في السنوات الأخيرة ظهرت بأقلام الباحثين المسلمين دراسات مفصلة عن (النظم الإسلامية) في مجموعها، أو عن جانب معين
منها.. وكان منها ما نحا منحى (تاريخيا) في البحث مثل كتاب الدكتورين حسن إبراهيم وعلي إبراهيم (النظم الإسلامية) وكتاب الدكتور عبد العزيز الدوري (النظم الإسلامية)، ومنها ما نحا منحى (فقهيا) أو منحى يجمع بين الفقه والتاريخ مثل كتاب الدكتور صبحي الصالح (النظم الإسلامية).
وقد كان من الدراسات المفصلة المتخصصة في جانب معين من النظم الإسلامية كتاب للدكتور إبراهيم فؤاد أحمد علي، عنوانه (الموارد المالية في الإسلام) وقد جرت دراسته بمعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة في العام 1968، 1969، ويبدو أن تقرير هذه الدراسة كان من آثار إشراف الأستاذ الدكتور عبد الله العربي -رحمه الله- على المعهد المذكور، كما يبدو أن مؤلف الكتاب من المتأثرين بالأستاذ الدكتور، وكان رحمه الله من الأساتذة الرواد الذين اضطلعوا بتدريس (المالية العامة والتشريع المالي) في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وقد تميز بنزعة إسلامية برزت في كتاباته المتأخرة بوجه خاص، ومنها بحث عن (الربا) قدمه إلى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر. ثم ظهر بعد ذلك من الدراسات المفصلة المتخصصة في جانب النظام السياسي من النظم الإسلامية، كتاب للدكتور (صلاح الدين دبوس) عنوانه (الخليفة: توليته وعزله. إسهام في النظرية الدستورية الإسلامية. دراسة مقارنة بالنظم الدستورية الغربية). وليس مدونا عليه تاريخ نشره وقد يكون ظهر حوالي سنة 1972، وقد يكون الكتاب هو الرسالة العلمية التي نال بها المؤلف درجة الدكتوراه في القانون من جامعة الإسكندرية. فلقد أخذت الجامعات المصرية تتجه اتجاها محمودا إلى دراسات في الشريعة الإسلامية تتخذ المنهج المقارن بالفكر القانوني الغربي الحديث في المجالات المتعددة للقانون العام والقانون الخاص. وتقدم لنيل درجة الدكتوراه ويشرف عليها المتخصصون في مختلف فروع القانون، بعد أن كانت الدراسات التي تتناول الشريعة من قبل في رسائل الدكتوراه محصورة في نطاق فروع الشريعة التي تدرس في كليات الحقوق المصرية بمرحلة الليسانس وتتناول في غالبها الأحوال الشخصية والمعاملات، وكان يشرف على هذه الرسائل أساتذة الشريعة الإسلامية.. ويزكي هذا الاتجاه (الشمولي) العام في دراسة الشريعة الإسلامية بمختلف مجالاتها، أساتذة للقانون نزعوا هذا المنزع، واهتموا بدراسة الشريعة في نطاق تخصصهم القانوني بعد فترة من حياتهم العملية ليست بالقصيرة.. ومثلما برز في هذه الوجهة في مجال القانون المدني الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهوري رحمه الله، وآخرون منهم من لا يدين بالإسلام مثل الدكتورين شفيق شحاته ووديع فرج، شرع يبرز في مجال القانون العام الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي من جامعة الإسكندرية وله كتاب ضخم عنوانه (نظام الحكم في الإسلام) والأستاذ الدكتور سليمان الطحاوي من جامعة عين شمس بالقاهرة، وله كتاب كبير عن (السلطات الثلاث) نهج فيه إلى دراسة تراث الفكر الإسلامي إلى جانب الفكر الغربي في هذا المجال، كما صدر له كتاب كبير عن (عمر بن الخطاب وعبقريته في الحكم والإدارة) هذا على سبيل المثال لا الحصر، وجزى الله أصحاب هذه الجهود العلمية خيرا.
وأحب ونحن نحيي هذه الوجهة في إبراز الشريعة الإسلامية وفقهها وجهود فقهائها، ألا نغفل عن أمر طالما نبه إليه بعض المفكرين المسلمين المعاصرين بأساليب متباينة.. ذلك أن علينا أن نكون على وعي كامل بالفارق بين (الأصول) الشرعية الخالدة الثابتة (بالنصوص) الصحيحة الصريحة، وبين (الاجتهاد) الفكري المتغير الذي تمثله تلك المحاولات الجليلة الضخمة للفهم والاستنباط والتفريع من جانب علمائنا الأعلام.. محاولات تعد مبدعة أو (منشئة) تقريبا في مجال القانون العام، وبوجه خاص في مجالات النظم السياسية والإدارية، وما كان سوى الزكاة في مجال التشريع المالي.. ولقد سبق أن أشار إلى أهمية تبين (الاجتهاد) في تراث الفقهاء المسلمين بوجه عام -بصرف النظر عن المجالات المتخصصة المتعددة التي تناولها هذا التراث- الأستاذ الدكتور السنهوري رحمه الله، حيث قال في بحث له في منشورات الجامعة العربية (الفقه الإسلامي هو فقه محض لا تقل عراقته في ذلك عن عراقة القانون الروماني.. وهو لا يقل عنه في دقة المنطق وفي متانة الصياغة وفي القابلية للتطور، وهو مثل صالح لأن يكون قانونا علميا، بل كان بالفعل قانونا علميا.. وإذا أحييت دراسته وانفتح فيه باب الاجتهاد قمين بأن ينبت قانونا حديثا لا يقل في الجدة ومسايرة العصر عن القوانين اللاتينية والجرمانية”. ويقتضي هذا البصر (بتاريخية) الفقه الإسلامي، وأعني بذلك تتبع الظروف التاريخية لنمو الآراء الفقهية في أي موضوع معين، للتعرف على مدى (التطور) الفقهي المتجاوب مع الظروف الاجتماعية والثقافية المتغيرة.. وهذا ما وجه إليه الأستاذ الجليل خلال إشرافه على قسم الدراسات القانونية في معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية، واختار الأستاذ السنهوري الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى رحمهما الله لتدريس (تاريخ الفقه الإسلامي) وفقا لهذا النهج.. ويتابع الأستاذ الدكتور السنهوري إيضاح وجهته في بحثه المشار إليه فيقول: “ويقال عادة: إن مصادر الفقه الإسلامي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس.. أما الكتاب والسنة فهما المصادر العليا للفقه الإسلامي، وقد قصدت بالمصادر العليا أن أقول إنها مصادر تنطوي في كثير من الأحيان على مبادئ عامة ترسم للفقه اتجاهاته ولكنها ليست هي الفقه ذاته، فالفقه الإسلامي هو من عمل الفقهاء صنعوه كما صنع فقهاء الرومان وقضاته القانون المدني. وقد صنعوه فقها صحيحا: الصياغة الفقهية وأساليب التفكير القانوني واضحة فيه وظاهرة.. ثم يقول هؤلاء الفقهاء الأجلاء في كثير من التواضع: إن هذا هو الإجماع أو القياس أو الاستحسان أو الاستصحاب أو ما شئت من المصادر التي ابتدعوها.
(أقول: أو استخرجوها وابتدعوا تسميتها على الأقل!).
وأن الأصل في كل هذا يرجع إلى الكتاب والسنة، والواقع من الأمر أنهم صنعوا فقها خالصا هو صفحة خالدة في سجل الفقه العالمي”.
وأذكر أن هذا البيان الجلي الواضح وهذا الفهم السليم العميق، لم ينالا من البعض حسن القبول (انظر مثلا في نقد السنهوري: محمد محمد حسين: حصوننا مهددة من داخلها)، كذلك دعا المفكر المسلم محمد أسد إلى التفرقة اصطلاحا بين (الشريعة) (والفقه) وأراد أن يقصر (الشريعة) اصطلاحا على النصوص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة، بينما يكون (الفقه) اصطلاحا يعبر عن فهم الفقهاء للنصوص وتفسيرهم لها وتفريعهم عليها.
بينما جرت العادة على تقارب المصلحين أو ترادفها أحيانا.. ولقي الرجل أيضا بعض سوء الفهم، كان في آخر صوره ما شهدته في الملتقى الإسلامي بمدينة قسطنطينية بالجزائر في صيف سنة 1970 حين عاود الحديث عن مفهومه للمصلحين، فاصطدم بالمفهوم الشائع المتقارب أو المترادف.
و(الاجتهاد) من مصادر التشريع المتفق عليها عند جمهور الفقهاء.. ولا يزال ذلك مقررا تقريرا واضحا قاطعا في (أصول الفقه) بعد تتابع الأجيال على التقليد.. ولكن المشكلة أنك لا تحاول الإشارة إلى أن رأيا بعينه مما هو مودع في مدونات الفقه، هو رأي اجتهادي وبالتالي (غير ملزم)، حتى تقوم القائمة وتثور الثائرة.. وقد واجه ذلك كل من دعا إلى التزام الحجية الشرعية للكتاب والسنة وحدهما قديما وحديثا.. ونجد الشواهد متتابعة في سير ابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب. ومحمد عبده وغيرهم.. أما ممارسة (الاجتهاد) عمليا من جديد، فهي قضية أعسر بكثير وأبعد عن القبول! ولقد صرح بعض علماء الفقه المبرزين بمصر في اللجان المشكلة لتعديل قوانين الأحوال الشخصية، أنه ليس يكفي أن تتضمن أحكام التشريع المطلوب ما يفهم من الكتاب والسنة، أو ما لا يتعارض معهما، بل لا بد أن يكون لكل حكم مأخذا من مصنفات الفقه التي آلت إلينا، ولو كان رأيا مخالفا لما أخذ به جمهور الفقهاء!!!.
ومن هنا خشيت أن تضيع عند بعض القراء لدراسات الباحثين المعاصرين التي تتناول شيئا من (النظم التاريخية) في تاريخ المسلمين السياسي و(الآراء التاريخية) في تراثهم الفكري أو الفقهي بصورة أخص -أقول: خشيت أن تضيع المعالم والحدود بين (الأصول الثابتة) و(الاجتهادات المتغيرة)، وقد يكثف الضباب ويعتم الرؤية على ما خيم على أجيال المسلمين المتتابعة من استسلام للتقليد، وفزع من الاجتهاد، كما قد يزيد العتمة بغير قصد حماس لشريعة الإسلام، وإصرار على تمجيد فقهائها والمبادرة إلى تحكيمها في مجتمعاتنا ودولنا المعاصرة.. ومثل هذا (الخلط) بين الثابت والمتغير من تراثنا لا يقرب للمتحمسين تحقيق أملهم، بل قد يزيد مهمتهم الجليلة التي اضطلعوا بها مشكورين- تعقيدا، ويزيد هدفهم المرموق ابتعادا، ويزيد الناس الذين يعيشون في واقعنا المعاصر عن دعوتهم انصرافا ونفورا.
هل يعني الداعون إلى الإسلام، أو المعتزون بشريعته ونظمه، العودة إلى نظام الخلافة كما عرفه التاريخ وتراث الفقه مثلا؟؟.. هذه قضية لا بد من وضوح الرؤية في شأنها ولا تغني فيها العبارات العائمة، والمفاهيم الغامضة.. وقد شهد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر اجتهادات فردية محدودة وأحيانا متعثرة، تدعو إلى (تعديلات) مستحدثة في نظام الخلافة، منذ جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي إلى المفكر الجزائري المسلم المعاصر الذي افتقدناه أخيرا (مالك بن نبي) في كتيبه الصغير (كومنولث إسلامي).. وما زالت القضية تحتاج إلى بحث وتوضيح وتصريح.
ونحن نجد الأستاذ الشيخ محمد الخضري رحمه الله، الذي ألف في أصول الفقه وتاريخ التشريع الإسلامي، وتاريخ المسلمين السياسي، ودرس لطلاب القضاء الشرعي والجامعة المصرية يتناول (الخلافة) في الجزء الأول من كتابه (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية) فيشير إلى الرأي بعدم تخصيص الخلافة ببيت معين وكان عليه الأنصار ثم الخوارج، ورأي الجمهور في التخصيص بقريش، ورأي الشيعة في التخصيص بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم يعرض (لشكل انتخاب الخليفة) فيقول: “لم يرد في الكتاب أمر صريح اللهم إلا تلك الأوامر العامة التي تتناول الخلافة وغيرها مثل وصف المسلمين بقوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم). وكذلك لم يرد في السنة بيان نظام خاص لانتخابات الخليفة إلا بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرق. كأن الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتى يحلوه بأنفسهم.. وبعد أن يعدد الطرق المختلفة لاختيار الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان يعلق قائلا: “لم يكن في طريقة من هذه الطرق الثلاث حل لتلك المسألة المتشابكة الأطراف، لأن الطريقة الأولى: لم يبين فيها من لهم حق الانتخاب أهم الأمة بأسرها أم هم أفراد مخصصون، وإن كانوا مخصصين فمن هم؟ وغاية ما أمكن شراح هذه القاعدة أن يقولوه إن قالوا: هم أهل الحل والعقد، ولكن من هم أهل الحل والعقد؟ أهم ولاة الأمصار أم قواد الجيش أم أعيان الأمة؟.
يضيف كاتب المقال مستطردا: ومن هم (أعيان) الأمة؟ كل ذلك لم يبين، فالمتطلع للخلافة يجد مجالا واسعا للتأويل.
والطريقة الثانية: وهي طريقة العهد: ليس فيها ضمان لاختيار من يحبه الناس ويكون قادرا على حماية مصالحهم وإن يكن من الممكن في بعض الأحيان أن يكون خير الناس.
والطريقة الثالثة: في حقيقة الأمر كالثانية إذا اقتصر فيها على الشكل الذي رآه عمر لأنها عبارة عن عهد إلى واحد غير معين من أفراد محصورين يختارهم الإمام ويرى الخضري ترشيح عمر للستة “طريقة شورية ناقصة لأنه لم يكن القصد منها أخذ رأي الجمهور فيمن هو الخليفة عليهم، وإنما المقصود أن تؤخذ كلمة المرشحين للخلافة لأحدهم” ثم يذكر أيضا: “كان أهل المدينة وحدهم هم الذين ينتهي إليهم أمر انتخاب الخلفاء وليس لغيرهم معهم رأي ولو كانوا من أهل الحل والعقد متى كانوا بعيدين عن الحاضرة الكبرى”. (الطبعة الثامنة- المكتبة التجارية بالقاهرة ص 158- 163).
ثم كان بعد ذلك توريث الخلافة.
(أنظر تعليق الخضري ج2 ص 119- 120 من الكتاب نفسه).
وكل هذه (أحداث تاريخية) لا بد من تدبرها تماما، وقد تفهم بالقياس إلى ظروفها الخاصة المادية والاجتماعية، ولكن لا يمكن اعتبارها بحال سوابق ملزمة أو أحكاما عامة مطردة. وقد كان الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي صريحا قاطعا في اعتبار (الخلافة) نظاما تاريخيا في كتابه الضخم الهام (مبادئ نظام الحكم في الإسلام)، وكان موفقا في اختيار عنوان كتابه، باعتبار أن الإسلام إنما يعني بتوفر (مبادئ) معينة في نظام الحكم القائم بين المسلمين، ولا يحدد نظاما مفصلا بعينه للحكم. وقد أكد المؤلف ذلك في مواضع متعددة من الكتاب.
ودراسة الدكتور صلاح الدين دبوس (الخليفة: توليته وعزله- إسهام في النظرية الدستورية الإسلامية- دراسة مقارنة بالنظم الدستورية الغربية) دراسة جد نافعة ومثمرة فكريا وعمليا، طالما تأكد في وعينا أن (الخلافة) كلها نظام سياسي (تاريخي) وأن الأحكام الواردة في شأنها بتراثنا الفقهي، اجتهادات عقلية متأثرة بظروف الواقع التاريخي، وبعضها إعمال للمنطق أو القياس، أو تطبيق لأحكام الإسلام العامة، وقد يأتي بعضها تقديرا للمصلحة وهي قريبة من (قواعد العدالة) أو (القانون الطبيعي) في التشريعات الأخرى، مع التقيد بعدم مخالفة الأحكام الإسلامية الصريحة القاطعة، ويستثنى من ذلك من قال بتقديم المصلحة على النص والإجماع، مع تقدير بحثه واجتهاده (نجم الدين الطوفي في شرحه لحديث “لا ضرر ولا ضرار” الذي تضمن كتابه: شرح الأربعين حديثا النووية”.
فعبارة (إسهام في النظرية الدستورية الإسلامية) التي وردت في عنوان دراسة الدكتور دبوس قد توحي لبعض القراء بأن (الخلافة) أصل مقرر في المصادر الإسلامية العليا الخالدة (الكتاب والسنة) وبخاصة أن لبعض دعاة الإسلام المعاصرين هتافا شائعا (القرآن دستورنا).. ولكن قد يكون قصد المؤلف (المعنى التأسيسي) المأخوذ من التعبير الغربي القانوني المرادف Constitutional وهو يشير بذلك إلى (المفهوم التاريخي) لقيام (الخلافة الإسلامية) و(الفكر التاريخي) الدارس لنظم هذه الدولة السياسية، وقواعدها التأسيسية. ثم إنه ليس من حرج على أية دولة إسلامية معاصرة أن تضع (دستورا) أو (نظاما تأسيسيا) على أساس حكم الكتاب والسنة، مع تضمينه من الاجتهاد ما تتيحه أحكامهما، وذلك لبيان حقوق الفرد وواجباته، وسلطات الدولة ومؤسساتها واختصاصات تلك المؤسسات وحدود العلاقات بينهما ويكون هذا (الدستور) أو (النظام التأسيسي) قائما مع وجود القرآن بتفاسيره، والسنة بمدوناتها وشروحها.. وعلى ذلك يمكن أن نفهم (النظرية الدستورية) بما لا يخل بالمنظور التاريخي!!.. ولكن تبقى صفة (الإسلامية) في وصف (النظرية الدستورية)، وهي صفة قد يعنى بها نسبة تلك النظرية إلى (المسلمين) وفقهائهم لا إلى الإسلام كدين يعبر عنه الكتاب والسنة وحدهما تعبيرا ثابتا خالدا.. وبخاصة أن الصفة قد أتت لـ (نظرية) وأحكام القرآن والسنة القاطعة لا يعبر عنها عادة بـ (نظريات). وإنما يمكن أن توصف بذلك اجتهادات المفكرين والفقهاء ويكون الهدف المقصود من الدراسة إذن هو دراسة (التولية والعزل) لرئيس الدولة في الفقه الإسلامي وقد كان هو (الخليفة) تاريخيا خلال ازدهار أبحاث ذلك الفقه ونحوه. ولكم يكون الدكتور دبوس أوضح وأقطع بالنسبة للقراء حين يجعل عنوان كتابه مثلا (رئيس الدولة الإسلامية توليته وعزله: إسهام في النظرية الدستورية الإسلامية على ضوء أبحاث فقهاء المسلمين عن (الخلافة) مع المقارنة بالنظم الدستورية الغربية) ولقد كان الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي –كما سلفت الإشارة- صريحا في تأكيد (تاريخية) نظام الخلافة في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام- ص456- 461- 546- 550، 608 على سبيل المثال).
والدكتور دبوس يهدي كتابه إلى أشخاص منهم (الشيخ عبد العزيز بن راشد الذي حبب إليّ السنة وحبب إليّ أهلها) وهو أحد شيوخ الدعوة السلفية الأجلاء الذين امتدت آثارهم الطيبة بالإسكندرية.. ولا يفوت الباحث في مقدمة بحثه الإشارة إلى (اتخاذ الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع).. ومن هنا خشيت على بعض قراء الكتاب مغبة عدم (التأكيد) على (تاريخية) النظام والفكر المبني عليه بوضوح وإصرار، لعلمي وتجربتي مع الآثار المؤسفة لضباب الأفكار والكلمات على بعض العقول والأفهام!!.
لقد أوضح الكاتب دون غموض هدف كتابه حيث قال: “.. نسعى من خلال دراسة السياسة الشرعية الإسلامية إلى استخلاص معايير نستخدمها في تكييف الأوضاع الحكومية في البلدان الإسلامية، دون أن نقف في ذلك عند حد عرض الآراء الفقهية الإسلامية.. ص3”. وكان من حق هذا الكلام الواضح الصريح التأكيد والإبراز من الوجهتين البيانية والطباعية.
وأحسب أن عبارة (النظرية الدستورية الإسلامية) الواردة في عنوان الكتاب تحتاج إلى شرح وإيضاح في ضوء ما قرره المؤلف، وتحتاج إلى بيان المقصود منها في ضوء هدف الكتاب وهو (استخلاص المعايير) من النظام القانوني المعروف لكلمة (دستور) هو شيء حادث، لم يرد في لغة تراثنا الفقهي، ويخشى من (اللبس) عند استعماله. فهو يقول في صدد كتابه (.. فالنظام الإسلامي له صنعته القانونية، وصيغه ومصطلحاته الخاصة ص5.. ) وهو يحدد منهجه في البحث (.. أن يكون تحليل مادة الاتجاه السائد في السياسة الشرعية الإسلامية وتركيبها على أساس النصوص داخل النظام الإسلامي، وليس من خارجه فلا ينبغي علينا باعتبارنا من دارسي القانون الدستوري الذي صبغ في اتجاهه العام بصبغة دستورية غربية أن نعتمد على مناهج هذا القانون وصيغه وأساليبه المقننة في تفسير أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بموضوع دراسته، وإنما يتعين علينا أن نلجأ إلى قواعد الشريعة الإسلامية ومناهجها وصيغها لتأصيل وتفسير هذا الموضوع.. ص6) وقد يحق للقارئ أن ينتظر من المؤلف تطبيقا أوفى لهذا المنهج الرشيد، في شرح ما ورد في العنوان الفرعي من تعبير (النظرية الدستورية الإسلامية).
والباحث قد أوضح وأبان في غير لبس ولا غموض أن منهجه من دراسته هو (استخلاص المعايير)، ومعنى ذلك أنه على وعي كامل (بتاريخية النظام) الذي يدرسه وما ترتب عليه من (تراث فكري) وقد ساق بين يدي بحثه عن (ماهية الخلافة): (مقدمة تاريخية). والباحث يعرف جليا دور (الاجتهاد) في قيام نظام الخلافة وتطوره، ويعرف أن الاجتهاد الشرعي لا يرفض تجربة إنسانية سابقة أو لاحقة تحقق مقاصد الشريعة ومصالح الناس ولا تتعارض مع الأحكام والنصوص الثابتة الصريحة وبخاصة في مجالات نظم الحكم والإدارة حيث نجد نصوص القرآن والسنة محدودة مرنة فهو يقول: “إن من الواجب علينا أن نستعين بالمصادر الإسلامية الأولى في الفقه والأصول وعلم الكلام والتفسير والحديث.. ولما كان هذا الاتجاه خاصة بالنسبة لموضوع الشروط الواجب توافرها في الخليفة قد لمز بتأثره بالأفكار السياسية اليونانية والفارسية فضلا عن تأثره بطبيعة الحال بالبيئة الثقافية التي كانت تسود عصر أصحاب هذا الاتجاه والمطالب الاجتماعية والسياسية التي وجدت في زمانهم بحيث لا يمكن لثمرات جهودهم أن تلبي ما جابه الجماعة الإسلامية في القرن العشرين، لذلك قد لجأنا إلى معيارين لبيان مدى ميل هذا الفقه عن التصور الصحيح، واستبعاد ما يخالف هذا التصور، وأحد هذين المعيارين وثانيهما أصولي فقهي.. ص7-8”.. وعلى الرغم من هذه النظرة البصيرة الناقدة، فإننا نرى في صفحة قريبة تالية: “ولما كان وضع المسألة في هذه الرسالة يقوم على التسليم بوجود نظام للخلافة في الإسلام.. ص10” وقد يكون في التعبير (رد فعل) لرأي الأستاذ علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).. لكن (الحكم) غير (الخلافة) فيما أظن، فالتسليم قائم بوجود نظام حكم في الإسلام، أو بوجود (نظام للخلافة في تاريخ الإسلام: ولقد أوضح الأستاذ متولي بجلاء “أن نظام الخلافة إذا كان قدر له النجاح إبان بضعة من السنين الأولى للهجرة، وإذا كان يعد إذ ذاك نظاما مثاليا من أنظمة الحكم، فإنما كان مرد ذلك إلى توفر بيئة خاصة في ذلك العصر.. إن الإسلام قد جاء في شئون الحكم بمبادئ عامة تصلح للتطبيق في مختلف الأزمنة والأمكنة، فهو لم يجئ بنظام معين من أنظمة الحكم، وإن فرض نظام معين كنظام الخلافة في كافة العصور وكافة الأقطار إن لم يكن ضربا من المحال فهو يؤدي بالأقل إلى الحرج الذي رفعه الله عن المسلمين- كتاب مبادئ نظام الحكم ص549- 550، 656، 657”..
والتفريق بين الأصول الثابتة الصريحة في الإسلام وبين الاجتهادات المتغيرة للمسلمين شعوبا وحكاما وفقهاء، أصل هام في بيان الأحكام والنظم الإسلامية، من الوجهة العلمية، وتترتب عليه آثار جليلة الخطر في تجديد الدعوة للإسلام والحكم بشريعته.. ومن هنا قد تؤدي أيضا عبارة (طرق التولية في الإسلام) الواردة في العنوان الفرعي ص 228 إلى بعض اللبس، ولكن يوضح قصد الباحث وفهمه (التاريخي) ما ورد من عنوان على رأس ص 241 (إثبات أن طرق التولية مسألة اجتهادية) ويذكر الباحث “أننا لن نبدأ من فراغ. وإنما نبدأ من نصوص الفقه السياسي السائد، هذا الفقه الذي عايش النظام موضوع الدراسة طيلة ثلاثة عشر قرنا”.. وأخشى أن تختلف الأنظار في تحديد مدلول (عايش).. وأحسب العبارة لا تقرر معنى (اطراد الحجية في شتى المراحل لنظام الخلافة) القائم تاريخيا طيلة ثلاثة عشر قرنا لمجرد الاستمرار التاريخي فلا تستوي في الميزان خلافة الراشدين وخلافة الأمويين بدمشق وقرطبة وخلافة العباسيين الأوائل والأواخر، وخلافة الفاطميين، والخلافة التي اصطنعها المماليك بمصر، وخلافة العثمانيين.. كما أحسب أن هذه (المعايشة) أو هذا (التعايش) لا يعني الحياة الحقة للفقه الإسلامي أو تجاوبه مع الواقع المتغير إنما يقتصر على تقرير (التعايش) بين الفقه والنظام، مما لا يعتبر شهادة إقرار وتوثيق لصالح (الفقه) أو لصالح (نظام الخلافة) في العصور المتأخرة للمسلمين.
وكان لا بد أن يسوق البحث إلى (شروط الخليفة) وهنا يأتي شرط (القرشية) فتبرز قضية (تاريخية) نظام الخلافة وفقهها، مما فصل فيه القول ابن خلدون في مقدم%