منذ برأ الله الإنسان، عاقلاً عاملاً مسؤولاً، وشرع له من الحق ما يستقيم معه أمر الخلق، وسخر له ما في السموات والأرض، وخصه بالدراية والهداية والرعاية، كان من أهم ما أكرمه به، أن جعل له نافذة من نور لا يحور، مفتوحة، بينه وبين ربه سبحانه، وبينه وبين العوالم كافة، يتحلل بها من الأغلاق، ويسمو وينطلق إلى الآفاق وما وراء الأفاق، حتى إذا ما سد الإنسان هذه النافذة على نفسه، أو تقاصر عن مشارفها، انغلق فاختنق، وتبلد وتحدد وتجمد فتعطل معناه الإنساني، وتخلف عن مستوى الأمانة المقدسة التي حملها بحكمة الله وحكمه، تلك النافذة هي : الحوار.
الحوار بين الإنسان والديان، والحوار بين الإنسان والأكوان، والحوار بين الإنسان والإنسان.
والحوار النير الذي شرعه الله جل وعلا، حوار هادف، مشرئب، يتوخى استنباط أسرار الكون، ويتطلع إلى الباب المعرفة، ويستزيد من جوهر الخير الخير ولذلك كان مثمرة إيجابياً.
- والفرق كبير بين الحوار الإيجابي السليم والحوار السلبي العقيم، الذي هو في الواقع ضرب من جدل المكابرة والثرثرة واللجاجة التي تهدر الوقت والجهد سدى، وتتنافى مع جدارة الإنسان وكرامته، والحوار الإيجابي المعطاء مجالاته المتعددة في الحياة الإنسانية فمن أمثلته المشرقة في عالم الفكر والفقه : الاجتهاد، وفي عالم الأخلاق العامة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي عالم السلوك : النقد الذاتي ومحاسبة النفس، وفي عالم الحكم : الشورى، وفي عالم الاجتماع : الندوات والمؤتمرات والمواسم الثقافية، ودورات التوعية والمحاضرات والمجالات الهادفة، وفي عالم المادة : الاكتشاف والاختراع.. وهكذا…
وما لقاء أبناء الجيل على صفحات “المسلم المعاصر” إلا نوع من الحوار الفكري يطل به الكتاب والقراء مع من نوافذ نور البحث عن المعرفة على حقيقة الإسلام في ذاته، ومقارناً مع سواه من المذاهب، والعقائد، والتيارات المعاصرة، ليستفيد الجميع من ذلك علماً وعملاً…
و كلمة الحوار بذاتها ليست غريبة عن لغة القرآن الكريم فقد وردت في أكثر من موضع : ((قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ)) (الكهف ۱۸) ((فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أكثر مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)) (34 الكهف 18).
- وقد بدأ الله جل جلاله أمر الخليقة على الأرض بالحوار (سورة ۲ آية 30):
– وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.
– قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟!
– قال : إني أعلم ما لا تعلمون.
(وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة).
– فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء، ان كنتم صادقين!
– قالوا : سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، انك أنت العليم الحكيم.
– قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم.
(فلما أنبأهم بأسمائهم)
– قال : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
- ويجب على الإنسان أن يستهدي في حواره بهدى الله، فلا يخرج به عن المعالم الكبرى للحق كما رسمها له رب العالمين، وأن يكون دائم اليقظة حتى لا يستدرجه حواره إلى الهوى! فإذا كان منه شيء من الزلل والشطط، سارع إلى محاسبة نفسه وعرض عمله على المنهج الرباني في الحياة مستعينة بذلك على العودة إلى سواء السبيل.
- وقد بدأ تاريخ البشرية بغفلة أبينا آدم عليه السلام عن الحق، غفلةٌ كانت لها نتائجها المتطاولة إلى يوم القيامة، وذلك اثر حوارٍ مع ” إبليس” استدرجه فيه إلى العصيان والغواية.. مم كان تصحيح الوضع، انطلاقا من حوار أيضاً بدأه الله جل جلاله، وهو الحليم الرحيم :
– وناداهما ربهما : ألم أنهما عن تلكما الشجرة وأقل لكما ان الشيطان كما عدو مبين ؟!!
– قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا : وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين!
– قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين!!
– قال : فيها تحيون وفيها تموتون، ومنها تخرجون.
ويستخلص الله لعباده من بني الإنسان العبرة والموعظة الممتدة من هذا الحوار الفعال :
- يا بني آدم؛ قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً، ولباس التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون.
يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباس ما ليريهما سوءاتهما.
وانها لموعظة بالغة، وتحذير الهي يجب علينا الاهتمام بهما تمام الاهتمام، ولا سيما في هذه الأيام التي غزتنا فيها التيارات واللوثات والمذاهب المعاصرة الدخيلة، ومضاعفاتها وملابساتها فقلبت كثيرة من أوضاعنا الاجتماعية رأساً على عقبة، وغيرت في مفاهيمنا وموازيننا الأخلاقية تغيير آ نكاد لا تلتفت إليه رغم خطره الكبير، لما أصابنا من إدمان الغفلة، والانسياق والتقليل خير المتبصر، بعيدا عن أصالتنا ورسالتنا في الحياة.
- أن للحوار ركنيته في الوجود الإنساني، فان تأثير الدعاة والمرشدين والصالحين ينطلق من الحوار : يحاورون المعرفة حتى تتضح لهم الحقائق وتستقر بينة واضحة في عقولهم، ويحاورون أنفسهم في ضوء ما ثبت لهم انه التي فيما دون خطاهم ويقومون سلوكهم ويحاورون الناس، فيدعونهم إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويعطون من أنفسهم الأسوة والقدوة والمثال الصالح، وحسبي أن أذكر أن كلمة قال التي هي لب الحوار قد وردت في القرآن الكريم (۲۷) مرة.
- ولقد أورد الله سبحانه الحوار الذي كان بينه جل وعلا وبين إبليس في مواطن كثيرة من كتابه المجيد، بأساليبه ومناسبات عدة، وبشكل لافت النظر يتجاوز الرواية إلى قصد الدراية والهداية، وأعطى ذلك اهتماما بالغا لأنه شرارة المواجهة بين الخير والشر وبين الفلاح والخيبة، وبين الإسلام والجاهلية أي بين ” المسلم الحق ” وعقيدته الربانية، وبين ” المعاصرة ” المتكررة المتجددة وما قد يتولد فيها من تيارات ومذاهب طارئة على الحق وقد تكون دخيلة” غير سوية :
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين).
– قال : ما منعك إلا تسجد إذ أمرتك.
– قال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
– قال : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين.
– قال : أنظرني إلى يوم يبعثون.
– قال : انك من المنظرين.
– قال : فيها أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لاتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين.
– قال : اخرج منها مذموماً مدحوراً، لمن تبعك منهم، لأملأن جهنم منكم أجمعين.
- وتمضي أمثلة الحوار بين الله ورسله وأنبيائه وعباده تكليماً أو تعليماً حقيقة أو مجازاً.
– قال اني جاعلك للناس إماماً.
– قال ومن ذريتي.
– قال لا ينال عهدي الظالمين.
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها :
– قال : أني حتى هذه الله بعد موتها؟!
(فأماته الله مئة عام ثم بعثه).
– قال : كم لبثت ؟؟.
– قال : لبثت يوماً أو بعض يوم!
– قال : بل لبثت مئة عام!
وتنطلق العظة وتقرر العبرة الدائمة لتوطيد الإيمان وإبراز قدرة الله المطلقة:
فأنظر إلى طعامك وشرابك، لم يتسنه، وأنظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس وأنظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً.
فلما تبين له…
– قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير.
ويزخر القرآن الكريم بمواقف الحوار يقصها علينا لا لمجرد الأخبار بل للموعظة والاعتبار.
فهناك حوار إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ربه:
– رب أرني كيف تحي الموتى.
وحوار موسى عليه السلام مع ربه لما جاء لميقاته:
– رب أرني أنظر إليك.
وحوار الله مع المسيح عليه السلام:
– وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله.
– قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس في بحق.
وكثير كثير سوى ذلك.
- ويعقد الله تبارك وتعالى البيعة لخاتمة رسله وأنبيائه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بحوار مع أنبيائه المكرمين :
– وإذ أخذ الله ميثاق النبيين، لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، لتؤمنن به ولتنصرنه.
– قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري.
– قالوا : أقررنا.
– قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين.
- وقد أراد الله جلت حكمته أن يهدي المسلمين الأولين ويضرب بهم المثل للآخرين، بتوجيهنا إلى الحوار التعليمي التثقيفي المفيد، فأرسل الروح الأمين جبريل عليه السلام بهيئة إنسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين كبار صحابته يسأله ويحاوره:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد.
قال : يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة – وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
قال : صدقت، قال عمر فعجبنا له يسأله ويصدقه، – قال : فأخبرني عن الإيمان ؟
– قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال : صدقت.
