أبحاث

التقييم المحاسبي في ضوء أهداف البنوك الإسلامية

العدد 27

أحمد الله وأشكره أن هيأ لنا فرصة الحضور والمشاركة في هذا المؤتمر الكريم، والذي أرجو له أن يكون بداية لعمل جاد وفعال نحو تنمية وتطوير الأهداف المصرفية بما يتفق وأحكام ديننا الحنيف، وأن يكون نقطة انطلاق نحو تقنين الأحكام المالية والمعاملات في الإسلام وجعلها أساسا تتحدد عليه وظائف المصارف الإسلامية، وأسلوبا لقياس إنجازاتها، وتقويم أدائها.

ويسعدني ويشرفني أن أكون ضمن وفد جامعة الإمارات العربية، للمشاركة في هذا الاحتفال العظيم بافتتاح المبنى الجديد لبنك دبي الإسلامي، وانعقاد مؤتمر البنوك الإسلامية.

ولقد حملنا جميعا برسالة تحية وتقدير من سعادة مدير الجامعة الأستاذ الدكتور عبد العزيز البسام، مع صادق تمنياته بأن يوقفكم الله في سعيكم نحو الاستزادة من منار العلم وهدية في دعم وتحسين التطبيقات الاقتصادية والمحاسبية للعمل المصرفي الإسلامي وعلى أمل أن نكون جميعا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

ولقد سارعت الجماعة فور تلقيها لدعوتكم الكريمة في الأسبوع الماضي، للمساهمة في تحليل ودراسة بعض الموضوعات التي تشكل أهمية كبيرة بالنسبة لطبيعة ومحتوى المشكلات الاقتصادية والمحاسبية التي قد تنشأ من خلال تطبيق الأحكام المالية ونظم المعاملات في الإسلام، على نظام العمل في بنك دبي الإسلامي. ولقد اخترت من بين الموضوعات ما يمكن أن نطلق عليه «فحص وتحليل أساليب التقييم المحاسبي في ضوء أهداف البنوك الإسلامية».

ولا أريد أن أدخل الآن في تفصيل وشرح ماهية التقييم المحاسبي ومدلول كل من أساليبه وكيف يمكن تطويع تلك الأساليب لخدمة العمل المصرفي الإسلامي، ولكن يمكن تصور النقاط الرئيسية التالية كمجموعة ركائز تستند عليها تلك الدراسة بإذن الله، والتي تدور حول إيجاد إجابة لتساؤلات متعددة مطروحة للبحث:

أولاً: هل يمكن تطوير القواعد والمفاهيم المحاسبية المتعارف عليها في مجال محاسبة البنوك، بحيث تتناسب وطبيعة العمل وظروف التطبيق في مصرف إسلامي. فيمكن ملاحظة أن هناك مجموعة من المبادئ والأصول المحاسبية التي اتفق عليها المحاسبون، قد وضعت لتطبق على مشروعات ذات أهداف وأساليب عمل تغاير تلك التي تختص بها – أو يجب أن تختص بها – البنوك الإسلامية التي اتخذت كتاب الله وسنة رسوله كمنهاج للعمل والنشاط الاقتصادي.

إن الأمر يتطلب إعادة دراسة وفحص القواعد المحاسبية المقبولة قبولا عاما بين المحاسبين وبحث إمكانية تطويع بعضها لمقتضيات العمل في المصرف الإسلامي.

ثانيًا: هل يمكن إيجاد بعض المفاهيم المستحدثة لقياس نتائج الأعمال وتقييم المركز المالي لبنك إسلامي، وذلك كبديل عن تلك المفاهيم المستخدمة حاليا في البنوك التجارية والتي تسعى بالدرجة الأولى إلى تحقيق أقصى ربحية ممكنة دونما اعتبار لعوامل أخرى مجتمعية أو بيئية أو قومية. ومرجع هذا التساؤل في اعتقادي هو أن اختلاف أهداف الوحدة الاقتصادية – ولو جزئيا – يستتبع بالضرورة اختلافا في أساليب تقييم إنجازات هذه الوحدة وأهدافها. إن التطوير في الفكر المحاسبي قد قطع شوطا محسوسا في العديد من مجالات القياس والتقييم المحاسبي للمشروعات الاقتصادية التي تعمل في ظل المنافسة وفي ظروف رأسمالية بحتة، وتخضع لنظم ضريبية مختلفة، مع أن الأهداف العامة لهذه المشروعات بقيت على حالها دون أن تتغير، ومن ثم فالأولى أن ينسحب هذا التحديث في الفكر المحاسبي ليشمل قطاعا له أهداف مغايرة ولا نظير لها في النشاط الاقتصادي الرأسمالي – وأعني به قطاع البنوك الإسلامية.

ثالثًا: هل يمكن أن نجد أسلوبا معينا – أو مجمعة أساليب – نتمكن بها من التقييم المادي للعوائد غير الملموسة التي يحققها البنك الإسلامي من خلال الدور الاجتماعي، والديني، والقومي الذي يسعى إليه.

أن الأمر يتطلب في اعتقادي، تطبيق مفاهيم جديدة للمحاسبة الاجتماعية بحيث تصبح معايير تقييم كفاءة البنك الإسلامي، شاملة لمدى نجاحه في تحقيق تلك الأهداف الاجتماعية والدينية، ويتبع ذلك أن يكون كل معيار أو مقياس مؤديا إلى هدف واحد قابل للقياس. وحتى تصبح أهداف البنك الإسلامي قابلة للقياس، فإنها يجب أن تحوي أربعة عناصر رئيسية:

–       عنصر الزمن، أي تحديد الفترة الزمنية التي يتحقق خلالها الهدف.

–       عنصر الكمية، أي تحديد حجم الهدف المطلوب تحقيقه.

–       عنصر الجودة، أي تحديد المواصفات التي يجب أن يتحقق عليها الهدف.

–       عنصر التكلفة، أي تحديد حجم الأموال التي ينفقها البنك لتحقيق الهدف.

رابعًا: هل يمكن لمؤشرات تقييم الكفاءة التي تستخدم في التحليل المالي للبنوك التجارية، أن تصلح للتطبيق بنفس القدر، وبذات المدلول، على البنوك الإسلامية. أم أن الأمر يتطلب البحث والاتفاق على مجموعة من المؤشرات ذات الطابع المجتمعي والديني، لتطبق في نهاية كل فترة عمل وليمكن من خلالها الحكم على مدى تحقيق الأهداف وكفاءة الأداء.

وقد يدعونا ذلك إلى تساؤلات أخرى تحتاج إلى بحث ودراسة، لعل منها ما يلي:

‌أ-     ما هي الأهداف الكمية التي يمكن تحديدها للبنك الإسلامي، والتي تتخذ أساسا لتقييم أدائه.أن تحديد تلك الأهداف يجب أن يكون نقطة البدء في وضع مؤشرها تقييم كفاءة البنك. ويجب أن نضع في اعتبارنا أن الأهداف يجب أن تنبع من مشكلات قائمة بالفعل في المجتمع الإسلامي الذي يعيش في البنك. فالمشكلة تعبر عن حاجة أو رغبة لا يوجد الآن أسلوبا لتحقيقها من خلال البنوك التجارية القائمة بحيث تكون الحاجة هي الهدف، والتوصل للأسلوب هو الحل، ومدى كفاءة هذا الأسلوب في إشباع الحاجة هو معيار التقييم.

ومن ثم، يتطلب الأمر في اعتقادي أن نبحث في ماهية المشكلات التي يواجهها المجتمع الإسلامي والمسلمين في مجالات المال والاقتصاد والسعي نحو الرزق والربح الحلال والتي يصعب عليهم تحقيقها من خلال الهياكل الحالية للبنوك التجارية وغيرها، بحيث نتخذ من هذه المشكلات منطلقا نحو تحديد أهداف البنك الإسلامي، ونقوم أداءه على أساس تلك الأهداف.

‌ب- تحليل هدف الربحية والبحث عن مقومات أخرى لقياسه قياسا موضوعيا يتناسب والأهداف التي سبق تحديدها للبنك الإسلامي.

‌ج-   صياغة وتقنين مجموعة متكاملة من مؤشرات الأداء للحكم على مدى تحقيق الأهداف الشاملة للبنك الإسلامي. فالقياس المحاسبي يجب أن يكون بمثابة علاقة منطقية بين الجهد المبذول من قبل البنك في مختلف المجالات، وبين الإنجاز الذي تحقق بالفعل في صورة أهداف محددة تم قياسها كميا.

‌د-    المراجعة المستمرة المطورة للتأكد من مدى التناسب بين مؤشرات تقييم العمل المصرفي الإسلامي، وبين الظروف الاقتصادية المتغيرة التي يواجهها البنك ويضطر إلى التعامل معها.

إننا يجب أن نقر في جميع الحالات باحتمالات التغيير التي قد تفرضها السياسات الاقتصادية والمالية العالمية، بحيث لا نصل إلى مرحلة – لا قدر الله – نجد فيها أن أهداف البنك قد أصبحت عبئا عليه لا قبل له في تحملها.

‌ه- البحث عن مدخلات جديدة لحسابات نتائج الأعمال (وهي اسم اقترحه كبديل لحساب الأرباح والخسائر التقليدية)، والتي تعد في نهاية كل فترة محاسبية بحيث تتضمن ما حققه البنك من عوائد مجتمعية وقيم إسلامية، ولعلنا نجد أساسا مقبولا وعاما لقياسها كميا.

خامسا وأخيرًا: كيف يمكن إيجاد التوازن المالي والمحاسبي ما بين الأهداف التي يسعى إليها بنك دبي الإسلامي، والتي أتصور أنها تدور حول تحقيق الربح الحلال / والتوصل إلى السيولة المطمئنة/ وخدمة مجتمع الإسلام.

إنها ثلاثة أهداف شاملة اعتقد أنها تصلح كإطار عمل للبنك في الأجل الطويل وهي أهداف قد تتعارض فيما بينها على النحو التالي:

1-      إن زيادة الربح الحلال – كهدف- قد يعني التنازل عن السيولة المطمئنة. إن الاحتفاظ بنسبة سيولة عالية لدى البنك يدعم مركزه في مواجهة احتمالات السحب المتوقعة وغير المتوقعة (لذلك اسمها سيولة مطمئنة) ولكنه في نفس الوقت يعني تجميد أموال البنك المتاحة وتجنب استثمارها لفترات معقولة واستغلالها فيما يدر عائد عل هذا الاستثمار يساهم بالتالي في تحقيق أهداف البنك الأخرى.

2-      أن هدف تحقيق الربح الحلال قد يتعارض جزئيا مع هدف خدمة مجتمع الإسلام حيث أن السعي إلى زيادة ربحية البنك قد يعني نقصا في تأدية الخدمات الأساسية التي يعني بها البنك والتي يقدمها إلى مجتمع الإسلام لتطويره وبث القوة فيه وتأتي تلك الخدمات في مجالات ثلاث، المساهمة في المشروعات الاستثمارية ذات الطابع التنموي، والتي تحقق أهدافا اجتماعية ملموسة وقابلة للتقييم، ثم الخدمات التمويلية التي تحول دون لجوء المواطنين الذين يحتاجون إلى تمويل معين إلى حيث الربا والاستغلال، وأخيرا تتمثل تلك الخدمات فيما يقدمه البنك من واجب الزكاة عن صافي قيمة أصول البنك في نهاية الفترة.

وهكذا فإن السعي إلى تحقيق هدف الربحية قد لا يشجع البنك على الدخول في مشروعات ذات طابع خدمي لمجتمع الإسلام، لأنها قد لا تدر عائدا مجزيا على رأس المال المستثمر، وبالعكس، فإن الاتجاه المتزايد من قبل البنك نحو الاهتمام بإقامة تلك المشروعات ذات النفع العام – قليلة العائد – قد يضر بهدف السيولة المطمئنة لأنها تشكل في معظمها مشروعات طويلة الأجل، وقد يضر أيضا بالمركز المالي للبنك لأن عدم تحقيق أرباح مناسبة وعوائد مجزية على الاستثمار يضعف من حجم الاحتياطيات والأرباح المحتجزة ومن القدرة على القيام بخدمات الائتمان بصفة عامة. وتبقى الحاجة إلى إيجاد التوازن.

3-      إن هذه السيولة المطمئنة قد يتعارض مع هدف خدمة مجتمع الإسلام، حيث أن تمويل بعض المشروعات ذات النفع العام والتي تستهدف علاج مشكلات المسلمين، كمشروعات الإسكان والمرافق والنقل وغيرها، تستلزم نوعا من التمويل طويل الأجل واستثمارات يصعب تسليمها عند الحاجة، مما قد يضعف من المركز النقدي للبنك وبالتالي من سيولته.

ويزيد من أهمية هذا الأمر – التعارض بين هدفي السيولة المطمئنة وبين خدمة مجتمع الإسلام، إن بنك دبي الإسلامي يتولى القيام بمجموعة خدمات هي أصلا تؤدي من قبل مجموعة من البنوك المتخصصة – صناعية وزراعية وعقارية – ومن ثم فإن الأمر يتطلب عناية فائقة في توجيه الأموال المتاحة لدى البنك – من مختلف المصادر، إلى حيث مجالات الاستثمار التي تتناسب حجما وطبيعة وتوقيتا مع تلك الأموال المتاحة، وأقصد بذلك التوازن الحركي ما بين مصادر الأموال واستخداماتها في البنك.

وهنا نعود إلى تساؤلنا الأخير – الذي سنضمه دراستنا – كيف تتحقق الموازنة بين هذه الأهداف الثلاثة المتعارضة فيما بينها، الربح الحلال/ السيولة المطمئنة/ خدمة مجتمع الإسلام. وقد نصل من دراستنا إلى التقنين التالي:

1-     إن الربحية التي يسعى إليها البنك الإسلامي ليست هي الربحية القصوى، بل هي الربحية المثلى. إنها الربحية الناتجة عن فائض الكفاية والتي يتحصل عليها البنك من أنشطته المختلفة. إن هدف تحقيق أقصى ربحية لا يجب أن يكون في قائمة أهداف البنك، بل يتعين أن يكون أنسب ربحية.

2-     إن هدف السيولة المطمئنة قد تتحقق بشكل غير مباشر من خلال أسلوب الثقة في المعاملات والاستناد إلى الأحكام المالية في الشريعة الإسلامية والتي يقوم البنك على أساسها. أما الشكل المباشر لتحقيق السيولة المطمئنة، فيتمثل في دعم وتقوية اتحاد البنوك الإسلامية، والذي اتصور إمكانية قيامه بدور «البنك المركزي الإسلامي»، حيث يصبح بمثابة بنك البنوك الإسلامية في الوطن العربي، وإن يصبح من بين أهدافه – وهي في رأينا عريضة واسعة – أن يوازن بين السيولة النسبية لمختلف البنوك الإسلامية، وأن يكون بمثابة غطاء للسحب لمجموع البنوك.

فمن رأينا أنه كلما ازدادت قاعدة المصارف التي يجمع بينها هدف تحقيق السيولة المطمئنة، والتي يضمها اتحاد عام، كلما قلت نسبيا درجة وحجم السيولة التي يطلب من البنك الاحتفاظ بها بصفة دائمة.

3-     يتطلب الأمر تطويع كلمن هدفي السيولة المطمئنة وهدف خدمة مجتمع الإسلام وقد يتأتى ذلك من خلال دراسة المشروعات التي يتولى بنك دبي الإسلامي المساهمة في تكوينها – ذات الطبيعة العقارية أو الصناعية – بحيث تكون الدراسة بمثابة تحليل للجدوى من زوايا الأهداف الثالثة المشار إليها، حيث تمر الدراسة بالخطوات التالية وبترتيبها الذي ترد عليه:

‌أ-          دراسة الجدوى المجتمعية للمشروع، أي مدى مساهمته في كل من الأجل القصير والأجل الطويل، في زيادة العائد الذي يتناسب ومبادئ الإسلام، ويجب الاتفاق على مقاييس موضوعية لهذا العائد الاجتماعي وإلا يتم تحديده في شكل وصفي عام.

‌ب-     دراسة الجدوى المالية للمشروع، أي مدى الآثار المتوقعة من تنفيذ المشروع على عائد الاستثمار العام بالنسبة للبنك وكذلك على الخطط الأخرى المتاحة، ويشمل ذلك دراسة لتحليل التكلفة/ العائد في ضوء تحديد تكاليف التنفيذ المتوقعة وربطها بالدراسة السابقة للجدوى المجتمعية للمشروع. ويكون الهدف العام هو ضمان نسبة مقبولة من الربح الحلال تساهم في تحقيق هدف الربحية المثلي وبالتالي في تحقيق المزيد من المشروعات الخدمة الأخرى.

ومن الطبيعي أن يتبع ذلك دراسة لاقتصاديات المشروع بشكل عام ودقيق، واحتمالات نجاحه، وكذلك تحليل العوامل الفنية ومدى انطباق الظروف المجتمعية وصلاحية البيئة لتنفيذ المشروع.

‌ج-       دراسة الجدوى النقدية للمشروع، أي أثر تنفيذ المشروع على الموازنة النقدية للبنك، ومدى التناسب بين حجم الأموال النقدية المتاحة وبين جدول التدفقات النقدية الداخلة والخارجة خلال مرحلة تنفيذ وتشغيل المشروع المقترح. ثم يتبع ذلك دراسة تحليلية لمدى التناسب ما بين مصادر الأموال المخصصة للتمويل وما بين توقيت الحصول على الدخل المتوقع من تنفيذ المشروع، وذلك لتحديد الأثر المتوقع على هدف السيولة المطمئنة والذي يجب أن يراعيه البنك.

ولعلي أكتفي بهذا الاستعراض السريع للمشكلات التي أرى أن يواجهها هذا المؤتمر ويتصدى لمحاولة تحليلها وإيجاد الحلول المناسبة لها، وذلك من خلال اللجنة المحاسبية المنبثقة عنه.

«سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر