أبحاث

في التفسير الإسلامي للتاريخ

العدد الافتتاحي

     يبدو أن نشوء الحضارات ونموّها من جهة, وتدهورها وسقوطها من جهة أخرى, يرتبطان ارتباطاً جدلياً بمسألة ( الصراع ) وما يرافقه من ( حركة ) و ( تناقض ) أو ( توازن ). وسيكون هذا البحث محاولة لتتبع أبعاد ( الصراع ) الحضاري كما يطرحها القرآن الكريم, مقارناً ببعض نظريات الوضعية في تفسير التاريخ.

     إن أهم المعطيات الهيغلية تتمثل في ذلك التأكيد الدائم على أن الحركة الحضارية إنما تحقق مسيرتها صوب الأحسن والأكمل عن طريق الصراع المستمر بين النقائض في عالم الأفكار, ذلك الصراع الذي يتقابل فيه النقيضان لكي ما يلبثا أن يسقطا عنهما كل سيئاتهما وسلبياتهما ويلتقيان – من ثم – في موحّد يجمع خير ما فيهما . . ثم ما يلبث هذا الموحّد بدوره أن يصطرع مع نقيضه لخلق موحد جديد يؤول إلى ( تعبير ) ارقى عن فكر العالم, وإلى مزيد من الاقتراب صوب المرحلة التي يتجلى فيها العقل الكليّ في حضارة بشرية لا تعدو أن تكون مرآة نقية تعكس بهندسة كاملة وأمانة لا ريب فيها أبعاد ومعطيات ذلك العقل الكلي الذي – بأمرٍ منه – نشب الصراع بين النقائض وقاد, بإيجابية لا تعرف تردداً ولا رجوعاً إلى الوراء, صوب المثل الحضاري الأعلى.

     وجاء روّاد التفسير المادي ( ماركس وانكلز ) لكي يأخذوا, عن هيغل نظريته في صراع النقائض كأساس للحركة الحضارية, وليجرّدوه بعد من كل حسنة . . قالوا انه ( مثالي ) يتشبث بالمواقف التي لا يقرها العلم ولا المنطق التجريبي, وان كتاباته تتميز – لذلك – بكثير من التعقيد والغموض الذي لا طائل وراءه . . وانه لم يدرك الساحة الحقيقية لاصطراع النقائض فعزاها إلى عالم الأفكار, والحال ان مسرحها الحقيقي هو المادة ووسائل الانتاج بالذات تلك التي تخلق ظروفها الانتاجية فصيغها الحضارية . . وسخر ماركس منه عندما اتهمه بخلقه رجلاً يمشي على رأسه . . إلا أن التفسير المادي ما لبث أن تعرّض لنقد أشد مرارة لأنه قصر نطاق الحركة ( الديالكتيكية ) على ساحة التبدل في وسائل الانتاج, وكان بامكانهم أن يقولوا بان ماركس, وقد سعى إلى تعديل وضعية الرجل الهيغلي الذي يمشي على رأسه, قد أخطأ المحاولة وجعل الرجل المسكين يمشي على بطنه !! على معدته !!

     وعندما جاء ( توينبي ) طرح نظريته في ( التحدي والاستجابه ) مفسِّراً بها حركة الحضارات قياماً ونمواً, وتدهوراً, وسقوطاً وانحلالاً. فحيثما كان التحدي البيئي أو البشري مناسباً في حجمه لمقدرة الجماعة البشرية, وحيثما كانت الجماعة في وضع تاريخي يمكنها من الرد على التحدي, حيثما كان للحضارة أن تتقدم وللحركة أن تواصل مساعيها لإيصال المعطيات الحضارية إلى قمة منحناها. وبالعكس, تؤول الحركة إلى التعثر, والحضارة إلى الانتكاس حيثما جاء ( التحدي ) دون, أو أعلى من الحد المناسب, أو عجزت الجماعة عن الاستجابة له والردّ عليه بقدرٍ كاف من القوة والفاعلية.

     إن هيغل كما يتبين لنا يقصر الصراع على نطاق الأفكار ويردّه إلى مشيئة العقل الكلي الذي يعمل من خلال العالم نفسه, لا من موقع ( فوقي ) كما قد يتوهم البعض فيقربه – خطأ – من التصوّر الديني, وهو بهذا يجرّد الانسان والجماعة البشرية من اختيارها الحر, ودورها اللا إرادي في حركة التاريخ. والمادّيون يفعلون الشئ نفسه, ولكن على مستوى المادة التي يجد الانسان والجماعة البشرية أنفسهم حيالها غير قادرين على تغيير منطقها الجدلي الصارم الذي يمضي إلى غايته دونما أي اختيار أو تدخل بشري في طبيعة علاقاته الديالكتيكية . . أما توينبي فيقترب بنا خطوات واسعة صوب الرؤية الصحيحة والنظرة الأكثر انفتاحاً عندما يضع على ساحة الصراع والحركة طرفي المسألة : ( البيئة ) و ( الانسان والجماعة ), ويعطي للجانب الآخر اختياره وحريته في تقرير المصير.

     إلا أن أياً من رواد هذه المذاهب التفسيرية الثلاث ( المثالية , المادية, الحضارية ) لم يأتوا بجديد, في أهم  جوانب معطياتهم على الاطلاق, وهو التأكيد على أن محور الفاعلية الحضارية, وأسّ الأسس في الحركة التاريخية هو الصراع أو الجدل ( الديالكتيك ) أو تحاور النقائض المتقابلة . . . وليس ثمة داع للاشارة إلى تكرار ورود هذه المسألة على السنة كثير من مفكري القرون القديمة والوسطى . . . فالذي يعنينا هنا هو الموقف الاسلامي ازاء ( الصراع ) مستمداً من كتاب الله.

     بمجرد أن نرجع إلى واقعة خلق آدم, سنلتقي بهذا المقطع ( . . . وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم, فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين. وقلنا : يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين  فازلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه, وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. ) . . الصراع في أول لحظة . . ذلك هو جوهر الحياة البشرية وتميزها عن سائر الحيوان الأدنى أو الأرقى . .

     ولكن أي صراع هذا الذي يطرحه القرآن ؟ وما هي مساحاته وأبعاده ؟

     إذ تتبعنا المعطيات القرآنية حول هذه المسألة وجدنا كتاب الله يمد ( الصراع ) إلى أبعد الأمداء, طولاً وعرضاً وعمقاً, بالاتجاهين العمودي والأفقي, ويخصص له أوسع المساحات . . أنه ما يلبث, في آيات أخرى, أن يغادر به, محوره الأساسي : المتقابل المتضادّ بين آدم والشيطان إلى آفاق أخرى تعطيه صورته الكاملة والمقْنِمة في الوقت نفسه . . إنه على مستوى الكون والطبيعة متوغل في صميم تركيبهما, وعلى مستوى الانسان والبشرية قائم في مدى علاقاتهما جميعاً.

     في الكون والطبيعة هنالك التقابل الشامل بين السالب والموجب, والتركيب الزوجي الذي يتجاوز عوالم الحياة على اختلاف درجاتها إلى صميم المادة . . وهو في كل الأحوال والأوضاع مصدر التوليد والتكاثر والاتساع والحركة الايجابية الهادفة التي تؤول إلى ديمومة الاتساع الكوني الذي يتم بارادة الله من خلال النواميس الطبيعية الدقيقة المعجزة القائمة على هذا التحاور والتقابل بين ( الأزواج ) سلباً وايجاباً, والذي يجئ مصداقاً لما أعلن عنه القرآن الكريم (والسماء بنيناها بأيدٍ وانا لموسعون )(1) . . نقرأ في كتاب الله :

     ( أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ؟ )(2) .

     ( وأنزلنا من السماء ماء فانبتنا فيها من كل زوج كريم )(3) .

     ( والقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كل زوج بهيج )(4) .

     ( ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون )(5) .

     ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون )(6) .

     ( والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون )(7) .

     ( وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى )(8) .

     وآيات أخرى كثيرة تشير إلى مدى ارتباط هذا التركيب الثنائي الفعّال في بنية الكون والطبيعة. واننا لنلتقي, وفي الآيات السابقة, بعبارات تثير التأمل العميق في هذه المسألة ( ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) . .  ومهما كشفت علوم الطبيعة والرياضيات من أسرار هذه (الزوجية) في قلب الذرة, فانها لم ولن تضع يدها بالكليَّة على ( مطلق ) خفايا الكون, وسوف تظل جوانب هائلة ومساحات شاسعة بحاجة إلى مزيد من الجهود العلمية, التي يمكن أن تبذل على مدى قرون وقرون للكشف عن السر الكامل لهذا التركيب الثنائي ودوره في ( تحريك ) خلق الله !!

***

      على مستوى الانسان والبشرية يأخذ الصراع أو التناقض, أو التقابل الثنائي الفعّال, أكثر من شكل, ويمتد إلى أكثر من اتجاه . . منذ اللحظة الأولى لخلق آدم يجابه الانسان بقوة الشر المقابلة متمثلة بالشيطان, وبكل ما يملك من أساليب يدهم بها الانسان من الخارج أو يبرز له من الاعماق, من صميم الذات . . . يجيئه من مسارب العاطفة والوجدان والنفس, أو يندفع إليه من منافذ الحس, أو يستصرخ فيه شهوات الجسد, أو يتقدم إليه محمّلاً ببهرج الدنيا وزينتها . . يجنّد لقتاله والمروق به عن ساحة الخير, كل القوى المادية والمعنوية وكل الذين يختارون – باراداتهم – أن ينتموا إليه انساً كانوا شاطيناً أم جنا . . ورغم ان أسلحة الشيطان كثيرة, متنوعة, عاتية, إلاّ ان الانسان قد وهب ازاءها قوى معادية وإمكانات مكافئة تعطي للصراع الدائم بين الطرفين مدى واسعاً, ممتداً, بحيث أن النصر والغلبة لن تجئ بسرعة, سهلة, كالضربة الخاطفة لأي منهما . . إن هذه ( المقابلة ) تمثل تحدياً واستفزازاً لابد منهما (لتحريك) الانسان فرداً وجماعة صوب الاحسن والأمثل, وتصقل طاقاتهما لكي يكونا أكثر مقدرة على المقاومة والصراع وبالتالي أقدر على مواصلة الصعود في الطريق الارضي بالسماء بدءاً ومنتهى.

    ان الصراع بين الشيطان والانسان, شامل واسع معقد متشابك, انه تقابل بين الخير والشر على أوسع الجبهات, تقابل لابد منه إذا ما أريد للحياة البشرية أن تتجاوز الكسل إلى النشاط, والفتور إلى التمخض, والسكون إلى الحركة. إنه ابتلاء فعّال لن يأخذ تاريخ البشرية – بدونه – شكله الايجابي ولا يمضي إلى غاياته المرسومة منذ هبوط آدم – ولا نقول سقوطه الكلمة التي لم ترد أبداً في أي مقطع قرآني يتحدث عن آدم – إلى يوم الحساب !! ( كل نفس ذائقة الموت, ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )(9) .

     ( وكذلك فتنّــا بعضهم ببعض )(10) .

     ( قال : فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلّــهم السامــريّ )(11) .

     ( ولقد فتنّـــا الذين من قبلهم فليعلمن الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )(12) .

     ( ولقد فتنّـــا قبلهم فرعون وجاءهم رسول كريم )(13) .

     ( وظنّ داود انما فتنّــاه, فاستغفر ربه وخرَّ راكعاً وأناب )(14) .

     ( ولكنكم فتّنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني )(15) .

     ( ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)(16).

     ( أحسِب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ؟ ) (17) .

     ( واعلموا انما أموالكم وأولادكم فتنة وان الله عنده أجر عظيم )(18) .

     ( وان ادري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين )(19) .

     ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض . . )(20) .

     ويبقى نداء الله الدائم للبشرية ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ) (21) محوراً كبيراً يدور عليه الصراع, والحركة, والتقدم إلى أمام أو الرجوع إلى وراء . . ورغم ان الله سبحانه وهب بني آدم قدرات العقل والروح والارادة والعمل, وعلمهم الاسماء كلها, إلا أنه – سبحانه – لم يتركهم وحدهم في تجربة صراعهم في الأرض, وظل يمدّهم, حيناً بعد حين, بتعاليم السماء وشرائعها العادلة وصراتها المستقيم الذي يحيل حركة البشرية في العالم إلى حركة متقدمة أبداً في خط متوازن صاعد لا رجوع فيها إلى وراء . . .

     ( قال : اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو, فاما ياتينكم مني هدى, فمن اتبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري. فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) (22).

     ( الله وليُّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يُخرجونهم من النور إلى الظلمات, أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (23) .

     ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق )(24) .

     وأشد ما يرفضهُ القرآن في دعوة البشرية للافادة من هذا الصراع وتحويله إلى حركة متقدمة صاعدة, هي نزوع بعض الزعامات والجماعات إلى الوراء, ومواقفهم الرجعية التي ترفض أي دعوة تسعى لكي يحتلوا مواقع في الأمام.

     ( أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ؟ ) (25) .

     ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا, أوَلو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ؟ ) (26) .

     ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا ) (27) .

     ( قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ ) (28) .

     ( الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالمعروف, وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إثرهم والأغلال التي كانت عليهم, فالذين آمنوا به وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) (29) .

     ( وقالوا : وجدنا آبائنا كذلك يفعلون ) (30) .

     ( إن هذا إلا خلق الأولين ) (31) .

     ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا, أوَلو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ) (32) .

     ( ومنهم الفوا آباءهم ضالين. فهم على آثارهم يهرعون. ولقد ضل أكثرَ الأولين ) (33) .

     ( بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قل : أو لو جئتكم باهدى مما وجدتم عليه آباءكم, قالوا : إنا بما ارسلتم به كافرون ) (34) .

***

     والصراع المتنوع المتقابل قائم أيضاً في صميم العلاقات البشرية, تستقطبه دائماً عبر مجراه الطويل كلمتا الايمان والكفر أو الحق والباطل, وترفده جداول وأنهار متشابكة تجئ من هذا الصوب أو ذاك . . ومن خلال هذا الصراع الطويل تتحرك ( مياه ) التاريخ فلا تركد ولا تسكن, وتحفظ بهذا قدرتها على الجودة والنقاء.

     إن الارادة الحرّة, والاختيار المفتوح اللذين منحا للانسان فرداً وجماعة, للانتماء إلى هذا المذهب أو ذاك, يقودان – بالضروره – إلى عدم توّحد البشرية وتحوّلها إلى معسكر متشابه واحد أو ارقام في جداول رياضية صمّاء . . إن قيمة الحياة الدنيا وصيرورتها الحضارية الدائمة تكمن في هذا الصراع القائم بين كتل البشرية المختلفة المتضادة الموزّعة . . وان حكمة الله شاءت, حق بالنسبة للكتلة أو المعسكر الواحد, أن تشهد أنقساماً وتغيّراً وتنوّعاً وصراعاً . . هذه هي طبيعة العلاقات البشرية ما دامت تمارس حريتها في الأخذ والعطاء, وتلك هي إرادة الله المسبقة في أن تكون حياة الناس مغايرة نوعياً حياة الخلائق الأخرى الأعلى مرتبة أو الأدنى سلّـــماً.

     إن القرآن الكريم يحدثنا عن هذا التغاير الذي يقوم عليه الصراع البشري في أكثر من صورة ووفق أشد الصيغ واقعية ووضوحاً.

     ( ولو شاء الله لجعلهم أُمة واحدة, ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولىّ ولا نصير ) (35) .

     ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً, ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة, ولكن ليبلوكم فيما آتاكم, فاستبقوا الخيرات ) (36) .

     ( ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا, ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) (37) .

     ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة, ولا يزالون مختلفين, إلا من رحم ربك, ولذلك خلقهم !! ) (38) .

     ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون ) (39) .

     ( لكل أمة جعلنا نسكاً هم ناسكوه, فلا ينزعنك في الأمر, وادع إلى ربك انك لعلى هدى مستقيم ) (40) .

     ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(41) .

     ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه, وما اختلفوا فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم, فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق, بإذنه, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(24) .

     ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض . . . ولو شاء الله لما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات, ولكن اختلفوا, فمنهم من آمن ومنهم من كفر, ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) (43) .

     أكثر من هذا, ان القرآن, انطلاقاً من موقفه الواقعي في التفسير, يبين في أكثر من موضع أن ( الأكثريات ) البشرية تقف دائماً بمواجهة الحق, الذي لا تنتمي اليه إلاّ القلة الطليعية الرائدة, نظراً لما يتطلبه هذا الانتماء من جهد وتضحية وعطاء دائم لا يتقبلها الكثيرون.

     ( بل جاءهم بالحق, وأكثرهم للحق كارهون ) (44) .

     ( بل جئناكم بالحق, ولكن أكثرهم للحق كارهون ) (45) .

     إلا أن مصادر القوة والطاقة في صراع الحق والباطل لا تكمن – كما يعلمنا القرآن – في التباين العددي, وهو تباين كمي لا يقاس بالتباين النوعي الحاسم بين معسكري الايمان والكفر (ان يكن منكم عشرون عشرون صابرون يغلبوا مائتين وان يكن منكم مائة يغلبوا الفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) (46) .

     وكثيراً ما يكون اختلاف الألسنة والألوان – الذي هو بحد ذاته صيغة من صيغ الابداع الالهي المعجز – والذي يعقبه تغاير الثقافات والقوميات – أحد العوامل الكبيرة التي تكمن وراء الصراع البشري المحتوم, ومن ثم يذكرنا القرآن به :

     ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون . . ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم, ان في ذلك لآيات للعالمين ) (47) .

     أما عن الهدف من وراء هذا ( التغاير ) البشري الذي يعقب تناقضاً فصراعاً فتحركاً . . فان القرآن يجيبنا على كل سؤال يمكن أن يبرز في هذا المجال :

     ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض, ولكن الله ذو فضل على العالمين)(48).

     ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً, ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (49) . تلك هي القاعدة الأساسية, ان هذا التدافع والصراع المركوز في جبلّة بني آدم يقود إلى ( تحريك ) الحياة نحو الأحسن, وتخطّي مواقع الركود والسكون والفساد, ومنح القدرة للقوى الانسانية الخيرة ان تشدّ عزائمها وتصقل قدراتها المقاومة الصاعدة في غمرة التحديات المتعاقبة التي يطرحها الصراع, وأن تسعى لتحقيق المجتمع المؤمن الذي ينفّذ أمر الله في العالم وفق القاعدة الايمانية العريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) , على امتداد هذه القاعدة.

     وثمّة آيات أخرى تبين لنا كيف يكون الصراع ( ميداناً ) حيوياً للكشف عن ( مواقف ) الجماعة البشرية, والتعرف عن أصالة المؤمنين . . ففي جحيم المعارك, وعلى وجهها المضئ, يتضح الذهب من التراب, ويتميز الطيب من الخبيث, وتتحول ( التجربة ) إلى منخال كبير, يُسقط وهو يتحرك يميناً وشمالاً كل الضعفة والمنافقين والعاجزين والمترددين في مواصلة الحركة صوب المصير المرسوم :

     ( ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) (50) .

     ( ليميز الله الخبيث من الطيب, ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) (51) .

     ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ) (52) .

     ( أحسِبَ الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ؟ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (53) .

     ( ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) (54) .

     وفي آية أخرى يحدثنا القرآن الكريم عن رؤية الانسان القاصرة التي تعجز عن النفاذ إلى ما وراء الأحداث, والتي لن تقدر مهما أوتيت من طاقة, على الامتداد الزمني لتقدير عواقب الأمور . . وما أكثر ما يتساءل الانسان عن الحكمة من التقاتل والقصد من سفك الدم البشري. وما أكثر ما تخيّل الفلاسفة والمفكرون عالماً بشرياً لا يشهد قتالاً, ولا تسفك في ساحته دماء . . ولكن هيهات, ما دامت المسألة مرتبطة في جذورها بالوجود البشري المتغاير والمتنوع المتضاد المتصارع على الأرض, وما دام ( الصراع ) أمرٌ لا مفرَّ منه إذا ما أريد للحياة الانسانية أن تتحرك وتتقدم وتتجاوز مواقع السكون والركود والفساد ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (55) . وهكذا, دائماً, تجئ رؤية الله الشاملة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها لكي تتم رؤية الانسان وتنير لها الطريق . . ( فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) (56) .

     إلا أن القرآن, وهو يتحدث عن ( الصراع ) الناجم عن التغاير البشري في المذاهب والاجناس واللغات والبيئات الجغرافية, لا يقصر المسألة على التقاتل والتدافع, إنما يمدّها إلى مساحة أوسع, ويعطي للصراع البشري آفاقاً بعيدة المدى تبدأ باشهار السلاح وتمتد لكي تصل إلى الموقف الاكثر إيجابية والذي يجعل هذا التغاير البشري سبباً لعلاقات إنسانية متبادلة بين الأمم والأقوام والشعوب تسعى للتقارب والتعاون والتعارف, مع بقاء كل منها على مذهبه أو جنسه أو لونه أو لغته أو بيئته الجغرافية : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا, إن أكرمكم عند الله أتقاكم, إن الله عليم خبير ) (57) .

     وبينما تسعى معظم المذاهب التفسيرية والمعطيات الفكرية للوضعيين إلى تصوّر عالم لا صراع فيه ( الهيغلية في مرحلة تجلّي المتوّحد, والماركسية في مرحلة حكم البروليتاريا ) يسوده السلام والمحبة, فتتجاوز بهذا واقعيتها وعلميتها, وتغفل عن ( الأساس ) الدائم في تاريخ البشرية والموّلد الأبدي لحركته الحضارية, وتتناقض تناقضاً أساسياً مع مذاهبها – هي نفسها – التي بدأت بالحركة وآلت إلى سكون غير واقع ولا ممكن . . بينما يحدث هذا إذا بالقرآن ينطلق من ( موقف ) واقعي – إذا صح التعبير – لأنه يتحدث عن تجارب واقعة وينبثق عن رؤية تجمع الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل . . فيؤكد مسألة ( الصراع )  من جهة, ويقرّ من جهة أخرى التمايز الأبدي للشعوب والأقوام والجماعات, ويصعّد من جهة ثالثة أساليب الصراع حتى ليصل بها إلى مرحلة التعامل الانساني الكامل القائم على التعارف والتعاون, دون أن يتجاوز بهذا واقعيته أبداً . .

***

     ما هو دور الجماعة ( المؤمنة ) في ميدان الصراع الواسع الدائم هذا؟ إن القرآن يبين لنا أولاً, أن هذه الجماعة واحدة, سواء عملت مع نوح أم انتمت إلى دين موسى أم آمنت بنداءات المسيح, أم استجابت لدعوة الرسول ( عليهم السلام ) . . واحدة في تصورها وفي مسيرتها وفي أهدافها وفي مصيرها الذي تكدح لتحقيقه على مدى التاريخ :

     ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (58) .

     ( وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (59) .

     وفي عشرات المواقع يحدثنا القرآن عن هذه ( الوحدة ) التي تربط بين الأنبياء وبين أبنائهم على مدار التاريخ, ما داموا جميعاً استجابوا لنداء الله وآمنوا بوحدانيته المطلقة التي يتمخض عنها بالضرورة التلقي عنه وحده والتوجه إليه وحده. هذه الجماعة أو الأمة التي بلغت أقصى درجات نضجها وفاعليتها وامتدادها على يد الرسول ( ص ) حيث أعلن القرآن عن توقف الوحي نهائياً, وعن إلقاء المسؤولية كاملة على الأمة الاسلامية وهي تعمل وتكافح لتحريك العالم صوب الأهداف التي رسمها القرآن, كتاب الله الأخير, المحفوظ.

     إن الاسلام يحدثنا, من خلال كتاب الله وسنة رسوله, أن صراع المسلم في العالم ( فرداً أو جماعة ) يتخذ اتجاهين أحدهما باطني ذاتي عمودي سماه الرسول : ( الجهاد الأكبر ) لما يتطلبه من مصاعب ويستلزمه من قدرة على المقاومة والمراقبة والحذر والتجرّد وهو يهدف إلى مواجهة الانسان لذاته وتغييرها تغييراً حركياً مستمراً من أجل أن يسقط عنها كل النزعات والشهوات والممارسات السلبية التي من شأنها أن تصدّها عن التوّحد الكامل والاندماج الشامل في مسيرة الفكرة التي تتطلب – عبر ديمومتها الحركية – من المنتمين إليها شروطاً نفسية وأخلاقية وذهنية لابد من توفرها إذا ما أريد للحركة أن تصل إلى أهدافها بأشد الأساليب نقاء وتركيزاً وتوّحداً ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه, إن الله لغني عن العالمين ) (60) .

     والمسلم يجد نفسه إذن, ازاء تجربة صراع ذاتي دائم لمجابهة قوى الشر والسلب في نفسه والتفوق عليها, للاقتراب أكثر من جوهر الدعوة التي ينتمي اليها, والاندماج فيه, بعد اطراح كل العوائق التي تنبثق في أعماق تكوينه الذاتي, بما تطرحه قوى البيئة والوراثة من مؤثرات. وبدون هذا الصراع الارادي الباطني من أجل تغيير الذات, فانه لا ينتظر أبداً حدوث أي تغيير أساسي على مستوى الصراع الخارجي في العالم. ان قاعدة الحركة نحو الأحسن والاكمل عقائدياً في صراعنا الخارجي مع القوى البشرية المضادة هو أن نسعى لإحداث هذا التغيير الباطني ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (61) . وفي آية أخرى نلتقي بالصيغة المعاكسة ( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيِّيروا ما بأنفسهم ) (62) . والقاعدة القرآنية في كلتا الحالتين هي ان أي تغيّر نوعي في الخارج لا يتحقق إلا بعد حدوث التغير الباطني في الذات الانسانية, سلباً وإيجاباً.

     أما صراع الجماعة الاسلامية على مستوى العالم, فيصطلح عليه القرآن والسنة باسم (الجهاد ). وهو يتضمن كل أشكال ( الصراع ) الخارجي على الاطلاق : مذهبياً, سياسياً, عسكرياً, أخلاقياً, اقتصادياً وحضارياً, وهو – بهذا – يحتل مساحة للحركة أوسع بكثير من تلك التي تحتلها صراعات التفاسير المذهبية, سيما المثالية والمادية, كما انه يتضمن ديمومة زمنية يعبر عنها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ) في وقت ترى فيه بعض مذاهب التفسير الوضعية انه سيجئ اليوم الذي يكف فيه الصراع على مستوى العالم, وهو أمرٌ يتناقض – كما سبق وان أكدنا – مع طبيعة معطياتهم ( الحركية ) من جهة, ومع صميم العلاقات البشرية من جهة أخرى.

     إن القرآن الكريم يبين لنا كيف أن هذا الجهاد هو صراع دائم بين معسكرين كبيرين كل منهما ينتمي إلى فكرة ويلتزم موقفاً ويعمل في سبيل . . . ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله, والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ) ويسم هؤلاء بأنهم يعملون تحت لواء الشيطان, عدو بني آدم, ومصدر الصراع الرئيسي في العالم, إلاّ أن كيده يبدو ضعيفاً غير قادر على الصمود ازاء أية جماعة مؤمنة تؤثر الجهاد على الاستسلام, والحركة على القعود, لأنها تنتمي إلى الله الذي يملك كل شئ ويقدر كل شئ, والذي ( يدافع عن الذين آمنوا ) (63) . بينما ينتمي أولياء الشيطان إلى قوة هي في الأساس جزء ضئيل محسور من خلق الله ( فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) (64) . ومن ثم يجئ النصر النهائي دوماً لصالح المؤمنين المجاهدين الذين يتحركون أبداً بأمر من الله ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) (65) . لمصارعة القوى المضادة والتغلب عليها :

     ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. انهم لهم المنصورون, وان جندنا لهم الغالبون ) (66) .

     ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ان الله قوي عزيز ) (67) .

     ( هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)(68).

     ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (69) .

     ( فهل ينتظرون ألاّ مِثل أيام الذين خلوا من قبلهم, قل : فانتظروا اني معكم من المنتظرين. ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا, كذلك حقاً علينا نُنجِ المؤمنين ) (70) .

     وسواء تم هذا النصر لمعسكر الإيمان في مراحل تاريخية محددة, كما حدث فعلاً لعديد من الأديان السماوية الكبرى, أم انه سيتم – ثانية – لحساب الاسلام, كحصيلة نهائية للموقف الديني, في يوم قريب أو بعيد . . فان جهاد المؤمنين ماضٍ في بقاع العالم, بكل وسيلة شريفة, وإلى يوم القيامة, وهو الذي حركهم ويحركهم, دوماً لتحقيق كلمة الله ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (71) .

     إن الجهاد يضع الأمة الاسلامية أمام مسؤوليتها الحركية الكبرى في العالم, ويمنحها فاعلية دائمة ازاء التجارب والمواقف البشرية, تتجاوز حدود الزمان والمكان, ويرفعها إلى موقع (الشهادة ) على الناس . .  ذلك الموقع ( الوسط ) المميز المتفرد, الذي لن ترتفع اليه إلا عندما تمارس جهادها الدائم على كل الجبهات, امراً بالمعروف ونهياً عن المنكر, وقتالاً بالكلمة وكفاحاً مسلحاً. ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) (72) .

***

     إن القرآن الكريم – بتأكيده العميق – على دور الصراع في تاريخ البشرية وفي حركتها (الصاعدة ) أو ( الراجعة ), يمدّ مساحة هذا الصراع إلى أبعد الآفاق, كما انه لا يجعل الحركة صدوراً عن صراع النقيضين ( كما أكد هيغل وماركس وغيرهما ) ويقصرها على هذه المساحة الضيقة, انما يمدّ جذورها إلى ( صراعات ) أخرى أشد تعقيداً وأكثر تنوعاً, كما انه يخرج بها عن نطاق الصراع أساساً, وذلك عندما تجئ بمثابة استجابة داخلية, مقرونة بعمل خارجي, لنداء من فوق . . ان حواراً كهذا بين القيم العليا والوجود السفلي هو الذي يحرّك – في أحيان كثيرة – أحداث التاريخ على خط صاعد. ان المثل الأعلى – كذلك الذي طرحه الأنبياء مثلاً – كان دائماً بمثابة هدف يتحرك اليه الذين يتخبطون تحت أو الذين يتقلبون في الظلمات, أو الذين يتعذبون شتى صنوف العذاب, وتمنعهم القوى العقائدية المضادة من تحقيق أهدافهم . . إن بحث الضائعين والحائرين والمعذبين عن النجاة, عن مثل أعلى, عن هدف يطمحون لبلوغه, هذا البحث الجاد كان في أحيان كثيرة ( المحرك ) الذي يسوق الافراد والجماعات إلى مصائرهم ويصنع تاريخهم. وإذن فان من الخطأ والتزييف أن نصدر حكماً على كل حركات التاريخ بأنها جاءت نتيجة لصراع النقيضين.

     إن ( الصراع ) نفسه – كما رأينا – يتخذ أشكالاً عديدة لا تقتصر على تقابل الضدين وتغلب أحدهما على الآخر في عالم الفكر أو المادة. إنه يبدو – أحياناً – ارادة ذاتية تسعى إلى التوحيد والائتمان الذاتي في وجدان الانسان ومع المحيط الخارجي, ويبدو أحياناً أخرى رغبة فعّالة في تحقيق تفاهم متبادل وتعارف وثيق وسلم عام بين الانسان والانسان, أو بينه وبين الوجود . . وهو يبدو أحياناً ثالثة – عملية استقطاب للقوى والطاقات, وتنظيم لها, وحماية لمقدراتها, من أجل أن تصبّ جميعاً في مجرى المبادئ الجديدة والدعوات الكبرى.

     وكل هذه الاشكال من الصراع لا نجد فيها تقابل نقيضين بقدر ما نجد محاولة للالتئام والتوحّد والاستقطاب والتجمع والانسجام. وبعد هذا – وخلاله أيضاً – لابد للحركات ان تجتاز صراعاً بين النقائض, لكنها نقائض على مستويات شتى : نفسية وفكرية وعقيدية ووجدانية وعرفية وثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية . . . إلى اخره ” بمعنى آخر إنها نقائض بشرية فيها كل ما في الانسان من مكونات روحية ونفسية ومادية . . . ومن التزييف والتجزئ لتاريخ الحركات, أن نقصر النقائض على جانب فحسب, ونحدّدها في اطار صارم لا يملك أيّة مرونة, كالجانب العقلي عند هيغل, أو المادي الاقتصادي عند ماركس وانكلز لأن هذين الجانبين – على أهميتهما وثقلهما – لا يغطيان كل مساحة الفاعلية الانسانية التي تنبثق عن رغبة ارادية شاملة في مصارعة كل ما يتعارض مع ارادتها ووجودها وأهدافها ومطامحها, روحياً كان أم مادياً.

    

      هذا إلى أن ( الصراع ) ليس دائماً قوة ايجابية تشدّ حركة التاريخ إلى الامام, إننا بمجرد تصورنا ذلك نغرق أنفسنا في نزعة مثالية, ونتجاوز ما يحدث فعلاً على أرض الواقع, حيث يتمخض الصراع في كثير من الأحيان عن ردّة عكسية إلى الوراء, وربما عن تفتت التجربة التاريخية وسقوطها في صراع غير متكافئ مع قوى تفوقها بكثير . . إنّ الحركة التاريخية نفسها لا تملك عقلاً كلياً واعياً بذاته يمكنها من مواصلة النضال الأبدي, صوب الاحسن والاكمل, كما يرى هيغل وماركس ورفاقهما, كل حسب تصوّره الخاص.

     إن الذي يملك زمام العقل والوعي والارادة عبر التاريخ هو الانسان وحده, وما دام الانسان حرّاً في اعتماد قدراته هذه فانه كثيراً ما يسئ الاختيار أو يحسنه ابتداء, ولكنه لا يحيطه بالضمانات الكافية, فيجئ ( الصراع ) لكي يكشف عن نقاط الضعف في التجربة البشرية, ويوجه اليها الضربة القاصمة التي قد تصدر – أحياناً – عن فئة غاية في البطش والقسوة واللاأخلاقية . . ويؤول الامر إلى ردّة تاريخية, رجعية, مهما كانت نتائجها البعيدة ومغازيها غير المنظورة إيجابية في شحذ الهمم وتعميق الوعي بالمصير, إلا انها – على أية حال – رجوعاً وليست تقدّماً.

الهوامـــــــش

(1)الذاريات 47.

(2)الشعراء 7.

(3)لقمان 10.

(4)ق 7.

(5)الذاريات 49.

(6)يس 36.

(7)الزخرف 12.

(8)طه 53.

(9)الانبياء 35.

(10)الأنعام 53.  

(11) طه 85.

(12) العنكبوت 3.

(13) الدخان 13.

(14) ص 24.

(15) الحديد 14.

(16) البروج 10.

(17) العنكبوت 2.

(18) الأنفال 28.

(19) الأنبياء 111.

(20) الحج 53.

(21) الاعراف 27.

(22) طه 123 – 124.

(23) البقرة 257.

(24) الانبياء 18.

(25) المائدة 50.

(26) المائدة 104.

(27) الاعراف 28.

(28) الاعراف 27.

(29) الاعراف 157.

(30) الشعراء 137.

(31) الشعراء 137.

(32) البقرة 170.

(33) الصافات 69 – 71.

(34) الزخرف 22 – 24.

(35) الشورى 8.

(36) المائدة 48.

(37) يونس 19.

(38) هود 119.

(39) النحل 93.

(40) الحج 67.

(41) يونس 99.

(42) البقرة 213.

(43) البقرة 253.

(44) المؤمنون 70.

(45) الزخرف 78.

(46) الانفال 65.

(47) الروم 20 – 22.

(48) البقرة 251.

(49) الحج 40 – 41.

(50) محمد 31.

(51) الانفال 37.

(52) التوبة 16.

(53) العنكبوت 2 – 3.

(54) محمد 4.

(55) البقرة 216.

(56) النساء 19.

(57) الحجرات 13.

(58) الانبياء 92.

(59) المؤمنون 52.

(60) العنكبوت 6.

(61) الرعد 11.

(62) الانفال 53.

(63) الحج 38.

(64) النساء 76.

(65) البقرة 193.

(66) الصافات 171 – 173.

(67) المجادلة 20.

(68) الصف 9.

(69) التوبة 32 – 33.

(70) يونس 102 – 103.

(71) يونس 21.

(72) البقرة 143.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر