أبحاث

نقد الشعر الحديث : القاعدة والمنهج والواقع الإسلامي

العدد 37

((شعر أوْ لا شعر)) مبدأ ترفعه الأطراف المتنازعة كلها حول حقيقة الشعر سلاحاً يحاول كل منها أن يسكت به الآخر، في خصام أزلي ما توقف ولن ينتهي.

ويقف الناقد العاقل ملتزماً الحذر في إصدار أحكامه على أي من الفريقين مادامت المعركة حامية بينهما، متريثاً حتى تهدأ حدة القتال، وينأى عنه أذى الأطراف المتنازعة، فيتقدم جريئاً برأيه غير عابيء بالنتائج.

أما الناقد الأقل تعقلاً فلا يأبه بمثل تلك العواقب الخطيرة التي قد يتساقط شررها على رأسه، فيقحم نفسه وسط المعمعة، محاولاً أن يفصل بين الفريقين ويحكم لكل منهما أو عليه من خلال الحقائق التي يفرضها ضميره العلمي، وأخشى أنني حتى في نقدي التنظيري هذا قد اخترت بسذاجة أن أكون من الفريق الأخير.

إن الموازين التي يمسك بها نقاد الشعر الحديث قد أسقطتها حدّة المعركة من أيديهم، ثم لم يجرؤوا على التقاطها من جديد ليعيدوا الفرقاء المتنازعين إلى توازنهم الموضوعي، وغدا النقد أشل عاجزاً عن توجيه أحكامه أو حتى ملاحظاته إلى أي من الفرقاء، ثم لم يلبث أن حل محل هذا النقد الحقيقي نقد مزيف سارع إلى ملء الفراغ الكبير الذي أوجده تراجع الأول، لقد حاول أن يماليء الأطراف على أنواعها، بتخلّيه عن القاعدة والموضوعية، حيناً، أو يماليء نفسه بأن يقنع أصحابه أنفسهم بأنهم نقاد حقيقيون حيناً آخر وهكذا تضيع القاعدة الموضوعية بين حذر النقد الحقيقي وجموح النقد المزيف.

ولكي يكون الناقد الحقيقي أكثر جرأة في ممارسة نقده تحت هذه الظروف القاسية، ومن ثم أكثر اطمئناناً إلى النتائج التي يتوصل إليها في هذا النقد، لا بد له من سلاح قاطع يخوض به معركته الخطرة هذه، ولذا كان لزاماً عليه أن يصدر عن منهج يأخذ نفسه به، منهج يقيه منزلقات النقد المزيف من ناحية ويدفع عنه، إلى حد ما، أذى الأطراف المتحاربة من ناحية أخرى، فهذا المنهج هو السلاح الذي يمكن أن يخرجه من المعركة سالماً، هذا إذا لم يستطع أن يحقق انتصاراً ولو مؤقتاً فيها.

وصدور الناقد عن الإسلام في هذا المنهج لا يتناقض مع الموضوعية المتوخاة، فعلى الرغم من أن الإسلام عاطفة وعقل معاً، وروح ومادة، فإننا لن نعجز في نقد موضوعي حديث يحاول أن يشق للمنهج الإسلامي طريقه الصعبة عبر زحمة الجاهليات المحلية والمستوردة، لن نعجز عن التخلي، مؤقتاً أو مرحلياً، عن الجزء العاطفي من البناء الإسلامي، أو لنقل عن إخضاع هذا الجزء العاطفي للآخر العقلي، لأن لغة الحضارة الحديثة – على شوهتها – هي لغة العقل، ولن يفهم أصحاب الأبصار فيها إلا بزواياهم الحسية الإنسانية القاصرة، لأنهم لا يملكون البصيرة الإسلامية الكفيلة بوضع أيديهم على الجانب الروحي أو العاطفي في الإسلام ليتحسسوه ويؤمنوا بحقيقته ومظاهره.

وإذ نخضع الجانب العاطفي في الإسلام للآخر العقلي – مرحليّاً – فهذا لا يعني إلغاء الأول لصالح الثاني، ولكنه محاولة (لعقلنة) كل ما هو قابل لذلك، فلم تتضارب عاطفة أو روح في الإسلام مرة من المرات مع العقل، وقد يعجز العقل كثيراً عن اللحاق بهما، ولكن هذا القصور في العقل لم يظهر أبداً تناقضاً بينه وبين الإسلام، إن كل ما قدمه العقل الإنساني حتى الآن، وهو الذي يتطور وفقاً لمتوالية حسابية مذهلة لم تعرفها البشرية أبداً قبل القرون الأخيرة، كان يؤيد أو يؤكد أو يفسر جوانب من الإسلام كانت مجهولة حتى عند معتنقيه، فجاء العقل ليكشف عن أسرارها، وأكد حتى علماء الغرب ((بقاء الحقائق الثابتة في القرآن الكريم رغم مرور الزمن، وتغير الحقائق التي وردت في كل من الإنجيل والتوراة1.
وهذا لا يعني إخضاع الإسلام للعقل، فمن صفات العقل القصور، ومن صفات دين الله الكمال، والقاصر لا يدرك الكامل، وعدم إدراك العقل لكل الحقائق الإسلامية راجع إلى قصوره عنها، ومع ذلك فكل خطوة خطاها العقل الإنساني إلى الآن كانت تقترب بأصحاب الاتجاه العقلي من الإسلام، سواء أوَعوا هذا أم لا، ولا يهمنا وعيهم لهذه الحقيقة بقدر ما تهمنا الحقيقة نفسها وهي أن العقل – على قصوره – مع الإسلام دائماً، أو مع ما يستطيع أن يدركه منه. وستكون وقفتنا، لهذا السبب، قاصرة على هذا الجانب وحده، حتى تخاطب الناس على قدر عقولهم، فدراستنا ليست للمسلمين وحدهم بل للناس كافة، على اختلاف مشاربهم.

وإذ يتسلح الناقد بالمنهج واقياً له من المنزلقات الخطرة، كان على الشعراء، الذين يكتب لهم أن يكونوا جديرين بهذا الإسم في النهاية، أن يتخذوا لهم سلاحاً أيضاً يضمن لهم الوقاية من منزلقات فنّهم الصعب من ناحية، ومن سطوة المنهج الذي اتخذه الناقد سلاحاً له، من ناحية أخرى، وبدهيّ أن تكون القاعدة سلاح هؤلاء الشعراء.

وهكذا يقف المنهج في النقد بإزاء القاعدة في الفن. ونستبق المعترضين فنقول: إن القاعدة في الفن لا تعني قتل الإبداع، مثلما كان المنهج في النقد لا يعني تخلي الناقد عن ذاته. فالقاعدة في الأدب والإبداع الفني ليست هي القاعدة في العلوم الرياضية، إنها قاعدة بقدر ما تجد من يشذّ عنها. ويتراوح شذوذ الشعراء عن قواعدهم بين شذوذ الارتباط والأصالة، وشذوذ التخلي والانخلاع، وأولى بنا أن نسمي الأول (التفرُّد) ونترك للثاني اسمه الجدير به (الشذوذ).

ولكي يتضح لنا الفرق بين الشذوذ والتفرد، لابد من التمييز بين القاعدة والعرف. إن الفنون جميعاً لا تكون كذلك إلا بعد أن تستقر لها على الزمن أسس تكون بمثابة الإطار الذي يعمل الفنان داخله دون أن يملك الخروج عنه، فإذا تجرأ على التمرد عليه وكسر طوقه، تحطم الفن الذي يمارسه، أو خرج في أحسن الأحوال، وحين تتيسر له الموهبة الإبداعية المتفوقة، إلى فن جديد لا يمكن أن ينتمي إلى الفن الأول. هذا الإطار الأساسي الذي يلتزم به الفنان دون أن يمتلك الحق بالخروج عنه هو ما نصطلح عليه باسم (القواعد).

ولكن القاعدة ليست كل شيء في الفن، وثباتها لا يعني جموده والتخلي عن تطويره وتجدده. إن من حق الفنّان أن يضيف إلى القواعد القديمة أُسُساً جديدة قد تثبت على الزمن إذا امتلكت عناصر الاستمرار – وهي صفة ليست سهلة المنال فنتحول إلى قواعد أخرى تنضم إلى القواعد القديمة للفن – التي بدأت البداية نفسها من قبل – ومن حق الفنان أيضاً أن يطوّر القاعدة القديمة أو يعدّل فيها من غير أن يكون له الحق في الغائها وإحلال قاعدة جديدة محلها، وإلا تغيرت طبيعة الفن النوعية وانقلب إلى فن آخر، إنه تغيّر في ((جنس)) الفن يحوّله إلى جنس آخر مختلف.

وإلى جانب القاعدة، تتراكم في الفن على السنين ألوان من الإضافات والتزيينات والتحسينات لا تأخذ شكل قاعدة لأنها لا تتصل بالجوهر، والتخلّي عنها أو تغييرها لا يؤدي إلى تغير ((جنسي)) في الفن، ولذا لا تكون لها أهمية الأولى، وهذا ما نصطلح عليه باسم (الأعراف).

إن للفنان أن ((يطور)) القاعدة وأن يضيف قواعد جديدة، وأن يغير العرف2 وأن يضيف أعرافاً جديدة، فإذا تطاول على القاعدة فغيرها أو ألغاها عُدّ عمله هذا ((شذوذاً)) وهو ساقط في حسابات الفن والإبداع، وإن أضاف اليها أو ((طوّرها)) وأضاف إلى الأعراف أو ((غيرها)) كان عمله ((تفرداً)) وهو أمر لابد منه للفنان العبقري المبدع، فاستمرار حياة أي فن وتجدده رهن بتوفر فنانين يملكون موهبة التفرّد هذه، لأنهم وحدهم القادرون على الإضافة إليه ومنحه الهواء المتجدد الضروري لاستمرار حياته.

هذه التعريفات للقاعدة والعرف، وللشذوذ والتفرد، تنتهي بنا إلى وضع تعريف لمعنى ((الأصالة)) أو ((الشخصية)) في الفن. فلكل فن شخصيته التاريخية، بل إن لكل فن شخصيته الإقليمية، إن للموسيقى شخصية عالمية تحددها أسس عامة تشترك فيها كل موسيقى العالم منذ بداية التاريخ، ولكن تظل هناك أسس خاصة تتفرد بها شخصية الموسيقى الهندية عن شخصية الموسيقى العربية عن شخصية الموسيقى الافريقية، وهكذا. ولا يملك أحد أن يجرّد أي فن من شخصيته التاريخية والاقليمية تجريداً كاملاً، والشخصية من ((الشخص)) والشخص هو الذات التي كونها الحاضر المتحول إلى ماض، فكل لحظة حاضرة ستكون مع اللحظة التالية مجرد لحظة مضت، وما الشخص إلا مجموع لحظات متحولة تتراكم لتكون منها الساعات فالأيام فالسنون، إنه إذن مجموع الماضي – الذي كان حاضراً – والحاضر – الذي ما يفتأ يتحول إلى ماض – إنه باختصار: الماضي والحاضر معاً، وإذن فالأصالة أو الحفاظ على الشخصية يعنيان الحفاظ على محور الماضي – الحاضر – الذي ينتظم كل الموجودات، وعندما يهم أحدنا بفصل الماضي عن الحاضر فكأنه يريد فصل بعض الشخص عن بعضه الآخر، أي قتله. وفصل حاضر الفن عن ماضيه يعني القضاء على أصالته أو شخصيته، أي القضاء على وحدة عضويته، أي القضاء عليه.

والخلط كبير بين الأصالة والتقليد، أي بين الحفاظ على الشخصية وجمود هذه الشخصية، وكذلك بين تطورها وتغيرها. ((فالثبات)) الذي يتهم به بعضهم3 المسلمين هو الجمود عنده، بينما هو الحفاظ على الشخصية عند المسلمين، و((التحول)) الذي يريدونه لهم هو ((التغيّر)) أي الانعتاق من الشخصية، بينما يريده المسلمون ((تطوّراً)) لا يلغي شخصيتهم أو يقضي عليها، إن الإسلام لا يدعو إلى ((الجمود)) بل إلى ((الثبات)) ولا يقبل ((التحول)) أو ((التغير)) ولكنه يدعو إلى ((التطور)) أو ((التجدد))، والمسلمون الذين ((ثبتوا)) على الإسلام حققوا أكبر حضارة عرفتها البشرية على الإطلاق حتى ذلك الحين، وحين ((تخلّوا)) عنه في جانب و((جمدوا)) على نصوصه، دون محاولة اسقاطها على العصر واستخراج أحكام جديدة تستوعب حياتهم المتغيرة من جانب آخر، تراجعوا تراجعاً حضارياً مريعاً جعل منهم الآن – وهم يعيشون العصر الذي دعوه بعصر النهضة – في مؤخرة الأمم. لقد سقطوا سقوطاً حضارياً مزدوجاً، إنه سقوط في الجمود ((حين أهملوا إعمال العقل، وسقوط في التخلي)) حين تخلوا عن أركان الإسلام ومبادئه الأساسية إلى غيرها. إن انصرافهم عن العقل.. خلافاً لروح الإسلام – أوقعهم في الجمود والتأخر، في الوقت الذي لم يثبتوا فيه على ما يجب أن يثبتوا عليه من مبادئ الإسلام، وكان جديراً بهم أن يعتزّوا على الغربيين بالعقل الذي كشف به هؤلاء أسرار الدنيا دون أسرار الدين، على حين كشف المسلمون به بعض أسرار الدين دون أسرار الدنيا، رغم أنهم قادرون، بل مدعوون دينياً، إلى أن يكشفوا به كل ما يطيقون كشفه من أسرار الدين والدنيا – ((قل سيروا في الأرض ..)) أوَلَمْ يَرَوْا.. أَفَلاَ يَنْظُرُونَ.. أَوَلَمْ يَتَفَكّرُوا..)) إن الحديث الشريف الذي ينطلق منه هؤلاء في اتهام المسلمين بالجمود ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) لا يعني الجمود – كما أرادوا أن يزيفوا – بل يعني الثبات، وأولئك الذين حققوا الإبداع في التاريخ الإسلامي ليسوا هم الذين خرجوا عن خطة الإسلام والسنة – كما يذهبون – من رافضة وباطنية ومتزندقة وملاحدة، بل هم الذين ثاروا على الجمود وأصروا على الثبات، ورفضوا التحول ونادوا بالتطور، وإن الحدود لدقيقة بين جناحي كل طرف، وكثيراً ما انزلق بعضهم من شرف الثبات إلى درك الجمود، ومن قمة التطور إلى حضيض التحول، وهو منزلق شيطاني كثيراً ما يعترض العلماء، ولكن معظمهم ينجو منه بما رزقه الله من بصيرة هي فضل من الله على المؤمن العالم وتجلة له وتشريف لقدره، مصداقاً لقوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء). وإذن فالثبات الذي يدعونا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي حول المسلمين، ومعهم العالم الذي فتحوه، من الجهل إلى النور، وجعل الخط البياني لحضارتهم يتصاعد ما تمسكوا به وينحدر ما تخلّوا عنه، ولئن دعانا حديثه السابق إلى الثبات فلقد دعانا حديثه الآخر – الذي يتجاهل وجوده المغرضون – إلى التطوّر والتجدد والكشف: ((من سنَّ سنّة فله أجرها وأجر من عَمِلَ بها إلى يوم القيامة..))

