أبحاث

الحضارة الإسلامية

العدد 24

تمهيد

الحضارة مفهوم واضح مقابل، في اللغة والاصطلاح العربيين، للبداوة، وحياة الحضارة هي حياة الإنسان الذي يستعمل فكره وخياله ويديه وما يصنع بهما لترقية ذاته وأمور حياته وترقية البيئة التي يعيش فيها، ولا يمكن تعريفها بأحسن من ذكر مظاهرها.

ويمكن أن نقول “حضارة” أو “تحضر” بالمعنى المتقدم، وأن نقول “مدنية” أو “تمدن”، بمعنى الحياة في مدينة يشيدها الإنسان ويهيئ فيها لنفسه مظاهر التحضر. واللفظ الأوروبي الذي يقابل لفظ مدنية مشتق أيضا من اللفظ الذي تسمى به المدينة.

وكل ذلك صنع الإنسان وإنشاؤه في مقابل حياة “الطبيعة” أو “الفطرة”.

وإذا كان بعض المحدثين يعرف الحضارة بمعناها الواسع، كما فعل الأنتروبولوجي الإنجليزي تيلور (ت 1917) بأنها “ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاق والقوانين والأعراف وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع”، فإن ابن خلدون (ت 808هـ – 1406م). قبل ذلك يذكر عبارة “الاجتماع الإنساني” ويقول إنه “عمران العالم وما يعرض لطبيعة العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك في العمران بطبيعته من الأحوال”.

والمقابل الأوروبي للفظ الحضارة أو المدنية هو على سبيل المثال كلمة Civilization الإنجليزية أو كلمة Kultur التي يميل إليها الألمان ويرون أنها أقرب للحضارة المعنوية الخاصة بتنمية الإنسان وتلبية حاجات إنسانيته.

*  *  *

روح الحضارة:

لكل حضارة روح تسري فيها وطابع عام يميزها ومظاهر تتجلى فيها، وكلها مستمدة من تصور أهلها للوجود والكون والقيم ومن تكوينهم كأمة لها خصائصها الحسية والمعنوية ومن شعورهم بذاتيتهم ورسالتهم في الحياة، ومن ظروف حياتهم ومكانهم في التاريخ.

والأمم تتشابه وقد تتباين، في روحها ومواهبها وفي عمل من أعمالها، وحضارتها تتشكل بعوامل ترجع إلى طبيعة الأمة وظروفها، وقد يكون في ذلك توجيه من مصدر أعلى، هو الذي يدبر الكون ويوجه الإنسان فيه.

ونحن عندما نتأمل في الحضارات الكبرى نجد أنفسنا أمام تنوع لا حدود له، ونكتفي بذكر بعض الأمثلة:

هناك حضارة أخروية في الروح الدافعة لها، لكنها علمية فنية في مظهرها ووسائل التعبير عن ذاتها (حضارة مصر القديمة).

أو حضارة تنظيم اجتماعي بحسب مبادئ العدالة والمحبة الإنسانية وإرساء العلاقات الاجتماعية المتعددة على أسس أخلاقية وتربية الإنسان من طريق التنوير الفكري والإرشادي إلى القدوة الحسنة، وهذا من غير أن يكون هناك بحث عقلي حول حقائق الأشياء أو اتجاه إلى تصورات ميتافيزيقية، لكن مع عدم الجهل بكائن أعلى كامل عادل هو المشرف والرقيب على الناس وأعمالهم، ومع تصور لها يسمى “روح الإنسانية”، أعني ما يقابل لفظ “المروءة” عند العرب القدماء، وتصور لشمائل “الإنسان الرفيع”، وهي تقابل شمائل “الفتى” أو “الفتى السيد” عند العرب أيضا (الفلسفة الصينية القديمة كما يمثلها كونفوشيوس مثلا).

أو حضارة تسري في روح التشكك في هذا العالم، فترى أنه “وهم”، كما ترى في الوجود الإنساني نفسه شرا وألما، وترسم الطريق للخلاص منه – وهذا مع تصورات يكتنفها الغموض،  من قبيل القول بالتناسخ، بمعنى تنقل النفس الفردية في شتى الصور أن تتخلص من وجودها، أو القول بما يسمى “وحدة شاملة” وراء الأشياء، على الفرد أو يحارب فرديته وإرادة الحياة في نفسه لكي يفني فيها، وهذه هي حالة الفناء التي تسمى النرقانا – ونحو ذلك من تصورات في الفلسفة الهندية، ومن الواضح أنها بوجه عام تصورات لا تشجع على الفاعلية وعلى احتمال العبء الضخم الذي ينهض به من ينشئ حضارة.

أو حضارة شعب مفكر مرهف الحس والروح، يريد من طريق الاستنباط الفكري أن ينشئ تصورا عقليا للكون ولتنظيم الحياة، لكن مع شيء من النزعة الخيالية أو الفنية الشعرية وتصور الأشياء قياسيا على الأمور الإنسانية، مع تبرير فكرة “الحقيقة” و”الفضيلة الإنسانية” ومع طموح إلى شمول الإنسان بمثل أعلى فكري وإنساني – وكل ذلك بالاستناد إلى ما في فطرة الإنسان من عقل وضمير (الحضارة اليونانية).

أو حضارة عب عملي طموح شديد المراس يتميز بروح الإقدام ويربي نفسه على احتمال المشقة، كما يتميز بروح عسكرية وبتنظيم الحياة بالقانون والسيطرة الواسعة النطاق، لكي يسود الشعوب بسلطانه ويفرض السلام ويقهر الجبارين، كما يزعم قادته. وإلى جانب أنها حضارة سيادة فهي حضارة قوة مادية واستغلال، وهذا مع بروز مفهوم الرجولة Virtus الذي يقابل مفهوم “المروءة” أو “الفتوة” عند العرب القدماء.

أو حضارة شعب يعيش على الفطرة، في حال وترحال، وفي صراع، يتغنى بالحرب والحب ومآثر الآباء، وله حكمته في الحياة وفضائله ومثله العليا ونظام من القيم الإنسانية والاجتماعية، ويدرك معنى الإنسانية، فيعبر عنه “بالمروءة” أو “الفتوة” وما ينطوي فيها من خصال الشجاعة، والصبر والتجلد أمام ضربات القدر، والكرم ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف ومن صفات القوة مثل إباء الضيم والحمية والأنفة والشعور بالعزة والطموح إلى المجد، رغم الشعور بزوال هذه الحياة وانتهاء خيراتها – هذا مع شعور بوجود إله هو الرقيب والعدو للغادر والشرير، لكن من غير معالم حياة دينية – وهذه هي حضارة أهل البادية في الجاهلية، وهي رغم بساطته حضارة إنسانية لأنها طبيعية، مستمدة من عقل الإنسان وشعوره وما توحيه إليه أحداث الحياة من مفهومات وأحاسيس، من غير ميتافيزيقي ولا تفكير في أمور متعالية.

أو حضارة تريد منذ قرون أن تقوم على التمرد على السلطة في كل شيء، وعلى النقد للمعرفة إلى حد الشك والانطلاق في التفكير حتى الوصول إلى أكثر التصورات تعارضا، وهي تريد التجديد والتغيير المستمر، وتتطور حتى تتدخل في القوانين التي تحكم الأشياء، مع الاستعانة بالعلم وتطبيقاته لتسخير قوى الطبيعة، وتنظيم أمور الحياة على نحو آلي دقيق، عملا بالشعار الذي وضعه منذ أوائل العصور الحديثة الفيلسوف الإنجليزية فرانسيس بيكون (ت 1628م)، وهو قوله Scientia est Potentia العلم قوة، وقوله Natura Parendo vincitur يمكن إخضاع الطبيعة باطاعتها، لكن من اهتمام بالإنسان وحقوقه وحاجاته ورفاهيته وحريته، غير أن هذا الاهتمام يتضارب في مظاهره ووسائله، بين ما يشبه الحجر على الإنسان من كل وجه – وبين إطلاق حريته ليفعل بنفسه ما يشاء، حتى يمكن أن يضر غيره، أو يهلك نفسهن وهذا كله بحسب اختلاف النظم والأيديولوجيا والأهداف، مما أدى إلى تكتلات تعتد بالقوة المادية وتهدد بانفجار قد يدمر الحضارة ومن أنشأها (الحضارة التكنولوجية الأوروبية الحديثة التي لا يسير فيها التقدم المعنوي الروحي والخلقي الإنسان، موازيا للتقدم المادية، ويتنبأ لها بعض مفكريها بالانهيار).

هذه نماذج لحضارات لا تتحدث حديثا خاصا عن أنها تصدر عن رسالة محددة تعينها الإرادة الحكيمة العليا، حيث يكون إنشاء الحضارة تكليفا من تلك الإرادة وأمانة مقدسة عهد بها إلى الإنسان، وهو مسؤول عنها في حياة مقبلة.

وتاريخ الحضارات يدل على أن من بينها حضارات مقفلة لا تتجاوز – أولا تريد أن تتجاوز – أولا تريد تتجاوز – حدود بلادها، وحضارات تندفع نحو الفاعلية والتوسع، حضارات قوة في خدمة الفكر، وحضارات قانون في خدمة القوة، حضارات عملية أخلاقية، وحضارات زهد ميتافيزيقية – وهذا واضح مما تقدم.

وهناك نماذج لحضارات متصلة بالديانات المنزلة الثلاث المعروفة، ولكل منها صبغتها ومجرى تاريخها وتأثيرها في غيرها ومصيرها المقدر لها.

ونحن لا نريد التعرض هنا لروح الحضارة اليهودية أو النصرانية، ولا لما لكل منهما من مميزات، لكننا نحب أن نلاحظ أنه رغم اشتراك هذه الديانات الثلاثة في أمور جوهرية، مثل الإيمان بالخالق الواحد الذي أبدع هذا العالم وأن الإنسان كان في حياة سابقة على حياته على الأرض، ثم جاء إلى هنا بعد معصية، لكن عناية الله ترعاه بالإرشاد، والأرض وما عليها تحت سلطانه، وهو مسؤول محاسب في حياة بعد هذه الحياة.

لكن الأديان الثلاثة تختلف في الكثير حول محتوى هذه الأمور وتصورها وتختلف في الوضوح والتحديد في كثير من النقط والمفهومات، وتختلف في الروح ومنهج الوصول إلى المعرفة، وإلى الأمان أيضا من طريق الاعتماد على العقل والعلم، وتختلف في تصورات شتى خاصة بأمور هذه الحياة والحياة التي بعدها.

وفي ضوء هذه الاعتبارات نحب أن نقصر كلامنا عن الحضارة الإسلامية من حيث الأسس الدينية التي قامت عليها ومن ناحية مميزاتها ومكانها بين حضارات العالم.

ومن الطبيعي أن تكون هناك علاقة وثيقة بين الأسس التي يقوم عليها أي تصور شامل للأشياء يعتنقه الإنسان ومن بين تشكيله للحياة حوله وتشكيله لحياته فيها – والعلاقة هنا بين الدين المنزل ونظام الفكر والحياة الذي جاء به وبين الحضارة التي تنشأ عنه.

ومن أصوب ما قيل في هذا الباب عبارات افتتح بها يوسف هل، في كتابه “حضارة العرب”، الفصل الخاص بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وهي قوله:

تتسم الأديان كلها بأنها تطبع تاريخ الإنسانية بطابعها، والمؤسسون والأنبياء والرسل لهم نصيبهم في حضارة عصرهم وشعبهم. غير أنه لم يتهيأ لأية ديانة ألبتة أن تصير دفعة أولى، وعلى نحو سريع ومباشر، لحدوث تغيرات حركت الدنيا كما صار الإسلام، وكذلك لم يتهيأ لمبلغ دين، إلى المدى الكامل، أن يصبح سيد عصره وشعبه كما أصبح محمد (عليه الصلاة والسلام). ولذلك فإنه من المستحيل كلية أن ندرك تطور الشعب الذي صار بفضل الإسلام حاملا للحضارة وناشرا لها، ومن غير أن نعرف التعاليم التي كانت تقوده، وأيضا، فإنه، بالنظر إلى خصوصية التاريخ الأول للإسلام، يستحيل فصل تعاليمه عمن جاء بها، فالعلاقة بين الشخص والتعاليم، وبين التعاليم والسياسة، وبين السياسة والتقدم الحضاري، هي، في بناء الإسلام، كالعلاقة بين الحامل والحمل. ولذلك يتحتم بيانها بعضها إلى جانب بعض وفي علاقة بعضها ببعض (نقلا عن الأصل الألماني، ص 25 – 26، طبعة ليبتزج 1919).

تكلم الكثيرون عن حضارة الإسلام فيها يكرر البعض، وسيجدها القارئ في آخر هذا البحث.

ومع أن الكاتب المسبوق لا بد أن يتكلم كما تلكم من سبقوه إلا أني لا أجد كبير جدوى من تكرار ما قيل تماما، وأحب أن أشير إلى أمور في الإسلام قد لا يتبادر إلى الذهن كيف كان تأثيرها في حضارته الرائعة العجيبة من حيث الأساس والمميزات.

عناصر البناء الحضاري:

وقبل الدخول في ذلك يحسن أن نلاحظ أن كل بناء حضاري يحتاج إلى أساس من فكر أو إيمان، وهو روح الحضارة، وإلى مؤمن بالفكر يحمل روح الحضارة ويشرع في البناء أو، على الأقل، يهيئ له الظروف، كما لا بد من مناسبة وتعاون في التنفيذ.

والإسلام نفسه بجميع جوانبه أساس للحضارة الإسلامية، والمؤمن بروحها الذي شرع في البناء هو الأمة العربية، والمنفذ هو الأمة الإسلامية الكبرى ومن اندمج فيها من أهل الديانات والمذاهب الأخرى، والمناسبة هي خروج الأمة العربية ومعها الإسلام واللغة العربية وخصال العروبة إلى مسرح التاريخ العالمي الكبير ولقاؤها مع الحضارات الأخرى.

الأساس الإسلامي:

أشرنا على وجود فوارق بين الديانات الثلاثة، رغم اشتراكها من الناحية لعامة في أمور جوهرية.

ومن السهل على من ينظر في هذه الأديان أن يلاحظ انفراد الإسلام بأمور كثيرة مميزة قد يكون أولها مفهوم التسمية التي سمي بها والتي تسم الدين والتدين بمعناها المطلق.

مفهوم الإسلام وتأثيره:

الإسلام هو “الإسلام لله”، إسلام الذات من وجوه شتى، لا بمجرد الطاعة والانقياد وحسب، بل، وخصوصا، بالاستجابة لأمر الله اختيارا، مع الصدق والإخلاص في ذلك وتبرئة العق والقلب من كل شوائب الشرك، ومع منتهى التعظيم والإجلال والمحبة لله، بحيث يكون للغسلام، في الظاهر، سلوكا، وفي الباطن، حالا وصبغة، ومن طريق هذه التسمية وصل الدين والتدين إلى المفهوم والتعبير عنه معا.

وإذا كان الإسلام هو الموقف الفكري والنفسي للإنسان، فهو موقف جميع المخلوقات. فالكون كله بسمواته وأرضه وغيرها مسلم لله، والمخلوقات كلها ساجدة لله. وهي مسبحة بجلاله وبحمده بلسان واحد.

ولا شك أن هذا يهيئ الفكر للتصور الكلي للعالم، وهو من مميزات العلم والفلسفة.

وفي الإسلام أمور كثيرة تعمقت في عقل المسلم وقلبه، وكان لها تأثيرها في طريقة تفكيره وتصوره للأشياء، وكيفية استعمالها وتجلت في سلوكه في نفسه وإزاء ما حوله، من شتى الوجوه.

حب المعرفة:

من ذلك ما غرسه القرآن في روح قارئه من حب المعرفة، بفضل ما جاء في “الكتاب الحكيم” من إشادة بالعلم ورفع لشأن العلماء وتعظيم للحكمة ومن أوتيها، ومن حث على النظر في هذا العالم وآياته والنفس الإنسانية وأسرارها، مع ترك التقليد للموروث من غير بحث وتجنب الحكم بالظن والهوى، ومع الاهتمام بطلب العلم اليقيني والمطالبة بالدليل والبرهان، على أساس أن الإنسان مسؤول عن حواسه وعقله وعما يعتقد أو يرى من آراء.

ولا شك أن حضارة الإسلام العلمية والفلسفية ترجع، في الباعث عليها وفي كثير من أصول المعرفة ومنهج تحصيلها، إلى توجيهات القرآن. وقارئ كتب العلم عند المسلمين، على تنوع ميادين بحثهم واختلافها، يلاحظ أنهم اتخذوا من آيات “الكتاب الحكيم” باعثا وحافزا، وأفكارا قائدة لهم، أو أدلة وسندا لوجهات نظر علمية وفلسفية. وكان هذا شأن علماء الإسلام قديما وحديثا، وهو يزداد مع زيادة المعرفة والتعمق فيها، ويلاحظ واضحا في جميع البلاد الإسلام في نهضتها العلمية الحاضرة.

بل إن العلماء الأوروبيين قد لاحظوا أخيرا هذا الفرق بين الإسلام وغيره، وكيف أن العلم في الإسلام قد انبثق من القرآن سواء من حيث المنهج – وهو منهج حسي – عقلي، لان الله يأمر باستعمال الحواس والعقل معا – أو من حيث موضوعات البحث.

ونحن، بعد هذا، لا نحتاج إلى التنبيه إلى أن كثيرين من الأوروبيين الذين كتبوا عن حضارة الإسلام لم يتفطنوا إلى ذلكن رغم معرفتهم التاريخية الواسعة بحضارة الإسلام ومشاهدتهم لمعالمها، وذلك لأنهم لا ينظرون في الغالب إلى المظاهر، ولا يذهبون إلى الأسس والبواعث الأصيلة.

التوحيد وتأثيره:

إن الإسلام، في حقيقته، دين الإيمان بالتوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة، فالله هو الخالق الذي لا خالق غيره، “بيده ملكوت كل شيء”، خلق كل شيء “بالحق” أي محكمة وقانون، وهو دين الإيمان بالتنزيه الكامل لله عن كل مشابهة لما يعرفه الإنسان أو يتصوره، والله يدبر هذا العالم بالحكمة والرحمة المحيطة بكل شيء. ومفهوم الألوهية في الإسلام، كما يتعقله المؤمن المفكر، في ضوء ما ذكره القرآن لله من صفات الكمال والجلال والإكرام والجمال، هو أعلى مفهوم في العقل، بل فوق كل ما يخطر له.

والمفهومات العالية والمسائل الكبرى ترفع مستوى المفكر ومستوى تفكيره، ولا شك أن التوحيد الإسلامي، إلى جانب سموه بالفكر إلى التصور الموحد للأشياء ونظامها، قد ارتفع بالفكر إلى مستوى التجريد والعلو عن الحس والمحسوس، وبذلك هيا عقل المسلم للقدرة على تحصيل نظام من التصورات المجردة التي هي من مميزات التصور العلمي والفلسفي، لأن قوانين العلم – وكذلك الفلسفة – ليست إدراكا مباشرا للأشياء بل تصورا مجردا لها يستخلصه الفكر بنشاطه الخاص وينظر للأشياء ويتصرف فيها من خلال ذلك.

وعلى أساس الإيمان بالإله الواحد الحق الذي يمسك بقدرته نظام السموات والأرض، والإيمان بالدين الذي جاء من عنده محكما بأدلته وبرسالة الإنسان على الأرض، كان من الطبيعي أن تلتقي عقول المسلمين وقلوبهم على عبادة الله وأن تتضافر إرادتهم على عمران الدنيا وإنشاء الحضارة فيها، في ضوء الإرشاد الإلهي. فقد كان الإيمان هو أساس الحضارة، وهذا لا يحتاج إلى دليل، وروح الإسلام سارية في حضارته، وقد لاحظ هذا باحثون من غير المسلمين، فيقول أحدهم في حديثه عن حضارة المسلمين إنها “كانت حضارة متكاملة في ذاتها، لأن طرازها اتخذ صورته من الفاعلية الخلقية لإجماع المسلمين على عقيدتهم، وتتجلى في نظمهم تلك السمات المميزة لعقيدتهم”.

كلام القرآن عن الكون وتأثيره:

نظر الإنسان في هذا العالم الباهر واضطربت في أمره أفكار البشر، بين من زعم انه وهم، ومن رآى أنه واقع أزلي أبدي، ومن تصور أنه في جملته كائن حي هائل، ومن عبد بعض ما فيه أو نظر غليه نظرة تقديس فنية شعرية.

أما بحسب القرآن فإن هذا العالم الذي نشاهده واحد من عوالم كثيرة، هو “عالم الشهادة” أي العالم المدرك بالحواس أو “عالم الملك”، وهو علامة كبيرة، كما يدل على ذلك لفظ “عالم” وصنع بديع يتجلى فيه الإتقان والجمال، ويدل على القدرة التي أبدعته والحكمة التي صدر عنه والعناية الشاملة لكل شيء فيه.

والقرآن يشير إلى تعدد العوالم، ولذلك يذكر علماء المسلمين إلى جانب “عالم الشهادة”، عوالم أخرى ويسمونها بأسماء لها دلالتها.

والعالم كبير جدا بحيث أن كل المجموعات الكوكبية والنجومية الهائلة التي نرى بداياتها ويعجز خيالنا عن تصور الأرقام الدالة على امتدادها، عبارة عن “زينة” لما يسميه القرآن “السماء الدنيا”.

وكل شيء في هذا العالم له “خلقه”، وقد خلق “بالحق”، وله “أجل مسمى”، بمعنى أن له طبيعته وقانونه وأنه داخل تحت مفهوم الزمان، بل إن ما نسميه الزمان عنصر في بنية المخلوقات، وهو “مدة” وجودها المحددة لها.

وبيان القرآن لتكون هذا العالم ليس على صورة القصة، كما في غير القرآن من كتب الأديان السابقة، بل على سبيل قضايا حول وقائع وحوداث محددة، مع ذكر أحوال وطبائع ووقائع زمانية والإشارة إلى الفعل الإلهي الخلاق (مثلا س 41/ فصلت/ 9 – 12).

والعالم بناء متين، وهو ليس كرة محدودة مقفلة على ما فيها، بل عالم لا حدود له، ويؤخذ من آيات القرآن أن حجمه في ازدياد.

(والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) [س 51/ الذاريات/ 47].

وقد فهم المفسرون أن السماء تتسع. ولا بد أن يكون هذا العالم الذي نشاهده، بل نظام الخلق كله، في ازدياد، لأن قدرة الله المبدعة لا نهاية لها ولا لما يمكن أن يصدر عنها من مخلوقات، وهو سبحانه وتعالى دائم الإبداع والخلق والتدبير والعناية (كل يوم هو في شأن) [س 55/ الرحمن/ 28].

وإذا كان الله هو مبدع العالم فهو الذي يمسك بقدرته الشاملة نظامه.

والقرآن ينبه إلى جوانب في هذا العالم لكي يجعلها الإنسان المفكر موضع دراسة، فيشير على الكم والمقدار وإلى الهيئة والتركيب والوظائف (مفهوم الكيف) وإلى الطبيعة والقانون (مفهوم “الخلق” و”الخلق بالحق”) والحتمية التي تسود نظام الكون المادي (مفهوم التسخير)، وإلى أن قوانين أشياء هذا العام ليست واجبة في داتها وأن وجود هذا العالم نفسه متوقف على إرادة القدرة المبدعة له – وكل هذا يؤكده العلم الحديث.

وإذا كان القرآن يشير إلى الظاهر المتبادر تحت المشاهدة فإنه ينبه إلى المجهود وراء ذلك مما لم يصل إليه علم الإنسان أو لم تدركه حواسه.

وفي آيات القرآن مادة غزيرة حول كل ما يقع تحت الحس من هذا العالم وما يجول في الفكر وأعماق النفس.

فإذا تفطنا إلى ما في القرآن حول المعرفة ومنهجها الحسي – العقلي – وإلى ما فيه من تنبيه إلى ظاهرات الطبيعة الكبرى وإلى أدق ما فيها وإلى الأمر بالنظر والاستدلال أدركنا أن “الكتاب الحكيم” قد وضع العقل أمام مهمة استقراء علمي على مستوى الكون.

وأيضا إذا راعينا ما جاء في القرآن في مواضع شتى من أن الله قد سخر للإنسان ما في السماء والأرض جميعا وأنه مكن للإنسان في الأرض وذللها له وجعل له فيها معايش وستقرا، مؤقتا على كل حال، أدركنا غرض القرآن، وهو أن يستخدم هذه الطبيعة في مصالح حياته.

وبذلك فتح القرآن أمام طريق الاستدلال لمعرفة صانع الأشياء سبحانه وطريق العلم الطبيعي، لكي يعرف الإنسان طبائع الأشياء وقوانينها ثم يستعملها في مصالح حياته.

ولا حاجة بنا هنا إلى ذكر تنبيهات القرآن وإشاراته التي من شأنها أن تؤدي إلى تصورات بل نظريات علمية من أعلى مستوى.

ويكفي أن نشير إلى أنه إذا كان الإسلاميون قد نقدوا المعرفة العلمية التي وصلت إليهم وجددوا المعرفة، فوصلوا إلى معارف جديدة، بل وضعوا علوما بأكملها لم يسبقهم أحد إليها، بفضل وضعهم منهج البحث الاستقرائي على مستوى ملاحظة السماء وما فيها وعلى مستوى دراسة ما على الأرض بالمشاهدة والتجربة، فإنه لا شك أنهم كانوا يعلمون بما استقر في طريقة تفكيرهم من النزعة العلمية التي تتضمنها توجيهات القرآن.

كلام القرآن عن الإنسان:

وإذا نحن تأملنا ما جاء في القرآن عن الإنسان وجدنا نظرية كاملة متماسكة شاملة للإنسان من جميع النواحي في وجوده وحقيقته ورسالته.

وجود الإنسان مرتبة خاصة بين المخلوقات، وهي أعلى المراتب، في الإنسان نفحة إلهية، والله افرده بعلم من عنده، وجعل له كرامته بين المخلوقات وجعله “خليفة”، في الأرض لكي يعمرها بفضل العلم بخالقه وحكمته من وجوده ومعرفة الحق والحكم بالعدل وإفاضة الخير والرحمة. وقد أعده الله لرسالته على الأرض هناك في عالم آخر. والمتأمل لمسألة حياة الإنسان في الجنة والأمر والنهي هناك، ثم النسيان والمعصية والتوبة يلاحظ أن ذلك هو الإعداد لحياة الإنسان على الأرض، وهي ليست أمرا عارضا، بل أمرا مرسوما في الخطة الحكيمة للخلق، والله قد أعلم بها ملائكته مقدما: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [س2/ البقرة/ 30 – 38].

فالإنسان جاء إلى الأرض صاحب أمانة عهد الله بها إليه، هي عمران الدنيا والتمتع بخيراتها بالحق والعدل، وهذا هو مفهوم الحضارة الإنسانية.

ولقد أمر الله، إلى جانب عبادته، بالعمل الدنياوي الذي هو يحسب الإسلام عبادة أيضا، بحيث لا يهمل الإنسان العمل في عمران الدنيا، حتى لو قامت الساعة، وكان في يده فسيلة عليه أن يغرسها، لوجب عليه أن يتم عمله، كما أمر بذلك رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.

فإذا تفطنا إلى أن الإنسان جاء معدا لحياته هنا، بعد أن تلقى الأمر وأخطأ وتاب، أدركنا أنه جاء بلا عقد ولا مشكلات، لأن هذه هي طبيعة حياة الإنسان وطبيعة بناء الحضارة على الأرض، لأن الحضارة اجتهاد إنساني وسط المعاناة، وإمكان الخطأ مع إصلاحه والاجتهاد في التقدم المستمر في طريق الخير.

ويستطيع الإنسان أن يكون فخورا برسالته وأن يقبل عليها متفائلا واثقان مستعدا للكفاح والجهاد. حتى إذا أدى رسالته عاد إلى عالمه، وهكذا يلتقي آخر حياة الإنسان بأولها في انسجام  جميل تخلله الكفاح وانتهى بالفوز.

ولذلك، وبهذا الروح، أقبل المسلمون، يمثلون كبار خلفائهم وحكامهم، على عمارة الدنيا، فكان لحضارتهم عظمتها وشأنها في تاريخهم بني الإنسان.

القيم في القرآن: الحق والخير والجمال.

نظام القيم العليا أهم ما تتسم به الحضارات الراقية الكبرى، وهي معايير ننظر في ضوئها إلى تقدير الأشياء.

وإذا كان الحق هو مدار القرآن: الحق في الوجود، وهو الله تعالى، والحق في المعرفة، وهو العلم بالأشياء والكلام عنها كما هي، فإن القرآن يدور أيضا حول الخير، بمعناه المطلق، وهو الله تعالى أيضا، وبمعانيه الأخرى، أعني، خيرات الفكر وخيرات الحياة على تنوعها.

والقرآن ينبه أيضا إلى الجمال في هذا العالم، إلى جمال السماء بنجومها وكواكبها، وجمال الأرض بزينتها، وجمال ما صنع الله من مخلوقات قد لا ندرك جمالها بحسب معاييرنا السطحية، لأن الله قد “أحسن كل شيء خلقه”، وهو “صنع الله الذي أتقن كل شيء”.

فأما عن محبة الحق فقد كان طلب ديدن علماء الإسلام، ويكفي أن نذكر قول الكندي، أول فلاسفة الإسلام: “وينبغي لنا أن نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، ولا أحد بخس بالحق، بل كل يشرفه الحق”.

وأما الخير فقد أقبل المسلمون في حضارتهم على خيرات الفكر بطلب العلم، وعلى خيرات الروح بالعبادة إلى حد الزهد والتصوف الرفيع، وعلى خيرات الدنيا فأخذوا منها ومن زينتها بأوفى نصيب وتفننوا في ذلك.

وأما الجمال فقد هاموا به: فالصوفية والشعراء الصوفيون تغنوا بحب الله وجلاله وجماله في تعبير رائع، وأهل الدنيا زينوها بكل زينتها، وكان الجمال الخلاب من سمات الحضارة الإسلامية في شتى جوانبها، وهذا دعي أهل أوروبا، وهم في تخلفهم وحياتهم الخشنة، إلى الاستمتاع بحضارة الإسلام، سواء من ذلك جمال فنونها الجميلة أو جمال المظهر الإنساني أو جمال اللذات الحسية.

حامل روح الحضارة، بانيها ومنفذها:

أما الحامل الأول لروح الحضارة الإسلامية فهم العرب، بما لهم منذ أول أمرهم من حماس طبيعي وعلو في الهمة وكثير من صفات البطولة والطموح إلى المجد والصدارة.

وليس المجال هنا مجال الكلام عن الطبيعة أو الروح العربية، وإن كانت طبيعة الأمة عاملا حاسما في طبيعة حضارتها.

وإنما يهمنا أن نذكر أن الإسلام، بروح ومبادئه، هو الذي وجه الطبيعة العربية والطاقة الحضارية العربية، فأمدها بالحافز والغاية. ومع أن الأمم الإسلامية ساهمت بأعظم نصيب في حضارة الإسلام، فإن العرب هم وحدهم المؤسسون لها، الذين هيئوا لها الظروف، ولم يزالوا يظلونها برعايتها، هم والأمم الإسلامية، ولقد ظل العرب، على طول التاريخ الإسلامي، يدافعون عن حضارة الإسلام، وهم يصدون عن أنفسهم وعن رسالتهم عدوان غيرهم، في عالم الصراع بين الأمم والحضارات ولمن يشاء، على كل حال، أن يقرأ ما يقوله جوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب”، ثم يرى رأيه في كلامه:

“حضارة الإسلام” أو “حضارة العرب” اسم لحضارة الشرق في القرون الوسطى، ولم يكن العرب وحدهم مبتكري هذه الحضارة، ولكن جميع سكان الشرق الأدنى وقسم من أفريقيا، الذين طلوا مدة طويلة منفصلين عن الحضارة الأوروبية، آخى بينهم الإسلام، دين الدولة، واللغة العربية، لغة العلم والأدب.

“فضل الشرق في تأثيره في الغرب يعود إلى العرب وحدهم، وأما الشعوب التي حلت محل العرب، وإن اتفق لها شيء من التأثير السياسي أو الديني، لم يكن تأثيرها العلمي والأدبي والفلسفي في غير درجة الصفر”.

“إنه كان من الحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم، فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، وإن العرب هذبوا البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان بتأثيرهم الخلقي، وإن العرب هم الذين فتحوا لأوروبة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي فكانوا مهذبين لنا وأئمة لنا ستة قرون”.

(حضارة العرب، الترجمة العربية ص 35، 571، 579).

والطاقة الحضارية العربية، كبيرة، وهي لا تزال على قوتها، والملاحظة أنه لا تكاد تتهيأ للعرب ظروف الحضارة حتى تندفع في طريقها بقوة تكاد تشبه قوة الطبيعة. وكل ذلك في ضوء الإيمان بالله وبرسالة الإنسان وانطلاق مادته وقدراته بفضل روح الإسلام.

وليس أدل على ذلك مما نشاهده اليوم من تحضر، بل اندفاع حضاري، في الدول العربية الحديثة، وهي تبلغ في عشرات السنين ما لم يبلغه غيرها في قرون.

وإذا كان العرب قد استعانوا بملكات الأمم في بناء حضارتهم التاريخية، فإنهم اليوم يسيرون السيرة نفسها، وتتسع روحهم، من الناحيتين الدينية والإنسانية، وهي روح الإسلام، للتعاون مع غيرهم لأجل مصلحة تقدم الإنسان وحضارته.

اللقاء الحضاري:

استحوز العرب، وهم يبلغون الإسلام، على جميع بلاد الحضارات السابقة، ولما كان هدفهم عمران الدنيا باسم الله، فإنهم لم تكد تستقر دولتهم حتى أقبلوا على بناء الحضارة، خصوصا في العصر العباسي الأول واستمروا في الإنشاء رغم عوامل التغيير ورغم الأحداث الكبرى التي تطرأ على تاريخ الأمم.

ثم إنهم لم يلبثوا، بعد أن تعلموا عن غيرهم، أن بدءوا في مرحلة الإبداع ولم ينشأ عن انحلال دولتهم العالمية أي تختلف حضاري، بل انه في داخل إطار الحضارة الكبرى الموحدة في أساسها وروحها وأهدافها، كانت الحضارات الإسلامية المحلية تسير في طريق الازدهار وتتخذ طابعا من العبقريات المحلية، من غير فقدان الطابع العام.

المراحل الكبرى للحضارة العربية الإسلامية:

يذكر الأستاذ ناجي معروف في كتابه “أصالة الحضارة” أن مراحل الحضارة العربية هي:

مرحلة النشوء والتكامل في الجزيرة العربية.

مرحلة الاقتباس من الأمم بعد الفتوح الإسلامية.

مرحلة الابتكار والإبداع.

مرحلة التأثير في الشرق والغرب.

ونستطيع، على أساس نظرة أخرى، أن نتبين مراحل للحضارة الإسلامية، إذا صرفنا النظر عن النظر عن حضارة ما قبل الإسلام، سواء حضارة الأمم الجنوبية أو حضارة القبائل المستقره في قرى الوسط والشمال أو حضارة أهل البادية.

يمكن أن نتبين المراحل التالية:

– مرحلة تكوين الإنسان المؤمن المجاهد، تكوينا دينيا شاملا لحياة التدين ولحياة الدنيا، وهذا تم في عهد النبي عليه السلام، وهو أساس كل تحضر إسلامي، لأن حامله هو الإنسان، ولا حضارة بدون إنسان متحضر في فكره وحياته.

– مرحلة تبليغ أساسيات الحضارة الإسلامية للأمم، وهي مرحلة الفتوحات الكبرى التي بلغ بها العرب رسالة الإسلام للأمم وأسسوا دولة الإسلام ودار حضارته. وكانت عناصر حضارته هي أصول الإسلام واللغة العربية الرائعة التي وجهها الإسلام نحو أهداف أوسع وأعلى من أهدافها. وهذه هي مرحلة العصر الأموي.

– مرحلة اللقاء الحضاري بين الإسلام وبين حضارات الأمم، وهنا بدأ تتلمذ العرب على غيرهم، وسرعان ما تفهموا روح الحضارات الأخرى وعناصرها، وبدءوا، وهم ومن اشتملت عليه دولتهم، في بناء حضارة، روحها وجوهرها الإسلام ورداؤها كل مظاهر التحضر الإنساني، وهذا تحقق في العصر العباسي حتى أواسط القرن الرابع للهجرة – وكانت مرحلة إبداع أساسي احتفظت فيه الحضارة بروح الإسلام كاملة وبكثير من مثله العليا.

– مرحلة الإبداع مع التنوع، وهي تمتد حتى أوائل القرن الثامن الهجري، وإن كان قد عاقتها غزوات المغول وما أعقبها، وفي هذه المرحلة كان تأثير حضارة الإسلام في الحضارة الأوروبية.

– مرحلة الحضارة عند مختلف شعوب الإسلام في فارس والهند ومصر وفي الدولة العثمانية.

– مرحلة الركود والتخلف في عصر الاستعمار.

– مرحلة النهضة الحضارية الحديثة في مختلف بلاد الإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي على أقوى صورها في أيامنا، وتسير في الحضارة سيرا حثيثا، لكي تتدارك ما فات وتلحق بركب الحضارة المتقدمة.

وهذا لا يتم بدون مشكلات أو مساوئ.

مميزات الحضارة الإسلامية:

لعله قد تبينت مما تقدم بعض السمات في حضارة الإسلام:

– هي، أولا وقبل كل شيء حضارة تقوم باسم الله تعالى وعلى يد الإنسان، ونصوص القرآن صريحة في أن الله قد “استخلف” البشر في الأرض “واستعمرهم” فيها، أي طلب منهم عمارتها (مثلا س2/ البقرة، 3، 6/ الأنعام/ 165، 10/ يونس/ 14، 35/ فاطر/ 39). والله تعالى هو الذي بين دعائمها النظرية والعملية، فأخرجها، سواء في نظام الفكر أو نظام حياة المجتمع والدولة، من دائرة تصور البشر وتعسفاتهم ونظام الفكر أو نظام حياة المجتمع والدولة، من دائرة تصور البشر وتعسفاتهم واختلافهم، وللبشر بعد معرفة الأسس أن يفضلوا ويحددوا، بحسب ما تتطلبه الحياة الإنسانية ومصالحها.

وهي حضارة مضت عليها القرون الكثيرة، وتعرضت لأزمات ومعوقات، بل لهجمات مدمرة وعداوات قاسية، لكنها استطاعت البقاء، وما ذلك إلا بما كان يبقى فيها دائما من مبادئ الحق والخير والعدل التي بدونها لا يقوم نظام في هذه الدنيا.

– قد يعرض لها الركود أو الانكماش، لكنها، كالكائن الحي الذي تكمن قوته في داخله، تسكن تحت مداري الأقدار وتصبر، حتى إذا تهيأت لها الظروف المواتية تفتحت وازدهرت من جديد.

– هي حضارة متفتحة لتقبل كل الثمرات الروحية والعقلية والمادية لعناصر الحضارة الصحيحة، وهذا هو سر تجددها المستمر، وهي تقدر دائما على النقد والاختيار وتتغلب، كما يتغلب الجسم القوى، على كثير من العوارض والآفات، ومرجع قدرتها على البقاء إلى أنها حضارة روحية عقلية، أخروية دنيوية مادية علمية فلسفية…. بحيث تتمثل كل شيء وتحوله إلى ذاتها العميقة، ولا يمكن استئصالها إلا بإزالة من يحملها ويتعهدها ويمثلها، وقد يجمع المسلم في ذاته كل هذه العناصر.

هي حضارة تنتشر انتشارا تلقائيا، وتجد طريقها بوسائل بسيطة، لأن روحها وأسسها الفكرية والأخلاقية تتجلى في المسلم الحق البسيط، فهو قد يكون سجينا عند الأعداء أو تاجرا أو رحالة ينزل عند من لا يعرف الإسلام، فسرعان ما يدرك الناس روح الإسلام من مظاهره على المسلم في عبادته وفي سلوكه ومعاملته، ثم لا يكاد يجتمع عدد من المسلمين حتى تربطهم الروابط التي تربط بين المؤمنين، من عباده وأخوة وتعاون، فيضعون الأسس لتطور لا يتوقف.

وعلى هذا النحو وصل الإسلام إلى أقاصي البلاد والجزر وأعماق الفيافي والغابات، بلا خطة مرسومة، وقد تغلب الإسلام بفضل ذلك على كل الديانات بخططها ووسائلها.

وهي كذلك حضارة عالمية، إنسانية، شأنها شأن الإسلام نفسه؛ وإذا كانت قد صارت عالمية فذلك على أساس أن الإسلام نفسه صار عالميا، وأن وحدة الحضارة الإسلامية، رغم تنوع مظاهرها، مبنية على وحدة الشعوب الإسلامية، وهذه بدورها مبنية على التوحيد الذي أشرنا إلى تأثيره فيما سبق.

كما أن الله يمسك نظام الكون بقدرته الشاملة فإنه تعالى، بفضل الإيمان به، يمسك نظام الأمة الإسلامية كلها، كما يشمل معها جميع من آمن بالله من أهل الديانات الأخرى.

– والإسلام دين الكائنات كلها وهو، في الأعماق أو بلسان الحال أو المقال، دين البشر جميعا، ودين الإخاء والمساواة بين البشر، على اختلاف اللغات والأجناس، بلا تمييز، لأن هذا الاختلاف من آيات الصنع الإلهي البديع في هذا العالم.

(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين). [س 30/ الروم/ 22].

– والإسلام دين الحرية في العقيدة والعبادة، ودين التسامح المبني على أنه مصدق للحق فيما سبقه من أديان ومتقبل للحق أينما كان.

عالمية الإسلام وحضارته:

ولا بد من تأكيد هذه المعاني بشواهد تبين كيف انتشر الإسلام وصار دينا عالميا، وكيف صارت حضارته في ظله حضارة عالمية أيضا.

فقد شاع بين المؤلفين الغربيين أن الإسلام انتشر بالسيف، لأنهم لاحظوا أن الأمم دخلت في الإسلام بعد فتح بلادهم، وفاتهم النظر في أحوال مختلف الأمم التي عاصرت انتشار الإسلام وكيف رحبت بقدومه ليصلح من أمورها، ونسوا أو تناسوا أن الفاتحين ما كانوا يريدون بحروبهم إلا التمكن من التغلب على من حال بينهم وبين أن يبلغوا الإسلام ويعرضوه للأمم. وكانوا يقرون أهل الديانات المنزلة على دينهم، إذا أرادوا ويضمنون لهم حقوقهم بعهود ومواثيق لم تعرف في تاريخ الأديان من قبل. أما إذا دخلوا في الإسلام صار لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. أما الجزية التي كان يؤديها أهل الكتاب فقد كانت في مقابل إعفائهم من أعباء الحرب وحماية جيوش الإسلام لهم.

والحق أن الإسلام بهر الأمم بعقيدته التي يتصورها العقل وشريعته التي تنظم أمور الحياة. ولقد أعجب الأمم ما تمثل في معتنقي الإسلام من السيرة الحميدة والتسامح والعدل ومكارم الأخلاق بوجه عام.

يقول جوستاف لوبون في صدد تأثير عقائد أي دين من الأديان “إن الإسلام إذا ما نظر إليه الإنسان من هذه الناحية (يقصد ناحية العقائد) وجده من أشد الأديان تأثيرا في الناس، وهو مع مماثلة لأكثر الأديان في الأمر بالعدل والإحسان والصلاة… الخ. يعلم هذه الأمور بسهولة يستسيغها الجميع، وهو يعرف، فضلا عن ذلكن أن يصب في الناس إيمانا ثابتا لا تزعزعه الشكوك…. فالإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم ومن أعظمها تهذبيا للنفوس وحملا على العدل والإحسان والتسامح (حضارة العرب ص 125 – 126، ط./ 1964/ القاهرة).

ويقص علينا التاريخ من تسامح الإسلام وسعة روحة، ممثلا في خلفائه، ما يندهش له الإنسان.

فها هو الخليفة المنصور العباسين مثلا، يعرض الإسلام على طيب نصراني عالج الخليفة فشفي على يديه، فيجب الطيب قائلا: “أنا على دين آبائي أموت، وحيث يكون آبائي أحب أن أكون في الجنة أو في جهنم”. عند ذلك يبتسم الخليفة ويصرفه موفور العطية.

وهذا المأمون العباسي يعرض الإسلام على زعيم للمانوية، بعد أن ناظرة العلماء وأفحموه، فيرد على المأمون قائلا: “نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة، وقولك مقبولة، ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم”.

وكان لمظاهر العبادات الإسلامية أكبر تأثير في نفوس من شاهدها:

يقول الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان الذي اشتهر بحرية الفكر: “ما دخلت مسجدا قط إلا هزت نفسي عاطفة شديدة…. وأحسست بأسف حقيقي لأني لست مسلما”.

ويتحدث أحد علماء بني إسرائيل الذين اعتنقوا الإسلام عما أحدثته الصلاة في مسجد من أثر في نفسه فهو عندما رأى صفوف المصلين أحس بأنهم هم الجماعة التي أخبر الأنبياء بظهورها. حتى إذا قام الخطيب استولى على نفسه شعور بالرهبة، فلما ختم الخطيب خطبته قائلا: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)، أحسن ذلك العالم الإسرائيلي بقوة تدفعه إلى النهوض مع المصلين، لأنه كما يقول، أحسن بأن الله يتجلى لهم في ركوعهم وسجودهم عند كل صلاة، ثم يختم كلامه قائلا إنه، عند القيام للصلاة، أيقن بأنه خلق ليكون مسلما.

ويتحدث أسقف نصراني عما يبهر من يتصل بالمسلمين لأول وهلة من مظاهر دينهم، فحيثما كان الإنسان، في الطريق أو في الحقل، يرى الرجل منهم، متى حان وقت الصلاة، يترك عمله وينهض في سكينة وتواضع وفي غير رياء ولا تظاهر، ليؤدي صلاته في وقتها. ويتحدث هنا الأسقف عن الأثر الذي يحدث في نفس الرائي في مشاهدته ساحة مسجد كبير، وهي غاصة بآلاف المصلين مستغرقين في صلاتهم يظهرون في كل إشارة ما يدل على أعمق الإجلال والخشوع لله، كما يتحدث عن أثر النداء للصلاة من منارات المساجد سواء في أثناء ضوضاء العمل اليومي أو عندما يرخي الليل سدوله، أو في وقت السحر، قبل أن يتنفس الصبح، هذا إذا تركنا تأثير بقية العبادات والشعائر الإسلامية، من مظاهر حياة الصيام في رمضان وأثر الزكاة والحج، وغير ذلك من مظاهر تتجلى في حياة المسلم كلها ولا تختفي في أي حال من أحواله.

وكثيرا ما كان أسرى المسلمين الذين وقعوا في يد الأعداء، بمظاهر عبادتهم، سببا في إسلام آسريهم.

ومن أروع الأمثلة على قوة تأثير الإسلام أنه بعد أن جاءت جحافل المغول والتتر والترك القدماء واجتاحت بلاد الإسلام، حاول أعداء الإسلام بوسائل شتى أن يوغروا صدور المغول على الإسلام والمسلمين، لكن المغول ما لبثوا أن عرفوا الإسلام على حقيقته حتى أسلموا وصاروا من أحسن المسلمين.

ورأي جوته شاعر الألمان الكبير، في مدينة فايمار بألمانيا جماعة من جنود البشكير المسلمين قادمين من جنوب روسيا، وشهد كيف أقاموا الصلاة في قاعة مدرسة هناك، فأثر منظر عبادتهم في نفس تأثيرا كبيرا هيأه لمزيد من دراسة الإسلام والإعجاب به. وقد تبين شاعر الألمان في الإسلام عنوان التقوى، بمعنى الإيمان بالله والتسليم له مع الحمد والمحبة والشوق إلى الفناء فيه وجوته هو القائل: “إذا كان معنى الإسلام أنه التسليم لله فإننا جميعا على الإسلام نحيا ونموت”.

فكيف لا يدخل في الإسلام من يعرفه، إلا إذا كان جاحدا أو معرضا عن الدين جملة أو مقلدا لا يدرك غير مألوفه وما اعتاد عليه.

أما كيف صار الإسلام حضارة عالمية فهو نتيجة طبيعية منطقية لانتشار الإسلام، فأينما حل الدين الحنيف كانت تبدأ الحضارة وتنشا على الأسس التي أشرنا إليها ويبدأ العمران بكل صوره، وسرعان ما تنشا مدن جديدة تصبح مراكز لحضارة الإسلام ومنارات لإشعاعها فيما حولها.

ولما كان الإسلام يحترم الديانات السابقة، وكان الخلفاء بفضل الإسلام أيضا يعظمون كل علم وحق وخير ورقي إنساني ويعرفون الفضل لأهله، فإن ذلك دعاهم إلى الاستفادة من مواهب الأمم المتحضرة، فمهدوا السبيل إلى تعاون إنساني واسع النطاق، فتضافرت في دولة الإسلام جميع مواهب الأمم العقلية والفنية. ومنذ عهد معاوية بن أبي سفيان نجد الخلفاء يتخذون من علماء أهل الكتاب من يستشيرونه أو يستفيدون منه في تثقي أبنائهم أو في وظائف ينهضون بعملهم فيها، جيلا بعد جيلن وقد تظل الأسرة الواحدة (أسرة بختيشوع مثلا في العصر العباسي) أكثر من قرن تمد الدولة الإسلامية (سواء في الأندلس الإسلامية أو في مصر)، يؤدون أعمالهم بإخلاص ويتمتعون هم وأبناء دينهم بالحرية والإكرام، في ضوء قوله تعالى: (لا إكراه في الدين).

وفي ظل حضارة الإسلام نشأ الفكر العلمي والفلسفي وازدهر ازدهارا كبيرا عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بل عند غيرهم من أتباع نحل دينية وفلسفية سابقة، كالحرانيين، وكان ممثلو ذلك الفكر موضع التقدير والاحترام.

وفي هذا الظروف كلها، وفي جو هذه الحضارة الزاهرة، كيف لا تدخل الأمم في الإسلام وتشارك في حضارته، وكيف لا يتسابقون، بل يتنافسون، في ذلك!؟ فالإسلام يحتوي على كل حق في عقائد أهل الكتاب، وهو متفتح لكل علم حق وفكر صحيح ومتقبل لكل ما يرقى بالإنسان رقيا حقيقيا في هذه الحياة.

وكان من نتائج الدولة الإسلامية الشاسعة وتنوع البلاد والأمم فيها أن تنوعت مظاهر الحضارة، بحسب التراث السابق وتنوع البيئات. وقد بلغ أن بعض المدن خارج العالم العربي بمعناه التقليدي صارت حواضر للثقافة تضاهي بغداد والقاهرة ودمشق، وفيها كبار العلماء في العوم كلها، وفي العلوم الإسلامية بمعناها الخاص، إلى جانب فنون الحضارة.

ومؤرخ الحضارة يرى أمام رقعة شاسعة من الأرض، تمتد من داخل بلاد الصين والهند إلى وسط آسيا، امتدت فيها مراكز الحضارة من بخاري وسمرقند وخوارزم إلى بغداد ودمشق والقاهرة، إلى تونس والقيروان وفارس، إلى أشبيلية وغرناطة وقرطبة وطليطلة، هذا إلى بالرمو في صقلية، ثم في مدن بعد ذلك صارت مراكز حضارة إسلامية كبرى كالقسطنطينية.

وكانت مراكز العناية بدارسة حضارة الإسلام، عقيدته ولغته وعلومه على تنوعها، وترجمة ذلك كله، موزعة على حواضر العلم في أوروبا: دير مونتي كاسينو (جبل قاسم أو رباط قاسم) في جنوب إيطاليا، البلاط البابوي، على عهد الباب أدريان الرابع (ت 1159م)، بالرموز، على عهد الملك النورماني فريدريك الثاني (ت 1250م)، وفي أكسفورد، والقسطنطينية – قبل أن يفتحها المسلمون.

وكانت الحدود مفتوحة في طول بلاد الإسلام الشاسعة، والعلماء وطلاب العلم والحجاج والتجار والرحالون والصوفية السواحون، جميعا يجوبون البلاد، كل فيما يريد، وكانوا أينما ذهبوا يجدون عقيدة واحدة وشريعة واحدة وأخلاقا وعادات وآدابا واحدة ولغة دين وعلم وأدب واحدة، إلى جانب لغات محلية هي أيضا لغة حضارة إسلامية.

وإذا كانت دولة الإسلام قد انحسر سلطانها عن بعض دار الإسلام، كما أواسط آسيا وتركيا، فإن الإسلام باق فيها، وعناصر حضارته باقية في العقل والقلب والضمير كالجواهر التي لا تتغير ذاتها، ومعالم حضارته المودعة في الكتب أو القائمة على الأرض تقف ضخمة شاهدة على قوة الروح الحضارة التي انبعثت من الإسلام.

مكان الحضارة الإسلامية بين الحضارات العالمية:

ظهر الإسلام بعد ديانات ونحل قديمة، وبعد ديانات منزلة كبرى، وبعد تجربة إنسانية في الفكر العلمي والفلسفي وفي تنظيم أمور الحياة.

ثم ظهرت الحضارة الإسلامية وازدهرت واشتملت على كل ما سبقها في مجال الدين (بحكم اشتمال الإسلام على جوهر ما في الديانات المنزلة) وفي مجال الحضارة. وهي إلى جانب أنها أضافت إلى الحضارة إضافات كبرى، فإنها في الحقيقة وجهت الحضارة توجيها جديدا.

فالحضارة الإسلامية تحتل، في التاريخ الإنساني، مكانا متوسطا، وإذا كان الإسلام، في الحقيقة، هو الحكم بين الأديان السابقة والمهيمن على ما عندها من وحي، فإن حضارته، من حيث أصولها ومعاييرها، نموذج للحضارة الإنسانية، وهو نموذج يمكن أن يتطور ويزدهر على، أسسه الربانية، كالشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

وكل ما في الأمر أن يكون المسلمون على وعي وإدراك لأصول حضارتهم وأن يطوروها بقوة مستمدة من المثل العليا التي وضعها الإسلام لهم.

وعلى بناة الحضارة الإسلام اليوم أن يطيلوا التأمل في الخطاب الإلهي الذي وجهه الله لهم وأن يعملوا به:

(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). [س 2/ البقرة/ 143].

والنظر في تاريخ الحضارة الإسلامية، منذ أول ازدهارها إلى اليوم، يلاحظ أنها كانت دائما، رغم كل الظروف غير الملائمة، تأخذ وتعطي.

ولقد صنعت وأعطت أكثر مما أخذت وأحسن مما أخذت، لأنها أعطت الروح للإنسان وحضارته، على حين أن ما أخذته إما ثمرات لمحاولات في مضمار الفكر (مثل فلسفات الأمم)، وإما مظاهر خارجية لحياة التحضر أبدعت هي ما هو أعظم منها.

والآن ينهض المسلمون بفضل وسائل جديدة لينشئوا حضارة جديدة، وهم في نهضتهم يأخذون جوانب من حضارات الأمم، وهي الجوانب العلمية الحديثة ومقتضياتها ومظاهر العمران المادي.

ونحن إذا استقرأنا تاريخ الحضارة الإسلامية استطعنا أن نتوقع أن تؤدي حضارة الإسلام الحديثة دورها في العطاء، كما فعلت مرارا من قبل.

نظرة إلى المستقبل:

بدأت حضارة الإسلام في المشرق وازدهرت، ثم جرى عليها حكم التاريخ، وتعرضت للانحلال بسبب الفساد الداخلي وغزوات المغول وغيرها.

وبعد أن فتحت بلاد الأندلس ازدهر فيها فرع جميل من حضارة الإسلام التي أشعت على أوروبا، لأن الأوروبيين تتلمذوا في الفكر العلمي والفلسفي على العرب طول العصور وفي أوائل العصور الحديثة، وبقوا تلاميذ للعرب في بعض العلوم (كالطب) إلى أوائل القرن الثامن عشر.

وكان وجود دولة الأندلس حائلا دون الغزو الأوروبي للشرق، فلما قضي على تلك الدولة بدأ غزو بلاد الإسلام من أطرافها البعيدة في الشرق.

وأيضا كانت الدولة العثمانية منذ فتح القسطنطينية عام 1453م وتوغلها في البلقان تقف حائلا دون غزو بلاد الإسلام من تلك الجهة.

وبدأ الكفاح ضد دولة آل عثمان في شرق أوروبا، فلما ضعفت بدأ الغزو الاستعماري لبلاد شمال إفريقية منذ 1830م، ثم استمر في بلاد أخرى، وظل سلطانه إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وظلت بلاد الإسلام، قبل هذه الحرب وبعدها، تكافح في سبيل تحريرها إلى أن تم لها الاستقلال مع تحرر بلاد كثيرة، منذ أول النصف الثاني من هذا القرن.

ولم يكن هناك بد من أن يؤدي الغزو الأوروبي لبلاد الإسلام إلى اتصل الإسلام وحضارته بأوروبا وحضارتها الحديثة، هذه الحضارة التي نشأت وتطورت منذ القرن السادس عشر.

وكان لا بد، بحكم طبيعة الأشياء، أن تتأثر بلاد الإسلام في كثير من مظاهر الحياة بحضارة أوروبا.

وكان هناك تفاعل حضاري حقيقي، وقامت حركات تنوير وإصلاح وتجديد في شتى بلاد الإسلام من الهند إلى مصر وتونس. وقد حاول المصلحون، على تفاوت، وأن يحتفظوا بأسس حضارة الإسلام من غير أن ينكصوا عن الأخذ بأسباب التقدم، خصوصا التعليمي والعمراني والفكري، والعلمي والفلسفي، بوجه عام، وفي نظم الحياة السياسية الاجتماعية، مما تتسع له روح الإسلام.

وسار الإصلاح والتجديد سيرا هادئا في بعض البلاد (مصر) وأخذ صورة انقلاب في بعضها (تركيا مثلا).

واليوم يسير التجديد الحضاري بحكمة وأناة حينا، وبتسرع حينا آخر، ويميل إلى اتجاه أو آخر، ويقلد ويجرب ويعدل… ويعقد المعاهدات والاتفاقيات، ويحاول إنشاء حضارة جديدة، لكن من غير تخطيط موحد واضح المعالم لتشكيل الحضارة الإسلامية المقبلة.

والإسلام يقف الآن هو وحضارته موقفا سبق أن وقفه في تاريخه أكثر من مرة: في العصر العباسي، لما وقف الإسلام في مواجهة حضارة الأمم والأديان السابقة. وفي القرن التاسع عشر عندما وقف أمام فكر أوروبا وحضارتها.

وقد استطاع في الحالين أن يخرج بحضارته المتكاملة، بعلوم الدين والعلوم العقلية والعملية وكل مظاهر التحضر.

وهو يقف اليوم أمام الحضارة الغربية المعاصرة، بكل علومها وتياراتها الفلسفية ونظمها الاجتماعية والسياسية، وبكل منجزات التطبيقات العلمية في الصناعة، وصناعة أدوات الحياة ورفاهيتها وصناعة أدوات القوة والفتك.

ومع أن بلاد الإسلام قد استقلت وتحررت فإنها، لأسباب تاريخية معروفة ولأسباب جدت مع امتلاك بلاد الإسلام لمصادر الطاقة والمواد الخام والنقط الاستراتيجية، لا تزال هدف مطامع الدول الغربية، خصوصا ذات الأيديولوجيات المتعارضة المتنافسة.

ونظرا لسهولة الاتصال بين الأمم، بحيث يستطيع صاحب حضارة أن يخاطب من غرفته أتباع الحضارات الأخرى، وأيضا نظرا لسهولة الانتقال بين البلاد والاختلاط بين الشعوب، فإن تيارات الفكر والحضارة تتلاقي، وكل التيارات والمطامع تتلاقي في العالم الإسلامي، بل هي تهاجمه بتخطيط. منظم، وقد أثرت، وتؤثر فيه، أبلغ تأثيرز

وحضارة البلاد الإسلامية الحديثة في النصف الثاني من هذا القرن حديثه العهد، وهي رغم إنجازات لا شك فيها ورغم التعاون فيها بينها والاستعانة بغيرها، لا تزال في أول الطريق. ويلاحظ الإنسان كثيرا من التناقضات التي تنذر بأخطار، من انقسام في الوجهة وتضارب في النظم ومجاراة الغير في مفهومات حضارته ووسائلها، كأن بلاد الإسلام لم يكن لها في يوم من الأيام حضارة رائعة ولا نظام حياة رائع أيضا يمكنها أن تبني عليه.

إن كاتب هذا البحث أبعد ما يكون عن الأسلوب الوعظى أو الخطابي، وإنما يجب أن يقرر وقائع التاريخ وقوانين نشأة الحضارات وبقائها وزوالها.

وقبل أن نبين كيف يكون الطريق إلى حضارة إسلامية مقبلة يجب أن نعرف كيف نشأت حضارة الإسلام وازدهرت وكيف ضعفت أو فسدت.

وإذا كان بعض فلاسفة الحضارة كالفيلسوف المؤرخ العربي ابن خلدون والفيلسوف المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي يتكلمون عما يشبه الحتمية في سير الحضارة من النشأة إلى الازدهار والاكتمال، إلى الانحدار، شان الكائنات الحية وحياتها في عمرها، فإنه مع الاحترام لمثل هذا التصور الذي يؤيده التاريخ تأييدا ما. يمكن القول إن الحضارة لا تنشا إلا في ضوء فكرة ومؤمن بها ممثل أعلى سليم أمامه، وهي تزدهر أيضا ما دامت قائمة على هذه الأسس، فإذا دب الفساد في تصور الفكرة أو في المؤمن بها وتشوش مثله الأعلى، فإنه لا بد أن تنحل الحضارة، لأنه لا دولة ولا حضارة ولا نظام سياسية للحياة يمكن أن يستمر إلا إذا ظل مستندا إلى الأساس السليم الذي قام عليه.

وحضارة الإسلام قامت على الإسلام والمؤمنين به والمثل الأعلى الذي كان يحدوهم، فلما فسد الإنسان المسلم في نفسه فسدت سياسته ودب الفساد في حضارته.

وقد تحدث القرآن عن القانون الذي يحكم حياة البشر على هذه الأرض، وهو قوله تعالى مخاطبا آدم ومن معه.

(فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فغن له معيشة ضنكا ونحضره يوم القيامة أعمى) [س 20/ طه/ 123- 124].

وكثيرا ما يتعرض القرآن لأسباب تغير الحضارة، خصوصا الإعراض عن قوانين سياسية الحياة التي بينها الله، وهي مبادئ الحق والعدل والخير التي وضعها الله، ثم الظلم والترف وضروب الانحراف والفساد الذي ينخر في جسم الأمة وحضارتها.

ولكل شيء في نظام الخليقة عمره المقسوم أو هو له “أجل مسمى”، كما يقول القرآن، إلا الحق فإنه أزلي أبدي، فالله هو الحق، وقوله وأمره حق، والعلم والهدي الذي جاء من عنده حق.

وحضارة الإسلام قامت من أول أمرها وازدهرت على الحقن وقد تعرض أهلها، وتعرضت مظاهرها، لعوامل التغير التاريخي، وأسباب ذلك معروفة.

لكن جوهر حضارة الإسلام موجودة في المسلمين، وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وشعوب الإسلام لا تزال على حال جيدة من السلام من شتى الوجوه، والإمكانيات لإنشاء حضارة جديدة متوفرة لديهم، والفكرة الإسلامية واضحة في عقولهم، ومواهبهم لا تزال سليمة تنتظر من يوجهها.

وتجربتهم الحضارية الماضية، بخيرها وشرها، ماثلة أمامهم، والتجربة الحضارية الأوروبية أمام أعينهم بخيرها وشرها أيضا، ولا بد لهم من الاستمرار في دورهم الحضاري.

وكما أنهم أكثر من مرة وقفوا هذا الموقف وخرجوا بحضارتهم الرائعة، فما عليهم الآن إلا أن يقبلوا على العمل بقوة وشجاعة وبتخطيط مشترك في أسسه، محكم في تنفيذه وبحكمة وكلمة مجتمعة، مع البعد عن التقليد الذي يدل على الخمول في الفكر والعمل.

وإن إنشاء الحضارة ليس سهلا، لانه تكوين الإنسان الفرد المبدع من جهة، والإنسان كامة تتقدم بمجموعها من جهة أخرى.

والمسلمون لما أنشأوا حضارتهم التاريخية قضوا في ذلك أكثر من قرن ونصفن وعليهم اليوم أن يسيروا في طريق التحضر مع قليل من الاعتزاز بالمفاخر الماضية أو بالإنجازات الحاضرة وكثيرة من العمل المنظم ومن الهمة والأناة، لأن التسرع أدى في بعض الميادين التحضر الحديث إلى التأخرز

وأعظم خطر يهدد سيرهم الحضاري هو أخذهم بمظاهر التقدم المادي وإهمال التقدم الإنساني المعنوي، أو تقليديهم الغرب في مظاهر عادته التي تتنافى مع معاييرهم أو اتجاههم إلى الترف.

فلا حضارة يمكن أن تبقى من غير روحانية الإنسان التي تتمثل في الإيمان أو من غير العلم الرفيع والفن الإنساني الرفيع والأخلاق والآداب الاجتماعية السليمة وقواعد المعاملات العادلة، فهذه كلها عناصر ثابتة في كل حضارة قادرة على البقاءن وهي من معالم حضارة الإسلام.

ولقد كان الترف، كما لاحظ فلاسفة الحضارة، ومنهم ابن خلدون، من أكبر الأدواء التي تصيب الأمم.

ويلاحظ العلماء وفلاسفة الحضارة الأوروبية أنها، بسبب اعتمادها على الآلة وعلى التكنولوجيا، وإهمالها للإنسان، مهددة بالأخطار، وهم يلاحظون أيضا أن المسلمين في تطورهم الحضاري الحديث يأخذون بظواهر حضارة الغرب، ويهملون روح حضارتهم الخاصة، فتكون النتيجة أنهم سيتحضرون تحضرا سطحيا أو ستنتقل إليهم حضارة الغرب بجوها وروحها التي هي موضع النقد بل الاستنكار.

لقد استطاع الإسلام بحضارته أن يقود العالم كله قورنا كثيرة، بفضل سلامة الروح والجوهر في الفرد والمجتمع، واليوم لا بد من الإصلاح على جميع المستويات بشجاعة وإخلاص.

وأهم ما في الأمر تكوين وتربية نموذج الفرد المسلم ذي الروح الإسلامية المستنيرة بأنوار الفكر والمعرفة والثقافة المتكاملة، بحيث يكون رجل الدين المتخصص فيه مجال المعرفة ويكون رجل الدنيا المشتغل بالفنون اللازمة للحضارة متمكنا في العلم بأصول الدين. ولقد كان هذا هو شأن كبار علماء الإسلام المشتغلين بالعلوم الشرعية وكبار العلماء المشتغلين بالعلوم الدنيوية.

وهذا النموذج المتكامل الذي تتسع له الطاقة الحضارية الإسلامية يجب أن يكون هدف نظام التربية الإسلامية.

لقد كان المسلمون بحضارتهم التاريخية شاهدين على إمكانيات الإسلام في مجال تحضير الإنسانية، فليدركوا أن هذا هو الذي يريده الله منهم بخطابه الذي تقدم ذكره، ويجب أن نذكره في ختام هذا البحث:

(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [س 2م البقرة/ 143].

إن الله الذي هو “على كل شيء شهيد” والذي جعل رسوله شهيدا على الأمة التي اختارها لخاتمة رسالاته يريد من الأمة الإسلامية أن تكون شهيدا على الأمم بالحضارة التي تنشئها باسم الله وفيها تتحقق المبادئ والقيم التي جعلها الله أسسا لعمران الدنيا.

وإذا كانت حضارة الإسلام قد قامت، ولا تزال لها قوتها في الإنسان المسلم، ولا تزال لها حيويتها على مر القرون، فالمأمول أن يكون مطلع القرن الخامس عشر بداية نهضة حضارية مطبوعة بطابع الإسلام الخالد:

(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهروه على الدين كله، ولو كره المشركون). [س 61 /الصف/ 8- 9].

* * *

لقد تكلمنا عن الحضارة بمعناها الروحي والمعنوي – الإنساني، لكن الحق والخير، في هذه الدنيا التي يسودها قانون الصراع لا يمكن أن ينتصرا إلا بقوة تؤيدهما، ولذلك أمر الله المسلمين بالجهاد بأن يعدوا لأنفسهم ما يستطيعون من قوة للدفاع عن أنفسهم وعن رسالتهم.

وهذا يتطلب منهم أن يعتدوا بالعلم وتطبيقاته وصنع وسائل القوة التي يستعملونها في تأييد الحق ورفع راية العدل، كما فعلوا دائما.

والله ولي التوفيق….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر