بما في لك الجاذبية) والزمان والمكان، وقد توصل العلم إلى أن المادة على اختلاف صورها ترد في أصلها إلى غاز الهيدروجين (أخف العناصر المعروفة) وأن الطاقة بمختلف أنواعها والجاذبية لا بد أن يلتقيا في شكل واحد للطاقة، وبأن الطاقة والمادة شيء سواء، وبأن الزمان والمكان شيء متواصل، وبذلك تتحلل مركبات الكون المعلومة لنا إلى شيء واحد لا نعرف كنهه، ولكنه يمثل الوحدة العظمى التي تجري في هذا الكون كله، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على وحدة الخالق سبحانه وتعالى.
5- أن هذا الكون ليس أزليا فقد كانت له في الأصل بداية، وأنه لا يمكن أن يكون أبديا لأنه لا بد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، والعلم بمختلف تخصصاته يؤكد على ذلك ولا بد من الإشارة إلى هذا المعنى في معرض المناقشات العلمية كلما لزم الأمر بلا تكلف أو افتعال.
6- التأكيد على أن العلم في جوهره هو محاولة جادة للوصول إلى الحقيقة وعلى ذلك فلا بد لكل مشتغل به من التذرع بصفات الأمانة والدقة والرغبة الصادقة للتوصل إلى المعرفة، وعلى أن البحث العلمي المتميز بالإخلاص هو نوع من الجهاد الذي يؤجر عليه الإنسان، وكذلك التأكيد على أن المنهج العلمي أسلوب في العمل والتفكير، كل من يتبعه بصدق يصل إلى قدر من المعرفة، وهو مجال يتنافس فيه المتنافسون.
7- إن إبراز العلم الإنساني لا يتعدى كونه محاولة بشرية لتفسير الظواهر الكونية المحيطة بالإنسان والاستفادة بها في عمران الأرض، وعلى ذلك فليس في وسع الإنسان أن يصل إلى جوهر الأشياء لأنه لا يستطيع أن يصف سوى مظهرها واضطراد تأثيرها، ومن هنا فلا يمكن لاستنتاجاته أن تمثل الحقيقة المطلقة فالعلم البشري محكوم بأحاسيس الإنسان المحدودة وبإمكانات عقله المحدودة أيضا، والتي تجعل من استنتاجاته شيئا لا يعدو أن يقع في حدود دائرة الإنسان، ثم أن جميع الاستنتاجات العلمية محدودة كذلك بوضعه على كوكبه الأرض في زمان ومكان معين ومن هنا تأتي استنتاجاته كلها نسبية.
8- التأكيد على أن العلوم التجريبية هي في حقيقتها معارف جزئية زادها ضيق التخصص يوما بعد يوم تحديدا، والعلم الجزئي ليس في مقدوره أن يجيب على تساؤلات الإنسان الشاملة، وهذا يؤكد على حاجة الإنسان في الأمور التي لا يمكنه إدراكها إلى علم أكبر من علمه وبالتالي يؤكد على ضرورة الرسالات السماوية و على أن الدين ليس أمرا ماديا، بل هو فوق المادة، ومن ثلم فليس في مقدور المعارف الجزئية أن تتعارض معه.
9- التأكيد على أن الإسلام هو رسالة السماء إلى الأرض منذ أن وجد الإنسان وإلى أن تقوم الساعة، وأن القرآن هو آخر الكتب السماوية وهو الوحيد من بينها الذي لم يتعرض إلى تحريف أو تزييف. وهو الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو في الأصل كتاب هداية وليس كتاب علم تجريبي بمفهوم الكلمة اليوم، إلا أنه يحوي إشارات علمية وردت بدقة بالغة وإحكام دقيق وأنه لمن واجب العلماء المسلمين استخلاص هذه الإشارات العلمية والاستفادة بها كموقع على طريق الحق، ونقطة بداية من الحق سبحانه وتعالى.
10-ضرورة التأكيد على أن العقل البشري يمثل إحدى النعم الكبرى التي من الله بها على الإنسان، وأنه من قبيل الشكر على هذه النعمة استخدامها إلى أقصى حدود إمكانياتها، وصدق الله العظيم إذ يقول “ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا”.
11-إبراز الاستنتاجات العملية الكبرى ذات المغزى الأهم بالنسبة للإنسان خاصة ما يؤكد منها على حقيقة الآخرة وإمكانية الوحي السماوي بل ضرورته فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن من قوانين المادة والطاقة استنتاج أن كل ما يقوم به الإنسان من عمل أو قول أو تفكير هو صورة من صور الطاقة التي تسجل بدقة فائقة في الفضاء الكوني. والتي يمكن استرجاعها بتفاصيلها الدقيقة وهذا وحده يكفي للتأكيد على أن الإنسان محاسب لا محالة عن كل عمل يأتيه وكل كلمة ينطق بها وحتى عن النية تتردد في قلبه ولا تخرج إلى حيز الوجود وهو دليل كاف على حقيقة الآخرة.
وبالمثل يمكن إثبات أن الوحي ليس عملية مستحيلة من الناحية العلمية، فمن المعروف أن من الناس من يمكنه تحويل أفكاره بأكملها إلى إنسان آخر، وعلى بعد غير عادي، وبدون استعمال أية واسطة مادية ظاهرية، وهذا يعرف بالاستشراق ويفسر بأمواج خاصة تصدر عن المخ وتنتشر بسرعة فائقة، وإذا كان ذلك يتم بين إنسان وإنسان فهل يستحيل بين الله وإنسان يختاره لذلك؟
12-إبراز إضافات المسلمين للعلوم في مختلف العصور، وكيف أنهم قد كتبوا في ذلك كتابات أصيلة انطلاقا من إيمانهم، وإنهم كانوا فيما كتبوا مثلا يقتدى به في أمانة النقل ودقة التعبير وحسن السند مما يؤكد على أن الإسلام كان دائما حافزا على البحث العلمي والمعرفة الإنسانية لدرجة أنه يجعل العلماء ورثة الأنبياء.
هذا الدور الرائد للمسلمين الأوائل كثيرا ما يغفل أو يطمر بطريقة متعمدة أو غير متعمدة في كتابات العلوم التي توجد بين أيدينا اليوم، وقد أن الأوان لإبراز ذلك شحذا للهمم وإحياء للسنة الحسنة، فقد تمكن المسلمون في الماضي من المساهمة الفعالة في مجالات البحوث البحتة والتطبيقية وفي إقامة نظم تعليمية ناجحة استطاعت أن تستوعب كل المعارف الإنسانية المتوفرة حواليهم وأن تضيف إليها إضافات جادة أصيلة وأن تحقق بها قدرا ملحوظا من النجاح في مختلف المعارف الإنسانية على تباين صورها، وكانت إضافاتهم تراثا ضخما بنيت عليه الانطلاقة العلمية التي حققها إنسان هذا العصر، ولا يمكن أن ينكر ما استفاده الغرب من المكتبات الإسلامية في كل من أسبانيا، والمغرب العربي ومصر وسوريا والعراق منذ مطلع عصر النهضة، وتكفي الإشارة إلى أنه قد كان يشترط لدارسي العلوم البحتية والتطبيقية في كثير من الجامعات الأوربية أن يكونوا على معرفة باللغة العربية تمكنهم من قراءة هذا التراث الإسلامي وفهمه.
13-التأكيد على أن القرآن يقدر مسئولية الإنسان عن حواسه وعقله ويأمر باستخدامها في البحث عن المعرفة، وهو ينهي عن الغفلة، ويحارب الجمود على الآراء الخاطئة الموروثة، ويحرم الحكم بالظن والهوى، وهو ينشر العلم اليقيني، ولذلك يطالب دوما بالبرهان، ويأمر بتأسيس الأحكام على الدليل العقلي الذي لا يقبل النقض. وهو في ذلك واضع المنهج التعليمي التجريبي وهو مؤسس أخلاقيات العلم.
خاتمة: تعتبر كتابات العلوم اليوم إحدى صور التحدي الحضاري الذي يواجهه المسلمون، لأن الغالبية العظمى منها تنطلق من مفهوم مادي منكر أو متجاهل لكل ما هو فوق المادة، وما يكتب منها في عالمنا الإسلامي المعاصر يتبع –في معظمه- هذا الخط لأنه يكتب عادة بلغات أجنبية وينشر في دوريات محلية أو خارجية على نمط الكتابات الغربية تماما، وحتى ما ينشر منها باللغة العربية أو باللغات المحلية لا يكاد يخرج –في مجموعة- عن كونه ترجمة مباشرة أو غير مباشرة للفكر الوافد بكل ما فيه من تعارض واضح أحيانا مع نصوص الدين، ومن هنا كانت الضرورة لإعادة كتابة العلوم من وجهة النظر الإسلامية، وأول ما يجب عمله في ذلك هو إثبات أن هذا الموقف غريب على العلم وعلى الإسلام وأنه نتاج للعداء التقليدي الموروث بين المشتغلين بالعلوم والكنيسة في العالم الغربي، ثم تبيان أن العلم وما حققه من تقدم هائل في السنوات الأخيرة هو في حقيقته أكبر برهان على وجود الله، وأقوى حجة على صحة رسالاته، وفي ذلك يسجل الأستاذ محمد فريد وجدي –رحمه الله- في خاتمة كتابه “المستقبل للإسلام” ما نصه “إن كل خطوة يخطوها البشر في سبيل الرقي العلمي، هي تقرب إلى ديننا الفطري، حتى ينتهي الأمر إلى الإقرار الجماعي بأنه الدين الحق”.
وفي التدليل على ذلك كتب فصلا كاملا تحت عنوان “العلم والفلسفة يهيئان العقول والقلوب لقبول الإسلام دينا عالميا” يقول فيه “…. نعم إن العالم بفضل تحرره من الوراثات والتقاليد وإمعانه في النقد والتمحيص يتمشى على غير قصد منه نحو الإسلام بخطوات متزنة ثابتة، لا توجد قوة في الأرض ترده عنه، إلا إذا انحل عصام المدنية، وارتكست الجماعات الإنسانية عن وجهتها العلمية”.
ويضيف “… في أثناء تمشي الإنسان في هذا السبيل الأدبية، تحت ضوء العلم والفلسفة تسقط في نظره الواحدة بعد الأخرى، جميع الأوهام الموروثة، والتعصبات التقليدية فيرى الخضوع لها عارا عليه، وسقوطا لكرامته، ويعمل على تطهير قلبه منها، واجتثاث جذورها المنبثة في أقصى ثناياه، عادا ذلك من متممات وجوده الأدبي.
فتكون النتيجة الحتمية من وراء هذه المحاولات الثقافية في هذه الناحية تأسس الأصول الآتية:
أولا: زوال الوراثات الدينية.
ثانيا: انمحاء التعصب المذموم للعقائد الباطلة.
ثالثا: قيام النظر العقلي مقام التقليد الأعمى.
رابعا: قبول كل عقيدة تسلم من النقد وتنهض بها حجة.
خامسا: الميل إلى إيجاد زمالة عامة بين الناس كافة، ومحاربة كل العقائد المفرقة للأمم، والجاعلة إياها شيعا.
سادسا: الاتجاه إلى نصب العلم فاروقا بين الحق والباطل بغير اعتداد برأي أية طائفة من الطوائف، أو فرد من الأفراد…
فإذا بلغ العالم هذه المرتبة من التعقل، والخلاص من آثار الوراثة، ثم لاح له أن ينظر في الأديان التي يعتبرها إذ ذاك بقايا أثرية، للعقلية البشرية، تبين له أنه في صميم الإسلام، وإنه في جهاده العلمي الطويل كان يعمل لإقامة دولته وإعلاء كلمته، وهو يتوهم أنه يهدمه فيها يهدم من العقائد الباطلة، والوساوس المعطلة.. أليست الأصول الستة التي أثبتناها هنا، وهي أخص أصول الدستور العلمي هي نفسها أخص أصول الإسلام، بل هي معناه وروحه، والموجب لجعله دينا للعالمين كافة في كل زمان ومكان؟”.
“لقد كلف الإسلام كل داخل فيه أن يكون متجردا من كل ما يربطه بالماضي من دين ووراثة وتقليد ووهم وخيال، وأن يقبل عليه خالي القلب من كل صورة ذهنية ورأي سابق، على مثال ما يكون عليه الطفل ساعة تضعه أمه.
إذا تمت له هذه التصفية ولقن أمور الدين، أمر أن يتعقلها وأن ينظر في أدلتها ونهي عن يأخذ بها تقليدا مهما كانت مكانة الرجل الذي يقلده.
وكلف أيضا أن يتأمل فيما نصبه الله في الكون من معالم الحق، وأن يدرسها دراسة المتتبع لأسرار الخلق، مخضعا كل ما يحصله لأدق أساليب التمحيص والتحليل، حتى لا يتورط في الأخطاء فيضل ويضل”.
“وهو مسئول عن كل ما يستخدمه في هذا السبيل من حواسه ومشاعره، ومحاسب حتى على جيشات خواطره”.
ويؤكد أن بوادر هذا الانقلاب الفكري قد ظهرت في كتابات الكثيرين من علماء الغرب وفلاسفته حتى قال الفيلسوف البريطاني الشهير برنارد شو “إن أوربا لن يمضي عليها قرنان حتى تكون قد اتخذت الإسلام دينا” ونحن نضيف أن من وسائل الدعم الكبرى لهذا التحويل الفكري إعادة كتابة العلوم من منطلق إسلامي لأن في الوقوف بالاستنتاجات العلمية عند حدود المادة انتكاس بالعلم وبالإنسانية وردة بهما إلى الجاهلية الأولى، ولكنها جاهلية من يحمل بين يديه من وسائل التقدم العلمي والتقني ما يمكنه من القضاء على الإنسان وكل منجزاته فوق هذا الكوكب، ولا يحمل بين جنباته ما يمكن أن يردعه عن ذلك.
ولقد بدأت بالفعل بعض المحاولات الفردية الجادة التي أخذت على عاتقها مسئولية التصدي للفكر المادي ورد أخطائه، والبدء في كتابة علمية بخلفية إيمانية راسخة ولكن على الرغم من أصالة فكرها، ووضوح حجتها.. فإن كتابات هذه القلة المؤمنة قد تضيع وسط تيار المد الإلحادي الجارف، ومن هنا كانت الضرورة لعلم شامل على مستوى العالم الإسلامي بأسره، والذي يمكن لهذا المؤتمر أن يكون نواة طيبة له، والتوصيات التالية ورقة عمل للبدء في التخطيط من أجله:
توصيات عامة:
(1) تشجيع البحث العملي في مختلف أنحاء العالم الإسلامي سواء كان ذلك في الجامعات أو المعاهد أو مراكز البحوث أو المراكز الصناعية وذلك في محاولة للحد من إرسال شباب المسلمين إلى بلاد غير مسلمة وهم في سن لم ينضجوا فيها بعد ذهنيا وفكريا.. وهذا لن يتطلب أكثر من الإيمان بالفكرة وتوفير المناخ السليم للبحث العلمي.. فالعقول المسلمة النابغة في مختلف مجالات العلوم والتقنية أكثر من أن تحصى، والإمكانيات المادية لإنشاء مراكز للبحث العلمي ومكتبات تضم أمهات الكتب والدوريات والنشرات متيسرة متوفرة.
(2) البدء في برنامج ترجمة لأمهات الكتب العلمية في العالم إلى اللغة العربية وتصفيتها مما بها من شوائب على هيئة تعليق للترجمة بهوامش الكتاب، ويمكن لبرنامج كذلك من تحقيق أثر كبير في مدى زمني قصير فالعالم العربي –فضلا عن العالم الإسلامي- به ما يقارب الخمسين جامعة، بكل منها معظم التخصصات العلمية البحتة والتطبيقية. هذا عدا مراكز البحوث والمؤسسات العلمية الأخرى والتي تضم مئات المسلمين لو كلف كل منهم بترجمة كتاب واحد في السنة في مجال تخصصه لأمكن للمكتبة العربية في مدى عشر سنوات أن تغني غناء هائلا في الكتابات العلمية البحتة والتطبيقية.
(3) القيام بمراجعة كتب العلوم المتداولة في العالم الإسلامي خاصة ما هو في مستوى المدارس والجامعات لتصفيتها بقدر المستطاع من كل ما ورد بها من عبارات خاطئة إسلاميا وعلميا.
(4) مراقبة كل ما ينشر بالصحف والمجلات أو يذاع بواسطة الإذاعة والتليفزيون والرد على ما يرد بكل ذلك من تشكيك في أقرب وقت ممكن.
(5) تشجيع نشر سلاسل من الكتب المبسطة التي تشرح العلم من وجهة نظر إسلامية، يكتبها متخصصون مسلمون، كل فيما يخصه.
(6) إعداد برامج إذاعية وتلفزيونية علمية وتكنولوجية مبسطة الهدف منها تثقيف عامة الناس وخاصتهم انطلاقا من قاعدة إسلامية.
(7) إنشاء مركز بحوث علمي وتكنولوجي على المستوى العالمي يقوم باستقطاب أفضل الطاقات المسلمة المنتشرة في العالم على أساس كفاءتها العلمية والتزامها بالإسلام، دون أن يكون لانتماءاتها العرقية أو الشخصية دخل في الاختيار.
(8) إنشاء إتحاد إسلامي عالمي للعلماء والمهندسين يكون من مهماته ربط المسلمين المشتغلين بالعلوم والهندسة في مختلف أنحاء العالم بعضهم ببعض وعمل حصر شامل للمتخصصين المسلمين في مختلف المجالات ويكون لهذا الإتحاد مقر دائم وممثلين في مختلف عواصم العالم الإسلامي ويقعد مؤتمره بصفة دورية ولتكن مرة كل ثلاث سنوات.
(9) يضم هذا الإتحاد عددا من الجمعيات المتخصصة على مستوى العالم، يكون لكل جمعية مقرها الدائم وتعقد مؤتمراتها بصورة دورية ولتكل مرة كل سنتين.
(10) يقوم الإتحاد العالمي للعلماء والمهندسين المسلمين بإصدار عدد من الدوريات العلمية والهندسية شهرية أو ربع سنوية، هدفها نشر الثقافة العلمية والهندسة بين المسلمين بصورة إعلامية جيدة لا تتعارض مع معتقداتهم، وتكون هذه المجلات باللغة العربية وباللغات المحلية لمختلف دول العالم الإسلامي، كما يمكن نشرها بلغات أجنبية أخرى.
(11) تقوم كل جمعية من جمعيات الإتحاد الإسلامي للعلماء والمهندسين المسلمين في اختصاصها بإنشاء دورية على مستوى عالمي في ذلك التخصص تكون لها هيئة إدارية متفرغة وهيئة تحريرية مختارة من كبار المتخصصين المسلمين. وتكون مهمة هذه الدورية استقطاب بحوث العلماء المسلمين في تخصصها ونشرها بعد مراجعتها والاطمئنان إلى خلوها من كل ما يتعارض مع أصول العقيدة الإسلامية في فهم واسع وإدراك عميق للحقيقة المؤكدة أن الإسلام لا يحد من انطلاق العقل البشري للتأمل والتفكر والتدبر، بل يحضه على ذلك ويشجعه.
(12) تقوم كل جمعية من جمعيات ذلك الإتحاد بتشجيع كتابة العلوم في تخصصها باللغة العربية واللغات المحلية في الدول الإسلامية الأخرى على أن يقوم بذلك علماء على قدرٍ عالٍ من التخصص ومشهود لهم بالورع وبالفهم الجيد للإسلام.
(13) يقوم الإتحاد مباشرة أو عن طريق جمعياته بتشكيل لجان تضم متخصصين في كل من مجالات العلوم البحتة والتطبيقية، ومجالات الفلسفة الإسلامية، ومجالات العقيدة وذلك لمناقشة مشاكل المسلمين ووضع الحلول العاجلة لها، والعمل على إصدار كتابات مشتركة تتكامل فيها مختلف التخصصات في محاولة لإحياء التراث الإسلامي وإعادة نشره بأسلوب العصر.
(14) يقوم الإتحاد مباشرة أو عن طريق جمعياته بتخصيص جوائز عينية ومعنوية لأفضل البحوث التي يتم نشرها بواسطته سنويا وذلك حفزا للهمم وتشجيعا للمنافسة النبيلة.
(15) تشكيل مكتب دائم لهذا المؤتمر يقوم بمتابعة تطبيق توصياته. هذا والله من وراء القصد.. وهو الموفق وبه نستعين.