هذه التعريفات كان لابد منها قبل الدخول في دراسة القاعدة والمنهج ومصادرهما، وواقعهما ومدى ارتباطه بالواقع الإسلامي المعيشي.

مصادر القاعدة والمنهج

كيف يصل الشاعر إلى القاعدة وما مصادرها؟ وكيف يضع الناقد منهجه بازاء تلك القاعدة، وما مصادر هذا المنهج؟

إن التراث هو المحط الأول لأنظار الشاعر حين يريد أن يستند إلى القاعدة. فالإرث الشعري الذي يمتد إلى أكثر من خمسة عشر قرناً في التاريخ أضحى راسخاً في وجدان الشاعر، وكذلك في وجدان المتذوق الذي يبدع له قصائده، وإذا تجاهل الشاعر هذه الحقيقة انقطعت الصلة بينه وبين المتذوق، أو ضعفت على الأقل، تبعاً لمقدار تجاهل الشاعر للتراث أو اهتمامه به وهو يمارس القاعدة. وهذا التراث هو الجذور التي تغذي الواقع وتمنحه الروح، إذا كان الحاضر يمنحه الجدة والشباب، وذلك يعني أن البيئة تشارك أيضاً في وضع القاعدة أو بالأحرى في إخراجها بصياغتها الجديدة، فالتطوير الذي يصيب القاعدة، والتغيير الذي يصيب العرف، ثم الإضافات الجديدة عليهما، لابد أن تكون جميعاً انعكاساً لرغبات البيئة الحاضرة وإرادتها في التغيير، وهي إرادة مستمرة التطور تبعاً لتطور المجتمع ذاته ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وعقدياً. والشاعر يستجيب تلقائياً لهذه الإرادة استجابة غير شعورية على الأغلب، لأنه جزء منها أيضاً، من غير أن ينسى طبيعة الشعر التاريخية والإقليمية، فالفن الشعري نفسه، بغض النظر عن الجانب التراثي منه، مصدر هام آخر من مصادر الشاعر، ولابد أن يحافظ على شخصية هذا الفن حين يستجيب إلى رغبات البيئة في التجديد، وإلاّ انزلق إلى مهاوٍ لا علاقة لها بفن الشعر.

وعلى ذلك يحتل التفرّد المكانة الأهم بين مصادر القاعدة عند الشاعر، فالتفرد أولاً، وحسن تمييز الشاعر له من الشذوذ ثانياً، يمنحان الشاعر الجدارة بحمل هذا الاسم، والشاعر الذي يفقد مصدر التفرد، فيظهر عاجزاً عن تطوير القاعدة أو تغيير العرف أو إضافة الجديد عليهما، لن يكون على الأغلب إلا نسخة مكررة من نسخ كثيرة سبقته من الشعراء، ولن يكون دوره في حركة تطور الشعر وتناميه حقيقياً، بل سيظل على هامش هذه الحركة، يسير موازياً لها دون أن يكون له القدرة الفاعلة على دفعها إلى الأمام أو تغيير اتجاهها نحو الأفضل.

أما المنهج فمصادر الناقد فيه تكاد لا تختلف عن مصادر الشاعر في القاعدة. فحقائق الفن، وطبيعته، ومقوماته التراثية المتنامية، المتطورة مع تطور البيئة، وتغير الواقع المحيط، ومدى استجابة الشعر لهذا الواقع، كل ذلك يشكل المصادر الأساسية للناقد في سبيل استخلاص منهجه. ولكن ما نشدد عليه هنا بشكل خاص هو اهتمام الناقد بالبحث عن ((التوافق)) بين الفن والبيئة، ولا نقول ((التطابق)) بينهما، إذ ليس المطلوب من الفن عامة والشعر خاصة أن يتطابق مع البيئة، بحيث يشبهها في مرضها وعافيتها، وضياعها وهداها، وإيجابياتها وسلبياتها، ولكنه على العكس، مطالب بأن يلبي حاجات البيئة فيشبعها، فيكون منه الدواء في مرضها، والهدى في ضياعها، والدفء في قرها، والبرد في حرها، والشبع في جوعها، والري في ظمئها، ومن حق الناقد أن يحاسب الشاعر حساباً عسيراً حين يسقط – وهو الطبيب – في أمراض البيئة، فيضيف إلى المرضى مريضاً جديداً، بدلاً من أن يكون له دور الريادة والكشف، والبحث عن الأمل في متاهة الضياع، وعن النور في ظلام الفساد والانهيار الحضاري.

واقع القاعدة:

ولكي نصل إلى وضع خطوط عريضة لطموحات المنهج في نقد الشعر الحديث عامة والشعر الإسلامي خاصة، وإظهار الفرق من خلال ذلك بين المنهجين، يحسن بنا أن نتلمس واقع القاعدة في كليهما، لندرك مثالب هذا الواقع ونقاط ضعفه، ونتبين مزاياه ومظاهر عافيته، فنحلل كلا من المثالب والمزايا تحليلاً يضع أيدينا على الداء والدواء معاً.

إن الشعر العربي المعاصر، ولا نقول الحديث لأن المعاصرة تشمل المقلد والمجدد فمؤداها زمني، أما الحداثة فلا تشمل إلا المجدد فمؤداها فني، هذا الشعر يسوده اتجاهان خطيران كل يشد بالشعر إلى الجانب المعاكس: الأول اتجاه يكرّس القاعدة ويرى في تطويرها أو إغنائها أو الإضافة اليها خروجاً نهائياً على الفن، والثاني: اتجاه يدعو إلى تحطيم كل شيء، القاعدة والعرف، والفن كله، وإحلال فن جديد مكانه يأخذ الإسم القديم.

إن الاتجاهين كليهما يسقطان في دوامة الخلط بين القاعدة والعرف، وهي دوامة لا تسمح للمغلوب على أمره في تيارها الشديد بأن ينظر إلى الأمور بتوازن وتعقل.

فالاتجاه الأول الذي يدعو إلى تكريس القاعدة، ثم لا يميز في ذلك بين قاعدة وعرف، يخلط بين الأصالة والجمود، فهو يتحدث عن الأصالة ويعني التقليد، وشتان ما بين الأصالة والتقليد، الأصالة في الشعر هي الحركة، والتقليد هو الجمود، الأصالة الحياة، والتقليد الموت، ومن أصحاب هذا الاتجاه من ينظر إلى التقليد من زاوية ضيقة جداً بحيث يغفل عن حقيقته المموهة في كثير من مظاهره التي لا تتجه إلى التراث بل إلى منابع أخرى تقلدها، فيظن أنها التجديد.

وهنا يجدر بنا الوقوف عند مظاهر التقليد المختلفة في الشعر العربي المعاصر، وإلقاء الضوء على حقيقتها للدلالة على أنها، رغم تنوّعها وتعدد مصادرها، ليست سوى ألوان من التقليد.

إن الفاصل الذي يفصل بين المقلّد والمقلّد يمكن أن يكون زمانياً، أو مكانياً، أو زمانياً ومكانياً معاً، أو لا شيء على الإطلاق.

فحين يقلّد عربي الآن امرأ القيس أو أحمد شوقي، فالفاصل بين الطرفين زماني، وهو بعيد في الأول، قريب من الثاني، وحين يقلد هذا العربي شكسبير فالفاصل بين الطرفين مكاني وزماني معاً، وحين يقلد شاعراً أوروبياً معاصراً مثل آراغون أو لوركا أو عزراباوند أو أدودن يكون الفاصل مكانياً فحسب. ولكن حين يقلد هذا الشاعر العربي نزار قباني أو البياتي أو حجازي أو درويش فلا فواصل زمانية أو مكانية بين الطرفين على الإطلاق، إلا أن نقول إن المقلَّد لابد أن يسبق المقلِّد – بكسر اللام – ولو بزمن بسيط والقياس هنا ليس بين الشاعرين بل بين الشعرين، إذ لابد أن يسبق شعر الأول شعر الثاني حتى يتمكن هذا الأخير من تقليده. هذه الأنواع المتعددة من الفواصل الزمانية والمكانية حتى الشخصية، لا يمكن أن تخرج في حقيقتها عن مجرد التقليد.

وهكذا يتوزع شعراؤنا المعاصرون بين ألوان من التقليد. واتجاه التقليد الزماني هو وحده المتهم غالباً لدى نقادنا، لأنه أوضح أنواع التقليد، وإذا اعترفوا لبعض أعلامه ببعض التجديد، كشوقي وحافظ وبدوي الجبل ومحمد العيد ونور الدين صمّود والجواهري والعطار، فإنهم يصرون على أنهم بالدرجة الأولى ((مقلِّدون)) والمقصود طبعاً تقليدهم للقدماء من الشعراء العرب. إن معظم الشعراء العرب المعاصرين يسقطون في نوع أو أكثر من أنواع التقليد.

فالشعراء الرومانسيون الذين أبدعوا في الثلث الأول من القرن العشرين عشرات الدواوين، ولاسيما جماعة ابولو ومدرسة الديوان والمدرسة الهجرية ثم من سار في ركبهم من الشعراء، كانوا – في الجانب الذي ارتأى النقاد أنه الجانب الجديد في شعرهم – مقلدين للغرب، الغرب الرومانسي، أي أن المسافة التي تفصلهم عن أولئك الذين يقلدونهم مكانية بعيدة، هي المسافة بين الشرق والغرب، وزمانية قريبة، وهي المسافة بينهم وبين ظهور المدرسة الرومانسية في فرنسا في نهايات الربع الأول من القرن التاسع عشر، إنها إذن مسافتان: زمانية ومكانية، على حين كانت مسافة واحدة مكانية عند الشعراء الذين التفتوا إلى القدماء من العرب، وشر التقليد ما فصل فيه بين الطرفين المقلد والمقلِّد أكبر عدد من المسافات وأوسعها. وإذا كانت المسافة الزمانية بين رومانسيي الغرب ورومانسيينا قريبة لا تتجاوز القرن فالمسافة بين الشرق والغرب بعيدة جدً، وهي ليست مجرد آلاف الكيلومترات، بل مسافة حضارية وفكرية وعقدية واجتماعية وثقافية مما لا يمكن تقديره بأية وحدة قياسية، زمانية أو مكانية، إنها أبعد المسافات على الإطلاق، ومع ذلك تبدو غير واضحة لمعظم نقادنا فلم يدخلوها بين أنواع التقليد، بل على العكس، عدّوها مظهر التجديد الأول في الشعر العربي. إنهم في سعيهم الشقيّ المضني بحثاً عن روائع التجديد في الشعر العربي المعاصر وجدوا في هذه الملامح الجديدة على شعرنا ما لم يعهدوه فيه من قبل، فتغافلوا عن أصلها وحقيقة اتصالها بالغرب، ومنحوها صفة التجديد التي كانوا يسعون لاكتشافها فيه.

ولكن هذه المسافة البعيدة لم تكن لتتضح كثيراً في إبداع الرومانسيين العرب، ذلك لأن رومانسية الغرب في حقيقتها ترجع في كثير من معالمها الفنية إلى أصول عربية، وما الخطابية، والغنائية، والإغراق في الذات، وجموح الخيال، والإسراف في المبالغات، والتهالك في الحب، والانطلاق في العواطف، والالتحام بالطبيعة، وامتزاجها بالمرأة، والانصراف إلى تحقيق أكبر قدر من الموسيقى اللغوية في الشعر، ليس هذا كله إلا بعض خصائص الشعر العربي التي يذهب كثيرون إلى أنها انتقلت إلى الغرب عن طريق الأندلس والحروب الصليبية، وكان لشعراء التروبا دور الأثر الكبير في هذا التواصل. ونحن لا نصر على تأييد هذا الزعم، فلا قيمة له في هذه النقطة من البحث، ولكن الشيء المؤكد هو أن الرومانسية الغربية تلتقي مع الرومانسية العربية، القديمة والحديثة، في كل ذلك، وإن كانت في الحديثة أظهر منها في القديمة، فليست مظاهر الرومانسية العربية الحديثة في حقيقتها إلا تجسيماً – قد يصل إلى مرحلة ((الكاريكاتورية)) أحياناً – لمظاهر الرومانسية العربية القديمة، نقول هذا مع احتفاظنا بحق رفض إسقاط هذا المصطلح الفردي ((رومانسية)) على أي اتجاه فني عربي أصيل، ولكننا لا نمتلك إلى الآن، للأسف، المصطلح العربي البديل، والقادر على القيام بمضمون المصطلح الغربي عندما نطبقه على الشعر العربي. ومع ذلك فالمصطلح الغربي جدير بالإبداعات العربية التي تخلت عن أصالتها، والتي ارتضى أصحابها لأنفسهم حقاً أن يذوبوا في الاتجاه الرومانسي الغربي كما رسمه رومانسيو الغرب لأنفسهم.

إن الشاعر العربي حين يتخلى عن قيمه الإسلامية، بل العربية حدّاً أدنى، فيستسلم إلى بأس تنكره مُثُل مجتمعه، وإلى حب يعصف بكل مقومات كرامته، وإلى عاطفة تذهب برباطة جأشه، وإلى خيال يجرده من واقعه، وإلى انكماش يغلق عليه الحياة، واعتزال للناس يمنعه من أداء دوره المسؤول فيهم، هذا الشاعر لا يعود جديراً بالمصطلح العربي الذي نسعى للوصول إليه، وبإمكانه أن يهنأ في ظل المصطلح الغربي، مادام قد رضي لنفسه أن يستظل بظل تعاليم الغرب ويستسلم لهمومه ويحمل أمراضه. لقد رضي بإحلال القاعدة الغربية فذهب الجذور الأخلاقية التي نبت فيها، ورضي منها بما صدره إليه الغرب من أدوار وانحرافات ما يزال يشكو البطنة منها. ومع ذلك فإن أعتى سدنة الرومانسية العربية، من أبي القاسم الشابي إلى الزهاوي إلى العقاد إلى أحمد زكي ((أبو شادي)) إلى خليل مطران إلى علي محمود طه إلى جبران إلى شعراء المهجر جميعاً، لم يسقطوا في شباك الرومانسية الغربية هذا السقوط الاستسلامي الكامل الذي يخلعهم من جذورهم وينميهم إلى الغرب.

إن الرومانسية العربية ومعها أولئك الذين انفعلوا بالصورة الرمزية الغربية وباللفظة الرمزية، وكذلك الواقعيون على مختلف اتجاهاتهم، وأصحاب المدرسة الاليوتية الحديثة، يظلون أكثر اعتدالاً وانسجاماً مع أنفسهم ومع التاريخ والبيئة والمسافة والحضارة من أصحاب ما سُمّي بالقصيدة الحديثة أو الكلية.

ومن المؤسف أن نجد حتى في النخبة المثقفة من يخلط إلى الآن بين حركة التجديد الشعري المتزنة التي ترسّمت عندنا خطا الشاعر الانجليزي ت. س اليوت في أواخر النصف الأول من هذا القرن العشرين، وحركة القصيدة الحديثة التي يتزعمها بل يقوم بها بضعة سوريين ولبنانيين من مؤسسي مجلة ((شعر)) وعلى رأسهم أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج.

لقد كانت الحركة الأولى – ولا سيما بعد نضجها وتراجع أصحابها عن كثير من تطرفهم الذي بدأوا حركتهم به – كانت أخصب ما عرفه الشعر العربي إلى الآن من تزاوج بينه وبين الشعر الغربي، فقد كان اليوت أبا الشعر الحديث في الغرب، ثم أبا الشعر الحديث في الشرق. فاقتدى بتجديده أكثر شعوب أوروبا وآسيا، على اختلاف في درجات تمثلهم له أو تخليهم عن شخصياتهم وأصالتهم، وكانت أشعار السياب والملائكة والبياتي وشوقي البغدادي ونزار قباني وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين الصدمة الأولى التي تلقاها أصحاب هذا الاتجاه التقليدي الأول والتقليد الزماني.

ومما شدد من وطأة هذه الهجمة أنها جاءت غالباً على أيدي الاشتراكيين، مما أعطاها صبغاً أحمر نبذتها به الاتجاهات الأخرى، ولو قدّر لها أن تأتي على أيدي أناس أقل خروجاً عن خط الأمة، وأكثر تمسكاً بمقوماتها الروحية والخلقية، لكانت حققت نجاحاً أكبر بكثير. ومع ذلك تنبّه أصحابها بعد بداية الحركة بقليل إلى تطرفهم، وإلى الأثر الهدام الذي يمكن أن تتركه حركتهم إذا اطلقت الحبل على غاربه، فتتراجع نازك الملائكة – وهي أقل المجددين يسارية – عن خطواتها التجديدية العروضية، ويتراجع بعدها السيّاب عن ماركسيته، ومعها عن كثير من جوانب تطرفه الشعري. وربما كان تراجع هؤلاء جميعاً مرتبطاً بتراجع أستاذهم الأول ((اليوت)) وارتداده عن ثورته الفنية، وتمرده على الكنيسة، إلى كاثوليكي متعصب، ومتمسك من جديد بمعظم المقومات الفنية القديمة للشعر الإنجليزي.

ولكن الحركة، حتى قبل أن يتخلى أصحابها عن تطرفهم الفني، يمكن أن يقال عنها أنها حركة يغلب عليها الاتزان والعقل. فلشعرها عروضه الجديد القائم على التفعيلة أو التفعيلتين، وهو لا يختلف في هذا كثيراً عن الشعر العربي الخليلي، بل ربما لا يختلف عنه أبداً، كما أثبتنا في غير هذا البحث4. فالشعر الخليلي، في اختلاف أطوال البحر الواحد بين تام ومجزوء ومشطور ومنهوك لم يكن عدد تفعيلاته ثابتاً ضمن البحر الواحد، والأمر هو نفسه في الشعر الحديث، ولكن على مستوى القصيدة الواحدة بدلاً من البحر، فالشاعر يستعين بمختلف الأطوال المعروفة للبحر وما يقرب من هذه الأطوال ضمن القصيدة الواحدة، ثم ان الشاعر يضطر في البحور الممزوجة خاصة إلى الالتزام بأكثر من تفعيلة واحدة في هذا النوع من الشعر مما يجعله جديراً باسم ((شعر التفعيلتين)) بدلاً من ((شعر التفعيلة)) إذا قبلنا هذا الاسم الأخير له، ونحن نرفضه، بل نرفض كل الأسماء التي لم تر فيه إلا مجرد العروض، ومنها الشعر الحر، والشعر المنطلق، والشعر الأبيض… الخ.

ولهذه الحركة أيضاً لغتها الشعرية المفهومة، على غموضها، فهو غموض لا حول إلى إبهام واستغلاق، وقد قدمت للغة العربية كثيراً من الألفاظ الجديدة، وأحيت ألفاظاً أخرى ميتة تحتاج إليها لغة العصر، ومنح أصحابها العربية أساليبهم الجديدة الموافقة للحضارة، في بساطتها وواقعيتها وتخليها عن الصياغات التقليدية البعيدة عن الإيقاع العصري، وهي أساليب قد تتشابه عند بعض الشعراء حتى تكاد تتحد. ولكن بعض الأقلام المبدعة المتفوقة استطاعت أن تكون لها مدارسها الأسلوبية المميزة التي انضوى تحتها شعراء لاحقون كثيرون كأقلام صلاح عبدالصبور ونزار قباني ومحمود درويش والسياب وشاذل طاقة. وهذه اللغة الجديدة كانت تلتقي غالباً مع النزعة الخيالية مستفيدة من الاتجاه الرمزي الغربي ليكون من لقائهما صور شعرية متفوقة جديدة المنبع، جديدة التأثير، جديدة الاتجاه الفني.

أما الحركة الثانية، حركة القصيدة الحديثة أو الكلية أو التجريدية أو التشكيلية أو الكونية – وقد كثرت أسماؤها من غير أن تصل إلى مدلول نهائي – فهي حركة تهدم كل شيء من أجل أن لا تصل إلى شيء، تهدم الفكر واللغة والخيال والوزن والموسيقى، وتفلسف هذا الهدم فلسفة غير عقلية. ومهما قرأنا مسوغات أصحابها لهذا الهدم الذي مارسوه على الشعر، فلن نصل منهم إلى شيء يمكن أن نمسكه بأيدينا: مجرد ألاعيب لفظية تستخدم الفاظاً عليها مسوح الفلسفة، ولم تستخدم استخداماً فلسفياً بالمعنى العقلي للفلسفة، وكثير منها صيغ مصدراً صناعياً دون حاجة إلى المصدرية، أو حوفظ على لاتينيه رغم وجود بديل عربي له، أو اشتق من غير قياس أو بني على غير القاعدة العربية5.

وليست هذه اللغة من عندهم، شأنها شأن الدعوة نفسها، فأدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وهنري صعب وأبوشقرا من أصحاب هذه المدرسة ودعاتها أخذوا المذهب كما هو من أعلام الشعر الفرنسي المعاصر وعلى رأسهم ملازميه وسان جون بيرس، ولا سيما حينما نال هذا الأخير جائزة نوبل عام 1960 م ودرست شعره كاتبة فرنسية شابة اسمها سوزان برنار في رسالة للدكتوراة بعنوان ((قصيدة النثر)) درست فيها هذا الفن منذ بودلير إلى سان جون بيرس، وأخذ منها هذا الأخير معظم اهتمامها في الدراسة، وكل ما كتبه النقاد العرب بعد ذلك في الدعوة إلى قصيدة النثر أو القصيدة الحديثة أو التقنين لها، اعتمد حتى في لغته والفاظه، وبشكل حر فيٍّ أحياناً، على كتاب سوزان برنار المذكور6.

إن مجمل حركتهم يختصر بكلمتين اثنتين: قتل القاعدة، والقاعدة هنا تشمل كل جانب من الشعر: القاعدة اللغوية، والنحوية، والبلاغية، والخيالية، والعروضية والموسيقية، وأولاً وأخيراً القاعدة الفكرية. وهكذا يخلو عملهم – قصيدتهم – من الموضوع. ويدافعون عن هذه الحقيقة بقولهم إن القصيدة نفسها هي موضوع القصيدة – هكذا بلغتهم الفلسفية المتناقضة بشكل صارخ، والتي لا تستند إلى أي أساس منطقي أو عقلي، كقولنا تماماً: إن أحمد هو روح أحمد – وهكذا أيضاً تخلو القصيدة من أية فكرة، انهم لا يعترفون بهذا الشيء البغيض الذي اسمه (الفكر) لذلك فهم حريصون على أن لا تطفو أية فكرة في قصيدتهم على السطح فغاية القصيدة ليست فكرية بل ((لغوية)).

فإذا جئت إلى اللغة واجهتك كتل من ((الملصقات)) ألصقت فيها الألفاظ بشكل عشوائي لا يقوم في كثير من الأحيان، على قاعدة لغوية أو نحوية منطقية، فإذا انتظمتها قاعدة كانت مجرد هلوسة صوتية لا يمكن أن تؤدي إلى معناها.

وقد يختلف اثنان حول جدوى هذه ((الهلوسة)) اللغوية فيقول المدافع: إنها تفجّر في نفوسنا ما لم تكشف عنه اللغة التقليدية بقواعدها وأعرافها السقيمة، وتصل إلى ما لا تصل إليه من أعماق في دخائلنا، فتوحي لنا، بعلاقاتها الجديدة، إيحاءات غريبة قد تكون غامضة وغير مفهومة – بالمعنى التقليدي لكلمة ((مفهومة)) – ولكنها إيحاءات جديدة ومختلفة عن كل ما أثارته وتثيره اللغة القديمة من إيحاءات. وبقول الرافض: ان هذه اللغة – إذا سميناها لغة حقاً، وهي لم تعد تملك مقومات اللغة – وظيفتها الأساسية قتل الموضوع والفكر في الشعر، وهو أمر لا يمكن أن يراد منه الخير للمجتمع، لأنه يحوّل الشعر عن وظيفته البانية الفاعلة ويتركه من غير أدنى وظيفة. وهكذا يختفي دور الشعر من المعركة التربوية والحضارية رغم أنه أعز ما ملكه وما يملكه العرب من فنون.

قد يختلف الاثنان والثلاثة على هذا، فللباطل ألسنة كثير متلونة، وللحق لسان واحد لا يتغير، وكم من قوة ساطعة للحق وقفت مخذولة أمام بهتان الباطل البراق، ولذلك نفضل أن نتجنب مثل هذا النقاش الذي يمكن للباطل أن يُداوَر ويخادع فيه بلغته المتفلسفة المداهنة، ونذهب إلى حل أسهل علينا وأيسر، وهو أن نبحث عن سر هذه اللغة عند الداعين إليها أنفسهم، بل عند من يتولى الريادة فيها، فإذا كشفوا لنا عن بغيتهم منها أراحونا من عناء البحث والنقاش، واقناع من لا يريد أن يقتنع، والاصطدام معه في سبيل دفعه إلى فهم مالا يرغب أن يفهمه. إن المسألة تشبه اختلاف طبيبين على دواء لم يجرباه في أحد من المرضى بعد، وهما لا يملكان إلاّ أن يقرآ على غلافه عناوين المواد التي ركب منها ونسبتها فيه، ثم لا يعرفان ماذا يمكن أن ينتج عن تفاعل هذه المواد، بتلك النسب التي حددها الصانع، من تأثيرات في المريض الذي سيتناول الدواء. ولكي يريحا نفسيهما من عناء البحث والتجريب والمناقشة اتجها إلى صانع الدواء نفسه يسألانه عن تأثير الدواء، فقال: هذا الدواء صنعته خصيصاً للقتل، بإمكانكما استعماله مع مريض يئس من حياته ويئستم من شفائه ففضلتم له الموت. هو إذن سم في شكل دواء. وأدونيس رائد هذه الحركة اليوم في سورية ولبنان – وهي أصلاً لم تكد تتجاوز هذين البلدين خلا بعض التلامذة الصغار لها في العراق، وواحد أو اثنين في مصر، وهو لم يصلوا أبداً، في أكثر نماذجهم تطرّفاً، إلى ما جمح إليه الرواد في البلدين المذكورين – أدونيس هذا يصرّح في مواضع من كتبه7 ومقالاته بأنه يريد أن يحطم بهذه اللغة الجديدة كل احترام لدينا للغتنا، مادامت هذه اللغة شبه مقدسة عندنا بمحافظتنا على قواعدها الصارمة، وبأنه إذا استطاع تحطيم قدسية اللغة في نفوسنا أوجد في داخلنا شرخاً خطيراً يستطيع أن يعبر من خلاله ليحطم فينا كل احترام للمقدسات والعقائد والمثل والأخلاق، وليلغي من نفوسنا كل تورّع عن المحرمات والمحظورات.

ويكرر أدونيس هذا المعنى دون أن يخشى رقيباً، فالأقلام التي تطوعت لخدمة أفكاره والدعوة لمذهبه كثيرة وكافية لتسويغ كل شيء، مادامت تملك اللغة المتفلسفة المداهنة التي تستطيع أن تدّعي أن النهار ليل وأن الليل نهار، ثم تتصرف بفذلكتها وتلاعبها وتفيهقها لإقناعنا بأن ما ذهبت إليه هو الصحيح ولا صحيح غيره. وهكذا أوجدت هذه الحركة كتاباً ذوي نحل وأهواء شتى اتفقوا – رغم اختلاف مراميهم ومصالحهم – على تسويغ الدواء – السم للمريض، وإيهامه بأن شفاءه – ليس موته – سيتحقق عليه.

وأدونيس يختتم دعوته هذه لإلغاء اللغة والمقدسات والمحرمات بدعوة صريحة في كتابه ((الثابت والمتحول)) للثورة على الله – تعالى الله من خلال ممارسة الشاعر والمبدع لمطلق حريته في الإبداع الفني واستخلاصه لهذه الحرية من خالقه التي ((اغتصبها)) منه ((من هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه، مبدأ العالم القديم. بتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن نهدم صورة العالم الراهن، وفعل الله نفسه، مبدأ هذه الصورة، هو الذي يسمح لنا بخلق عالم آخر، ذلك أن الإنسان لا يقدر أن يخلق إلا إذا كانت له سلطته الكاملة، ولا تكون له هذه السلطة إلا إذا قتل الكائن الذي سلبه إياها، أعني الله. وبهذا المعنى نفهم كلمة ساد، التي تقول ما معناه أن فكرة الله هي الخطأ الوحيد الذي لا يستطيع أن يغتفره للإنسان، لأنه بخلقه هذه الفكرة رضي أن يكون لا شيء إزاء الله الذي هو كل شيء. كذلك نفهم فكرة قتل الله عند نيتشة… وفي المجتمع العربي بخاصة حيث تقترن فكرة الله الكلّي القدرة في السماء بفكرة ظله الخليفة أو الحاكم الكلي الظلم على الأرض، ولا تمكن الثورة على هاتين الفكرتين إلا بتأسيس فكرة تناقضها وتتجاوزهما في آن: فكرة الإنسان الكلي الرفض والكلي الحرية… ومن هنا كان رفض التقاليد، شرائع كانت أو عادات، شكلاً من أشكال الأمل بنظام آخر ينتفي منه القمع بشتى أنواعه، وفي مثل هذه اللحظات تكون سيادة الفوضى أكثر أهمية من سيادة النظام، لأن سيادة الفوضى هنا هي سيادة لقانون الحرية الفطرية على قانون الحرية الوضعية… والإنسان ضعيف عابر على الأرض، صحيح هذا أيضاً لكن لا لكي يعني هذا، أن يتقلص الإنسان مسافراً في وهم دار ثانية يقيم فيها إلى الأبد، كما يعلّم الدين أيضاً، بل لكي يعني أن كونه ضعيفاً فرصة الوجود الوحيدة لكي يعيش حياته بملء كامل.. أن يحقق الإنسان البراءة بالخطيئة نفسها، والدين بالمجون، وأن يحطم القيود والقوانين، معلناً شرع الحرية: ذلك هو ما يطمح إليه أبو نواس. وإذا كان لنا أن نختار بين متديّن تضعه الحرية في مأزق، وماجن يتخذ من هذا المأزق مخرجا، فإننا نختار الثاني، لأنه يعرف من الحقيقة أكثر مما يعرف الأول، أعني أنه أكثر قدرة على أن يساعد في تحرير الإنسان))8.

فهل لأحد بعد هذا أن يظن الشفاء في السم، وهل من العقل والمنطق أن يتمادى حتى اثنان في النقاش حول نتائج هذه ((الثورة)) اللغوية على الشعر العربي وعلى الحياة العربية الإسلامية كلها مادام ((صيدليها)) قد أخبرنا بالهدف من تركيبها؟

هذا التفنيد ((للأدونيسية)) ليس دعوة إلى تكبيل اللغة والإبداع الشعري بالقيود والعودة بهما إلى عصور الجاهلية. إن شذوذ التفرد هذف لن نفتأ ندعو إليه في اللغة والعروض والخيال والفكر، ولكن حين يتحول هذا الشذوذ إلى انحراف ويتحول الانحراف إلى ((ظاهرة)) وتغدو هذه الظاهرة دعوة إلى القضاء على كل شيء، هدم كل شيء ثم عدم تحقيق شيء من بعد ذلك، فلابد لكل ذي عقل من أن يقول: لا.

إننا نعترف بأن لكل قاعدة شواذ، وهذا لا يعني أن الشواذ ستستقر من بعد على هذه الصفة، فاللغة لم تتجدد إلا عن طريق الشاذ – المتفرد، مادام مرتبطاً بجذورها الأساسية غير منقطع عن روحها وطبيعة تركيبها، ثم لا يلبث هذا الشاذ – وقد أبدعه العباقرة الذين عرفتهم اللغة – أن ينقلب مع الزمن إلى قاعدة. فالقاعدة إذن بنت الشاذ – المتفرّد، وكل شاذ متفرّد مرشّح لأن يكون في المستقبل قاعدة، ما توفرت له شروط الاتصال الأساسية بالقاعدة التي شذ عنها، فإذا عدم هذه الشروط ظل حرماً شاذاً تائهاً في فضاء الزمن، دون أن يجد له مداراً أباً يستطيع ارتباط به والانتساب إليه، ومن ثم العثور على مكان ثابت راسخ له في هذا الكون الذي أسس كل ما فيه على القاعدة. وإذا كان الكون الفضائي يتيح للأجرام الجديدة المتمردة أن تجد لها فراغات تتخذ فيها مداراتها الجديدة، فإن الفضاء اللغوي لم يعد قادراً على منح المتمردين عليه مثل هذه الفرصة الفارغية، لأن عصر التكاثر اللغوي قد انتهى والمدارات اللغوية قد ملأت كل مكان في الفضاء اللغوي، ولم تعد هناك فرصة لطرح فكرة (لغة جديدة) تنسُلها لغة أقدم. أما الشذوذ اللغوي فقائم قيام اللغات التي يصدر عنها، ومادام اسمه شذوذاً فسيظل اسمه موحياً بوجود القاعدة التي شذ عنها، ومادامت القاعدة قائمة فستظل قادرة على نسل ((شذوذ)) جديد كل يوم، ومادام الشذوذ يتكاثر ويتناسل، فسيظل هذا دليلاً على وجود القاعدة، ومن ثم ارتباطه بهذه القاعدة، ومادام ارتباطاً بقاعدة فسوف نظل قادرين على قياسه ومحاسبته من خلالها، ورصد مدى أصالته في الشذوذ عنها، أي مدى صحة بنوته لها وإمكان اعترافها به وليداً شرعياً متفرداً قادراً على خوض حياته الجديدة التي اختارها لنفسه.

أما الشذوذ العروضي فيبدو أمره أقل خطراً عند هؤلاء الشعراء من أمر اللغة ما تمسكوا بالخيط العروضي الدقيق الذي يميز الشعر من النثر، فإذا ما حاولوا أن يقطعوا هذا الخيط الفاصل الدقيق، ويُلبسوا الأمر علينا في تمييز الحدود الفاصلة بين الفن الشعري والفن النثري، بدأ أمره لا يقل خطراً عن أمر اللغة.

وفيما سموه ((قصيدة النثر)) أو ما افترضنا تسميته بـ ((النثيرة)) أو ((المزمور)) تتجلى هذه الخطورة على حقيقتها، لأن أصحابها يأبون إلا أن ((يوطّنوا)) نثرهم في أرض الشعر، فهي عملية استيطان كامل لا يرضى فيها المستوطن الجديد – على مبدأ العصر – مشاركة المستوطن القديم له في الأرض التي يملكها هذا الأخير، إنهم يصرون على أنهم يسمون عملهم شعراً، ثم لا يكتفون بهذا بل يؤكدون أن ما يكتبون هو وحده الشعر، وأن ما يكتبه الآخرون، مما جاء على أوزان الخليل أو ما طرأ من أوزان جديدة وأنماط عروضية مستحدثة، ليس شعراً ولا علاقة له بالشعر الحقيقي، مادام متمسكاً بالوزن، أي وزن، ويذهبون إلى أبعد من ذلك فيسمون هذا الموزون نثراً، كما فعل أدونيس حين تحدث في إحدى محاضراته عن قصيدته الخليلية الأخيرة التي نظمها عام 1980 م بعنوان ((تحية إلى ثورة إيران ((فقال انها – ولأنها جاءت على الوزن الخليلي وما يجره هذا الوزن طبعاً من فكر وخيال ولغة ذات طبيعة خاصة – ليست إلا نثراً9. هذه الأوزان – قديمة ومحدثة – لن نقول إنها فحسب حصيلة خمسة آلاف أو ستة آلاف عام من الإبداع البشري10، وأنها أصبحت أكثر رسوخاً من أن يستطيع أحد خلخلتها وزحزحتها عن مكانها، ولكننا نقول إنها، وإن أي وزن قديم تقليدي، أو حديث مبتكر، بمثابة ((الجنس)) في الشعر فإذا تخلى عنه تخلى عن ((جنسه)).

إن نقاط التشابه كثيرة بين المرأة والرجل ولا يغير من أنوثة المرأة ولا من رجولة الرجل أن يفقد أحدهما يديه أو رجليه أو عينيه أو لسانه أو أذنيه، ولكن شيئاً واحداً محدداً لو تغير في الرجل فقد رجولته ولو تغير في المرأة فقدت أنوثتها، هذا الشيء هو الذي يحدد ((الجنس)) في كل منهما. وهكذا من الممكن أن تتداخل لغة الشعر وخياله وأفكاره وأنغامه مع ما يقابلها في النثر، ولكن أن يفقد الشعر ((الوزن)) فهذا يعني تحوله إى ((جنس)) آخر حتماً. إنه الشذوذ لا التفرد، شذوذ من نوع فريد، وهو في الحقيقة ((أغبى)) أنواع الشذوذ، لأنه شذوذ لم يخرج من رأس صاحبه بل من رؤوس الآخرين الذين تفصله عنهم مسافات حضارية هائلة، إنه شذوذ وتقليد معاً، وكل منهما، منفرداً، أمر مرفوض عندنا وعند كل ذي تفكير مخلص سليم، فكيف بالأمر إذا اجتمعا معاً؟

إن هذا التفريغ ((الذي يمارسه أصحاب كل من ((قصيدة)) النثر و((القصيدة الحديثة)) على شعرائنا ليخرجوهم من وظيفتهم الأساسية الفاعلة، المتجهة إلى البناء لا الهدم، قد يصيب مقتلاً فيمن يقع فريسة له، لقد كان محمود درويش أول ضحية بين الشعراء الفلسطينيين تسقط في شباك هؤلاء، وظل لسنوات يتخبط في خيوطهم العنكبوتية منذ خروجه من الأرض المحتلة بعد هزيمة 1967 م، فلم يعد شعره يسمع لا من الفلسطينيين ولا من كل الثوار، إلى أن ثاب إلى شعره أخيراً، وأعلن ((توبته)) عام 1978 م، واعترف بأنه بالغ في التعقيد والغموض، وأن الموقف يتطلب منه الآن أن يجرب ((مهارة البساطة))، وقد حقق هذا من بعد في مجموعته الأخيرة ((أعراس))11 التي خلع فيها ثوب القصيدة الحديثة وبدأ على حقيقته شاعراً ثائراً أصيلاً.

فما موقف الشعر الإسلامي تجاه القاعدة، وهل تمسك بها إلى درجة التقليد، أو تخلى عنها إلى درجة الشذوذ والانخلاع، أو كان بين ذلك قواما؟

سنقف في الشعر الإسلامي هنا عند وجهين منه فحسب: الشعر الملتزم، والشعر الديني العام، أما الشعر التعبدي وهو الذي يقتصر على إبراز علاقة الخالق بالمخلوق فسوف نُعرض عنه الآن وفاء بما أخذناه على أنفسنا من عهد في بداية هذا البحث، وهو أن نقتصر ما أمكننا – مرحلياً – على الجانب العقلي في الإسلام أو بالأحرى الجانب الممكن إدراكه وفهمه بالعقل البشري القاصر في طبيعته عن إدراك العلاقات الغيبية الروحية التي تربط الخالق بالمخلوق، وهذا لا يحرم الشعر التعبدي أبداً من صفته الدينية والفنية معاً، ويمكن أن تحتل دراسته مكانها اللائق في غير هذا البحث عندما نتوجه بالدراسة إلى المؤمنين وحدهم، أولئك الذين ملكوا البصيرة العاقلة التي يمكن أن تنوب مناب العقل في إدراك العلاقة الروحية بين الله والعبد، إدراكاً تتجاوز الطاقة التي بذلتها البصيرة لتحقيقه كل طاقة يمكن أن يقدر عليها العقل في هذا المجال، فطاقات البصيرة هائلة وغير محدودة ولا تقف أمامها طاقة العقل القاصرة المقيدة.

ورغم اصطباغ الدعوة إلى الالتزام في الشعر بصبغة بعيدة عن الإسلام، فهي صبغة اشتراكية وجودية غالباً، لا نعلم حتى الآن اتجاهاً فكرياً استطاع أن يحقق أصحابه الالتزام الكامل في شعرهم كالاتجاه الإسلامي، وكأنما ألبس الشاعر المسلم ثوباً من روح الإسلام، لا ينطق إلا منه ولا يصدر إلا عنه، وهو إن رأى الاشتراكي يدعو إلى التقشف والمساواة، ثم لا تكون حياته إلا نموذجاً للترف والرفاه والعنصرية الحزبية أو المذهبية أو العقدية، فإنه يؤمن أن الثورة لابد أن تبدأ من داخله هو أولاً:

وشق الصدور وأضرم بها مهجة الزاحفين..

وغيّر هوانا، وغير رؤانا..

وأشعل بها ثورة لليقين12.

وأن تبدأ الثورة من الداخل يعني أن يعمر الإيمان قلب المسلم ليرتفع به فوق الطين، وليحرر روحه من قيود الأرض وأوشاب الرغبات، وساعتئذٍ له أن ينتظر النصر من عند الله:

فإذا انساب ضياء الفجر وعياً في الصدور.

وتلقته غراس المجد بالقلب البصير..

وتعالت عن حضيض الأرض غايات المصير.