ولما انصرف الرجل، وعلى وجوه الصحابة الكرام سيماء التساؤل والتعجب، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه جبريل جاء يعلمكم كيف تسألون عن أمور دينكم، (كتاب التاج الجامع للأصول ج 1، ص : 24).
وإذا انتقلنا إلى مسيرة الرسول، وأحاديثه الشريفة، وجده قاها زاخرة بالحوار الهادف البناء العطاء، ولا عجب فانه معلم المدير المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق، المرسل بالإسلام، في شريعته الجديدة المديدة، الإنسانية العالمية، فلا بد له من أن يحاور الشرائع التي سلفت، وأن يحاور الناس المتصدين له، المتحدين لرسالته، وأن يحاور الصحابة الكرام ليوطد بكل ذلك قواعد رسالته، ويبين طرق دعوته ويضرب الأمثال ويقرر الأحكام ويضع أسس الاجتهاد لأمته في حياته، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى في جوار الله، لتمضي آبدة على سبيله في محيجةٍ بيضاء تدعو إلى الله على هدى وبصيرة.
- أن الحوار ركن ركين للتفتح الإنساني والازدهار الحضاري، وقد أكد ذلك أهل البصائر من العلماء والمفكرين القدامى والمعاصرين على اختلاف مذاهبهم وقد يكون المفيد أن نستشهد في هذا الصدد بما قاله أحد زعماء الماركسية الفرنسيين الأستاذ روجيه جارودي في تعقيبه على المعلقين على محاضرة له كان ألقاها بدار الأهرام في القاهرة أواخر عام 1969 عنوانها (الاشتراكية والإسلام) :
ان فكرة الحوار أساسية. والحوار السليم يفترض التسليم بداءة بأن كل إنسان سيجد شيئا ما يتعلمه من الآخرين، وأعتقد أن هذا حقيقي بصفة خاصة بالنسبة للماركسيين والمؤمنين، فالمؤمنون يستطيعون أن يتعلموا من الماركسية مناهج الفاعلية في نضالهم من أجل العدالة، وبالمقابل فإن الماركسيين يجب عليهم باستيعابهم أسمى القيم الدينية أن يكتسبوا كل أبعادها الروحية.
ولهذا فأنا أعتقد أن هذا الحوار أمر ضروري وهو يتطلب أن يدخل كل واحد الحوار، لا انطلاقا من فكرة، إن عليه أن يقهر الآخر… بحيث يستوعبه. فهذه ليست المشكلة، بل أن نستطيع القيام بهذا الحوار الذي سيجعل المسلم أفضل إسلاماً، والمسيحي أكثر تديناً، والماركسي أشد ماركسية، ويستدعي هذا استئصال كل تعصب وطائفية الأمر الذي يؤدي إلى وحدة قوي كل الذين يرومون بناء المستقبل، ولهذا كان الحوار أمراً مطلوبة، وهو يستدعي وضوح وصفاءً كبيرين ولكنه يستدعي قبل ذلك انفتاحا كبيراً، إنه يتطلب من كلٍ منا القدرة على رفض كل ما يحد رؤيانا”.
وتحفظنا الوحيد على كلام جارودي هو أن المؤمن بدينه الحق لا يملك أن يساوم على شطر من هذا الدين فيتنازل عنه لقاء تنازل أصحاب المذاهب الأخرى عن شطر من مذاهبهم، فإن الدين لله، أمرنا أن نبلغه وندعو إليه بكل الوسائل المشروعة، ولكننا لا نُكره عليه أحدة، كما لا نتهاون في شيء من أمر ديننا لإرضاء الآخرين ولو أدى ذلك إلى رفضهم ما ندعوهم إليه، فإن الله غني عن العالمين.
أما عندما يكون الحوار بين إنسان وإنسان فيما لم يرد عنه نص ديني، فالمجال مفتوح والأخذ بالأمثل بينهما يدعو إليه الشرع ويفرضه العقل، وإذا كان الحوار بين جهتين احتمال التآلف والاتفاق، أو التخالف والافتراق فإنه عندما يكون بين دين الله الحق، وأمته المؤمنة وبين العقائد والمذاهب الأخرى وأتباعها، فسيكون – من جانب الإسلام- ولا شك حواراً متآلفة مع كل ما فيها من خير، متخالفة مع كل ما فيها من شر، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها، والإسلام يحاور الحكمة أبداً بحرص عليها ويبحث عنها ويتبنى معطياتها يوظفها في الحياة ويخصب بها حضارته باستمرار.
([i]) أستاذ كرسي الإسلام والتيارات المعاصرة في دار الحديث الحسنية بجامعة القرويين، المغرب.