وللمرة الثالثة… أعدت قراءة الصفحات الست التي كتبها الأستاذ “فتحي عثمان” في العدد الأول من “المسلم المعاصر” تحت عنوان “أتوقع أن تكون هذه المجلة”.
وفي كل مرة كنت أعود من قراءتي ببعد جديد من أبعاد الموقف الملائم “للمسلم المعاصر” في مواجهة “الفكر المعاصر”.
وأريد أن أؤكد هنا – وفي البداية – أنني من هؤلاء الذين لا يريدون أن يواكبوا كثيراً موجة الخضوع لمصطلحات معينة، وفي الوقت نفسه، لا أرى أن يستبد موقف الرفض بشخص ما، لدرجة الوقوف عند حد الصراع “اللفظي” أو “الشعاراتي” – كما يقول البعض – وتمييع القضايا الفكرية الأساسية، ورمي حبة الحنطة الجيدة لمجرد أن قشرتها كانت رديئة اللون… !!
في العدد الأول من “المسلم المعاصر” كتب الأستاذ (فتحي عثمان) – كما ذكرنا – مقالاً حدد فيه توقعاته لا يجب أن تكون عليه هذه المجلة.
والمقال المذكور – مع وجود أفكار جزئية طيبة، فجأ القارىء بفكرة كبرى، يراها الكاتب، ويقترحها، كأبرز الخطوط الموجهة – من وجهة نظره – لمجلة المسلم المعاصر.
وهذه الفكرة تتلخص في دعوته “أن تكون هذه المجلة لسان اليسار الإسلامي”.
ومرشحات هذا الخط – من وجهة نظر الكاتب – كثيرة :
- “متابعة للاصطلاح السياسي الحديث في تقديم القوى والجماعات والأفكار”.
- “إن الإسلام مظلوم حين يوضع دائماً مع اليمين لمجرد أنه دين”.
- “إن المسلم يحارب الظلم الاجتماعي والسياسي” [كاليسار]!!.
- ” جيب أن نسمع عن “اليسار الكاثوليكي” أو “اليسار المسيحي” بوجه عام… في حين نرى تصنيف الأفكار والحركات الإسلامية دائمة مع قوى اليمين، ربما حدث ذلك قصدا للإساءة للإسلام، ولكن يبقى على المسلمين والهم عناء التصنيع بأقلامهم ودمائهم.
- ولم يقف الكاتب عند هذا الحد، بل ذهب إلى تحديد بعض معالم “اليساري المسلم”، التي نظن أنه يراها تميز – هذا اليساري السلم – عن المسلم العادي (غير الملتزم باليسار)، وعن اليساري الهادي (غير الملتزم بالإسلام) وهي أيضاً العناصر التي تدرج هذا اليساري المقترح ” بصورة مختلفة طبعا ” مع اليسار العالمي تحت شعار واحد، وقضية واحدة.
- “اليسار المسلم إذ يجاهد في سبيل الله والمستضعفين، ويناصر “الأيدي العاملة والتي يحبها الله ورسوله، ويسعى إلى الحلول النهرية للقضايا السياسية والاجتماعية، يؤمن بأن الذرية لا بد وأن تستوعب الأصول والأسس والجذور في واقع الكيان المادي والروحي معا… الخ “
“واليسار المسلم يتمسك بالديمقراطية؛ إذ هي حكم الله في المصالح والعلاقات الإنسانية حيث لا يكون النص الإلي القاطع في وروده ودلالته، إلخ “، ” انتهى!!
أذكر أن واحداً من الذين ينسبون أنفسهم إلى “التصوف” أخذ يحاورني حول الصوفي الحقيقي والصوفي الدعي، ويبسط في القول في خصائص الأول، لدرجة أنه سرد كل ما أعرفه عن خصائص الإسلام، حتي نسيت أنه يحدثني عن شيء اسمه والتصوف”.
وقد سألته : لمإذا تأخذ ثوب الإسلام يا أخي، وتمنحه لاتجاهك العاطفي أو الفكري ؟… دع الثوب لصاحبه با رجل!!
- والحق أن حديث الأستاذ (فتحي عثمان) عن خصائص اليساري المسلم، ليس أكثر من إلباس ثوب الإسلام اصطلح جديد، تماما كما أليست أكثرية ساحقة من الدعوات التي ظهرت في تاريخ العقل الإسلامي – يفعلي ظروف مختلفة – هذا الثوبه لأراها.
ولست أحاوره في هذه الخصائص؛ لأنها شيء لا خلاف عليه؛ إلا أنها – بجملتها – وضع للأمور في غير موضعها، ولأنها – بجملتها – إلباس الباطل اليساري، ثوب الحق الإسلامي، بيد مسلمة كريمة طالما دافعت عن أصالة الإسلام وذاتية الإسلام أمام الذين حاولوا (في مصر من جماعة الكاتب والمطليحة) تقسيم الإسلام إلى يسار ويمين، ووضع بعض رجالاته في كفة، ووضع الآخرين في كفة أخرى.
(ونحيل القارىء هنا (والكاتب أيضأ) إلى كتاب “التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير اؤلفه فتحي عثمان نشر دار القلم بالكويت) ليعرف رأي المؤلف في لعبة اليمين واليسار ” قبل أن يطلع علينا مقاله والجديد ” في المسلم المعاصر!!).
وينحصل ردنا هنا في النقطة الأولى التي تمثل اتجاه فكرية يرى الأستاذ فتحي عثمان أن تكون مجلة المسلم المعاصر لسانه : “اليسار الإسلامي”.
- وفي البداية تحضرنا عديد من التساؤلات التي تسوقها هنا، وتحتاج في رأينا من الكاتب إلى إجابة شافية :
- هل يمكن أن يكون مصطلح كهذا صحيحة في ظل تكاملية الباديه الإسلامية (عقيدة وعبادات ومعاملات إلخ) ؟
- وما خصائص اليمين الإسلامي في ظل هذا التصنيف ؟
- وهل يبقى اليمين إسلامية مع أنه مخل بشروط أصلية كثيرة لا تقتصر على الفروع ؟
- واليسار الإسلامي : هل سيبقى إسلامياً كذلك مع أنه بالضرورة سيمهل بعض الأساسيات الإسلامية – شاء أو لم يشأ ؟
- وتاريخنا الإسلامي العظيم : هل منبدأ تشريحه من جديد بتركيز شديد على الجوانب اليسارية، وإهمال س- بل وإدانة – المواقف البرجوازية (من معبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأمثالهما ؟!!).
- وهل يمكن التعامل مع الإسلام من خلال هذه النظرة الجزئية الذاتية النفعية والتي يطغى فيها المذهب على المنهج 4 والإيمان ببعض الكتاب (خضوعة المذهب) والكفر ببعضه (خضوع المذهب كذلك) ؟!!
- واليسار الإسلامي : هل هو مجرد مذهب فقهي جديد (ينحصر في الفروع) أم هو “تجمع عقائدي” حركي مضاد؟.
- ومضاد لمن : اليمين الإسلامي أم اليسار غير الإسلامي ؟
- وهل يقبل اليسار الحقيقي (غير الإسلامي) هذه النظرة التحريفية ؟
تلك التي تهمل أبجديات مذهبه (التفسير الاقتصادي، المادية التاريخية) لتأخذه ظواهر وانعكاسات اجتماعية تكاد تكون موجودة في كل الأديان والمذاهب ؟
- “والمسيحية – في واقعها التشريعي – قاصرة، وبالتالي لا يوجد ارتباط وين عمائدها وعباداتها ومعاملاتها على النحو الموجود في الإسلام، فإذا جاز تكوين ويسار مسيحي) – لهذه الطبيعة الموجودة في المسيحية، فكيف سيجوز في الإسلام ؟!! (هذا بالإضافة إلى الشا في وجود مسيحية عقائدية تدين بها هذه التكتلات، وإنما هي ستار سياسي الأغراض جماهيرية مرحلية سياسية)!!
- والدلائل تشير إلى نهاية الدور اليساري في التوجيه العقائدي الفكر المعاصر، فمإذا سيكون موقف اليسار الإسلامي في هذا الحين ؟ هل دميد صفي نفسه، ليعود من جدا إلى الصف اليميني الإسلامي الرجعي ؟ أم سيظل اليساري الوحيده في العالم ؟
العجيب أن الدعوة إلى اليسار الإسلامي أو إلى تقارب بين الإسلام والشيوعية دعوة شيوعية أصلا، نادي بها في جريدة الجمهورية وغيرها كثيرون – أثناء سيطرة الشيوعيين على أجهزة الدعاية في مصر، ومن هؤلاء ” محمد عودة، ووسامي داود).
وأنا هنا لا أرى رأي القائلين بتفرقة كبيرة بين اليساري والماركسي، وأرى أن حجم التفرقة المزعومة بينهما لا يزيد عن حجم التفرقة المزعومة لأغراض سياسية وإعلامية بين اليهودي والصهيوني!!
- وقد غزت فكرة التفرقة بين الماركسية واليسار (باعتبار نشأتهما التاريخية) عقول كثير من المثقفين، الذين حاولوا، ضرب الإسلام – من هذا الطريق (و حاشا الأستاذ فتحي عثمان أن يكون منهم).
- كما غزت هذه الفكرة عقول كثير آشترين حاولوا أن يجمعوا بين علمائهم الفكري للشيوعية، وعدم استطاعتهم اتخاذ موقف العداء الاشتراكية (بحكم ضغوط معينة).
وأذكر كلمة قرأتها أخيرة للأستاذ توفيق الحكيم (في ناديث صد تاني) تظهر فيها هذه التفرقة التي توضح أصل هذا الموقف وجذوره.
يقول الحكيم :
“اليسار بحسب مفهومي هو الدعوة للتطور والتجديد ونبذ الجمود، اليسار دائماً ضد المحافظة والجمود، الإسلام في عصره كان يساراً لأنه كان يدعو للتغيير، وتحطيم كل التقاليد والأوضاع القائمة (!!) وتطوير المجتمع على نحو جديد (!!).
…الذين يطالبون بتغيير المجتمع سواء بجعله مجتمعاً إسلامياً أو شيوعياً يعتبرون يساراً ضد الأوضاع القائمة في المجتمع الحالي؛ لأن المجتمع الحالي ليس شيوعياً ولا إسلامياً، هنا أيضاً اليسار الوطني الذي يطالب بتغيير المجتمع والثورة ضد سلبياته، وتطبيق نظريات جديدة نابعة من تجربته وتاريخه، ثورة ۲۳ يوليو (!!) كانت وما زالت ثورة يسارية، وما زالت ثورة يسارية لأنها كانت ضد الأوضاع التقليدية الجامدة في المجتمع المصري…إلخ.
(وأخيراً يقول الحكيم):
“وبهذا المفهوم الواسع، أنا يساري من النوع الثالث، يساري وطني أدعو للتطور والتغيير والاستفادة من كل التجارب الإنسانية والمحلية، الاستفادة من التراث الإسلامي، ومن التجربة الاشتراكية، ومن تجاربنا المحلية، إلخ”!!
ومع أننا – كما ذكرنا لا نؤمن بالفصل بين الماركسية واليسار، (كما يدعي بعض الماركسيين المرحليين المهادنين)، وكما يقول توفيق الحكيم (اعتمادا على النشأة التارينية بقرية اليسار على الماركسية كأسبقية اليهودية على الصهيونية!!)، (مع أننا لا نؤمن بهذا، فنحن – مع ذلك – نتساءل (كما تساءل الأستاذ فتحي عثمان نفسه من قبل في كتابه المذكور آنفا ص ۱۰۷):
- اليمين، يمين بالنسية لمإذا ؟ واليسار، يسار بالنسبة لمإذا (في الإسلام ؟)
- وأي أوضاع يمينية (ثابتة لا تتغير في الإسلام) يريد اليمينيون الحامدون الحفاظ عليها، بينما يريد اليساريون النزاعون إلى التغيير الجذري اقتلاعها من جذورها ؟
- إن مبادىء الإسلام – على اختلاف مستوياتها – تنقسم قسمين رئيسيين : أصول وفروع.
- فأما الأصول فهي ثابتة لا تتغير، والخروج عليها كفر صراح، وردة (أيديلوجية) تستوجب العقاب في الدنيا والآخرة، بل إن هناك – حظرة شديدة في باب العقائد على التلاعب بالشعارات أو استغلال المنطوق والمفهوم، لأنه في باب العقائد “لا يغي ملزوم عن لازم “،!!
* وأما الفروع، فمن حق الجميع أن يجتهدوا فيها، وما يمكن أن يصلح به أمر الخليج (في حالته البترولية المزدهرة) قد لا يصلح له أمر بلد كاليمن أو مصر (يحتاج إلى أشعرية إسلامية)، ولا يعني اختلاف الظروف هنا أو هناك ضرورة تقسيم الأفكار والمفاهيم، وتقسيم المسلمين بالتالي إلى قوى يمينية في الخليج ويسارية في اليمن ومصر وأندونيسيا… وهلم جرا…!!
- إن الاجتهاد في الفروع حق للجميع، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعلى المسلم أن يأخذ – كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام يأخذ بأيسر الأمور المناسبة للظروف والطاقة!!
- وعلى امتداد تاريخ المسلمين وجد الأغنياء والفقراء جنبا إلى جنب، ومع ذلك فإن المجتمع الإسلامي بشهادة المؤرخين المنصفين، لم يصنف طبقية بالمعنى المفهوم للطبقية الحديثة، التي تتطلب ظهور قوى ثورية تريد تغيير المجتمع و” يا عمال العالم اتحدوا ” من أجل حقوق الطبقة العاملة.
- فمنذ اللحظة الأول في الإسلام بنيت حركة المجتمع على “التكاملية والتعاونية “وليس “الصراعية”، وبالتالي فليس هناك المبرر العملي ولا التاريخي الظهور طبقة “يسار” في وجه طبقة “يمين” (بالمعنى المفهوم في عصرنا).
وإلى الآن لم تنشأ المبررات التاريخية لهذا النشوء، لأن طبيعة المباديء الإسلامية المؤثرة في “تراب” العالم الإسلامي ونفي “بشره” لا تسمح بمثل هذا النشوء.
- ومع اختلاف في النسبة طبعاً – كما هي سنة الله في الحياة – يمكن وصف كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية على الجملة بأنه مجتمع فقير أو غني أو متوسط، ودعك من الشذوذ الذي لا يوجب إسقاط القاعدة بل تأكيدادها وتدعيمها.
- فما هي الضرورة الملحة الحتمية – يا تري – لتطويع حركة التاريخ الإسلامي لظواهر وأمراض وابهامات أثبتها حركة التاريخ المسيبتي في ظل إقطاع الكنيسة وما أعطته لنفسها من حق السيطرة على كل شيء، العقل والمال والضم مدير بال وأقدس الخصائص التي لا يجوز أن يعرفها إلا الله سبحانه!!!
- إنه – في الحق – لا توجد ضرورة ملحة “حتمية” لتطويع الإسلام لهذه الأعتسافات! بل على العكس توجد الضرورات الحضارية الملحة للتمسك بمصطلحاتنا وشعاراتنا، فليست هذه المصطلحات أهلاً لأن نلوي عنق الحقائق الإسلامية لها.
- وليس المسلمون – في عصرهم الحديث – بحاجة إلى (إعادة توزيع) على أسس أخرى غير (التوزيعات) و(التمزيقات) التي منوا بها..!!
- فلتكن “المسلم المعاصر” مجلة لكل مسلم “مثقف” معاصر… وليست مسرحا من المسارح المنزلية للعبة اليمين واليسار.
- مع تحياتي لها … في بداية مسيرتها … الطويلة بإذن الله…
- وتحياتي – أيضاً – للأستاذ فتحي عثمان.