فارقبي إذ ذاك فتحاً من يد الله القدير..13

وبدهي أن يشعر المسلم بالتمزق وهو يحس الإسلام نبضة في قلبه، ودفقة في شريانه، وصرخة في ضميره، وهواء يملأ عليه متنفسه، ثم يلتفت حوله فلا يجد للإسلام موقعاً على الأرض: الكفر والإلحاد والزندقة والفجر تملأ كل مكان، ولا سيما في ديار الإسلام فأين يذهب المسلم بنفسه:

وأصبح لا يُرى في الركب قومي

وقد عاشوا أئمتَه سنينا

وآلمني وآلم كل حرٍّ

سؤال الدهرِ أين المسلمونا؟14

هذا التمزق الداخلي الذي يعانيه الشاعر المسلم كان يمكن أن يؤدي بالآخرين إلى الضياع واليأس والانطواء على الذات، وقد حدث هذا للرومانسيين العرب غير الصادرين عن الإسلام في فكرهم وحياتهم، وقبلهم لرومانسيي الغرب أيضاً. ولكن المسلم وقد تسلح بنور القرآن كانت ذاته هي ذات الآخرين، ذات الأمة الإسلامية جمعاء، ولم يكن لينطلق أبداً من ذاته الفردية والإسلام دين الجماعة، إنه الدين الذي يوحد بين ((أنا)) و((أنت)) و((هم)):

وأنا وأنت وأمتي ميعادُنا

قَدَر نهدّ بفأسه الأصناما15

ولكن هذه الجماعية لا تتحول بالشعر عن طبيعته: فناً غنائياً ذاتياً بالدرجة الأولى، فالشاعر المسلم يدرك أبعاد هذا الفن تماماً، ثم يحاول أن يوفق بينها وبين الأبعاد الإسلامية من غير إخلال بالمعادلة بين الطرفين، وفي هذا السبيل يلجأ إلى عنصر ((الإنسان)) في الذات البشرية فيحاول أن ينمّيه، ممجداً ((الإنسان)) في المسلم، نائياً به عن المذلة والصغار اللذين انتهى إليهما في المذاهب الاشتراكية تحت شعار: الجماعة لا الفرد، فلا يمكن للجسم إذا فسدت خلاياه أن يصلح بناؤه، ولا يمكن للجماعة إذا فسد أفرادها وذلوا أن تكون جماعة قوية معافاة، إذن فالإنسان وكرامته وحريته أولاً في الإسلام:

 

فاربأ بنفسك أن تكونَ وأنتَ ذو

الروح المكّرمِ للهوانِ أسيرا

إنّ الذي بيديه صاغك سيداً

للأرضِ يغضبُ أن يراك حقيرا16

ورغم ذلك فإن الشاعر المسلم لا يتعامى عن حقيقة أن الإنسان طين، وأن نازعة من نوازعه تشده إلى ذلك الطين، وأخرى تحاول أن ترتفع به إلى السماء، حيث القبس من روح الله. ولا يحس أحد بمثل هذا الصراع بين نوازع الأرض والسماء كالمسلم، ولا يستطيع أن يعي حقيقته مثل المؤمن المفكر المنسجم مع نفسه، والذي يقرّ بحقيقة هذا الصراع واستحكامه من نفسه، فالفضيلة والرذيلة كلتاهما تعيشان في داخله:

يتعاقبان عليّ: طين هابط

وشعاعُ شوقٍ منقذ ناداني17

والشيطان ((الجنس)) يحتل المكانة الأولى بين أذرعة الطين التي تمتد إلى المسلم لتغرقه في حمأتها، فأنى له أن يتجنب الصدام مع هذا الوحش، وهو يعيش في داخله ويسري في دمائه، خلافاً لكل المآثم الأخرى:

ما فتيء الشيطانُ يغريبي

ولم ينل منّي مأمولا

أخافُ إن لم يحمِني ربّي

من وسوساتِ الزلّةِ الأولى18

إن مثل هذا الصراع الداخلي العارم لا يمكن أن يحس به غير المسلم، والالتزام الاشتراكي أو الوجودي لا يملك الأساس الروحي الذي يوجِد في نفسه الطرف الثاني من هذا الصراع، فالطين عنده هو كل شيء، معركته في الحياة – إن سميت كذلك – ذات قطب واحد لا وجود فيه للشد والنزاع، وصوت الطين يعلو على كل صوت يمكن أن يظهر إلى جانبه، فما الوازع الذي يمكن أن يوجد معادلة الصراع هذه عنده؟ ومن أين يأتيه مثل هذا الوازع مادام يرى في الجنس سلعة مادية لا تختلف في قيمتها عن أية حاجة بشرية أخرى؟ واستسلامه لشيطان الجنس يغريه بالاستسلام إلى كل الشياطين على أنواعها، ولذلك نجد استسلام البشر للشيطان الأول مرتبطاً باستسلامهم للشياطين الأخرى على الأغلب، وهو استسلام بلغ في هذا العصر حداً لم يحلم به الشيطان نفسه، بل إن الشيطان كما يقول محمد إقبال في ملحمته الشعرية (رسالة الخلود) لم يعد يرى الإنسان المعاصر جديراً بخصومته، ويدعو الله أن يهبه خصماً جديراً بالمنازلة بعد أن وصل إنسان العصر إلى درك من الانحطاط لم يعد يغري الشيطان باقتناصه والسعي إلى إغراءه. وهكذا يتحول الواقع الإسلامي من حول الشاعر إلى مجموعة من البؤر المريضة التي تنشر الفساد والضعف والتقهقر والانحطاط في بلاد الإسلام:

كُفر وخمر وإلحاد وزندقة

وفرقة طوّحتهم واختلافات19

وبدهي أن تُنبت هذه البؤر حكاماً يحملون في داخلهم كل مقوماتها، وماذا ننتظر من مثل هؤلاء الحكام إلا الانهيار تلو الانهيار، والهزيمة تلو الهزيمة، والنصر الوحيد الذي يستطيعون تحقيقه هو على مواطنيهم العزّل الضعاف:

لكن نسيان القيادة ربها

هدم الذي قد شاده الإسلام

وَلَو أنّ أستار الفضائح هُتّكت

لتعثرت برؤوسها أقدام

أعَلَى شعوبكم صوارم نقمة

وعلى يهود سماحة وسلام20

وليس لنا أن ننتظر من مثل هؤلاء الحكام إلا التراجع والخيبة والخيانة والاتباط بين مأساة فلسطين والانهيار الخلقي والديني عند الحكام واضح وأكيد:

وقد عهدنا أخا الدنيا وعابدها

مستكبراً وهو عند الرّوع رعديد

فهل يحرر أوطانا وينقذها

من المهالك سكّير وعربيد…؟21

وعلى الرغم من أن التيار الدنيوي الذي يقوده معظم حكام المسلمين، بما فيه من مروق وفجور وتحلل وإلحاد، هو المسؤول عن كل هزائمنا وتراجعنا الحضاري، يظل المسلم هو المتهم بالخيانة، والمتهم بالرجوع إلى الماضي والتعلق به، وهي التهم الوحيدة التي اعتادوا توجيهها إليه لأنها وحدها التي لا يراها المواطن أو رجل الشارع بأم عينه، وأن الرشوى، والفساد الحكومي، والسرقات الكبرى على مستوى رؤوس الدولة، والظلم الاجتماعي، والتمييز المذهبي والعنصري والطائفي والإقليمي والعشائري الذي حل محل التمييز الطبقي، بل أضحى تمييزاً طبقياً جديداً ينال فيه أهل الحكم كل شيء ويحرم الجانب الآخر من كل شيء، هذا الذي يحسه المواطن العادي، ويشقى بمعاناته منه، ويشير فيه إلى الحاكم بوضوح متهماً بل مديناً، هذا كله يتعامى عنه الحاكم ثم لا يجد ما يوجهه إلى المسلم إلا الخيانة والرجعية، التهمتان الوحيدتان اللتان لا يمكن للمواطن العادي أن يميزها أو يعرف من هو الجدير بأن توجها إليه: رجل الدنيا الذي يقبل عليها ليأخذ منها كل شيء قبل أن يفوته كل شيء، فهو لا يرجو الآجلة، فليعبّ إذن من العاجلة، أم رجل الدين الذي آمن بالآخرة وبالحساب العاجل والآجل، فهو يخشى عذاب الله في نفسه وفي مسؤولياته قبل أن يخشى عقوبة الحاكم؟

ماذا أقول لسيّد

نَزِقٍ جهول أرعنِ

مولاي إني قد كرهتُ

تفاهتي وتعفني

إن كانت الدنيا مني

نفسي كما علمتني

إن لم يكن لي عودة

أخرى كما أفهمتني

فلأي أمرٍ سيدي

أنا خِلُّ فقرٍ مزمنِ

لِمَ لا أبيع بما يسدّ

الجوعَ عزّة موطني

وأصون نفسي بالفرار

من الجهاد الموهنِ؟

وأكون فيكم شَرِّجا

سُوسٍ وأقذر مذعن؟22

وهكذا لا تبقى إلا تهمة الخيانة سلاحاً للطغاة ضد أصحاب الفكر الإسلامي الثائر يحولونه من صدورهم التي يتوجه الشعب بأصابع اتهامه إلى صدور هؤلاء الشرفاء الأبطال، إنها مشكلة كل مسلم يعي دينه اليوم ويحمله عذاباً فوق كتفيه:

أمّا حكايتنا فمِن لونِ الحكاياتِ القديمه..

تلك التي يمضي بها التاريخُ داميةً أليمة.

الحاكم الجبّار والبطش المُسّلح والجريمه..

وشريعة لم تعترف بالرأي أو شَرَف الخصومه

ماعادَ في تنَورِها لحضارةِ الإنسانِ قيمة

***********

الحُرّ يعرفُ ما تُريد المحكمهْ.

وقضاتُه سلفاً قد ارتشفوا دمَهْ.

لا يرتجي دفعاً لبُهتانٍ رماه به الطغاهْ..

المجرمون الجالسون على كراسيّ القضاهْ..

************************

كَذَبوا وقالوا عن بطولتِه خيانهْ..

وأمامنا التقريرُ ينطقُ بالإدانهْ..

هذا الذي قالوه غداً يردد عن سواه..

ما دُمت أبحثُ عن أبيٍّ في البلادِ ولا أراه..

مِن أنّهم قاموا إلى الوطنِ الذليلِ فحرّروه..

لو كان حقاً ذلك ما جاروا عليه وكبّلوه..

ولَمّا رَمَوا بالحُرِّ في كهفِ العذابِ ليقتلوه..

ولَمّاَ مَشَوا للحقِّ في وهْج السلاحِ فأخرسوه..23

وإذن فكيف الخلاص من شر هؤلاء الطغاة وهم يتعقبون كل أثر للخير أو الصلاح أو الاستقامة في البلاد فيستأصلونه؟ ماذا يبقى من بعد غير الموت أو النفاق؟

هذا الذي كتبوه مسمومُ المذاقْ..

لم يبق مسموعاً سوى صوتُ النفاقْ..

صوتِ الذين يقدّسون الفردَ مِن دونِ الإلهْ..

ويسبّحون بحمدِه، ويقدّمون له الصلاه..24

إنها مأساة المسلم الواعي في غربته الفريدة من نوعها، تعزله عن أمته ووطنه، وتجعله عاجزاً عن ممارسة دوره تجاه الأرض والإنسان وهو الذي يشعر أنه يحمل لهما مشعل الحق والخلاص، ولكن حامل الظلام هو الذي بيده مقادير الشعب والوطن:

غيرَ أنّ الزمانَ سارَ بنهجٍ

عزّ إدراكنا لغَور قرارهْ

ضَفَرَ الغارَ للجبان وأقصى

عن جبينِ الشجاعِ إكليل غارِه

حاد بالمخلصين عن جَدَد المجْد

مُعيناً عليه بعضَ شِراره

فتنة تلك في الورى واختبار

أين ما يمضي زمانُنا في اختباره25

إن الملاحظة السريعة للشعر الإسلامي الملتزم تجعلنا ندرك أنه وحده الذي كان يبحث عن الحقيقة دون نفاق أو مواربة، ودون تعامٍ عنها وتشاغل بغيرها، حين كان الاشتراكي الملتزم منصرفاً إلى الحديث عن خبز العالم وعرق الفلاح، كان الإسلامي الملتزم منشغلاً بما هو أهم من الخبز والعرق، فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان. إن الذي يطالب بخبز الفلاح والعامل نسي وطن الفلاح وخيانة الحاكم وتحلله ومروقه وسرقاته، إذا كان الإقطاعي قد امتص عرقه فالحاكم الآن يمتص دمه ومستقبله، وإذا كان الرأسمالي قد حرمه من بعض الحقوق فالحاكم الآن يحرمه منها كلها، بل يحرمه حتى من صوته وحتى من جيشه الذي كان يرجو أن يحمي له أرضه، ثم ماذا..؟ ليس إلا النفاق، وكأن النفاق قد غدا جزءاً من طبيعة الناس، فرأيت بعض الرجال ممن يحمل شعار الإسلام بطريقة ما يصفق للحاكم ويفتي له بما يشاء ووقت يشاء، والشعب في ذهول عما يحدث:

شيخ يناهزُ عمره السبعين عاماً هزّ مسبحةً وقال

فتدافعت جُثَثُ الحقائقِ في الحُلوقِ مشوّههْ

ولَوى أحاديث النبيّ وساقهُنّ تقرّباً لخليفتك

وقد كان يفعلُ مثلَ ذلك في بَلاطِكَ سابقاً

ويقالُ كان يقولُ ذلك مرغماً من خيفتِك

مُنْذا تراهُ اليومَ يدفعه ليخطب في الجموع منافقاً؟

أهو التطوع بالنفاق؟

والزور أمسك بالخناق..؟

والشعب ليس له خَلاق

لا صوتَ يعلو فوقَ صوتِ منافقٍ في مؤتمر..

**************************

يا راقداً طيّ الجحيم ولا جدالْ

ثكلتك أمك كم قتلت لها الرجال

لكنني أرثيك إن جنّ الخيال

فلقد عرفت طبيعة الجبنِ الكريهة فيهمُو

فأخذت ثأرك قبل موتِك منهمُو26

إن التزام الشاعر الإسلامي التزام مرٌ حقاً، غالباً ما يبدأ بالقلم وينتهي بالإعدام. وكثير من الشعراء الملتزمين إسلامياً التفت حبال كلماتهم حول أعناقهم، وطُعنوا باقلامهم وهم في العشرينات أو الثلاثينات، ومع ذلك فركب الشعراء مستمر، والمقصلة تعمل، والحياة تتحرك باتجاه الإسلام، ما عرفت تحركاً للإسلام منذ قرون فتكاً بالمسلمين يضارع فتك حكامهم بهم اليوم، وفي الوقت نفسه ما عرفت تحركاً للإسلام منذ قرون يضارع تحركه اليوم، كلما ازدادت متوالية البطش سرعة ازدادت متوالية التحرك الإسلامي جموحاً، كلما اكفهر الأفق ازدادت كوة الأمل اتساعاً، وتَرقّب المؤمنون نصر الله:

إن روح الشباب لا تَعرفُ اليأسَ

وليستْ تخشى صروفَ القضاءِ

عصْرنا لا يُطيقُ في الموكبِ الجبّارِ

شكوى ضراعةٍ أو بُكاءِ

إنّه يطرحُ الهشيمَ على الدربِ

حُطاماً تذروه ريحُ الفناءِ

ثم يمضي على الرُفاتِ ويبني

من حطامِ الردى صروحَ البقاء27

إنهم ينتظرون البناء بعد الهدم، والفجر بعد الغسق، واليابسة بعد الطوفان، إن الأمل لا يفارقهم وهم يعيشون أصعب محنة عاشها بشر:

كأنّني ألمح الطوفان منحسراً

ويحَ الفناءِ إذا ما حانَ إقدامُ

يبني ويهدم لا يُبقي على دَجَلٍ

والحقُّ ركنان، بنّاء وهدّامُ

وهُنا يبدو الفرق شاسعاً بين واقعية الالتزام الإسلامي وكل الواقعيات الأخرى، فاليأس الذي أشاعته الرومانسية في هذه الواقعيات، مهما تسربل بأثواب مموهة، كان يبدو واضحاً عند معظم شعرائها في كل ملمة أصابت الوطن أو الشعب، أنهم يبكون حين يبكي الشعب ويضحكون حين يضحك، ولكن الشعب بحاجة إلى من يمسح دموعه حين يذرفها ويشجعه على النهوض والاستمرار في مسيرته، وهو بحاجة، حين يستسلم إلى الضحك، إلى من ينبهه إلى الأخطار التي ما تزال محدقة به، ويذكره بأن عليه أن يطامِن من فرحه حتى لا ينسى نفسه ويقف دون الهدف الذي لابد أن يتابع الطريق إليه باستمرار، الهدف الذي يظل هدفاً من غير أن يقع يوماً في يد الساعين إليه، إنّه الأمل بالأفضل، ومادام هناك أفضل باستمرار فهناك هدف باستمرار، والسعي مستمر لبلوغ هذا الهدف اللانهائي، أما الأزمات والمحن والدماء والموت فإنما هي جالية للصدأ شاحذة للعزائم، إنها فرصة للمسلم تشحنه للوثبة القادمة، أو ترزقه الشهادة:28

أخي أنتَ حرٌّ وراء السدود

أخي أنت حرٌ بتلك القيود

إذا كنت بالله مستعصماً

فماذا يُضيرك كيدُ العبيد..؟

**************

أخي إن ذرفت عليّ الدموع

وبلّلت قبري بها في خشوع

فأوقد لهم من رفاتي الشموع

وسيروا بها نحو مجدٍ تليد

***************

أخي إنني ما سئمتُ الكفاح

ولا أنا ألقيتُ عنّي السلاح

وإن طوقتني جيوش الظلام

فإني على ثقةٍ بالصباح

**************

سأثأر لكن لربٍّ ودين

وأمضي على سنتي في يقين

فإمّا إلى النصر فوق الأنام

وإمّا إلى الله في الخالدين29

أما الاغتراب والهجرة والنفي عن الوطن فإنما هي وقفة مع النفس تسترد خلالها الأنفاس وتراجع الحسابات وتتحفز للخطوة القادمة:

قالوا اعتزلتَ فقلتُ عُزلةَ رابضٍ

متحفّزٍ للوثبةِ الشمّاء

إني لأرجو أن أحاول صادقاً

في صوغ ذاتي مِن تقي ومضَاء

لأكون في الجُلّي إذا الداعي دعا

سهماً يصيب مقاتل الأعداء

ما عزلة الأحرار إلا عزة

والصبر كل الصبر في اللأواء30

إن جانب الاغتراب والنفي والسجن والتعذيب والتمثيل في الأجسام الحية والاستشهاد يحتل الجانب الأكثر صدقاً والأشد انفعالاً والأقدر فنياً من الجوانب الأخرى في الشعر الإسلامي، فلقد لاقى مجاهدو الإسلام من ذلك في العصر الحديث مالم تعرفه حتى محاكم التفتيش التاريخية، وقد كان يضرب بها المثل إلى وقت قريب في اختراع أفانين التعذيب التي تتخلى تماماً عن التفكير بإنسانية الإنسان، إن ((محاكم تفتيش)) العصر قد جاوزت كل تصور للتعذيب وفاقت كل ما وصفه التاريخ من ألوانه وقسوته، ومع ذلك فصبر المؤمن المجاهد على هذا التعذيب قد فاق كل صبر، وثباته فاق كل ثبات، وانتصار اللحم على آلة التعذيب الحديدية لم يكن أحد يتصوره:

يصبر الحُر للزمان ولا تغبر

نعلاه في رِكاب العبيد

وإذا الجوع عضّه أشبعته

كَسرة من جَرابَهَ المعهود

في السويداء أنتِ أيتها الدار

برغم الهوان والتشريد

ينشُد الدارَ بعد أن ضاع دهراً

في ديارِ العذابِ والتهديد

يتلقّى الرياح والبردَ والأمطارَ

في بُردِه الغليظِ الزهيد

غربة ذاقها (الخليلان) عادت

بعدَ دهرٍ إلى حفيدِ الحفيد

وبُدورُ طاروا هُويّاً من الليل

وحَطّوا على ضفافِ الخلود

صمدوا والحريقُ يعلو وَدبّا

باتُ نمروذَ قاصفاتُ الرُّعود

وطوتْهُم مَجاهل الغيبِ لا إنسان

يدري لحداً لهم في اللحود

رَبِحَ البيعُ يا بُدُورُ وهدّت

مُضغة اللحمِ كبرياءَ الحديد

باءَ نمروذُ بالعَذابِ وظلّت

وصمةُ العارِ في جبين الجنود

وشخصية رجل التعذيب الذي قُدّ من صخر تكاد تكون واحدة في مختلف السجون ومختلف الأقطار:

وتصدّى له من الصخرِ وحش

كاسر جازر غليظُ الزنود

يتولّى فيسبقُ الريحَ مغوارُ

الدياجي بنابِهِ المبرود

ظاهر، غائر، قريب، بعيد

جبليّ، ألدٌّ، جِد حقود30

*******

لقد كانت التجارب القاسية المرة التي خاضها الشاعر الإسلامي في العصر الحديث تشغله عن كل تفكير بالشعر الديني العام، ونعني به الشعر الذي يتناول فيه الشاعر مختلف مشكلات الحياة من وجهة نظر إسلامية، ولكن من غير أن يصرّح بهذا، ودون أن يلجأ إلى أساليب العرض الإسلامي المباشر للمشكلة أو حلّها، والحقيقة أن اليوت – أبا الشعر الحديث – كان أول من فصل بين الشعر الديني التعبدي والشعر الدعاوي أو التبشيري في مقالته (الدين والأدب)31.

ونحن لا نسمي النوع الثاني كذلك، وإن كان في حقيقته جديراً بأن يكون الشعر المبشر بالإسلام تبشيراً يتناسب والتربية العصرية للإنسان الحديث، الذي ينفر عادة من كل ما هو مباشر وصريح، بينما يشده الرمز العميق والإشارة البعيدة والتلميح الخاطف والمعادل الموضوعي الخارجي للأشياء وهذا الجانب من الشعر هو أندر الجوانب لدى شعرائنا الإسلاميين، فالتبشير بالإسلام لابد أن يحمل عندهم عنوان ((الإسلام)) دون مواربة أو تمويه، وهذا يدفعهم بطبيعة الحال إلى التعبير عما في نفوسهم بصراحة وبمباشرة كثيراً ما يصل أمرهما إلى درجة المبالغة والإفراط. وقد خطا الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل خطوات بعيدة في التخلص من أسر هذه النزعة ولا سيما في مجموعتيه الشعريتين ((لابد)) و((قاب قوسين))، وهي خطوات جدير بالشعراء الإسلاميين تتبعها وتمثلها والاهتداء بها، وإن كانت ما تزال دون الهدف الذي نسعى إليه وننشده في الشعر الإسلامي، ولم نصل مثلاً في هذا المجال إلى المستوى الذي بلغته قصيدة اليوت ((رحلة المجوسي)).

ونزعة ((التقريرية)) هذه أو ((المباشرة)) لابد أن تنعكس على مختلف مقومات الشعر الفنية، فجدلية الشكل والمضمون تقتضي وحدة الروح العامة للنص الشعري، واستقامة الاتجاه الفكري وصرامته تنعكسان على الهيكل الفني والعروضي واللغوي والخيالي للشعر، فتغدو هذه المقومات بطيئة التطور ضعيفة الحركة باتجاه الأفضل، وهكذا قلّ أن نجد شاعراً خرج عن الهيكل التقليدي للقصيدة إلى مثل هذا الهيكل الحواري غير المباشر الذي اتبعه الشاعر الفلسطيني أحمد محمد الصدّيق في قصيدته (مجمع القرود)32 فقد أقام عمله على بناء درامي يسوق فيه مهاجمة الإسلام على ألسنة أعدائه، بأسلوب تحسّ فيه السخرية وإن لم يصرح الشاعر بها، فهو يصور لنا داعية مسلماً يدعو الناس إلى الإسلام ولكن أعداءه من الملاحده الذين يسعون إليه يرمونه ويرمون الإسلام بكل ما عندهم من ترهات، دون أن يحاول الشاعر دفاعاً أو رداً لما يتقولون، وهذا ما يسوقه على لسان قوميٌّ عربي:

أيها الصّحبُ اليكم فكرة الحق الجليّة

فِكرتي من سفسطات الدين بيضاء نقيه..

فكرتي تربط ما بيني وبين الجاهليه..

و((أبو جهل)) زعيمي هو أستاذ الحميّه.

ونظامي مستمَد من نظام الماركسيه..

أنا قومي أصيل وشعاراتي قويّه..

وَحدةُ الطين التي تجمع أوطاني القصيّه.

هي لا شك ستبني دولة العُرْبِ الفتيّه..

ليس للدين عموماً بينَ أيدينا وصيّه..

إنّه يسعى إلى الفُرقةِ ما بينَ الرّعيه..

إن الشاعر يتجنب المباشرة في عرضه لدعوى الإنسان القومي الاشتراكي التقدمي. ونزداد اقتناعاً بذلك وقد عرفنا أن أصحاب هذا الاتجاه قد غدوا يصرحون حقاً بمعالم اتجاههم، دون خجل أو مواربة، فأبو جهل وماركس عندهم رمزان للقومية العربية والاشتراكية والتقدم، بإزاء الدين والسلفية (الرجعية)، والإسلام يعني الموت لهم:

لو أقاموا دولة الإسلام ماتَ الناسُ جوعاً

حرّموا الخمرةَ.. والرشوةَ.. والفنَّ الرفيعا

كيف نجني بعدها الربحَ..؟ ألا ماتوا جميعاً

وفي النهاية لابد أن يلقي الداعية المسلم مصيره المحتوم أمام التيار الجارف للجاهلية المنتصرة في معظم بلاد الإسلام، فيسقط بين أيدي زبانيتها من رجال ((الأمن)):

قد حَشَوا رأسَكَ.. مهلاً.. هذه الرأسُ ستُحطمْ

سوف نستخرجُ منها كلَّ علمٍ كنتَ تعْلَمْ

ألهبيه يا سياطي.. أطعميه الموتَ علقَمْ

كنت تدعوا الناسَ للإسلام.. لاشكّ ستندمْ

*********************

والبناء الفني العام مرتبط بالبناء العروضي، وقليلاً ما حاول الشعراء الإسلاميون أن يطوروا فيه التطوير الأصيل الذي يمكن أن يواجه بقوة الانحرافات الشاذة عن القاعدة، تلك التي يمارسها أصحاب الاتجاهات الأخرى على العروض العربي، وهذا لا يعني أن هذا النوع من التطوير لم يمارسه الإسلاميون حقاً، ولكنه قليل كما ذكرنا لا يمكن أن يشكل ظاهرة عروضية يعرف بها الشعر الإسلامي، وتكاد هذه المحاولات تقتصر على أعمال محدودة لشعراء إسلاميين أو لشعراء وضعوا بعض الأعمال الإسلامية، وعلى رأس هؤلاء نازك الملائكة ومحمود حسن إسماعيل ومحمد المجذوب ومحمد الحسناوي وعصام الغزالي وعبدالله عيسى السلامة ومأمون فريز جرار وشريف قاسم ومحمد العيد الخطراوي ومحمد هاشم رشيد.

إن تعدد الشعراء الذين مارسوا هذا النوع من التجديد العروضي الأصيل، على قلة النماذج العروضية الجديدة لكل منهم، يبشر ولا شك بحركة عروضية واسعة فنية مخصبة تتحقق على أيدي الشعراء الإسلاميين، وتستطيع أن توقف زحف الحركات العروضية التي انحرفت عن القاعدة انحرافها الشاذ الخطير الذي يمكن أن تكون له تأثيراته القاتلة في جذور أصالتنا.

وهذا التجديد العروضي يثمر عندهم غالباً تجديداً لغوياً وخيالياً، والجدلية الداخلية هي التي تؤدي ولا شك إلى مثل هذا الترابط التجديدي المثلث، فإذا بحثنا عن اللغة الجديدة، والصورة الحديثة والرمز اللغوي الذي تختلط فيه اللفظة بالخيال، فلن نجدها غالباً إلا في هذه النماذج العروضية القليلة عند شاعرنا الإسلامي، وسوف نلحظ هذا بسهولة في المقاطع القليلة التالية التي نقبسها من قصيدة (على باب غرناطه) للشاعر الأردني مأمون فريز جرار:

على بوابة الأحزان

وقفتُ أهزّ أغصاني

تعرّت.. آهِ يا أيامَ حِرماني

مشققة شفاهُ الغصن محروقة

براعمُهُ كأطيافٍ من الذكرى

تُطِلّ على ربيبِ العِزّ.. ألقاهُ..

الزمانُ على بساطِ الشوكِ.. عرّاه

***************

هنا في ظلّ أغصاني

ملأتُ مجاممَر الأنسامِ بالطيبِ

بنيتً لخلوةِ العُشّاقِ محراباً

***************

وقفتُ ببابِ غرناطة

بَكَيتُ بَكَيتُ.. يا غرناطةَ الأحزانْ

وفتّشتُ الدروبَ أسائلُ العمدانْ

عن الأهلِ

رأيت سيوفَنا في مُتْحَف التاريخِ

مُغْمدَةً على دمِنا..

قتلتُ أخي

قتلتُ أبي

قتلتُ ابني

وآخر ليلةٍ كانتْ…

وضعتُ السيفَ في نحري..

**************

خرجنا كالنساء نجرّ ثوبَ الدمع

ركبْنا البحرَ بالذُلّ

فليتَ البَحر لم يفتح لنا بابَهْ

سبايانا

وذكرى مجدِنا المحروقْ

وأياماً

وأحلاماً

طويناها

طواها سيفُنا المغموسُ في دمِنا

إن البناء العروضي هنا لم يخرج على القاعدة، بل طورها فيما أطلقنا عليه فن (التوقيع)33. فتفعيلة الوافر المجزوء تنتظم الأسطر جميعاً على اختلاف أطوالها، والقافية الواحدة (فعلن) تنتظمها أيضاً، على تنوع الروى وتلونه بشكل يحافظ معه الشاعر على كيانه وشخصيته، فلا يهمله إهمالاً تاماً ولا ينوع فيه تنويعاً يفقده تأثيره الموسيقي العام في القصيدة، وفي الوقت نفسه لا يسمح الشاعر للتفعيلة الواحدة التي تنتظم قصيدته كلها بالسيطرة عليها موسيقياً لتفرض نغمها الرتيب الحاد، وهو يتخلص من هذا الرتوب أو الحدة بتدوير الأسطر أحياناً كما في السطرين السادس والسابع، إذ نضطر في قراءتنا لهما إلى وصلهما معاً لأن التفعيلة الأخيرة في السطر الأول تستغرق كلمة (ألقاه) وجزءاً من كلمة (الزمان) التي يفتتح بها السطر التالي، والتريث الذي سنضطر إلى مراعاته عند انتقالنا من السطر السابق إلى اللاحق سيقطع التفعيلة في وسطها، وهذا سيخفّف من إحساسنا بإيقاعها، وسنشعر كأن إيقاعاً جديداً اقتحم علينا الطريق ونحن ومسترسلون مع إيقاع ((مفاعلتن)) الرتيب وهذا يتكرر في السطرين الخامس عشر والسادس عشر أيضاً وكذلك في الخاتمة التي تخالف عنصر التوقع في نفوسنا، هذا العنصر الذي يقوّي من إحساسنا بالحدة والرتوب، لأن الشاعر شحنها بعنصر الخيبة الملطّف من تأثير عنصر الرتوب، فهي ليست الخاتمة الإيقاعية الحادة التي يرتفع فيها صوت الشاعر او ينخفض عما كان عليه في الأسطر السابقة لها، ليوحي لنا عن طريق هذا الارتفاع أو الانخفاض بأن النهاية قد اقتربت، وأن ذروة الطريق الموسيقية أو حضيضه سيكون عند سطر الخاتمة، بل تأتي نغمة الخاتمة مساوية تقريباً أو موازية لنغمة الأسطر السابقة لها، بل إنها تنتهي برويّ جديد يختلف عن كل رويّ قريب منها، وبقافية مختلفة أيضاً عن كل قافية قريبة، فهي من النوع المتدارك (فَعَلن: دمنا) وقد كانت من قبل من النوع المتواتر (فعْلن) وهذا يساعد أكثر على التخفيف من حدتها ومن حدة إحساسنا بتدرج النغمة فيها.

إن هذا نموذج مبسّط جداً ((للحركة)) الإيقاعية التي يمكن أن يمارسها الشاعر ضمن ((الثبات)) العروضي التقليدي إذا أخذنا بمبدأ ((الحركة ضمن إطار ثابت)) الذي يدعو إليه النقاد الإسلاميون34، وما هذا النموذج إلا واحد من نماذج عديدة لدى الشعراء الإسلاميين، ولكنها كما قلنا لا تشكّل بعد ظاهرة يمكن أن نعدّها للشعر الإسلامي. وأهم ما في هذه النماذج أنها تمنحنا الفرصة لرؤية أوضح للّغة والخيال الجديدين في الشعر الإسلامي، فهي بؤرة صالحة لظهور هذا الجانب التجديدي. ورغم الغنائية التي تتسرب إلى قصيدة (على باب غرناطة) – والظاهرة الغنائية واضحة عند أصحاب القصيدة الحديثة أو الكليّة خاصة – رغم هذه الغنائية التي تظهر في تكرار بعض الألفاظ المشحونة عاطفياً (بكيت.. بكيت) وبروز ضمير المتكلم بشكل واضح (أهزّ أغصاني، حرماني، ملأت، بنيت، وقفت، بكيت، فتشت، أخي، أبي، ابني، نحري..) فإننا نحس أنها غنائية مختلفة، من ناحية، عن الغنائية التقليدية القديمة، وأنها غنائية بناءة لا تنصرف إلى مجرد ذرف العواطف واستدرار المشاعر، أو إلى مجرد التلاعب اللفظي الذي يقصد به الإيهام بأننا أمام لغة جديدة، كما يفعل أصحاب القصيدة الحديثة، من ناحية أخرى.

إن التكرار هنا أدى وظيفة التأكيد باعتدال ورصانة، وضمير المتكلم لم يكن يعبّر عن الذات الفردية بل عن الذات الجماعية، وما أسهل أن نستبدل منه حيث كان ضمير الجماعة، وما معنى (أخي، وأبي، ونحري) هنا إلا (إخوتنا، آباؤنا، ونحورنا)، كنا في الأندلس ننتحر باستمرار، وما قتل المسلم لأخيه إلا البداية التي تنتهي بقتله لنفسه، مثلما يقع للمسلمين اليوم في شتى أصقاعهم، بل إن الشاعر كان ((يستريح)) أحياناً من مسيرة الضمير المفرد عند متكآت من ضمائر الجماعة (سيوفنا، دمنا، خرجنا، ركبنا، سبايانا، طويناها).

ولكن أهم ما يستوقفنا في القصيدة العبارة الجديدة، وهي العبارة المصوَّرة لأنها تؤدي دورها الصوتي والخيالي معاً، وهو مظهر جديد على لغتنا كان للمدرسة الرمزية الغربية دور هام في إيجاده، فالعبارات (بوابة الأحزان – شفاه الغصن – مجامر الأنسام – بساط الشوك) جديدة على الشعر الإسلامي خاصة والعربي عامة، بما فيها من تجاوز ألفاظ لم نعهد تجاورها، ولا سيما إذا كان هناك نوع من التباعد أو التناقض بين هذه الألفاظ (أنسام والمجامر) مثلاً، وكذلك (الشوك والبساط) وهو تجاور يفجر في نفوسنا إيحاءات شديدة الخصوصية لم تكن اللفظة في سياقها التقليدي تملك حساسية أدائها، وهي إيحاءات توازي الإيحاءات الخيالية التي تثيرها الصور منفصلة عن لغتها. ومعروف أن لا انفصال بين الخيال واللغة لا في الصورة التقليدية القديمة ولا في الصورة الحديثة، إذ لابد للصورة من عنصرين تقوم بهما: العنصر الزماني (الصوت) والعنصر المكاني (أطراف الصورة).

وهكذا نستطيع أن نجد في قصيدة واحدة أخرى من الشعر الإسلامي مثل هذه العبارات – الصور (ثلج الغرور – مزقة خيال – حزمة طموحات – زورق شهيق – ثغر الهدوء – أفراس الأمس – أمضغ الأيام)35. ولكن هناك خطراً كبيراً يهدد الشعر الإسلامي في طريق هذا التجديد اللغوي، فمثل هذه العبارات – الصور يكثر عند أصحاب القصيدة الحديثة، وإن كانت عندهم لا تؤدي إلى أي معنى، تبعاً للسياق غير المنطقي أو العقلي الذي يسوقونها فيه، وأشد ما نخشاه، إذا أسرف الشاعر الإسلامي في استعمالها، أن تطغى على لغته، فيؤدي اتصالها في أبياته إلى سقوط في الإبهام و((الكليّة)) واللا معقول.

وهذا الخطر غير بعيد الاحتمال، ولا سيما إذا عرفنا أن في لغة القصيدة الحديثة كثيراً من البهارج التي حدث أن شدت إليها الإسلاميين، كما حدث في عناوين بعض القصائد الحديثة فأتت على شاكلتها، مثل (خماسيات في أبجدية التاريخ36 هوامس نقشبندية على أوراق وهابي37

والرمز هو أهم ما نتطلع إليه عند شعراء القصيدة الإسلامية، فلقد لاقت الرموز التاريخية الإسلامية عنتاً على أيدي أصحاب الحركات الشعرية الحديثة غير الملتزمة بخط الإسلام. فبقدر ما قدّس الأوروبيون رموز الأساطير اليونانية في شعرهم الحديث وتبعهم في تقديسها الشعراء العرب غير الإسلاميين، بقدر ما حارب هؤلاء رموز الإسلام والخلافة والإمامة والسنّة وكل الأعلام الذين ساروا في ظلها، وكان على الشعراء الملتزمين مهمة خطيرة شاقة هي إعادة الاحترام والقدسية لهذه الرموز في نفوس القراء، وقد كادت تتشوه حقائقها بشكل أصبح من الصعب معه إقناع العامة بالوجه الأبيض لها وقد غطته أدخنة المغرضين السوداء.

ولم يكن على الشعراء الإسلاميين إلا أن يستوحوا التاريخ والواقع استيحاء نقياً غير مشوه، فيضعوا النقاط على حروفها، والأمور في مواضعها، فيكون الرمز ابن العقل والمنطق قبل أن تصهره بوتقة الخيال وتحوله إلى صورة، فالسلطة الغاشمة التي تكمم الأفواه وتلتف حول الأعناق وتقيد الحركة جديرة برمز (العنكبوت) الذي أطلقه عليها عصام الغزالي في قصيدته التي تحمل هذا الإسم:

وصرختُ لكنْ ما يزال العنكبوتُ على فمي

والعنكبوتُ على المآذنِ، فامسحي وتيمّمي

و(ذات الخمار المريمي) جديرة بأن تكون

رمزاً لفلسطين السبيّة الجريحة:

كذبتْ عليكِ ظنونُهم فخمارُ طُهرِك مريميّ

و(الذئب) و(ابن الاماء) رمزان

جديران بالصهيونية التي تنشب مخالبها بأرضنا:

أو زوّجوك ابنَ الإماءِ وقدّموك لمأثمِ

وأنا وأنتَ وبيننا ذئب وعندكَ باسمي

وتنقلب رموز كحطين وصلاح الدين وأبي محجن الثقفي وعمار بن ياسر وعكرمة بن أبي جهل ووحشي والعز بن عبدالسلام وأصحاب السفينة وأهل القرية إلى رموز طيبة تزخر بالروح الإسلامية، وقد كانت ملوثة شوهاء عند أصحاب الحركات الشعرية المنحرفة عن القاعدة الجديرة بأن تستمد منها أصالتها: قاعدة الإسلام والتاريخ العربي الحقيقي الذي يحمل الحقيقة المشرّفة البيضاء لهذه الرموز جميعاً، ولكن الشعراء الإسلاميين ما يزالون دون المستوى المطلوب منهم في إحياء رموزنا الفنية الخصبة، وما يزال التاريخ الإسلامي ماضياً وحاضراً، يزخر بأسماء الأبطال والمواقع والمعارك والمفكرين والعلماء الذين يقف الغرب أمام سيرهم مدهوشاً، ثم لا نجد شاعراً واحداً يتوجه برموزهم سهاماً ضد رموز الباطل والتشويه والانحراف التي طغت على الساحة العربية بمختلف محاورها.

 

واقع المنهج وطموحه:

لقد أظهر واقع القاعدة أن الشاعر العربي الحديث لم يعد يحس أنه مرتبط بهذه القاعدة، بعد أن تلونت الدعوات المشبوهة التي تحلله من جذوره، وتصرفه عن النظر إلى ماضيه، وهي دعوات وجدت غالباً عند من يملكون السلطتين: التشريعية والتنفيذية معاً، أقصد الشعراء النقاد، فلم تعرف حركة فنية في تاريخنا الأدبي ارتبط فيها الشاعر بالنقد كما حدث لحركة الشعر الحديث أو القصيدة الكلية، فالتخطيط لديهم يقوم على أن يكتب الشاعر ما يكتبه ثم يقنّن ويقعد ويشرّع لما يكتبه ما يريد من موازين نقدية ليست في حقيقتها إلا خروجاً على الموازين، ومقاييس ليست تمرداً على كل مقياس.

إن مبدأ القصيدة الحديثة قائم على التمرد والتحطيم، فما هي المقاييس التي نرجوها من نقاد هم حملة لوائها والداعون إليها..؟ إنها حتماً ((أشباه مقاييس)) أريد منها التحطيم وقد نجحت هذه ((الأشباه)) حقاً في تمييع القاعدة، فما دام المنهج يقوم على التمرد والتحلل من كل القيم الدينية والخلقية وحتى الإنسانية، فهل يرجى منه العون على إقامة القاعدة..؟ إن كل غاية المنهج هنا تحطيم قدسية القاعدة، أياً كانت، في الفكر أو الدين أو الأخلاق أو الفن، وحين يتمكن الشاعر من تجاوز القاعدة ووضعها تحت قدميه يكون جديراً بالحداثة عند هؤلاء.

إن من أبسط الحقائق التي يقوم عليها الفن، أي فن، ضرورة التأثير، وضرورة التاثر، وضرورة وضوح الشخصية وتحققها – ضمن حدود تعريفنا للتفرد – وهذا يعني أيضاً أن ذلك التأثر لا ينبغي له أن يتجاوز حدوده فيطغى على شخصية الفن المتأثر، وأنه إذا فعل ذلك ضاع الفن وفقد مقومات وجوده، أما ضرورة التأثير فهي، منذ الأزل، أصدق مقياس في تقويم الفن، لأن الفنان – الشاعر هنا – يغدو في عملية التأثير التي يمارسها على المتذوق بمثابة القطب المغناطيسي الذي تشتد فاعليته أو تضعف بقدر ما تكون عليه تلك الفاعلية في القطب المقابل، إنهما قطبان في جسم واحد، ويمكن أن نقيس قدرة أحدهما – القطب المعطي أي الشاعر – باختبارنا لقدرة الآخر – القطب الآخذ أي المتذوق – وبقدر ما يتلقى المتذوق من الشاعر فينفعل بما يتلقاه بقدر ما يدل هذا على قدرة الشاعر على التأثير، ومن ثم قدرته الفني التي استطاعت أن تحقق هذا التأثير عند المتذوق.

ولو وضع الناقد هذا المقياس في منهجه النقدي لسقطت القصيدة الحديثة أو الكلية لأنها آخر نظام شعري، إذا جاز لها أن تحمل هذه الصفة، يمكن أن يحقق شيئاً مذكوراً من التأثير في المتذوق، إذا استثنينا الجانب التحطيمي الذي أراد أصحابها أن يحققوه في نفوسنا ليهدموا كل احترام فينا للمقدسات والشرائع والمثل.

ومعظم النقاد لم يضعوا في مقاييس منهجهم النقدي حساباً لهذه المقدسات والشرائع، بل على العكس، ذهب بعضهم إلى وضع مقاييس مضادة تنص على الفصل بين الفكر والفن، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك – أصحاب القصيدة الحديثة – فدعوا إلى رفض الفكرة تماماً، أياً كان، وإن كانوا هم أنفسهم لم يأخذوا بالمبدأ الذي دعوا إليه، لأنهم في حقيقتهم لم يرفضوا الفكر كله، بل رفضوا منه الفكر الديني والأخلاقي والتنظيمي فحسب، على حين توجهوا بكل قواهم إلى إقامة فكر إلحادي متحلل فوضوي يحل محل الفكر الأول، كما وجدنا عند أدونيس، وهذا كله أدى بالشعراء إلى عدم الالتفات إلى الفكر، فإذا فعلوا فإنهم لا يصرون على محاسبة أنفسهم قبل أن يخرج عملهم الشعري إلى الناس، فتأتي أعمالهم مشوشة فكرياً أو منحرفة أو ساقطة، فأمر ذلك هين عليهم ما دام هيناً على النقاد بل مقبولاً لدى بعضهم، بل مطلوباً ومؤكداً عليه عند بعضهم الآخر.

إن مسؤولية الناقد والشاعر هنا أمر جدلي، فالناقد يشجع الشاعر على الانحراف أو السقوط الفكري، وحين تطغى موجة هذا الانحراف أو السقوط عند الشعراء بحيث يغدون أكثرية بين أترابهم، يفقد الناقد الجرأة على الوقوف في وجه هذا التيار الجارف إن حاول كبح جماحه، وإذ يتقاعس الناقد عن القيام بهذه المهمة – رهبة أو رغبة – يجد الشاعر في نفسه قدراً أكبر من الشجاعة للخروج عن القاعدة الفكرية، وهكذا في سلسلة جدلية لا تتوقف عن الانحدار، إلا إذا هيء لها التيار النقدي الإسلامي العارم الجريء الذي يستطيع أن يصرخ بأعلى صوته: القاعدة أولاً، التطوير لا التغيير، الإضافة لا الإلغاء، البناء لا الهدم. ويجب أن نعترف أن من قُدِّر له أن يحمل مشاعل هذا التيار لابد أن تكون فيه صفات الفدائي، لأن عليه أن يفجر برصاصة واحدة، هي صوته وإيمانه بما يقول، مجمّعاً سلطوياً مدرعاً لأولئك الذين أسهمت سنون وسنون من التربية الاستعمارية، والفكر الإلحادي، والثقافة المنحرفة المستوردة، في بناء قلعتهم التي شيدوها داخل أرضنا المسلمة.

حين يتخلى المنهج النقدي عن القاعدة ويفقد صلته بها، وينصرف الناقد إلى تهاويل وظاهر سطحية في العمل الشعري لا علاقة له بالجوهر – القاعدة، ينقلب النقد إلى بهلوانية لغوية همُّ الناقد فيها – إذا كان جديراً بهذه التسمية – أن يلعب أمامنا على حبال اللغة، ويقفز في الهواء على مقافز لفظية يشد أعيننا لملاحقة بريق حركته فوقها، ثم تعود أعيننا باحثة عن الشيء الذي أراد أن يقوله، فلا نجده، فترتد خائبة حائرة في أمر هؤلاء الذين لم يكتفوا بتجريد الشعر من الموضوع أو الفكر، بل فعلوا ذلك مع النقد أيضاً، حتى غدوت لا تميّز، أو تكاد، بين لغة القصيدة الحديثة العمياء ولغة نقدها الصماء.

لقد فقد مثل هذا النقد تأثيره، وفقدته من قبل القصيدة الحديثة – إلاّ الأثر التحطيمي – وقد اقتصرت القصيدة الحديثة عليه أيضاً، فغدا الأثر الوحيد لكلا الناقد والشاعر في القصيدة الحديثة التحطيم ولا شيء غير التحطيم.

أما النقد الحقيقي، المتمسك بالمنهج وبالمقياس، فقد وجدناه يتراجع خوفاً من حصى الصغار أن تنال رأسه، إن الصغار يملؤون الساحة، فكيف له أن يخوض مثل هذا المعترك مجازفاً بكرامته ورصانته ووقاره وهؤلاء الصغار لا يحترمون كبيراً ولا صغيراً ولا أباً ولا أماً؟ وهكذا يفضل الناقد المتعقل المتخوف أن ينكمش إلى جحره، بينما ينصرف آخر إلى التنظير والتحدث عن عموميات شعرية أو أدبية قد تمنع عنه شر الصغار، على حين ينصرف ناقد ثالث إلى كبار الشعراء الذين نفض النقد يديه من تتويجهم على عروش الشعر، فيغرق في استكشاف أسرار جديدة من عوالم عبقريتهم وإبداعهم، من غير أن يخشى عبث الصغار الذين انصرفوا عن هؤلاء إلى من أتى بعدهم، وهكذا تخلو الساحة للنقد المزيف، وقد غاب عنها النقد الحقيقي، وتنفلت الأمور، وتضيع الجسور بين الناقد الحقيقي والشاعر الحقيقي أو بالأحرى بين المنهج والقاعدة، وتقع الكارثة.

أما الشعر الإسلامي ملتزم بالقاعدة، والآخذ بالأصالة، والتطلع نحو التطور انطلاقاً منهما، فهو يتحرك بثقة، ولكنه ما يزال يتطلع إلى الناقد المسلم الذي يستطيع أن يتفلت نهائياً من إسار المصطلح الغربي الذي يتحكم بمناهجنا، إنه، نتيجة للتربية المنحرفة الطويلة المدى، قد غدا جزءاً منا، وأنا في بحثي الآن عن منهج إسلامي وقاعدة إسلامية لا أستطيع أبداً أن أدعي أنني في منجى من سيطرة ذلك المصطلح، حتى في هذا البحث نفسه، فمجاهدة آثار هذا المصطلح والانحرافات التي تركها في نفوسنا أمر لا يمكن أن يتم مرة واحدة، ولكن حسبنا أن ندرك وجود هذه الانحرافات، وأن نتطلع إلى الخلاص منها والعودة إلى منهج إسلامي نقي له مصطلحاته ومضموناتها النابعة من واقعه وحْده، واقع القاعدة الإسلامية في الفكر والفن.

وبدهي أن يتحرك هذا المنهج في البداية على استحياء أمام طغيان المناهج الغربية والمنحرفة، وبدهي أن نجد، حتى بعض من يحملون الفكر الإسلامي، بعيدين عن فكرة وجوب إيجاد منهج إسلامي في النقد، وكأنهم لا يؤمنون بضرورتها أو جدواها نتيجة لطغيان المفهوم الجاهلي للشعر عندهم، وهذه عقبة أخرى في طريق المنهج يطمع إلى تجاوزها مع التقدم المتنامي الذي يحققه الوعي الإسلامي الجديد في نفوس المسلمين.

ومع تجاوز المنهج لمختلف العقبات التي تعترضه، يجدر به أن يطمح إلى خطة للمستقبل ينطلق فيها من أسس عامة محددة تكون بمثابة منهج للمنهج، وعلى ضوء النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة نقترح بعض هذه الأسس مختصرة فيما يلي لتكون من بعد جزءاً من منهج عام متكامل:

  • البحث عن التفرد المغني المرتبط بالأصالة (أي تطوير القاعدة، وتغيير العرف، والإضافة إليهما).
  • البحث عن الواقع الذي انطلق منه كل من الأصالة والتفرد، وتبين مدى ارتباطهما به، وهل كانا تعبيراً حقيقياً عنه أو تزييفاً وتوهماً لواقع غير موجود.
  • البحث عن الشعر الذي أمسك بالأمراض الحقيقية للأمة دون الوهمية.
  • البحث عن الشعر الذي خالف التيار السلبي للواقع، وحاول أن يوجهه تلقاء الإيجاب.
  • إهمال فكرة الفصل بين الفكر والفن إهمالاً تاماً، ومجاهدتها والتركيز على تفنيدها تفنيداً منهجياً.
  • وضع أسس فنية تفصيلية جديدة تتدارك أخطاء الواقع القديم للمنهج، بأن تكون قابلة هي أيضاً للتطور – كالقاعدة في الشعر – دون إغلاق الباب أمام التفرد، وأن تكون نابعة من صميم الفن الشعري العربي المرتبط بواقعه الإسلامي الحضاري، دون اعتمادها على المذاهب الغربية في النقد، أو على الشعر العربي غير المرتبط بالواقع الإسلامي بركنيه الأرضي والسماوي.

 

 

 

الـهــوامــــــــــش

  • راجع الدراسات المقارنة للكتب السماوية التي كتبها الجراح الفرنسي موريس بوكاي، وقد ترجمت إلى العربية بعنوان (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم) بيروت: 1978 م، دار المعارف.
  • المقصود هنا ((العرف الفني)) أي الخصائص التعبيرية للشعر.
  • أدونيس في كتابه ((الثابت والمتحوّل)) وقد بناه على فكرة واحدة مؤداها أن أهل السنة بتمسكهم بالقرآن والسنة كانوا سبب تأخر الحضارة الإسلامية، وأن من خرجوا على القرآن والسنة كانوا وحدهم النقاط الإبداعية المضيئة في هذا التاريخ.
    وهذه الفكرة نفسها سبق أدونيس إليها المستشرق م. س. ديماند، الأمين السابق لقسم فن الشرق الأدنى بمتحف متروبوليتان بنيويورك، وذلك في كتابه (مذكرة الفنون الزخرفية الإسلامية).
  • بحث (قصيدة النثر وإيقاع الحضارة) وقد نشر في كل من مجلة جامعة تشرين، سورية ومجلة ((الأقلام)) العراقية عام 1979 م.
  • كقولهم (صيرورة) بدلاً من (تحول) و(تشيّوء) بدلاً من (تكون) و(المابعد) بدلاً من (الآخرة) و(الميتافيزيك) بدلاً من (الغيب) و(المعروبية) بدلاً من (العربية) و(الإسلاموية) بدلاً من (الإسلامية) و(أوّلاني) بدلاً من (أوّلي)… الخ.
  • وارجع إلى بحث انعدام الجندي المقدم لمهرجان المربد الثاني 1974 م (هل واكب النقد الأدبي الشعر الجديد). كتاب (الشعر والمجتمع) الصفحات (159 – 173).
  • ولا سيما في كتابيه ((مقدمة للشعر العربي)) و((زمن الشعر)) ثم في قمة كتبه خطورة واتساعاً ((الثابت والمتحول)) بأجزائه الثلاثة.
  • أدونيس: الثابت والمتحول ج2 : ص 113 – 115. بيروت 1977 م.
  • في محاضرته وندوته الشعرية بجامعة قسنطينة – الجزائر في ابريل نيسان 1981م.
  • هناك دراسات حديثة ما تزال غير مكتملة تشير إلى أن الأوزان العربية هي نفسها أوزان الشعر عند الشعوب السامية القديمة في القصائد والملاحم التي اكتشفت في مدينتي (ايبيلا) و(أوغاريت) وقريبة جداً من أوزان ملحمة جلجامش، وهي تعود إلى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وقد وصلت إلى نتيجة مماثلة تقريباً في دراستي العروضية المقارنة بين الشعرين الصيني والعربي (لم تنشر).
  • راجع ندوة صحيفة الثورة الدمشقية بعنوان (وهم الحداثة والمعاصرة) بتاريخ 12/8/1979 م.
  • محمود حسن إسماعيل، صوت المعركة: مجلة الوعي الإسلامي، أكتوبر 1973.
  • أحمد محمد الصديق، حنين إلى القمة: نداء الحق، ص 7 الدوحة 1398 هـ.
  • هاشم الرفاعي، شباب الإسلام: ديوان هاشم الرافعي، ص 383. جمع وتحقيق محمد حسن بريغش الرياض 1980 م.
  • شريف قاسم، عودة الغائب: مجلة حضارة الإسلام، شوال وذو القعدة 1398 هـ.
  • محمد المجذوب، مجد الحياة. وهذه القصيدة ومعها كل القصائد التي لن نشير إلى مصادرها في الهوامش التالية استقيناها من مخطوطات للشعراء أو منشورات غير رسمية على الأغلب.
  • عصام الغزالي، أشجان الطين لو نقرأ أحداق الناس، ص 13 القاهرة 1977 م.
  • عمر بهاء الأميري، فتنة مع الله، ص 87 بيروت 1392 هـ.
  • وليد الأعظمي، نيران وثارت: أغاني المعركة، ص 53 الكويت.
  • مؤمن الله أكبر: مجلة المجتمع، السنة الرابعة، ص 18.
  • أحمد محمد الصديق، وقفة مع العيد.
  • عبدالله عيسى السلامة، خفير، مجلة حضارة الإسلام، رجب وشعبان 1391هـ.
  • هاشم الرفاعي، أغنية أمّ: ديوان هاشم الرفاعي، ص 391.
  • هاشم الرفاعي، أغنية أمّ: ديوان هاشم الرفاعي، ص 393.
  • عمر بهاء الأميري، في قرنايل: مع الله، ص 149.
  • عصام الغزالي، مرثية رجل في جهنم.
  • أحمد محمد الصديق، الشباب نذاء الحق، ص 80.
  • سيد قطب، أخي.
  • الرباعية الثانية ليست من شعر سيد قطب ولكنها من شعر محيى الدين عطية بنفس العنوان، حيث كان الإثنان يتطارحان السباعيات فاختلط الأمر على الناقلين. ويتضح ذلك من اختلاف ترتيب القوافي حيث درج سيد قطب في رباعياته على استثناء الشطر الثالث من وحدة القافية داخل كل رباعية، بينما درج محيى الدين عطية على استثناء الشطر الرابع، كما هو واضح في هذه المختارات وكما أفاد الشاعر (التحرير).
  • عمر بهاء الأميري: عزلة الأحرار مع الله، ص 176.
  • عبدالرحمن بارود: غريب الديار.
  • وراجع تفصيل ذلك في كتابنا (حركة الشعر الحديث)، ص 407 دمشق 1978.
  • ديوان ((نداء الحق))، ص 96.
  • في كتابنا (حركة الشعر الحديث).
  • سيد قطب في كتابه ((خصائص التصور الإسلامي))، ص 101 وما بعدها.
  • عبدالله عيسى السلامة، غرفتي: مجلة حضارة الإسلام، العددان 8 – 9 : 1398 هـ.
  • منير صالح.
  • محمد منلا غزيل.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر