أبحاث

البيئة الثقافية للصناعة والتقنية

العدد 86

أولا ً: مقدمة شخصية

لا أستطيع ان أبدأ هذا البحث قبل ان أعرف القارئ بنفسي وبعلاقتي بموضوع البحث وبهذه الحلقة الدراسية التي يناقش فيها. ولدت في الجيزة وتلقيت تعليمي الجامعي في هندسة الطيران وفي الرياضيات في جامعة القاهرة في الستينيات. كنت إذن متوحدا ً بمشروع التنمية الصناعية الذي تبنته دولة مصر لدعم نضالها السياسي ضد الهيمنة الاستعمارية ولتأسيس شرعيتها بإشباع تطلعات الجماهير إلى رفاهية استهلاكية على النمط الغربي الأوروبى. كان الحلم الوطني القومي يتمثل في اللحاق بالغرب ومشابهته ومحاولة مناطحته. الوسيلة؟ نقل التكنولوجيا.

وهكذا كنت واحدا ً من ناقلي التكنولوجيا. سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأتعلم علومها وأتقن مناهجها وتخصصت في منهج النماذج الرياضية – العددية، وطبقته هناك في فهم وتحليل عدة نظم هندسية. وعدت إلى مصر في السبعينيات، وبنية طيبة حاولت تطبيق ما تعلمته، وفوجئت بعدم ملاءمة النظم الهندسية في مصر لمناهج التحليل الغربية.

انجزت عدة بحوث حاولت فيها اعتساف الواقع ليلائم رموز المنهج. لكن العقم التطبيقي لتلك الأبحاث جعلني أتوقف بعد سبع سنوات. أخذت أراجع القضية برمتها، أتساءل وأتناقش مع زملاء وأصدقاء لي، عن الخلل، هل هو سياسي؟ هل هو منهجي معرفي ؟ هل هو حضاري؟ وقد صغت بعض هذه المراجعات في مقالات نشرتها في مجلة الهندسة والحضارة وفي مؤتمرين بالقاهرة.ثم جاءت هذه الحلقة، ومعها دعوة من الصديق الأستاذ الدكتور حامد إبراهيم الموصلي للإسهام فيها. خلال عملية التأمل والقراءة والحوار والكتابة بدأت تتبلور المعاني. وكلها تشير إلى ان حضوري وإسهامي في هذه الحلقة يبدو كنقطة تحول في فكري. كيف؟ أخذت أتأمل العناصر الأربعة، الجديدة في تفاعلها، في خطاب الدعوة إلى الإسهام:«يقيم مركز دراسات العالم الإسلامي بالاشتراك مع اللجنة الشعبية العامة للصناعات الخفيفة بالجماهيرية الليبية حلقة دراسية بطرابلس بعنوان: الخامات والخبرات التقنية في الوطن العربي، وذلك فيما بين 18 – 20 أبريل 1992».

ألحظ هنا أربعة محاور للتحول بالنسبة لي:

أولها تحول من الانشغال بدراسات (وأفكار وفلسفات وتوجهات وانجازات…) العالم الغربي إلى دراسات العالم الإسلامي.التحول من اعتبار الغير، الغربي، مركز الإشعاع الحضاري وكنز الخير الفكري والنور العلمي إلى اعتبار الذات، الإسلامية، هي المركز المشع حضارة، الكنز الممتلئ إمكانات.

ثاني التحولات هو التحول من التعلق بالصناعات الثقيلة بمؤسساتها المركزية وهياكلها الرأسية ومعاييرها التكنوقراطية إلى الصناعات الخفيفة بلجانها الشعبية وهياكلها التعاونية الأفقية ومعاييرها الاجتماعية الإصلاحية. تحول من التنمية الصناعية الفوقية القسرية الحكومية إلى التنمية الصناعية التحتية التلقائية الجماهيرية.

ثالث محاور التحول هو مكان انعقاد الحلقة وتوقيتها، كمصري نشأ وعاش في حضن وادي النيل ومدنه الضخمة الأسمنتية كنت دائما غريبا ً عن الصحراء بسهولها وكثبانها، وواحاتها وجبالها. والصحراء ليست فقط هي معظم أرض مصر انما هي أيضا ً معظم أرض الوطن العربي، هي إذن الحضن الطبيعي للعرب. ولهذا فالذهاب إلى ليبيا يمثل لي رحلة الانتماء إلى هذا الحضن الطبيعي، رحلة الاتصال بعروبتي الجغرافية.

وتوقيت انعقاد الحلقة هو الآخر يعمق من مغزى التحول. إذ ان الحلقة تتم في عاصمة ليبيا التي تتعرض الان للظلم والافتراء والبلطجة من الطاغوت الأمريكي الانجلو فرنسي….

رابع محاور التحول الذاتية لوطننا العربي، إمكانات أرضنا وانهارنا، إمكانات شعوبنا وقبائلنا وعائلاتنا. وان ننظر إلى وطننا العربي على انه كنز من الإمكانات الغنية وان ندرسها في محبة ونحفظها في إحسان وننميها في ثقة. ياله من تحول ! من التحديق الشديد عبر قرنين في إمكانات الغربي البعيد والإعجاب المشبوه بعلومه وحضارته ورموز مدنيته. من كل هذا إلى التدبر الودود في حفظ وتنمية إمكانات العربي القريب. هذا هو التحول العظيم بفضل الله الخبير العظيم.

ثانيا: تمهيد موضوعي

أبدأ هنا بتقديم فهمي للمصطلحات الأساسية ؛ ليمكن للقارئ تقييم الزاوية التي أرى بها موضوع البحث.

القيم

هي معايير التفاضل بين الأشياء أو البشر أو الانشطة أو هي الأوزان النسبية التي تحدد درجة اهتمامنا أو تعلقنا بشئ، قيمة الشئ إذن هي مقدار ما نحن مستعدون لانفاقه في سبيل الحصول عليه. وأعم وصف لمادة الانفاق هو الطاقة الحيوية، وهذه تأخذ شكل المال، والوقت، والجهد، والعواطف، والأفكار.. مثلاً أعلى الأشياء في سلم القيم هو ما نحن مستعدون ان نبذل أي شئ في سبيل نيله. «تقول الأم مثلا: في سبيل أطفالي أفعل أي شئ. يقول الوطني: في سبيل حرية بلدي أبذل كل غال. يقول العالم: في سبيل الحقيقة أسهر الليالي. ويقول الله وصف الذي طغى: انه (آثر الحياة الدنيا) (النازعات: 38). القيم إذن هي محددات القرار أو الاختيار في حياتنا، سلم قيمنا هو سلم أولوياتنا. أيهما أعلى قيمة عندنا: الدخل أم الجودة، جهد العمل أم متعة الراحة، المركزية الرأسية أم اللامركزية التعاونية، التنافس أم التراحم، الأخذ أم العطاء ؟

الثقافة

ثقافة أي جماعة هي مجموع ما في نفوس أبنائها من معتقدات قوية، وقيم حاكمة، وتصورات وجودية. ثقافة الجماعة هي حياتنا الباطنية المحددة لأسلوبها في البقاء والنمو، الغزو والقعود. الثقافة هي ضمير الجماعة وروحها المحركة، وميزان اختياراتها، والسر وراء استجابتها للتحديات.

وثقافة الجماعة تجد وسائل كثيرة لتصور آرؤاها وتحيزاتها وتفضيلاتها.. مثل الفنون والأمثال الشعبية والأساطير. مثل أبطالها ونجومها ومثلها العليا، مثل كتابات مثقفيها وأغاني عامتها. وهي كيان حي، به ثوابت الخبرة التاريخية وظروف الجغرافيا، وبه متغيرات التحديات والأحلام المعاصرة. جزء منها موروث من الأسلاف وجزء منها دخيل من الغزاة، وجزء ثالث إبداع ذاتي حاضر.

الحضارة

هي مجموع الانشطة البشرية والفعاليات الاجتماعية والمؤسسات السياسية والآليات الاقتصادية التي تشكل مكونات جماعة بشرية معينة في إقليم وعصر محددين. هي الاختيارات ذاتها وقد تجسدت في أعمال ومساعي وتدافعات وممارسات. وروح الحضارة هي الثقافة أما جسمها فهو المدينة. هي المدن والطرق والمبانى الآلات والكتب والمصانع والمزارع والأسواق ودور اللهو. وتتكون الحضارة من مجموعة من القدرات الذاتية: قدرة علمية، قدرة تنظيمية، قدرة فنية، قدرة تكنولوجية، قدرة تأليفية،…. إلخ.

العلم

هو نشاط بشري هدفه اكتشاف سنن الله في الكون في الآفاق وفي الانفس.. هو مجموعة من الأساليب المنظمة لتفسير حركة الأشياء وتحولاتها.. الاستنباط، الاستقراء، التجريب والملاحظة والنمذجة، والتأمل والحدس والخيال، كلها بعض من المنهج التي يستخدمها العلماء للنفاذ إلى كنه أو حقيقة الأشياء وتكوين صورة مدركة نافعة لنا.

التقنية

تقنية أي عمل هي أسلوب أدائه، هي طريقة إتمامه.. تقنيات الانتاج هي طرق الانتاج فتتحدث عن تقنية سباكة صمام، تقنية لحام البلاستيك، تقنية خرط الجريد تقنية كسوة الحوائط بالقيشاني، تقنية تعليم الصم الكتابة، تقنية الري بالتنقيط

التكنولوجيا

هي علم التقنيات: قدرة ذاتية على تعديل وتحسين تقنيات موجودة أو إبداع تقنيات جديدة. هي قدرة حضارية موصولة بمجموع القدرات الحضارية الأخرى ؛ لذا فما أصعب ان تنقل من مجتمع إلى آخر. التكنولوجيا قديمة قدم العمران البشري، مرتبطة بقدرة تأمل العملية الانتاجية والتفكير المثابر المنظم في تحسينها وفق إطار قيم الجماعة.

تتكون من أربع فعاليات:

1- إستيعاب               2- تشغيل                 3- تطويع                 4- إبداع.

كل منها تمثل تفاعلا ً جدليا ً بين الجماعة وواقعها الطبيعي والاقتصادي يهدف إلى تشكيل الواقع ليكون أكثر ملاءمة للجماعة.

العدد والآلات

مستلزمات النشاط الانتاجي. هي أدوات تنفيذ التقنيات في تفاعلها لتشكيل الواقع.

الصناعة

هي المؤسسة الاجتماعية التي تنظم استخدام المواد الخام، والأموال، والخبرات التكنولوجية، والتقنيات المكتسبة والعدد والآلات المتاحة، في نسق موجه إلى انتاج سلعة محددة. هذه السلع قد تكون آلات وأجهزة، وقد تكون تقنيات وأفكارا ً.

والصناعة انواع: استخراجية، تجهيزية، تحويلية، تشكيلية، هذا تقسيم من ناحية طبيعة التقنيات وارتباطها بالخامات فيها. هناك تقسيم آخر بحسب درجة تعقيد التقنيات وكثافة حجم المال وكبر حجم هيكل العمالة وهنا تكون الصناعة ثقيلة أو خفيفة.. وترتبط الصناعة الثقيلة عادة بكثافة رأس المال وتعقيد التقنيات وتكنوقراطية الإدراة. أما الصناعة الخفيفة فترتبط ببساطة الآلات ومحلية التقنيات ومرونة الإدارة وتعاونيتها.

التنمية

حركة اجتماعية بزخم حضاري زيادة درجة تحقق غايات الجماعة . هي قد تكون تنمية اقتصادية تجاه زيادة كمية الانتاج، الدخل، الرفاهية، أو تكون تنمية اجتماعية تجاه زيادة الترابط الاجتماعي والتواصل بين انساقه الحية. أو تكون تنمية تعليمية، علمية فنية،.. تجاه زيادة كفاءة وعدد المتعلمين، كمية البحوث العلمية وجودتها، وفرة الأعمال الفنية وتنوعها.. إلخ.

والتنمية نوعان: قسرية مفروضة من مستعمر غالب أو حاكم مستبد، تمزق روابط المجتمع وتشوهه، أو ذاتية نابعة من البنية الحضارية للجماعة، مجددة للذات من داخلها.

ثالثا: صياغة مسألة الثقافة والتنمية

1- المشكلة: أسئلة عن الواقع الحاضر

ما سر تدني قيمة إتقان العمل؟ ما سر احتقارنا للعمل اليدوي ؟ ما سر خوفنا من إصلاح العدد والآلات وإهمالنا تعلم صيانتها ؟ ما سر وجود آلات ضخمة جديدة في صناديق لم تفتح، وأخرى قديمة لم تكهن؟ هل نعرف قدراتنا التكنولوجيا الموروثة؟ هل راعيناها حقها ؟ هل نرى له قيمة أو فائدة؟ هل نعرف تاريخ وطننا الصناعي والتقني ؟ هل نعرف لم قامت صناعات ولم انهارت أخرى؟ هل نعرف سر انفصال التعليم، حتى الفني الصناعي، حتى الهندسي الجامعي، عن احتياجات الصناعة الحكومية والأهلية ؟ هل نعرف سبب ضمور قيمتي التدريب والصيانة، وشبه غياب قيمتي التطوير والتحسين ؟ ما سر غفلتنا عن خطر هاوية الخمود التكنولوجي في بلادنا؟ ما سر عدم اكتراثنا بان نكون مستوردين مستهلكين فقط ؟ ما سر هذا التعود على التفرج والانبهار بالمبدع المنتج الغربي ؟ ما سر هذه القابلية للانضغاط إزاء أى قهر تنمية قسرية ؟ أين ذهبت حيوية انساقنا الاجتماعية حتى ليبدو انه ليس بين الأسرة النووية والدولة المركزية غير فراغ مخيف؟

وما هو هذا التخليط فيبدو كاننا فقدنا ملكة التمييز بين ما ينفعنا وما يضرنا.. قدرة مكافأة المحسن وعقاب المسئ ؟ لم نبدو كاننا نفعل العكس فنحب من يستغلنا ونعجب بمن يتسلط علينا ؟ وما هذا الغياب لأى ذاكرة تاريخية فيبدأ كل جيل، بل كل مسئول، من الصفر ودون أى اعتبار ولا استفادة بدروس من سبقوه ؟ وهل نحن حقا صوتيون كلاميون، نقول ما لا نفعل، نوصي بما لاننوي عمله، نشرع قوانين لا ننوي احترامها، ننشئ مؤسسات ورقية ؟

لم يبدو اننا نتظاهر باننا نحيا، ونعمل، ونغير، ونقرر، ونحارب، بينما نحن حقيقة في واد آخر ؟ لم أصبح كلامنا مانشيتات ولوائحنا رسميات، وما نعنيه حقا مكنون في الصدور ؟

ما سر ثقتنا العميقة في الغرب، نستثمر أموالنا في بنوكه وشركاته ونستشيره في قراراتنا وتوجهاتنا، بل وقد نستعين بجيوشه لحمايتنا ؟ ما سر ميلنا للحفظ والترديد لكلام البعيدين عنا، سواء كانوا أسلافنا البعيدون زمانا ً أم غزاتننا البعيدون مكانا ً ؟

وما سر ازورارنا عن الانصات لبعضنا البعض، عن الحديث الصادق الحميم مع القريب المعاصر المجاور المشترك معنا في المصير ؟

ما سر القرارات المفاجئة ؟ والتوصيات السرية ؟ والمسئولية الضائعة دوما ً ؟ ما سر هذا الدليل للانقياد والنفور ممن تولى القيادة ؟ ما سر هذا الشغف بالجديد الجاهز المعلب والنفور من الموجود أمامنا الذي يحتاج إلى بعض التجديد والتحسين ليتألق ويعمل ويفيد؟

كيف حدث اننا لا نفكر في مصطلحات: العصرية، العقلانية، التكنولوجيا، العلم، والحداثة، والتقدم، إلا ونستدعي الغرب لأذهاننا؟ كيف حدث اننا لا نقول كلمة بيئتنا، نفوسنا، ميراثنا، ماضينا إلا وتقفز لأذهاننا كلمات الجمود، والخرافة والتخلف، والتدهور ؟ ما سر غياب فضيلة الجهاد من نفوسنا، ونسياننا ان الحضارة الإسلامية لن تبني من تلقاء نفسها، ولا بمنحة من الظالمين، انما تبنى بالجهاد ؟

ب- الحل: أسئلة عن المستقبل المنشود

كيف نسأل الأسئلة الصحيحة ؟ كيف نحدد قائمة الأهداف الحقة ؟ كيف نوطن القيم الحضارية الدافعة إلى ان نكون فاعلين اقتصاديا ً؟ كيف نؤصل في نفوسنا حب الاستقلال ومقت التبعية ؟ كيف نعرف حاجاتنا الأساسية (ونميزها عن الثانوية) والجوهرية ونميزها عن الزائفة ؟ كيف تكون حاجاتنا مرتبطة بذواتنا الحضارية العليا ؟ كيف تكون أشواقنا الحقيقية معروفة لنا مصوغة أمامنا محركة وملهمة؟ كيف نفهم ان الأمة هي نحن، والوطن هو مجموعنا جميعا ً، الفقراء والأغنياء، الشعب والحكام، العامة والصفوة، وان أي استبعاد لأي منا هو انقاص لإمكانياتنا أي انكار لوجود أي تيار هو تشويه لقسماتنا ؟ كيف ندرك ان التنمية لا تكون إلا ذاتية متدفقة دوافعها بحرية منا، محكومة غاياتها بمعاييرنا نحن ؟ كيف نحس ان الاستدانة طريق المذلة ؟ والانقياد لغير الله، هو صراط العذاب الأليم ؟ كيف نثق بنفوسنا التكنولوجية – التقنية ونصدق اننا لسنا، ولم نكن يوما ً، محدثي تكنولوجيا ؟ كيف نعرف تاريخنا التكنولوجي بحلقاته الموصولة بانساقنا الاجتماعية الحية؟ كيف تصبح كلمة المعاصرة معناها ان نكون بحق المعاصرين، أحرارا ً في بناء نهضتنا الخاصة بنا، المحكومة بقيمنا نحن، المحققة لغاياتنا نحن ؟ كيف نفهم ان الانفتاح هو انفتاحنا على انفسنا، على أقطارنا، على انهارنا وأراضينا، على قرانا وقبائلنا ؟ كيف نفهم ان الإبداع العلمي، التكنولوجي، التنظيمي، هو ضرورة بقاء، هو صراط وحيد، هو الممكن الصحيح في ان واحد ؟

كيف نفقه واقعنا بطريق المحب الذي يرى قوى وكنوزا ومزايا محبوبة، كبيرة مزينة ؟ كيف نختلف مع بعضنا البعض اختلاف المحبين، يرون ما يجمعهم، يحسون بالفضل بينهم يتذكرون أجمل ذكرياتهم ويوقنون بوحدة مصيرهم ؟ كيف نحب انفسنا فنتحرك بها نحو غاياتنا الحضارية في رفق وتدرج ودود ؟ كيف نصبر في ذروة غضبنا على ماضينا فلا نمزق عرى روابطنا ولا ننسى فضل أجدادنا ؟ وكيف نتطهر من الشك في اننا حقا ً مستخلفون من الرحمن على أرضنا، وانه بتكليفنا ان نبني فوقها حضارة عربية إسلامية انما يكلفنا بقدر سعة نفوسنا ؟ وكيف يصبح الهم الحضاري في مستوى الأعمال الصالحات التي تقربنا من الله ؟ كيف نفهم الانفاق في سبيل الله، فهما يربطه بالإسهام الحضاري، ببناء ما ينفع أهلنا وما يصلح أرضنا ؟ كيف تتكامل ولاءاتنا، من النفس إلى الأسرة فالعائلة فالقبيلة فالوطن فالأمة وتتواصل ؟ كيف نوقن ان سريان رحيق الحياة الحضارية مشروط بالتوطين الإسلامي لقيمنا ؟ كيف نعلم ان الصناعة والتقنية والتكنولوجيا هي تعبيرات عن كيان حضاري متكامل عضويا ً في حركته للارتقاء والإحسان ؟ كيف نجمع بين القراءتين: قراءة كتاب السنن الكونية والأسباب البشرية وقراءة الشريعة الإلهية جمعا يقيمنا على الصراط العزيز الحميد ؟

رابعا: التكنولوجيا الملائمة

شهدنا القرنين الماضيين ونحن نطرح المسألة التكنولوجية طرحا منقوصا ً، فمنذ محمد علي في مصر والبدائل المتاحة هي ثلاثة:

1- تكرار الموروث التقنى أي جمود تكنولوجي.. كل جيل يكرر الجيل السابق عليه.

2- التغيير القسري بتبنى حكومة وطنية مهمة زرع تقنيات مستوردة بآلاتها وعددها وخبرائها، في التربة المحلية، وكبت كل الاستجابات الاجتماعية المعارضة لاتجاه التغيير وعدم الاكتراث بالتمزقات العميقة في الانساق الاجتماعية المرتبطة بالتقنيات المحلية المستبدلة.

3- الإلحاق القهري بقيام حكومة استعمارية بتحوير التقنيات المحلية وما يرتبط بها من استخدام للخامات، ونسق للتدريب، وسوق إشباع الحاجات الأساسية إلى تقنيات ملحقة بتقنيات مركزية في البلد المستعم، وبالتالي يتم تحوير كل انساق التعليم والتدريب وسوق الخامات وانماط الاستهلاك بحيث يصبح المجتمع كله تقنيا ً وتكنولوجيا ً تابعا ً للمركز ملحقا ً به دائرا ً في فلكه. يتشابه البديلان ففي ان الانساق المحلية المرتبطة بالتقنيات الموروثة تمزق أو تشوه.. وبالتالي تقطع الروابط الممكنة والكامنة بينها وبين جوهر الذات الحضارية. أما الاختلاف فهو ان النسق البديل يكون تابعا ً للحكومة الوطنية في الثاني وتابعا ً للحكومة الاستعمارية في الثالث. وفي الحالتين تتوارى المبادرات الأهلية والإبداعات المحلية إذ يقوم التصنيع القسري على عناصر تهمش المجتمعات المحلية. فهي تعلي من قيمة التمويل وتتبنى المشروعات كثيفة رأس المال، وتعلي من شان الآلات والعدد والأجهزة المستوردة الحديثة، الجاهزة، المتقدمة! هي تزين كل ما ينقص المجتمع وتستنكر ما يحوزه من ممكنات تقنية ومزايا تنظيمية. وواضح ان كل هذا يتم بغزو ثقافي لصميم الذاكرة الجماعية ولمكونات الذات الحضارية.

اننا في بحثنا عن رقي وازدهار الصناعة والتقنية في وطننا العربي يجب ان ندرك طبيعة العلاقات السببية بينها وبين بقية المتغيرات والعوامل كى يكون بناؤنا مؤسسا على قواعد راسخة في كيان أمتنا. ان منظومة هذه العلاقات يمكن تمثيلها في شكل (1).

وسنقدم فيما يلى ملخصات لمتطلبات كل حلقة أو مستوى بادئين من أدناها:

1- التغيرات التكنولوجية

المطلوب هو التكنولوجيا الملائمة (تم تعريفها في عديد من الكتابات السابقة) التي تدرك التكنولوجيا كمتغير حضاري متصل بالنسيج الاجتماعي كله ويكون غايته صيانة ودعم ورقى هذا النسيج.

هي إذن قدرة موجهة نحو استغلال الخامات المحلية بأسلوب يحسن ممن البيئة الطبيعية وبمساعدة الأهالي، بإمكاناتهم المحلية الموروثة وما يحوزونه من قدرات مكتسبة في إحداث تغيير يحسن من نمط حياتهم وفق قيمتهم. التكنولوجيا الملائمة تستفيد من انساق العلاقات الاجتماعية وتنسجم معها في إبداع تقنيات جديدة أو تجديد تقنيات موجودة تشبع الحاجات الأساسية الحقيقية للأهالي.

2- التنمية الصناعية

المطلوب ان تكون جزءا من تنمية ذاتية وشاملة تقوم على الحافز المعنوي الموصول بالتكوين الثقافي والعقيدة الدينية. منظوماتها شعبية، بالناس وللناس. تقوم على الاكتفاء بالذات والثقة الحضارية فيها والاعتماد على ما تحوزه من إمكانات. هي موصولة بالتنمية: اجتماعية وفردية وطبيعية أيضا.

3- العلاقات الخارجية

المطلوب ترتيب علاقاتنا بهم وفق علاقتنا بذاتنا فنتعاون مع من يحسن إلى ذاتنا الحضارية ونجاهد من يسئ إليها. ولذا تكون الأولوية للأقرب عن الأبعد. تكون الأولوية للتعاون بين الأقطار العربية، للتكامل بين الدول الإسلامية، التضامن بين الدول الإفريقية. هؤلاء أولى من الأغيار البعيدة مثل الدول الغربية، ليس فقط لانهم أبعد مكانا، وانما لانهم أكثر اختلافا عنا، قيما وثقافة وحضارة وعقيدة. ان نؤمن بان الاعتماد الجماعي على النفس، بان نفتح أسواقنا وتتحاور حكومتنا وتتعاون شعوبنا، هو طريقنا جميعا ً إلى الاستقلال والنهضة.

4- القيادة السياسية

المطلوب هو إرادة التحرر من الهيمنة. وإدراك ان التكنولوجيا الملائمة هي طريق التحرير لكل المنتجين الشرفاء.. وهي تقييد فقط للطفيليين من السماسرة والمترفين وللمؤسسات الاستعمارية التي تريدنا زبائن دائمين أي توابع دائمين.

5- الحركة الحضارية

المطلوب هو الاختيار الحر للخصوصية الحضارية، خصوصية الأصول: أصالة الدوافع القومية والرغبات الوطنية والحاجات الاجتماعية، وخصوصية الغايات: الإسلام لله وعبادته والاستقامة على صراطه ،وخصوصية الوسائل: العدل بين الحكام، التكافل بيم المؤسسات والتراحم بين الأفراد، الإحسان في العمل، الإصلاح في الأرض.

6- المدركات الثقافية

المطلوب القيم التي تزين رعاية أمانة استخلاف الله لنا في الأرض قيم تملؤنا ثقة بانفسنا الحضارية مبنية على ثراء تاريخنا التقني والعلمي والفني والحضاري وبما نحوزه من إمكانات. ان نحب انفسنا ونرضى عن حدودنا. ان نحب بيئتنا وأرضنا ونحسن التعامل معها ونقبل على معرفتها في قسط ودأب وصبر.

7- المعتقدات الدينية

المطلوب جهاد الخوف من الظالمين وجهاد الإعجاب بالمجرمين، وان يتأصل الجهاد الحضارى عملا صالحا نتقرب به إلى الرحمن.

خامسا ً: البيئة الثقافية: مكوناتها مؤثراتها وعلاقتها

بحور البيئة الثقافية موجة عاصفة لانها تتعلق بالفرد وبكل الانساق الجماعية التي تربط عرى الجماعة، تتعلق بالعقائد وبالقيم، بالميول والتوجهات، بالعادات والأعراف، بالتصورات والأفكار. هي القوى التي تفسر ميول العامة وتحيزاتها، وعاداتها في التعاون وتقاليدها في التخاصم، ما يحركها ويشعل حماسها. وهي أيضا التي تصوغ النخبة وتفسر أساليبها في التشاور واتخاذ القرارات واستجاباتها للأخطار والتحديات.

وفي عصرنا شكلت وسائل الإعلام وسائط التواصل والتشكيل الثقافي لكل من النخبة والعامة خصوصا فيما يتصل بالحياة العامة الاقتصادية السياسية التكنولوجية الاجتماعية أي الحضارية. وأصبح نجوم هذه الوسائل الإعلامية هم ذوي التأثير الأعلى صوتا في آراء وتوجهات الجماعة الحضارية.. والناس في كل زمان على دين ملوكهم وتفضيلات نجومهم. انما في عصرنا وفي وطننا العربي تشكل هذه القضية مشكلة مزمنة، تتبدي في عجز النخبة عن قيادة العامة وانفصالهما وتبادلهما السخرية والأفكار وقلة الاكتراث، وهذا يوقعها معا في الانقياد للنخبة الغربية بما يهدد الجهد الحضاري القومي بالعقم وقلة الفعالية. لو حاولنا تحليل البيئة الثقافية إلى مكوناتها الأصلية يمكن ان نجد انها سبعة مكونات:

1- عقيدة دينية تعبدية تتصل بالعلاقة بالله واليوم الآخر.

2- قواعد وأصول تشريعية تنظم المعاملات الشخصية والاجتماعية.

3- قيم أخلاقية تنظم العلاقات الشخصية وتضبط السلوك الاجتماعي.

4- قيم حضارية تنظم الحياة الاقتصادية السياسية العلمية التقنية.

5- تصورات وذكريات وأفكار عن ماضي الذات الجماعية.

6- عادات وتقاليد وأعراف لحاضر الذات الجماعية.

7- ميول ورغبات وتوجهات عن مستقبل الذات الجماعية. وهذه المكونات تتأثر، في وطننا العربى، بخمسة مؤثرات:

1- الذات الشخصية: الطباع والمواهب والنشأة الأسرية والتربية الجنسية ثم نوع المهنة ونمط الارتزاق ومستوى الثروة وعمر الفرد. فنجد ان ثقافة المهندس غير ثقافة التاجر، وثقافة الغني غير ثقافة الفقير، وثقافة المرأة غير ثقافة الرجل، وثقافة الشاب غير ثقافة الكهل.. إلخ.

2- الذات الدينية: الإسلام كعقيدة تعبدية: الإسلام كشريعة معاملات. الإسلام كمصدر للقيم الأخلاقية والحضارية. الإسلام كمنهج كطريق. تتفاوت تأثيرا هذه الجوانب والقسمات بتفاوت العصور. فمثلا نلحظ ان عصور التقدم والنهضة شهدت الإسلام بتأثيرات كل جوانبه.. أما عصور القعود والخمود فقد شهدت الإسلام يؤثر بجانبه كعقيدة تعبدية فقط، أو قد يزيد تأثيره كشريعة معاملات.

3- الذات القومية: اللغة العربية وآدابها. الوطن العربي وميراث تفاعلاته الحضارية التاريخية. المكونات القبلية والعرقية والحضرية والبدوية.

4- الذات الوطنية: التكوين العرقي السلالي. ميراث التفاعلات التاريخية وخبرتها. العلاقة بالأرض والنهر والبحر والجبال والصحراء. الحكومة وهيكلها ووسائل إعلامها وخبرة علاقتها بالشعب.

ومؤثرات الذات الوطنية على الثقافة هائل لارتباطها المباشر بأسس البقاء وأساليب مواجهة تحدياته. ولهذا فثقافة عرب الشام غير ثقافة عرب شمال إفريقيا، وثقافة أهل مدينة دمشق غير ثقافة أهل سهول كردفان، وثقافة قبائل الجبال اليمنية غير ثقافة قرى الدلتا المصرية غير ثقافة واحات الصحراء الليبية.

5- الأغيار الغربية: تشكل مؤثرات الأغيار الغربية ثلاثة انماط من خلال شكل تفاعلها مع البيئة الثقافية بمكوناتها السبعة..

أ- أغيار غربية استعمارية: حكومات ومؤسسات وجيوش.

ب- أغيار غربية قيادية: حكومات ومؤسسات ووسائل إعلام.

جـ- اغيار غربية تعاونية: أفراد ومؤسسات. هذا وتحتاج دراسة التأثيرات على المكونات الثقافية إلى أبحاث مستقلة مستفيضة وسنكتفي هنا برسم مصفوفة تخطيطية للمؤثرات والمكونات في وطننا الثقافي كما في شكل (2). والمصفوفة **** تعنى تأثيرا شاملا مهيمنا (100%) مثل

شكل (2)

تأثير الذات الدينية على عقيدتنا التعبدية. أما *** فتعنى تأثيرا ً قويا ً غالبا ً (75%) مثل تأثير الأغيار الغربية على قيمنا الحضارية وتوجهاتنا المستقبلية. وتعنى المصفوفة ** تأثيرا ً جزئيا ً ملموسا ً (50%) مثل تأثير الذات الدينية على قواعدنا التشريعية والذات الوطنية على تقاليدنا وعاداتنا وأعرافنا، وأخيرا ً تعنى المصفوفة * تأثيرا ً ضعيفا ً (25 %) مثل تأثير الذات الوطنية على قواعدنا التشريعية وقيمنا الأخلاقية وقيمنا الحضارية، وتأثير الذات القومية على ذكرياتنا وتصوراتنا وتقاليدنا. أما عدم وجود أى علامة فيعنى ان التأثير منعدم أو شبه منعدم..

سادسا: الانفصام الثقافي العظيم

يمكننا الان – بتأمل مصفوفة المؤثرات والمكونات – ان نعيد تركيبها بطريقة تمكننا من إلقاء الضوء على الأسباب الكامنة وراء محتوياتها، لعل هذا يفيدنا في الانتباه إلى عوامل تشكل وعينا وقيمنا وتوجهاتنا. يمكن الان ان نقسم المكون الثقافي إلى جزأين أو مجموعتين:

1- المكون أو الكيان الشخصي:

العقيدة التعبدية – القيم الأخلاقية – قواعد لمعاملات التشريعية – ذكريات الماضى: تتعلق بالحياة العائلية والشخصية والجنسية.

2- المكون أو الكيان الحضاري: قيم حضارية – توجهات مستقبلية – أعراف حاضرة تتعلق بالجوانب السياسية، العلمية، الفكرية، التعليمية، المؤسسية، المهنية، الإعلامية، التقنية، الصناعية، المدنية.. فحياة الجماعة، ونلاحظ ان الصورة الحاضرة تعكس استقطابا مذهلا ومرعبا.. إذ يبدو ان بيئتنا الثقافية تعكس انفصام وعينا الثقافي على النحو التالي:

1- الكيان الشخصي الخاص يتحدد بالعلاقة بالأسلاف والذات الدينية.

2- الكيان الحضاري العام يتحدد بالعلاقة بالحكام والأغيار الغربية.

وفيما يلى تصوير وصفي تفصيلى لهذا الانفصام:

1 العلاقة بالحكام والغيار الغربية:

أسس محمد على باشا في سنوات حكمه لمصر تقاليد العلاقة الوثيقة بين الكيان الحضاري والغرب. والحكم – عندما جعل أساس بناء دولة حديثة – هو: هيئة استشارية فرنسية، إداريون جراكسة، مبعوثون إلى فرنسا، بدأت العلاقة بالتقليد والاقتباس من نظم التعليم، المصانع الحربية، تقنيات زراعية وصناعية وعسكرية. وأساس التوجه هو ان البدائل الحضارية اثنان لا ثالث لهما:

  • الموروث الإسلامي من المماليك أو العثمانيين. وهذا منتج للخمود والضعف كما دللت على ذلك هزيمة المماليك وتقاعس العثمانيين امام الحملة الفرنسية لغزو مصر.
  • الوفد الغربي من الخبراء والعلوم والصنعات والمعدات والأسلحة. وهذه النخبة، بعد تعلمها واستيعابها، منتجة للقوة والازدهار.

لاحظ ان هذا الطرح لم يكن شعبيا، وانما كان حكوميا فوقيا، وهكذا كان النهوض قسريا مرغما. انها السلطة الوطنية المسلمة التي كانت الحامل والمروج والمزين لطلائع الحضارة الغربية ورموزها الثقافية وأدواتها التمدنية. وهي سلطة مستقلة سياسيا عن الغرب مناطحة له في نفوذه مقاومة له في مستعمراته. ومثل محمد علي كان الخديو إسماعيل والرئيس عبد الناصر.

إلام أدى هذا المزج بين الاستقلال السياسي والتبعية الحضارية؟ لقد خلق في نفوسنا جدارا عاليا حال بيننا وبين التمركز في انفسنا ؛ إذ ان مركزنا الحضاري ظل دوما محتلا بهؤلاء الأغيار الغربيين، بأفكارهم وبنوكهم وخبرائهم وعلمائهم وسلعهم وتقنياتهم وفنونهم. أصبحنا نرى انفسنا عبر نظارة رؤيتهم لنا، نصور حياتنا بألفاظهم وتعبيراتهم، نسمى مشكلاتنا بصياغتهم، نعبر عن آمالنا برموزهم.

توغل الغرب فينا فجعلنا (برضانا) التابع المستهلك له. تراه في كافة جوانب حياتنا، الجماهير الشعبية تستهلك سلعة وتقلد موضاته، والصفوة المثقفة تتبنى مناهجه وتروج لقيمه ورؤاه، والنخبة السياسية تتبع توجيهاته وتستشيره بمعاييره. في كلمة واحدة: أصبح للغرب المرجعية الحضارية في بلادنا.

قد تتساءل: وماذا عن عصور التبعية السياسية؟ والجواب ان الإلحاق الحضاري يشتد ويتعمق في أثنائها حتى تصبح شعوبنا مقتنعة بان نفعها ومصلحتها ان تتبع هذا القائد القوي، وان تتأسى بهذا المتحضر الراقي. وعبر قرنين تراوحت فيهما على بلادنا عهود الاستقلال والاحتلال العسكري، ظلت الهيمنة الحضارية في ازدياد مثابر مستمر حتى أصبحنا الان في التسعينات نؤمن بان الرجل الغربي هو السوبرمان المتفوق، وان العربي هو الغلبان المتدني الذي ينبغي – من أجل مصلحته – ان يطيع القائد ويتلقى منه المساعدات والقروض والمنح، سواء كانت أفكارا ً أم دساتير، أسلحة أم تقنيات، أموالا ً أم مفتشين وخبراء.. وأصبح لسان حالنا يقول: أيها الغرب انت مصدر الخير والثروة فارزقنا وانفعنا، انت مصدر العلم والحكمة فانصحنا واهدنا، انت مالك القمح والتكنولوجيا، انت حسبنا ونعم الوكيل، انت مالك البوارج والصواريخ، انت حامينا ونعم النصير.

لقد بلغت بنا قابليتنا للإلحاق والتبعية حدا إلى اننا اتخذنا الغرب إلها تخشى حكومتنا مخالفته وتسعى شعوبنا لإرضائه ونجاهد كلنا في ان نستقيم على توجيهاته. لقد تمثلت هذه البيئة – تقنيا واقتصاديا – في العقدين الأخيرين في فلسفة وممارسة للتنمية الصناعية قوامها:

–         استثمار عائدات النفط العربية في بنوك الغرب ومؤسساته الاستثمارية.

–         اقتراض البلاد العربية الفقيرة من بنوك الغرب بفوائد ربوية رهيبة.

وهكذا أصبحت أموال العرب الأغنياء رهينة في بورصات الغرب.. وأصبحت اقتصاديات العرب الفقراء أسيرة لديون الغرب. وكل من الفريقين أخذ مقابل الأموال مشاريع (صناعية أو خدمية أو بنية أساسية) تسليم مفتاح. علبا ً جاهزة مكيفة صممها وأبدعها وانتجها الغرب. وما على العرب إلا الاستعمال، التشغيل. حتى الصيانة لا يستطيعونها لانهم لا يعلمون ما بداخل الصناديق الجاهزة. وكل علبة تكنولوجية جاهزة كانت مقابل قطعة من الاستقلال التقني، مقابل الحق الطبيعي في الإبداع التكنولوجي.

كيف ظلمنا انفسنا هذا الظلم؟ كيف ضعف إحساسنا بالإسلام كمرجع حضاري، كملهم ومحرك لسعينا للتمدن والعمران وإصلاح الأرض؟ للإجابة دعنا ننظر إلى علاقاتنا بالأسلاف

ب- العلاقة بالأسلاف والذات الدينية

كيف حدث الاستقطاب والانفصام الذي جعل علاقتنا بالتراث الإسلامي تقتصر على فقه الإرث والأحوال الشخصية والعبادات؟ ما هي الوقائع والأسباب التاريخية التي جعلت الفقه الإسلامي هو فقه الفروض التعبدية للكيان الشخصي الخاص وانسته ان يكون أيضا ً فقه الفروض الحضارية: فروض الجهاد لتأدية أمانة استخلاف الله لنا في وطننا، والاجتهاد لنكون شهداء على الناس، وفروض عمل الصالحان الحضارية، والأمر بالمعروفات والنهي عن المنكرات الحضارية..؟

الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى مجلدات، وما نحاوله هنا هو مجرد الإشارة. ان البداية كانت الفتنة الكبرى سنة 40 هجرية، وتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض إلى دولة أموية أساس الشرعية السياسية فيها منقطع الصلة بالإسلام.

منذئذ توالت الدولة الإسلامية: عباسية، أموية، أندلسية، طولونية، إخشيدية، فاطمية، أيوبية، مملوكية، صفوية، غزنوية، عثمانية. ومع كل عصر تنفصم عرى ارتباط أحد مقومات الحضارة بالإسلام الحنيف.

ففي الدولة الأموية والعصر العباسي الأول (41 هـ – 214 هـ) اقتصر الانفصام على الجانب السياسي الداخلي

شكل (3)

، غياب الشورى والمشاركة والمساءلة الشعبية. ثم شهد العصر العباسي الثاني (250 هـ – 490 هـ) وما عاصره من الدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأندلسية، انفصام الجوانب الأدبية والفنية عن الإسلام. ثم بدأ عصر الحروب الصليبية والغزوات المغولية التتارية وما عاصرها من الدول الأيوبية والمملوكية البحرية ثم البرجية في مصر، والسلجوقية والغزنوية والصفوية في تركيا وإيران وشرق آسيا (500 هـ – 800 هـ) وفيه اتسع الخرق ليشمل انفصال الجوانب العلمية والفكرية والتعليمية والمهنية عن الإسلام الحنيف. ثم جاء العصر العثماني (857 هـ – 1205 هـ)ليشهد اكتمال الخمود الحضاري بانفصام الجوانب المدنية – التنظيمية والصناعية – التقنية عن الإسلام الحنيف. وهكذا كان المشهد الحضاري، الذي شهده نابليون في غزوة مصر وسجله علماء حملته في كتاب وصف مصر، مشهدا يمكن تصويره في الشجرة البنية في شكل (3).

وما فعله الغرب بكياننا الحضاري في القرنين الأخيرين (1205هـ – 1412 هـ) ذو شقين:

شكل (4)

أول الشقين قطع الصلة التي تصل غصن الكيان الحضارى بالجذور الإسلامية والثاني حقن هذا الكيان بأمصال غربية تحوله تماما إلى ملحق بالحضارة الغربية شكل (3)، بحيث بدا ان البدائل الحضارية أمامنا طوال قرنين هي ما نصوره في: شكل (4):

لقد حجب عن البديل الثالث، البديل الصحيح أخفي عنا، لقد قدم لنا الأشكال انه اختيار بين تبعيتين: إما تبعية مقلدة ملحقة بالدولة العثمانية المستبدة الجامدة حضاريا ً، أو تبعية مقلدة ملحقة الدول الغربية الحرة الناهضة حضاريا ً.

ونسي من روجوا لهذا الاختيار ان نهضة أوروبا لم تقم على نبذ الأصول، على العكس، هي قامت بإعادة الارتباط مع الأصول الإغريقية الرومانية.. والنهضة الأوروبية لم ترفض المسيحية كدين، انما رفضت السلطة الدينية، أي هيمنة الكنيسة على الحياة الحضارية المدنية. وهي تتلمذت على الحضارة الإسلامية ونهلت من كنوزها العلمية والطبية والتقنية.

ان سنن النهضة الحضارية سنن إلهية ينهض بها من يتبعها، سواء كانت النهضة هي للحضارة الإسلامية أم الغربية أم الصينية أم اليابانية. وليس من هذه السنن التبعية لحضارة أجنبية والدوران في فلكها والاستمداد من الفتات الذي تلقيه. ان الوسيلة جزء من الغاية، ولهذا فلا يمكن ان تكون غاية بناء حضارة إسلامية مستقلة مبدعة قوية متحققة بوسيلة التبعية والاقتراض والاستهلاك والترديد لحضارة أجنبية لسببين:

1- ان الحضارة الغربية أجنبية أي ان جذورها أجنبية ولهذا، فهمها حسنت نيتها في العطاء ومهما حسن اجتهادنا في الأخذ، تظل عاجزة عن تغذية فروعنا الحضارية.

ان غاية ما يمكن هو الحقن والتلقيح، والاستثارة المتحدية (انظر الشجرة)، أما التغذية الشاحنة المستمرة فلا يمكن ان تكون إلا من أصول عقيدتنا الإسلامية.

2- ان الحضارة الغربية مختلفة عنا جوهريا ً في نظرتها للوجود والكون ؛ إذ انها قائمة على ان الوجود هو الدنيا والموت هو العدم، وبالتالي فغايتنا تعظيم المتاع الدنيوي (قوة المال، جاه السلطة، راحة الرفاهية، لذة الإثارة الحسية ،…) وهي أظهرت كفاءة وقدرة في سبيل تحقيق هذه الغاية… وقدراتها التقنية التكنولوجية جزء من هذا..

سابعا: البديل الصحيح وانساق الانتماء الاجتماعي

ان البديل  الصحيح يبدأ من معرفة هوية حضارتنا. انها حضارة ترى الوجود فصلين: دار عمل وابتلاء وحياة قصيرة، ودار جزاء في حياة أبدية. ولذا فغايتها تعظيم الثواب في الحياة الآخرة. وإلى هذه الغاية يكون جهدها وسعيها، بالعمل الصالح، والجهاد النافع، والعدل والإحسان والصبر والإيمان.

الحضارة بأسرها وسيلة لعبادة الله، الصناعة والتقنية، والقتال والتنمية، والإبداع العلمي والتكنولوجي، هي وسائلنا للاستقامة على صراط العزيز الحميد..

ونحن لا نصل إلى هذه الغاية باستبدال التبعية للغرب المعاصرين بالتبعية للأسلاف الغابرين. انما نصل بان نجتهد كما اجتهد أصلح وأتقى أسلافنا – ان نواجه تحديات زماننا كما واجهوا تحديات زمانهم، بالعدل والقسط، والجهاد والبر، بتدبر سنن الله في الكون، وطاعة شرع الله في القران.

من حق كل جيل ان يتصل بالقران مباشرة ويستلهم السنة النبوية دون وساطة وان يعمل عقله مجتهدا ً في ربط الكيان الحضاري في العمران والتقنية والسياسة والاقتصاد – بالذات الوطنية، العربية والدينية.. من حق كل جيل ان يكون له ميزانه الخاص في بعثه التراث وفي اختياره الصالح المجدي منه في مواجهة إشكالات واقعه ومتطلبات نهضته.

ان صميم الإيمان بان الإسلام دين كل البشر في كل العصور في كل الأقطار والأقاليم والبيئات – يدلنا على الصراط الحضاري المستقيم، انه صراط المجاهدة الأخلاقية والاجتهاد الثقافي، والجهاد الحضاري يقوم به كل جيل في كل جماعة في كل إقليم في كل عصر.

وهذه المنظومة المكونة من البشر (الجيل) والمكان (الإقليم) والزمان (العصر) تسمى البنية الاجتماعية، وهي دائما تتكون من انساق للانتماء تتسع وتكبر بادئة من أصغر الدوائر: الفرد. ودوائرها تضم الأسرة فالعائلة فالعشيرة فالقبيلة أو القرية أو الحي، وتتسع لتشمل المدينة فالمحافظة (الأقليم) فالقطر، وتمتد للقوم فالشعب فالانسانية كلها، شكل (5)، فالانجليزى مثلا ً إقليمه ويلز، وقطره انجلترا وقومه الانجلو ساكسون، وأمته الأوروبيون والأمريكان من كاليفورنيا حتى سيبيريا. والمصري مثلا ً إقليمه شمال الصعيد (محافظة الفيوم مثلا ً) وقطره مصر وقومه العرب من العراق حتى المغرب، وأمته المسلمون من اندونسيا حتى نيجيريا. انظر شكل (5).

والمسألة ليست هي تعدد دوائر الانتماء. انما هي العلاقة البناءة المثرية بينها.. فان وضعين يمكن ان يئثرا بالسلب على حيوية البنية الاجتماعية: أولهما ان تتصادم هذه الانتماءات فتتفرق القوى في هذه النزاعات وأمثلة ذلك تصادم الأكراد والعرب، أو السنة والشيعة، أو القوميين والإسلاميين، أو الوطنيين ضد القوميين، وثانيهما ان تتفاصل هذه الانتماءات وتنعزل عن بعضها البعض، وتتقطع بينها الروابط فيصبح مثلا ً انتماء الفرد لأسرته النووية فاصلا ً له عن الانتماء لعائلته الممتدة، مثلما يحدث في المدن العربية الضخمة، أو يكون انتماء الفرد لعائلته الممتدة فاصلا ً له عن الانتماء لمدينته، أو العكس عندما يكون انتماء الفرد لوطنه فاصلا ً له الانتماء لأسرته النووية…

والقوة الموحدة الرابطة لهذه الانتماءات هي قوة ترتيبها في سلم قيمي واحد تؤدي فيه كل دائرة للتي تليها.. وللغرب نمطان في هذا الترتيب:

النمط اللليبرالي الرأسمالي:

الأضيق والأخص هو الأعلى المهيمن. فالنفس أولا ً ثم الأسرة، ثم العائلة.. ثم القوم ثم الأمة.. أى ان أسرتي – مثلا ً – أولى بي من عائلتي، وكلاهما أولى بي من قومي.. وهكذا.

شكل (5)

النمط الشمولي الاشتراكي:

الأوسع والأشمل هو الأعلى المهيمن فالأمة أولا ً ثم القوم، ثم الوطن.. ثم العائلة ثم الأسرة.. أي ان وطني – مثلا ً – أولى بي من عائلتي، وكلاهما أولى بي من أسرتي..

في النمط الأول المحلية هي الطريق للعالمية، والقومية هي الطريق للانسانية، وفي النمط الثاني العكس هو الصحيح، فالانتماء الوطني هو الطريق للانتماء الأسري، والانتماء للأمة السوفيتية مثلا ً هو الطريق للانتماء للقومية الأذربيجانية.. وواضح اننا في تاريخنا الحديث تراوحت أربطتنا بين النمطين.. ففي عصر عبد الناصر مثلا ً كانت الأمة العربية أولا ً، ثم مصر، وفي عصر السادات انعكس السلم، لتصبح مصر أولا ً، ثم الأمة العربية..

والسؤال الان هو ما هو النمط الإسلامي ؟

واجتهادنا ان الإسلام حذر من اتباع كل من النمطين ؛ لان في اتباعه وحده طغيانا ً، طغيان الخصوصية الفردية في الأول، وطغيان الشمولية الجماعية في الثاني، لان الحق ليس بالضرورة دائما مع أحدهما، ففي مجال التحذير من النمط الخصوصي الفردى.. ينهانا الإسلام عن اتباع أهوائنا الفردية: (واتبع هواه فتردى) (طه: 16)، (أفرأيت من اتخذ هواه وأضله الله) (الجاثية: 23) أو عن جعل أقاربنا أولى بنا من الانتماء إلى الله. (قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم….أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره) (التوبة: 24) انما الأعلى والمهيمن هو الله وحده.. كل الانساق مهما ضاقت واقتربت… مخلوقات خاضعة.. تهتدي فقط ان أطاعت الله.

وفي مجال التحذير من النمط الشمولي الجماعي، يحدثنا القران عن أقوام بكاملهم ضلوا.. مثل قوم عاد، وقوم لوط، وقوم نوح، وقوم فرعون.. والحق كان في جانب أفراد، لوط، نوح، ومؤمن آل فرعون. ويمتلئ القران بالتحذيرات من اتباع الآباء ان ضلوا. والرسول بقتاله قبيلته قريشا ً الكافرة أعطانا نموذج الإسلام.. وهو ان الأعلى المهيمن هو الله وحده..

وكل هذه الانساق ودوائر الانتماء متساوية في خضوعها للحق، أى لا هيمنة ولا أولوية للوطن مثلا ً على العائلة بحكم السعة والشمول، ولا هيمنة ولا أولوية للأسرة مثلا على الأمة بحكم القرب والخصوصية، انما الهيمنة لله وحده، رب الأسرة ورب الآمة، رب النفس ورب العشيرة. وتتحقق الصلة بين هذه الانساق والدوائر بولائها لله وطاعتها له وسعيها لرضاه… انها تتواصل عبر تمسكها بعروة الله الوثقى واعتصامها بحبل الله وحده. حينئذ يجعلها الله بنعمته إخوانا ً في الإسلام، تتعاون على البر التقوى وتتواصى بالحق والصبر.

ثامنا: العلاقة بين البيئة الثقافية والتمية الصناعية

لا تؤثر البيئة الثقافية في التنمية الصناعية مباشرة ولكن عبر اليات المؤسسات السياسة وانساق الانتماء الاجتماعي والهياكل الاقتصادية الفاعلة ولكى نكتشف مواطن الخلل والنقص دعنا أولا ً نضع تصورا ً للعلاقة الصحيحة والتي هي في رأينا منتجة للتكنولوجيا الملائمة. والشكل التخطيطى (شكل 6) يبين هذه العلاقة والانشطة والمؤسسات الوسيطة.. والتي نتصور انها لو أكتملت لانتجت تكنولوجيا ملائمة تتوافر فيها الشروط الخمسة التالية:

1- مشبعة للحاجات الاقتصادية الحقيقية، محققة للغايات الحضارية.

2- مجددة محسنة للكيان الاجتماعي، ومستفيدة من إمكاناته، وموظفة لفعالياته.

3- مستقلة في تدبيرها للموارد، ومعتمدة على خامات محلية، وتقنيات ذاتية.

4- موصولة بالأصول الحضارية وخبرات التراث التقني.

5- محكومة في اختياراتها وتوجهاتها بقيم الإسلام العليا: القسط والبر والاستقامة، والشورى والتراحم، والعدل والإحسان، والصبر والتوكل.

ومن التأمل في الشكل التخطيطي يمكننا الان ان نتبين مواطن الخلل والذي يمكن ان يصيب أي وظيفة (ممثلة بدائرة أو مربع) أو يصيب الصلة أو العلاقة بين وظيفتين (ممثلة بخطوط وأسهم). ومن عرف الصحة عرف المرض.

مواطن الخلل في البيئة الثقافية

(1) ضعف العقيدة الدينية: إيثار الحياة الدنيا – الجهل بآيات الله في القران وفي الكون أو الإعراض عن بعضها – الشرك (خشية المستبدين أو الطمع فيما عند المستعمرين) – القعود عن الجهاد الحضاري – التخاذل عن القيام بالشهود الحضاري.

(2) انفصام الذاكرة الجماعية عن موروثها الحضاري وخبراتها التقنية وتاريخها الجهادي وعبر ماضيها ودروسه.

(3) الاغتراب عن الذات وإحلال ذات الأغيار بدلها. كان يرى الشعب ما تراه الحكومة، أو تقلق الأمة على ما يقلق مستعمريها، أو يتحيز قوم ضد من يعادي غاصب أرضهم.

(4) العمى عن كنوز الوطن، وموارده الطبيعية وثروته البشرية والجهل بخصوصية تكوينه النفسى وتحيزاته الحضارية.

(5) تبنى قيم متنافرة مع ميول الشخصية الحضارية.. مثلا ً: تبني قيمة الموضوعية التشتتية الباردة في شعب يتميز بالوجدانية التشخيصية الدافئة.

(6) غياب قيمة الإحسان في أداء الأمانات، في القيام بالأعمال.

وذلك استتبع ضمور الاهتمام بالدأب على التدريب المهاري والحسي وتغيب قيم تمجد التجريب والمحاولة والمبادرة والمثابرة على المحاولة.

(7) غياب قيمة تعلى من شان علو الهمة الحضارية، وسعة وشمول الأحلام المستقبلية، وتشجع التخيل الطموح المؤمن.

مواطن الخلل في النظام السياسي الاقتصادي

(1) المركزية فيما تشله المركزية، واللامركزية فيما تفككه اللامركزية.

(2) عجز القيادات عن بلورة إرادة سياسية قوية لتحقيق الغايات وسقوطها في التبعية – دونما قصد – للمراكز المريدة الأجنبية.

(3) غياب الشرعية الجماهيرية وبالتالي نقص الثقة وغلة الشكوك في علاقة الحكومة بالأهالي.

(4) غياب الشورى وغلبة الاستبداد الفكري وتقلبه.

(5) سلبية الجماهير وعزوفها عن المشاركة في الجهاد الحضاري.

مواطن الخلل في التنمية الصناعية

(1) الجمود التقني: ويعنى خمود القوى الإبداعية، فيميل كل جيل إلى تكرار أفكار وممارسات وتقنيات الجيل الذي سبقه. مثلا ً جمود تقنية الحرث (وآلاتها فأس ومحراث) والري (وآلاتها ساقية وشادوف) عبر عصور ممتدة أواني الفخار، أقفاص الجريد..

(2) التغيير بالاستيراد: استيراد نظم الانتاج، آلات الورش، قوالب الصب ؛ تقنيات الانتاج، التصميمات والرسومات، برامج التشغيل وقواعد الصيانة.. إلخ. والأمثلة كثيرة في صناعة السيارات والتليفزيونات، وغيرها حيث يكون استيراد نظام انتاج ومعداته.. هو الطريقة الوحيدة للتغيير.

كل من الجمود التقني والتغيير بالاستيراد وجهان لعملة واحدة، هي غياب التجدد الذاتي، غياب القوة الذاتية الدافعة للتحسين لتطوير الموجود من داخله.. وتمتد عبر وطننل العربي قرى تتدهور بفعل الجمود التقني وحواضر تنمو بالاستدانة.

(3) غياب رؤية لخطة تنمية ذاتية شاملة.

(4) استخدام تقنيات ملوثة للبيئة مفرطة في الموارد، أو نظم انتاج تمزق روابط الانساق الاجتماعية.

(5) غيبة المساءلة والتقييم والمراجعة والمتابعة.

تاسعا: نحو نموذج إسلام للنهضة الحضارية

ان الذي نبتغيه هو مشروع للتنمية الصناعية في وطننا العربي يكون مكوناً عضويا ً من تنمية ذاتية شاملة كافة جوانب الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهذه التنمية ذاتية، بمعنى انها نتيجة لسعى جماعي لكافة قوى الأمة لتحقيق ذاتها الحضارية، وهي بدورها سبب ومقوم مهم جدا لهذا الجهاد الحضاري.

أ- الشروط والخصوم

المشروع بهذا التعريف له ثلاثة شروط، أعمدة تؤسسه، وثلاثة خصوم، يمكن ان تهدمه.

الشرط الأول هو الاستقلال الملهم للتجدد من الذات الحضارية تجاه غايات تختارها وترتضيها ووفق منطقها وقيمها وتحيزاتها وخصوصية تكوينها البشرى. الجيشان والزخم هنا مصدرهما الذات وكنوز خبراتها التاريخية وثرواتها الطبيعية ورسوخ ثقتها في ان اعتمادها على ما وهبها الله كاف ليغنيها عن التواكل على الآخرين.

وخصم هذا الشرط إذن هو الشك في الذات وفي صحة توجهاتها وقوة وثراء تكوينها. هذا الشك يجعلها قابلة للخضوع للهيمنة الحضارية الغربية.

والشرط الثاني هو حرية المواطنين السياسية، وحقهم في الشورى وواجبهم في المشاركة. في هذا المناخ تشتعل الرغبة في التحسين التقني والكشف العلمي والابتكار التكنولوجي.

وخصم هذا الشرط هو الاستبداد الفكري، والطغيان الهيكلي الحكومي وقابلية انساقنا الاجتماعية للانضغاط تحت وطأته فلا تمارس حقها في الشورى وتقعد عن واجبها في المشاركة.. وساعتها تخمد قوى التجدد والإبداع والاجتهاد الذي أمرنا الله به.

والشرط الثالث هو الاعتصام جميعا ً، نحن الأفراد والأسر والعائلات والقبائل والشعوب العربية، بحبل الله المتين.

وعنئذ يجعلنا الله بنعمته إخوانا ً في الإسلام نتآزر اقتصاديا ً على البر، ونتعاون حضاريا ً على التقوى، ونتضامن سياسيا ً على العدل، ونتواصى ثقافيا ً بالصبر وبالحق. اعتماد جماعي على النفس العربية الإسلامية التي تجمعنا، انفتاح نفوسنا الشخصية وتحاورها في صدق يصفي نزاعاتنا ويركب تناقضاتنا في كل يوحده إسلامنا جميعا ً له الواحد.

وخصم هذا الشرط هو النعرات القبلية، والقروح المذهبية، والأطماع الحدودية، والتعصبات الطائفية، والتفاخرات الشعوبية. هو تناسى ما جمعنا وما يجمعنا الان، هو التحل من مواثيق عهودنا في الجوار والأخوة والتضامن، هو التنكر للفضل بيننا هو ان نتبع أهوائنا، ونقطع روابط أرحامنا.

ب- الجهاد الحضاري

هذه المهمة التاريخية هي أمانة في عنق جيلنا يحاسبنا الله ان قعدنا عنها أو أخرناها. وتسارع التحولات العالمية وانهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة، وممارستها لها في تحطيم العراق وتشتيت العرب يجعل المسارعة في درء الخطر واجبا ً حتميا ً، أي ان المهمة عاجلة جدا.

هذه المهمة تحتاج منا إلى مجاهدة وجهاد واجتهاد.

فأما المجاهدة فهي لما في قلوبنا من انبهار بالغرب وإعجاب بحضارته، مجاهدة لما في عقولنا من توهم لعالمية طريق الغرب وانسانيته، وبالتالي لصلاحية أسلوبه وغاياته لنا، مجاهدة لما في إرادتنا من ميل إلى الانقياد لتوجيهات الغرب والسعي إلى إرضائه. نحتاج أيضا ً إلى مجاهدة لما في نفوسنا من اعتياد الاستضعاف لمن طغى وتجبر منا، مجاهدة لتقاليدنا في ممالأة المجرمين الأقوياء ومداهنة الفاسقين الأغنياء، نحتاج إلى ان نجاهد ميولنا للتنازع والتحاسد والتباغض.

وأما الاجتهاد فهو من أجل إيصال الواقع الأدنى الحاضر للعرب بالمثال الأعلى للحضارة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين. اجتهاد يتطلب فقها ً متجددا ً بلغة ورموز وتحديات عصرنا، فقها ً لكل من عقيدتنا وشريعتنا ولحاضرنا كمسلمين في أقطار واقعية محدودة. نحتاج إلى اجتهاد يلهم الحاضر الواقعي الانساني النسبي بالديني الإلهي المطلق.

ولا يفعل هذا إلا من عرفهما معا ً واجبهما معا ً ورغب حقا ً في وصلهما. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. هو عرف مجتمعه في مكة وفي المدينة، بتكويناتهما القبلية وتقاليدهما الاجتماعية وأسسهما الاقتصادية، ثم غير نفوس الناس وجدد مقومات المجتمع بالدين والهدى والقيم الإسلامية. والرسول فعل هذا برحمة من الله، فكان بالمؤممنين رؤوفا ً رحيما ً. لم يحطم كل الروابط ولم يحقر كل الأسس. انما حطم الأوهام والأصنام فقط. وأبقى على كل خير ومعروف ووجهه إلى الفلاح الفردي والاجتماعي.

وكل جيل من أجيال المسلمين التي تلت وفاة النبي واجه نفس التحدي، وتحدى إصلاح الدنيا بالدين، بناء الحضارة بالإسلام. نجحت أجيال وأخفقت أخرى. وانعكس هذا في فقه كل جيل للقران والسنة وتفسيره لهما، وتركيزه على قضاياهما، نجحت الأجيال التي رأت في القران والسنة جانبيهما: الحضاري المشرع للذات الجماعية، والشخصي المشرع للذات الفردية. وان استشارتنا لفقه تلك الأجيال يمكن ان يفيدنا.

لكن لنعلم ان الابتلاء هو لنا نحن. والمسئولية في بناء الحضارة الإسلامية هنا والان مسئوليتنا نحن ؛ ولذا يجب ان نجتهد نحن في تفسير القران والسنة تفسيرا ً يعبر عن رؤانا الحاضرة لواقعنا الحاضر بتحدياته الحاضرة وممكناته الحاضرة. ان المعاصرة هي هذا الحضور. فلا هي الانتماء إلى الأغراب المعاصرين الذين يشاركوننا الان  العصر، ولكن يختلفون معنا في الهنا: المكان. ولا تكون المعاصرة بالانتماء إلى الأقارب الأقدمين الذي يشاركوننا الهنا: المكان، لكن لم ولن يشاركونا في تحديات العصر وعلمه وممكناته.

نحن – مسلمي هذا الزمان –  أمامنا البديل الذي لم يخفق قط. لن تتوطن قدراتنا التكنولوجية إلا بان تؤصل بقيمنا الإسلامية. ان يستقر في شغاف قلوبنا الإيمان الراسخ بان الصراط الصحيح الوحيد للنهضة والقوة والتمدن والشهود الحضاري هو صراط العزيز الحميد.

ولهذا فلا نسمى الغاية التي صراطها هو صراط الرحمن بأسماء الغرب: (الحداثة، التقدم، المعاصرة.. إلخ)، انما نسميها كما سماها الله في كتابه. حضارة الصدق والحق، حضارة العلم والحكمة، حضارة البر والتقوى، والعدل والإحسان، حضارة أمة المتقين.

نحتاج إلى ان نجتهد في أسلمة مناهجنا العلمية، أساليبنا الأدبية، نظمنا البنكية، انساقنا الإدارية، وسائلنا الإعلامية، خطابنا السياسي.

نحتاج إلى ان نؤصل تعبيرات مثل الإبداع، الانتماء، التقدم، العمل، الانتاج، فنربط، مثلا ً، بين الإبداع والتفكر في خلق السموات والأرض، بين الانتماء وإيتاء ذوي القربى، بين التقدم والسير على الصرط المستقيم، بين العمل المنتج والعمل الصالح، بين المسئولية والحساب.

ان الاستفادة النافعة من الغرب تكون بان نرى كيف طبق سنن النهوض واتصل بجذوره الحضارية هنتصل نحن أيضا ً بجذورنا والاستفادة النافعة من السلف الصالح ليست في اقتباس مضمون اجتهادهم، انما هي في محاكاة منهج اجتهادهم منهج تمسكهم بالقران والسنة، منهج تدبرهم لآيات الله. ان نجتهد كما اجتهدوا في تأصيل استجابتنا نحن لأمر الله لنا، ان نكون خلفاء صالحين في أراضينا وانهارنا، وقرانا وواحاتنا، ان نتقي الله في شعوبنا، ونرغب إلى الله وحده ونحن نعامل حكامنا.

أخيرا ً وليس آخرا ً يكون الجهاد، وهو شقان: سياسي وحضاري. أما السياسي فهدفه جعل المرجعية التشريعية إلى الشريعة الإسلامية. يختلف المجتهدون لكن معيار الحق يكون بالاحتكام إليها. أما الجهاد الحضاري فغايته تغيير النفوس لتحب الاستقامة على صراط الله لتقتنع ان نفعها وخيرها لا يكون إلا بالإسلام لله، هذا جهاد غايته جعل الميزان الذي نزن به البشر هو التقوى، والمعيار الذي نقيم به المساعي هو البر.

ج – الغاية العليا

نحن لا نريد ان نبنى إمبراطورية عربية تناطح إمبراطوريات الغرب وتشابهها. لها نفس مؤسساتها الربوية المستغلة للشعوب الجائعة، أو نفس مؤسساتها العسكرية المتسلطة على المستضعفين في الأرض، أو نفس صناعاتها المدمرة للبيئة. لا ليس ما نريده هو استعادة خلافة إسلامية جوهرها ملك عضوض مستبد مخلد إلى الأرض، نحن لا نريد الإسلام كواجهة ولافتة لحضارة محجوبة عن الله.

ان الإسلام هو الغاية، والحضارة هي الوسيلة، نحن نريد الحضارة. من أجل ان نكون من المسلمين المفلحين. غايتا هي عبادة الله، وما العلم والتكنولوجيا إلا وسائل للعبادة  وسائل للطاعة. ان معايير استخدامنا الوسائل الحضارية وتوجيهها تكون دوما ً خاضعة لهيمنة غايتنا الوجودية العليا: ان ننال رضوان الله.

لن تكون حضارتنا إسلامية حقا ً إلا إذا كنا نعمل الصالحات الحضارية رغبة في رضوان الله. فلا نحسن صناعاتنا مثلا لنزادد علوا ً في الأرض، انما لنكون خير أمة أخرجت للناس. نكون أهل العدل والقسط، وأمة البر والتقوى. ان دورنا، بل أمانة استخلافنا هو ان نكون شهداء على الناس، نقود البشرية بالقدوة الإيمانية، بالوسطية الإسلامية، بمكارم الأخلاق، بالخضوع للحق، والاستقامة على الصراط، نقودها في سعيها لثواب الآخرة.

علينا ان نعتبر بتجاربنا في النهضة، والتي خلت من هذه الغاية الإسلامية الحاكمة، تجارب محمد على والخديو إسماعيل، عبد الناصر وصدام حسين. هذه تجارب ركزت على سنن التقدم المادية، على التحديث تمثلا ً بمن أتقنوا هذه السنن وهم الغربيون. وشهدت هذه التجارب ليس فقط تمثلا ً بالغرب في الوسائل (نظم التعليم ومناهجه، نظم الانتاج وتقنياته، وآلاته) وانما أيضا ً في الغايات (الرفاهية، الراحة، الوفرة، اللذة، العلو..) لقد حققت تلك التجارب استقلالا ً سياسيا ً وتحسنا ً اقتصاديا ً، ولكن لم تستمر وانكفأت بسرعة.

السبب انها كانت تابعة قيميا ً للغرب. فالذي يميز أي حضارة هو معيارهم الحاكم، فرقانها الذي تميز به شعوبها بين الحق والباطل وبين الرشد والغي، ويا ويل الشعوب التي تستمد هذا الفرقان من كبرائها أو من أسلافها أو من غزاتها أو من انفسها.

ان الشرك لظلم عظيم، ولا فرق فيه بين الذي تشرك به من دون الله وبين غيره. ان الصراط الحضاري المستقيم يستمد فرقانه، معياره الأعلى الحاكم، من الرحمن الرحيم.

عاشراً: مراجع البحث

الحوارات:

استفدت كثيرا ً في هذا البحث من حوارات ملهمة مع أصدقاء، مع أشخاصهم، ومع كتاباتهم، ومن هؤلاء الدكاترة: حامد الموصلي، وسيد دسوقي، ومحمد عمارة، والأساتذة: طارق البشري، عادل حسين، وفهمى هويدي.

الكتابات:

1- مقالات الدكتور حامد الموصلي في مجلة (الحوار).

نحن والتكنولوجيا، التكنولوجيا الملائمي، الصناعات التقليدية في البلاد الإسلامية.

2- كتاب الشيخ محمد الغزالي: (كيف نتعامل مع القران)

3- مقالات سابقة للمؤلف:

(الأسباب الثقافية لأغلالنا التكنولوجيا)، مجلة الهندسة والحضارة، تصدر عن نقابة المهندسين بالقاهرة.

(في التشخيص الثقافي للبطالة)، مجموعة أبحاث مؤتمر البطالة بين المهندسين، عقد في القاهرة يناير 1989.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر