أبحاث

الانحياز الحضاري الغربي في النماذج الرياضية العددية كمنهج للبحوث في العلوم الهندسية

العدد 65- 66

مقدمة :

انس للحظة عنوان هذا البحث وتعال شاركنى فى هذا السؤال الفاتك بى وبك ((أين السر العميق ؟)) ((أين المفتاح الضائع ؟)).

لقد فعلنا كل المطلوب منا ،أنشأنا الجامعات وأوفدنا البعوث ،وترجمنا الكتب وبنينا مراكز البحوث ،ومع ذلك ومع ذلك ،ومع ذلك أرضنا عطشى للعلم وحياتنا تكاد تخلو منه ،لم ؟! ولماذا ؟!

انظر معى لكل هذه الجهود العلمية ،لكل هذه النوايا الطيبة فى المؤتمرات العلمية ،لكل تلك العقول الذكية فى التقارير التكنولوجية ،لكل هذه الأبحاث الرياضية والطبيعية والهندسية .

نشاط وحركة.. ولكن، أين البركة ؟

كتب البعض عن مسؤولية السياسيين فى تنظيم جهود العلماء فى مؤسسات فعالة فى عصر أصبح فيه العلم هو محصلة نشاط جماعى .. كتبوا أن علماءنا كأفراد مثل علماء بلاد برة الفرق أن فى بلادنا ((مفيش سيستم))

المفتاح الضائع إذن هذا ((السيستم))ومسؤولية السياسى هى فى إيجاده ،لكنى أنظر حولى فأجد السياسيون أنشأوا مؤسسات علمية ومراكز السياسيون أنشأوا مؤسسات علمية ومراكز بحثية وأكاديميات تكنولوجية ومنظومات هندسية وامتلأت كلها بمثلى ومثلك من الكوادر العلمية أليس هذا هو((السيستم))الغامض ؟ . ولم إذن لا تزال الأرض عطشى والعقول دائخة ؟ نسألهم فيقولون ((مفيش فايدة)).

وأما هنا أقول إن المفتاح الضائع هو أن العلماء حددوا مسؤولياتهم كما يحددها علماء الغرب ،إنهم موظفون فى مؤسسات ،وفى بلادنا على العالم أن يوسع من نطاق مسؤوليته ،وبالتأكيد نقص البركة فى جهودنا هو مسؤوليتنا .

ألسنا نحن من نختار موضوعات بحوثنا ،ألسنا نحن من نختار مناهج البحث فيها ؟ ألسنا نحن من نكتبها وننشرها ؟ ألم يأن الأوان لمراجعة هذا كله وملاحظة إنا نفعل كل هذا بالأسلوب الغربى منضبطين بقيمه ساعتين لإرضاء معاييره ؟وأن هذا بالضبط هو ما عزلنا عن أرضنا فلم تعد تصلحها بحوثنا .

وهذا بالضبط هو ما أبعدنا عن شعوبنا فلم يعد ينفعها علمنا .

وأنا فى هذا البحث أبدأ هذا الطريق الصعب، مراجعة كوامن الانحياز فى منهجى البحثى والبدء من جديد مستقلا .

القسم الأول : مقولات وتعاريف ومفاهيم أساسية

أ – المحلية والعالمية ،والذاتية والموضوعية ،والانحياز والحياد .

أبدأ هنا فى تقديم فهمى للمفاهيم الأساسية : أقدم إليك لغتى ومصطلحاتى واستعاراتى ورموزى ،وأنا لا أطلب منك الاتفاق معى عليها ،ولكن أن نقيم مقالى على ضوئها ،أنا هنا آخذك إلى الزاوية التى أرى منها موضوع البحث وأعطيك النظارة التى أراه بها .

أنا أدعوك أن ترى الموضوع كما تراه ذاتى هل يمكن أن أدعوك لغير ذلك ؟ الحقيقة المطلقة الموضوعية يعرفها الله فقط ،وأما نحن البشر فلا يمكن أن نرى غير الحقيقة النسبية الذاتية ،الحقيقة ملونة بذواتنا وأدواتها فى المعرفة ((أنظر معى الشكل رقم 1))

هل هذا يعنى أن رؤيتى كلها ذاتية ؟

وبهذا تختلف تماما عن رؤيتك أنت الذاتية ؟ ..جزئيا فأنا أرى جزاء من  الحقيقة الموضوعية ((وأنت ترى جزاءا آخر مختلف))أى أن رؤيتى الذاتية قبس من الحقيقة الموضوعية جزء إنسانى عام .. قاسم مشترك .

ومن أين التحيز أو الانحياز إذن ؟ ((إنه يأتى من مصدرين)) الأول أن أصدق أنا أنى أرى كل الحقيقة الموضوعية : ((إن الجزء الذى أراه هو الكل )).

والمصدر الثانى أن تصدقنى أنت فتترك زاويتك وترمى نظارتك وتتبنى رؤيتى .. مصدقا أنها كل الحقيقة .. أنا أصيل عندما أرى حقيقة الدنيا من وجهة نظرى ،وأنا منحاز عندما عندما أصدق أن رؤيتى هى كل الحقيقة…

تعالى الآن نقل هذه المفاهيم من الأفراد إلى الجماعات ،العالم الغربى – المسيحى جماعة ،والعالم العربى والإسلامى جماعة أخرى . ولتكن الحقيقة الموضوعية هنا هى الحضارة . تراها الجماعة الأولى .. من خلال رؤيتها الخاصة .. ورموزها الذايتة : التقدم ،النمو ،الحداثة ،التطور ،المنفعة ،الرفاهية ،والمتعة . وتراها الجماعة الثانية من خلال رؤيتها الخاصة : الفلاح ،القوة ،الخير ، السعة ، النعمة ،البركة ، الصلاح ، الطمأنينة . غاية الجماعة الأولى من بناء الحضارة مجد الإنسان وغاية الجماعة الثانية عبادة الله .

العالم الغربى – المسيحى أصيل عندما يرى حقيقة الحضارة من وجهة نظره ، وينطلق لبنائها من قيمه ، ويسعى لتحقيق غاياته فيها، وهى منحاز عندما يعتقد أنه يرى كل الحضارة ، أن ما يبنيه هو صالح لكل الجماعات الاخرى .

والعالم العربى – الإسلامى تابع عندما يترك رؤيته الخاصة وموقعة المتميز وزاويته الفريدة ،ويصدق أن الجزء من حقيقة الحضارة الذى أنتجه الغرب هو كل الحضارة . وما دام صدق هذا فهو بالتالى لن يسهم فى إضافة رؤيته الخاصة ،ولن ينتج حضارته الخاصة ،ولن يعيش حياته الأصلية ،وإنما يعيش حياته بالتوكيل ، إن الله استحلف الغربيين – المسيحيين على جزء من أرضه فبنوا فوقها حضارة ،واستحلف الله العرب المسلمين على جزء آخر مختلف ،مفروض أن يبنوا فوقها حضارة أخرى مختلفة فهل فعلوا ؟

وكما أن لكل منا خصوصية ذاتية فردية ،ثقافته ولغته وعمره ومهنته وطباعه ،وفى نفس الوقت هو يجسد قبساً من الحقيقة الإنسانية المشتركة بين كل الناس فى كل العصور فى كل البلاد ،كذلك لكل حضارة خصوصية ذاتية محلية . وهى نتاج خصوصية الجماعة البشرية التى أنتجها ،وخصوصية الأرض والمناخ والبيئة الحيوية ،وخصوصية العصر الزمنى وعلاقاته وحالته هذا ينطبق على الحضارة العربية – الإسلامية فى القرون الوسطى – المسيحية فى القرون الحديثة (16-20) . ولكن بالضرورة أيضا جسدت كل حضارة منهما قبسا من حقيقة الحضارة الانسانية المشتركة بين كل الجماعات .. قبسا من الحضارة العالمية تختلف الحضارات فى قدور المحلية فيها ،أو فى درجة العالمية فيها ،فنقول مثلا إن حضارة الفرس القديمة أكثر محلية من حضارة الأغريق القديمة ..

ويبدو أن هناك ارتباطاً بين درجة المحلية ودرجة الذاتية وأهمية هذا أننا نريد أن نتحدث عن العلم ،والعلم مرتبط بالموضوعية ،بدرجة الاقتراب من معرفة الحقيقة مستقلة عن الذات العارفة ،فالعلم – كالفن والتكنولوجيا ،كالسياسة والتقاليد – نشاط من أنشطة الجماعة ،ولذا فهو مثلهم ملون بقيم وتفضيلات وعواطف الجماعة الذاتية . غير أنا نقول إن درجة الذاتية تختلف فى هذه الأنشطة ،فهى تزيد فى الفنون عنها فى العلوم

وفى العلوم الهندسية عنها فى العلوم الرياضية ،الفارق هو فى درجة الموضوعية – أو درجة العالمية .

ب- العلم والمعرفة ((النموذج والقانون))المحسوس والمعقول

هدف العلم هو المعرفة ،معرفة من نوع خاص معرفة منظمة قابلة للتطوير والتدقيق ،وقابلة للتوصيل للآخرين … معرفة تمكن العارف من تفسير ماضى الشئ والتنبؤ بحركته فى المستقبل ،ليست كل معرفة إذن علما ، فالفلاح البسيط يعرف كيف يزرع فدادينه الخمسة ،لكن معرفته ليست علماً ..

وما الذى يحرك طالب العلم ؟ تحركه رغباته . ومن أين نشبع رغباته ؟ جزء منها من حبه الشخصى للاستطلاع ونهمه للمعرفة وللتميز والعلو الاجتماعى . لكن جزء أكبر ينبع من رغبات مجتمعه ،من غايات الجماعة ذاتها . وهذا هو الجزء المشترك بين علماء الحضارة الواحدة . اقرأ كتابات ابن الهيثم والخوارزمى وابن سينا والتبانى تجد أن هناك قسمة عامة تجمعها … تلك هى غايات الحضارة العربية – الإسلامية التى طلبوا فيها علمهم .. العالم منهم تحركه رغبة عميقة فى التقريب من الله بعلمه – فى كشف مزيد من إعجاز خلق الله فى الكون بكشف مزيد من السنن ثم اقرأ كتابات علماء الحضارة الغربية – المسيحية – نيوتن وجاليليو ولابس ، تحس بتلك القسمة العميقة المشتركة ،رغبة فى تمكين الإنسان من الأرض ،فى إحكام سيطرته على الطبيعة وإزالة مخاوفه منها .

هذا من غايات العالم ورغباته .. فماذا عن أسلوبه فى الاقتراب من الحقيقة ؟

ماذا عن منهجه ؟ هل يتلون هذا أيضاً بلون البيئة المحلية ؟

ذاك هو السؤال فى بحثنا كله . ونحن نقول إن الإجابة بنعم وإن السؤال الأدق هو : ما هى درجة المحلية والانحياز للذاتية الحضارية فى مناهج البحث فى العلوم ؟

تعال أولا نثبت درجة العالمية والموضوعية فى هذه المناهج ،وفى هذا كتب الكثير ونلخصه هنا : إن العلوم الطبيعية أنواع ثلاثة ،علوم حسية وعقلية وتطبيقية ،وهذا هو تقسيم من حيث موضوعاتها ومن حيث مناهج البحث فيها .

فالعلوم الحسية تبحث فى فهم العالم الحس الطبيعى .. من أول الذرة حتى المجرة، ومن أول الخلية حتى المخ من أول أسباب تكون السحب حتى أسباب تزحزح القارات ،يسمى المنهج بالاستقراء . منهج يعتمد على الملاحظة والقياس والرصد والحس للجزيئات ثم تركيب هذا الكم من المدركات الخاصة فى حقائق أو قوانين عامة .. والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا أمثلة .

والعلوم العقلية تبحث فى فهم العالم التصورى الذهنى من أول الأعداد حتى قواعد المنطق ،ومن أول الأشكال الهندسية حتى الفراغات متعددة الأبعاد ،تبحث فى أفكار الاتصال والانقطاع والتناهى والامتداد  .. والمنهج يسمى بالاستنباط .

منهج يعتمد على البدء بمصادرات أو مسلمات أو بديهيات واستخدام قواعد المنطق والبرهان للوصول إلى نظريات عامة .. ومن أمثلتها العلوم الرياضية كالجبر والتفاضل وحساب المثلثات والتحليل الرياضى .

وثالث نوع هو العلوم التطبيقية مثل العلوم الطبية والعلوم الزراعية والتجارية والهندسية .. تلك علوم تبحث فى ذلك الجزء من العلم المادى ،والذى تعرض لتدخل الإنسان مشكلاً ومحوراً ومغيراً ومستخدماً ،الغابة جزء من العالم المادى الإنسانى ،ولما كنت باحثا فى العلوم الهندسية فسأخصص حديثى عنها ،وهى تبحث فى كيفية استخدام الطاقة والمادة الموجودة فى الطبيعية لنفع الإنسان (وتدمير عدوه) ومنهجها هو مزيج من الاستنباط والاستقراء ،من التحليل والتركيب من الرصد الحسى للواقع ،ومن بناء نماذج ذهنية له ،ومن أمثلتها ميكانيكا الموائع ،علم تخليق السبائك ،علم نقل وتحويل الطاقة ،علم إرسال واستقبال الموجات الكهرومغناطيسية . فما هى النماذج إذن ؟

النموذج هو الصورة الذهنية للواقع ،والتى يستخدمها طالب العلم فى الفهم والاقتراب من الحقيقة ،يبدأ طالب العلم بنموذج تقريبى مبدئى قد تكون مجموعة من الفروض العقلية ،أو تكون مجموعة من الملاحظات الحسية أو مجموعة من المفاهيم المنقولة من بحوث السابقين ،وهو يركبها بحيث تمثل وظيفة الشيء وليس ماهيته ، وهو يعود بنموذجه للواقع يحاول تفسيره وكلما أخفق عدل وغير ،حركته دؤب من الواقع لذهنه وبالعكس .. وهو يتوقف عند نقطة ما تمثل درجة ما من الاقتراب من معرفة حقيقية الشيء .

تاريخ العلم إذن هو تاريخ نماذجه ،خذ مثلا نماذج الفيزياء لدراسة طبيعة الضوء ،وكيف تطورت من نموذج ابن الهيثم ،لنموذج نيوتن ،لنموذج أينشتين . أو نموذج الذرة من دالتون لبوهر لشرودبكر ،ونجد النماذج تتحسن فى قدرتها على التفسير ،النموذج الأحدث يفسر أكثر يستوعب ويحتوى النموذج الأقدم .

لكنها كلها ليست إلا نماذج للحقيقة ،الحقيقة التى هى جزء صغير من الحق ،الحق الذى يعلمه كله تعالى ،ولذا فهو يدعونا ألا نتوقف عن طلب العلم وتدقيق نماذجنا من الكون وعن أنفسنا .. لم ؟

لنزداد إيماناً بالله ومعرفة به {سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق }صدق الله العظيم خالق السنن الثابتة، والتي يحاول الإنسان أن يكشفها ويسمى كشوفه التقريبية قوانين … كل طالب للعلم يعلم هذا ،يعلم أنه يحاول أن يكتشف قبسا من الغيب الهائل الأسرار ،العميق القرار . فمن أين أتى إذن الانبهار بالعلم الغربى ؟ من أين أتت ادعاءاته عن الموضوعية والإطلاق والشمول ؟ وكيف نسينا نحن أنفسنا وصدقناه .

ج – الانبهار والسياسة ،والهندسة والتكنولوجيا

هل نقول إن بداية الانبهار كانت انبهار بالتكنولوجيا الغربية وليست بالعلم الغربى ،وكانت انبهار بالتكنولوجيا العسكرية ،بالأسلحة التى غذا بها الجيوش الأوروبية بلادنا منذ بداية القرن 19 ،الانبهار هو مزيج من الخوف والتقدير ،والمهزوم المغزو ينبهر بمن هزمه وغلبه فى حالة واحدة .. إن كان الغزو روحيا أيضاً .

كيف ؟

خذ الحملات الصليبية على الشام ونجاح الأوروبيين فى غزو واحتلال بلادنا لمدة قرنيين لم تنتج انبهاراً بهم عندئذ ؟ لا ولم تنتج الغزوات المغولية التى اكتسحت بغداد عاصمة الخلافة والشام كله ولم توقفها غير مصر . لم تنتج انبهارا بالمغول لم ؟

لأن التركيب الحضاري بين الفريقين المتصارعين اختلف .. ففى أيام الصليبيين والمغول (القرنين 12 ،13) كانت الحضارة العربية – الإسلامية قوية .. أقوى من حضارات غزاتها ،أما فى بداية القرن 19 فكانت حضارتنا آفلة خامدة ،وكانت الحضارة الغازية – الحضارة المسيحية الغربية أقوى .

والهزيمة فى القرون 12 ،13 كانت هزيمة للجسد فقط ،أما هزيمة القرون 19 ،20 فهى انكسار للجسد وللروح ،هزيمة كيان ضعف جسده العسكرى والاقتصادى وضعف روحه ،ضعف إحساسه بقيمته وبغاياته العليا ،ولذا انقسم الناس فى بلادنا قسمين فى سياسة مواجهة الغزو الذى تم ،والغازى الذى تمكن .

القسم الأول أوجعته الهزيمة الجسدية فمركز جهوده على تقوية الجسد العسكرى الاقتصادى وكيف ؟ بالتوحد بالخصم الغالب بأخذ سلاحه منه بتقليده والأخذ عنه بتحديث مجتمعنا على شاكلته .. بدأ الأخذ المنبهر بالتكنولوجيا (قرن 19) ،وانتهى بمفاهيم العلم (قرن 20) .

أما القسم الثاني – الأخفت صوتا والأبعد عن النفوذ – فكان القسم الذى أوجعته الهزيمة الروحية ،فركز جهوده على بعث الروح والإحساس بالقيمة الذاتية ،انعزل عن الخصم الغالب وخاصمه ،وعكف على تراث السلف الصالح ،يحاول العثور على منابع القوة فيه .

وبقدر ما سهم كل قسم منهما فى تقوية الكيان كان انقسامها مصدرا دائما للاستنزاف ولتطرف كل معسكر ، أحدهما يتطرف فى الدعوة للانعزال عن الماضي والأصول والتراث . والثاني يتطرف فى الدعوة للانعزال عن الحاضر والأغيار (الخصوم والأصدقاء) . وطرح كل من قوة الآخر نتيجة هذا الاستقطاب ،أصبح التحديث والتقدم والعلم والتكنولوجيا فى جانب ،والتأصيل واللغة والدين والفن فى جانب .. أصبحنا كيانا واحد يتصارع جسمه مع روحه .

فما هى هذه التكنولوجيا التى كانت أس الانبهار ؟ التكنولوجيا هى العلم الذى يبحث فى أفضل طرق تشكيل المادة ،وأكفأ طرق نقل واستخدام وترويض الطاقة ،هى علم الصناعات والطرائق … الساقية والشادوف هى إبداعات تكنولوجية زراعية .. قمائن الطوب الأحمر ،صوامع الغلال .. الخ .

التكنولوجيا هى كالعلم – وسائر الأنشطة الإنسانية – قوة .. قوة خارج القيم .. إنما تأتى القيمة فى كيفية وهدف يفعله السياسى بها ،استخراج وتنقية وسباكة الحديد تكنولوجيا .. وهنا يأتى السياسى يصنع بها فؤوسها تحرث الأرض وتزرعها أم سيوفا تقتل الأعداء وتمزقها . وأين الهندسة فى كل هذا ؟ الهندسة هى إبداع وتطوير واستخدام التكنولوجيا ،لنأخذ مثالا ..

تصور شلالا يهدر فى سقوطه من ارتفاع شاهق ،ينظر الشاعر له فينفعل فى قصيدة تصور تأثره الذاتى بحيوية الهدير ،ينظر الفيزيائى له فيحاول فهم سر انحداره وعلاقة سرعة السقوط بالارتفاع ،أما المهندس فينظر لنفس الشلال فيهتم بطاقة المائية يحاول ترويضها وتحزيلها إلى طاقة تنفعه فيرطب توربينا فى قلب قاع الشلال يوصله بدينامو يولد طاقة كهربية . والمهندس يستخدم المعرفة التى تحصلها الفيزيائى فمن يستخدم التكنولوجيا التى أنتجها المهندس ؟ السياسى .

يأتى السياسى ليحدد مجال استخدام الطاقة الكهربية المتولدة ،وهو هنا يستلهم طموحات الجماعة ،وينضبط بقيمها (كيفا تكونوا يول عليكم) ،فإن كانت طموحات الجماعة عسكرية عدوانية وجه الطاقة لصناعة أسلحة لغزو واستعمار الشعوب الأخرى ،وإن كانت طموحات الجماعة مدنية معمارية وجه الطاقة الكهربية لاستزراع الصحارى وإنارة القرى .

درجة تأثر وتعبير السياسى عن القيم الحضارية لأمته أكبر كن درجة تأثير وتعبير المهندس عنها ،والأخير يزيد عن طالب السياسى فى الجبهة الظاهرة ،أما المهندس وطالب العلم فهما فى العمق الباطن ،لكن هذا التقسيم لا يعفيهما من التأثر ،ومن مسؤولية التعبير ،فهما مثل السياسى .. أجزاء من الكيان .

ولننظر فى الشكل التالى يوضح العلاقة بينهما.

شكل رقم (3)

ألا يقودنا هذا كله إلى تشخيص الأزمة الحاضرة فى ميدان الهندسية .

القسم الثانى :عرض وتشخيص لأزمة البحوث فى العلوم الهندسية

أزمة البحوث فى العلوم الهندسية هى فى جذورها وأسبابها مشابهة تماما لأزمة أى نشاط حضارى ،سواء كان بخثا أم بناء أم اتصالا ،فى بلادنا ،فالباحثون فى العلوم الهندسية هو مثل العاملين فى أى حقل آخر ، يتنفسون نفس هواء البيئة المادية المدنية ،وتحركهم نفس رغبات وطموحات البيئة الفكرية الثقافية ،تختلف الميادين والهم واحد .

الهم هو الضعف ،ضعف كياننا كجماعة حضارية – سياسية الضعف فى الجسد .. فى محاصيل الحقول وحوائط البيوت .. فى المؤسسات والجيوش ..

فى المصانع والدكاكين .. ومظاهر تضخم وكساد .. وديون وتهريب .. وبطاقة وإسراف .. والضعف فى الروح أيضا (طبعاً فى الجسد التابع للروح) .. ضعف فى المهم .. وخور فى الإدرات … تهافت فى الأفكار وتميع فى العقائد .. ومظاهرة التشاحن على البديهيات والتكالب على السفاهات .. تفاخر فى مظاهر الترف وإحساس عميق بالقرف .. استضعاف متطرف لمن زعق وتجبر .. وبغى مستهين على من انغلب وافتقر .

لو شبهنا هذا الهم بالمرض لقلنا إنه يشخص بأن له سببان :

الأول : هو الأصل ،ذلك هو ما بالنفس من ضعف ذاتى .

وذلك السبب أنتج الثانى ،وهو تأثير الغير ،فقابلية النفس للاستعمار جذبت المستعمرين لبلادنا ،وقابلية نفوسنا للخضوع صنعت من سياسيينا طغاة ،وقلة إحساسنا بالقيمة الذاتية لحضارتنا جعلتنا عرضة للغزو الحضارى الغربى .

الاستعمار الذى كان عسكريا منذ قرنين .. تحول الآن (باستثناء الاستعمار الصهيونى لفلسطين) إلى استعمار صناعى وزراعى .. استعمار مالى وإدارى .. وأخيرا .. استعمارا علمى وتكنولوجى .

نحن هنا لا نقلل من جهود التقوية والإصلاح ،ولا من جهاد الاستقلال ومعارك التحرر ؛لأن على أكتاف من جاهد وأصلح ممن يبقونا نحاول نحن الإسهام .. فبجانب مظاهر التبعية العلمية التى سنعددها توجد مظاهر مشرفة للاستقلال المنهجى المبدع وبجانب أشكال الاستعمار التكنولوجى الذى طغت مياهه على أراضينا توجد صروح للتجدد الذاتى التكنولوجى .

لكن الآن أوان التشخيص لأزمة ..

أزمة تهم الفرد الباحث فى العلوم الهندسية ،وتهم المؤسسات المرتبطة والمنظمة لهذه البحوث مثل الجماعات ومراكز البحوث القومية والوزارية . وليس طموحنا أبدًا التصدى لكل جوانب الأزمة ،وإنما سنستعرض – سريعا – الصورة كلها كى يمكننا أن نعرف موقع الجانب موضوع هذا البحث .. ألا وهو تبعية مناهج البحث

لو نظرنا للبحث العلمى – أيا كان موضوعه – كعملية سنجد أن ارتباط مراحلها معقد ،البداية تكون اختيار موضوع البحث ،فمن يقوم بهذه الخطوة الجوهرية ؟ هذا يتوقف على من سيقوم بالبحث .. هل هو أستاذ فى كلية الهندسة .. أم باحث رئيسى فى مركز بحوث أم هو باحث متعاقد مع شركة خاصة  … أم هو مهندس فى قسم البحوث فى هيئة صناعية … هل هو موظف .. أم هو باحث حر ؟

وقيمة السؤال أنه يحدد من يمول البحث ؛لأن الممول كثيرا ما يكون صانع قرار اختيار موضوع البحث ،ليس بالضرورة بطريقة مباشرة ،لأن هناك عشرات الطرق ((اللطيفة))التى يمكن التأثير بها ،فى عقل وقلب الباحث الرئيسى ،حيث يبدو له ولزملائه أنه هو من اختيار بنفسه موضوع البحث .

فماذا يريد الممول .. الساسيى ؟

فى الخمس عشرة سنة الماضية كانت الولايات المتحدة الأمريكية – من خلال برنامج المعونة هو الممول الرئيسى للبحوث الهندسية .. فماذا كانت تريد ؟

أ – أن توجه الباحثين إلى دراسة موضوعات معينة.

ب – أن تبعد جهود الباحثين عن الاهتمام بموضوعات أخرى .. وهى تقوم بهذا التأثير من خلال التكم فى المؤسسات الكبرى الوطنية التى تدير عمليات البحوث مباشرة .. أو من خلال التوصية بإنشاء مراكز جديدة ، تقوم بعمليات المقاولات البحثية ،مراكز أكثر مهاودة واقتناعا بأهداف الممول الغربى …

هذا الأسلوب المباشر الفج وفشا فقط فى العقدين الأخرين .. لكن سبقه وتزامن معه أسلوب آخر أعمق وأدوم تأثيراً، وهو مرتبط مباشرة بموضوعنا .. لقد سبق أن ذكرنا أن أمتنا انقسمت إلى شرطين فى سياسة مقاومتها للغزو الغربى الذى بدأ بالحملة الفرنسية على مصر قرب بداية القرن 19 ،لكنا لم نذكر أن الشطر الذى ساد وكانت له اليد الأقوى كان تيار التحديث على الطريقة الغربية ،أو التقوية بالتوحيد بالخصم الغربى .

بدأ هذا التيار بمحمد على الذى استن سنة إرسال البعوث إلى بلاد أوروبا لأخذ العلم منها ،وإنشاء معاهد العلم ومصانع السلاح كلها على النمط الغربى ..

فلما وصلنا إلى جيلنا الحالى وجدنا كليات الهندسو مؤسسة على النظام الإنجليزى ،ووجدنا أساتذتها حصلوا على تدريبهم الأساسى على البحث العلمى من خلال رسائل الكتوراه يحصلون عليها من جامعات غربية ،وما يقال عن كليات الهندسة جرى بحذافيره فى معاهد البحوث القومى وأكاديميات العلم والتكنولوجيا ،يعبر عنه بكلمه واحدة : العقل العلمى لباحثينا تكون فى جامعات الغرب ..

وقد يتساءل القارئ هنا .. وماذا فى ذلك ؟ لقد فعلت هذا دول كثيرة .. وتقدمت مثل اليابان والهند .

وقبل أن أعلق أحب أن أطمئن القارئ أنى أنا – كاتب هذا المقال – واحد ممن سافر مبعوثا لأمريكا سنة 72 ، وعاد منها بعد خمس سنوات حامل الدكتوراه ،ونية طبية مخلصة فى ((خدمة الوطن بسلاح العلم الذى أرشفته فى أمريكا)). أنا واحد ممن تكون منهجهم فى بحث المشاكل الهندسية ..

فى حضانة مؤسسات العلم الأمريكية ،وما بحثى هنا إلا نوع من مراجعة النفس وتقييم المسيرة التى بدأت بنية طيبة مخلصة ..

لو كان الأمر أقتصر على تكوين العقلية البحثية فقط يجوز أن التبعية كانت ستكون أقل (ويجوز أن هذا هو ما حدث فى اليابان والهند) .. لكن ما إن يعود المبعوث إلى مصر حتى يجد أن معايير ترقيه الوظيفى وصعوده الأدبى (ولن أقول المالى) مرتبطة بكونه مرتبط بالحبل السرى الغربى ..

حضوره للمؤتمرات الغربية يزكيه أدبيا .. نشره فى المجلات الغربية علامة أكيده – فى نظر لجان ترقيته – على نبوغ وتفوق أبحاثه …

وكيف تتصوره مرتبطاً ومشاركاً وناشراً هناك إلا إن كانت موضوعات بحوثه ومناهجها .. مما ينسجم مع رؤية طلاب العلم الغربيين .. ومعاييرهم ..

شكل 4

قبل أن أسترسل أود أن أضع مراحل العملية البحثية فى ترابطها المعقد فى شكل يوضحها البحثية فى ترابطها المعقد فى شكل يوضحها للقارئ .. ويسهل لنا مواصلة قد يبدو وضع علمية البحث العلمى فى هذا الشكل محطما للصورة الرومانسية للعالم – الفرد – الموسوعى – الحكيم – المستقل .. لكن الحقيقة التى تحتاج لمواجهة أن البحث العلمى أصبح مؤسسة ضخمة وما الباحث – فى أحسن أحواله – إلا موظف فى هذه المؤسسة ،وسواء كان يتقاضى مرتبه فى أول الشهر أو يتقاضاه على هيئة مكافآت دورية .. فالحقيقة أنه ترس فى ماكينة عملاقة .

الأصل فى البحث العلمى أنه وليد رغبتين غريزتين فى الإنسان .. غريزة حب الاستطلاع والرغبة فى فهم الكون ثم غريزة الانتهاء للجماعة وتحقيق مكانة وعلوا فيها من خلال تجسيد طموحاتها .. هاتان الرغبتان صنعتا الباحثين الكبار من أول أقليدس وفيثاغورس .. مرورا بابن سينا وابن الهيثم والخوارزمى والبيرونى والرازى والإدريس حتى لابلاس وجاوس ونيوتن وجاليليو وأنشتين ومدام كورى .

فى عصرنا هذا سادت قيم الحضارة الغربية ،ومن أهمها قيمة التخصص الدقيق .. قيمة يبدو أنها سهلت كفاءة إدارة الكم الهائل من الباحثين ،وأدى هذا إلى تفتيت المشاكل (أو المسائل أو الموضوعات) الهندسية – العلمية إلى فتافيت صغيرة يغرق فى صغائرها عقل الباحث فلا يعود له فضل من طاقة فكرية يتسائل بها عن جدوى بحثه فى هذه الفتفوتة الدقيقة .. عن اليسير النهائى لمجهوده .

فى المنظومات العلمية فى البلاد الغربية تقوم قيادات عليا بتجميع الفتافيت فى كل له معنى استراتيجى .. أما كيف تكونت هذه القيادات الموسوعية فلأن البحث العلمى ومؤسساته فى الغرب أخذ فرصته فى النمو الحر ، وتأصيل تقاليده فى القرون الأولى من النهضة (16،17،18) ،ولما جاءت الثورة الصناعية فى القرن 19 بمتطلباتها فى الميكنة والتشئ وتركيزها على التوظيف والاستعمال .. كان يوجد فى هذه المؤسسات عقول قائدة استراتيجية تعرف ما تريد وتحدد لصغار الباحثين موضوعات بحوثهم الصغيرة وتملك هى القدرة على التوجيه والقيادة وتجميع الجهود الصغيرة .

وما هكذا كان الحال فى بلادنا ،فأولا نحن قضينا ستة قرون (من القرن 13- 18) بعيدين عن روح وممارسة البحوث العلمية ،والتى شهدتها نهضتنا القديمة فى القرون (8-13) ؛وثانيا نحن نهضنا منقسمين على أنفسنا : روحنا فى جانب وجسمنا فى جانب ،ولذا كان من قاد النهضة القسم الذى رأى أن طريق القوة هو التوحد بالخصم الغالب ،وهؤلاء أخذوا من الغرب أسوأ مظاهر ممارسته العلمية – هى هذا التفتيت التخصصى – والنتيجة مؤسسات علمية ضخمة تمتما كمؤسسات الغرب ،يعمل فيها جماهير الباحثين فى الغرب ،مع فارق واحد هام جدا : هو غياب تلك القيادات العلمية التى تحدد الغايات وتقسم المراحل ،وتضم شتات الفتافيت فى كل له معنى ،كل ينفع ويصلح .

وهكذا أصبحت مؤسساتنا العلمية ديناصورات ضخمة برؤوس صغيرة ،وتحول جمهور الباحثين فى العلوم من صغيرهم إلى كبيرهم إلى موظفين بدرجات وظيفية وعلاوات ورواتب يعمل كل منهم فى البحث فى الفتفوتة تلو الفتفوتة ،ينشرها فى مجلة تلو مجلة . لكن هناك أربعة أنواع من هذه البحوث ،بحوث العالم – الموظف :

الأول :هو أبحاث مدرسية كتيبة .. من الكتب وإلى الكتب .. انشغال عقيم بسقط المتاع من المسائل التى تركها الغرب لقلة جدواها .. مسائل تستمد تعقيدها من بعدها من الواقع .

والثانى :هو أبحاث ظاهرها الواقعية ..

لكنها فى واقعها ليست الأرض لبيانات وقياسات لا يعرف الباحث منطق جمعها ،ولا يهمه استخلاص معنى علاقاتها بالواقع الذى ترصده .

الثالث :أبحاث واضحة المنطق مركزة الهدف ،لكنها تبحث فى مشاكل بيئة غربية .. (هل سمعت عن أبحاث السرطان والأيدز ،عن أبحاث تأثيرات الزلازل والعواصف الاستوائية ،عن أبحاث الإنسان الآلى ،ونشوء حياة فى المجردات البعيدة .. الخ الخ ؟) .

والرابع :أبحاث على هيئة تقارير ضخمة تنشر فى مجلدات ضخمة وتهدف إلى تبرير قرار سياسى حدد

سلفا .. تبرير رأى معروف للباحث قبل إجراء بحثه !! (هل سمعت عن الأبحاث التى تثبت وجود مياه جوفية فى منطقة معينة ،أو التى تثبت الجددوى الاقتصادية لزراعة الفراولة أو الكانتالوب ،أو التى تثبت كيف أن مترو الأنفاق سيزيد استقرار مبانى وآثار منطقة القاهرة والجيزة ..الخ الخ) .

هل بدأنا نضع أيدينا على بداية السر ..؟ السر فى سهولة تحول مؤسساتنا العلمية الديناصورية إلى خدمة أهداف قليلة النفع للناس .. السر فى غحساس جمهرة الباحثين بالاغتراب من عملهم الذى يفصله عن ضميره القومى وجذوره الثقافية وأحلامه الحضارية .. كأن كل واحد فيهم يحس أن مجهولا ما سرق منه حلم شبابه فى أن ينفع بعلمه ناسه وأن يصلح – بما وهبه الله من عقل – أرضه . السر فى خلل العلاقة بين العالم والسياسى .. وتحولها إلى علاقة بين الموظف ورئيسه .

ونحن ما عرضنا لهذه الصورة العامة إلا لكى نبدأ فى التركيز على مشكلة التبعية فى المنهج العلمى .. فمهما كانت تبعية الباحث العلمى السياسى ومهما كانت الطريقة الخرافية فى اختيار موضوعات البحوث وتوظيف نتائجها .. يظل للباحث هامش للاستقلال ،ذلك هو طريقته فى عمل البحث .. وهذا ما نريد أن نوضح أنه استقلال ظاهرى حتى لو حصلت فيه نية الباحث تماما .. لماذا ؟ لأنه يستخدم منهج علم غربى منحاز حضاريا .

القسم الثالث : نحن والغرب

(1) التصادم والتلاقح أو الغزو المتبادل :

بداية ،ما سر هذا الانشغال الشديد بالغرب ؟ لم يبدو أنا لا نعرف كيف نحول أنظارنا عنه .. كلنا بكل فصائلنا المتناحرة نشترك فى شئ واحد ،هو الانشغال بالغرب .. بذلك الآخر ..

نعم كلنا .. جزء منا مشغول بالإعجاب به ،الانبهار ،التقليد ،التقديس … والجزء الآخر مشغول باحتقاره ورفضه ومقاومته والتقليل من شأنه ،وكما نعرف من تجربتنا الشخصية أن الإنكار الشديد هو الوجه الآخر للضعف العميق ،وأن النفور المفرط هو الوجه الآخر للانجذاب الغويط ،وأن نقيضهما الحقيقى هو عدم الاكتراث ،ونحن بصراحة مكترثين جدا بالغرب ..

ما سر هذه الحدة العاطفية تجاهه ؟

السر ببساطة أنه أهم الأعيار ،إنه – شئنا أم أبينا – أعمق الأغيار علاقة بنا ،وعمق العلاقة يمتد لأكثر من 23 قرنا بدأت بغزو الأسكندر الأكبر لبلادنا ،ومنذئذ والغزوات متبادلة بيننا وبينه ،ومع الغزوات العسكرية تأتى التلاحمات الحضارية والتدخلات الثقافية والعلمية والتكنولوجية .

دعنا أولا ننظر لسجل الغزوات المتبادلة .. وقبلها نعرف من نحن ،ومن هو ..ذلك الآخر ،الخصم ،الغير .

– نحن : نشمل بلاد العرب وبلاد المسلمين فى جنوب شرق آسيا ،ومن نسميهم الأمة العربية الإسلامية  …

– وهو يشمل أوربا والاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة ،وبقية الامتدادات فى كندا واستراليا وجنوب أفريقيا وإسرائيل .

هو : الغرب والشمال ونحن : الشرق والجنوب .

                       

شكل 5

وهناك سجل الغزوات المتبادلة :

غزو الأغريق وحكمهم لنا : القرون الثلاثة قبل الميلاد .

غزو الرومان وحكمهم لنا : القرون الستة التالية للميلاد .

غزو الأمويين لجنوب غرب أوروبا (الأندلس) وحكمهم لها : القرون 8 – 15 .

غزو الصلبيين للشام ومصر وحكمهم لها : القرون 11-13 .

غزو العثمانيين لجنوب وشرق أوربا (البلقان) وحكمهم لها : القرون 14-17 .

غزو الأوربيين لمعظم العالم العربى الإسلامى القرون : 19 – 20 .

الغزو الاستيطانى من الصهاينة لفلسطين : القرن 20 .

غزوات شمال غرب              غزوات الصليبيين       غزوات الرومان                   غزوات الإغريق

أوربا وروسيا                                                  

                                                                  

شكل 6

تلاحظ هنا أن غزوات الغرب القديمة جاءت من جنوب أوروبا : اليونان ،الرومان وأن غزواته الحديثة جاءت من شمال أوروبا .

أما الجزء من أوروبا ،والذى غزوناه نحن فى القرون الوسطى (الشرق والجنوب) فلم يغزنا عسكريا وظل أكثر صداقة لنا …

ويمكن الآن تصور حزام من دول أو مناطق مشتركة بيننا وبين ذاك الآخر :

منغوليا الجمهوريات الجنوبية السوفيتية – تركيا – اليونان – يوغسلافيا – ألبانيا – أسبانيا ..

وماذا عن التلاحمات الحضارية ؟ التداخلات الثقافية ؟ عن أخذهم وتتلمذهم علينا ،وأخذنا وتتلمذنا عليهم ؟

لا شئ يبدأ من فراغ ،ليس هناك طفرات مفاجئة عبقرية لم يكن ذلك شأن حضارتنا العربية – الإسلامية فى قرون ازدهارها (8-13) ،ولا كان ذلك شأن الحضارية الغربية المسيحية الحديثة (16-20) ،ولن يكون هذا شأن حضارتنا العربية – الإسلامية فى القرون المستقبلية إن شاء الله .

وإذن : الشعلة الحضارية لا تنطفئ ،وإنما تختلف الجماعة التى تحملها . حملها المصريون والبابليون والفرس والهنود فى مراكز حضارية متعددة ،ثم جاء عصر الإمبراطوريات السائدة ،فأصبحت الحضارة السائدة هى اليونانية ثم الرومانية البيزنطية ،ثم حمل الشعلة العرب والمسلمون فى حضارة سادت فى القرون 16 – 20 . أما القرون القادمة فتشهد عودة لتعدد المراكز الحضارية مركز غربى مسيحى ومركز شرقى (أسيوى) بوذى ومركز عربى إسلامى ،ومركز لاتينى كاثوليكى …

ولانتقال الشعلة مراحل ،الأولى مرحلة التتلمذ والنقل والترجمة والاستيعاب ،كان هذا ما فعلناه نحن فى بداية نهضتنا فى القرن الثامن عندما تتلمذنا على كنوز الحضارات القديمة السابقة والهندية ،المصرية والعربية .

وكان هذا ما فعله الغرب فى بداية نهضته فى القرون 12-14 ،وكان المثقف وطالب العلم الأوروبى يتعلم العربية ويسافر ليدرس فى الجامعات الإسلامية فى قرطبة وطليطلة والقيروان والزيتونة والأزهر ودمشق وبغداد وبخارى وسمر قند ،ألم يكن روجر بيكون هومن كتب أنه لايتصورمشتغل بالبحث العلمى لا يعرف العربية !! ومن خلال التلاحم الحضارى سواء أيام الحروب الصليبية مدة قرنين من الزمان ،أو أيام حكم العرب المسلمين للأندلس مدة ثمانية قرون ،أو عن طريق جزيرة صقلية التى حكمها المسلمون مدة قرنين (850 – 1093) ترجم الأوربيون أمهات الكتب الإسلامية فى العلوم الطبيعية والرياضية والتطبيقية ،وكان

لاطلاعهم على الكتب العربية المترجمة عن الإغريقية أكبر الأثر فى تنبيههم على أهمية تراث الإغريق ،

تراث الإغريق ،تراث أسلافهم .

أما أنهم سموا نهضتهم رينيسانسس :

إحياء للتراث الأغريقى الرومانى ،وأنكروا بعد ذلك هذه التلمذة ،وكتبوا تاريخهم بطريقة يبدو معها أنهم كانوا وحدهم فى الدنيا يونان وروم فى عصور قديمة ،ثم عصور وسطى مظلمة ،ثم إحياء أوربى وبعث واكتشاف ((معجز))للذات ،فهذه ليست إلا عنجهية ((محدث))الحضارة ..

عنجهية استمرت حتى القرن 19 ،ولكن ما إن جاء القرن 20 حتى تطامن غرور الغرب ،وهدأت مخاوفه ، ولم يعد ((محدثا))،وبدأنا نرى كتبه تتولى تتحدث عن فضل وإسهامات الحضارة العربية – الإسلامية فى تأسيس الحضارة الغربية الحديثة ،والغريب أن كثير منا لا زالوا يقرأون كتب التاريخ الأوربى القديمة ويصدقونها ،يصدقون أن بيكون وديكارت وكبلر ونيوتن وجاليليو بزغوا فجأة ،واكتشفوا ما اكتشفوه بغته …

هكذا .. وبعد قرون مظلمة طويلة .

وأحسب أن هناك فريق ثان منا يرد على هذا التطرف بتطرف مضاد ،فينكر تتلمذ الحضارة العربية – الإسلامية على ما سبقها من حضارات ،أو ينكر تتلمذنا الحديث على الحضارة القومية – المسيحية ،ينكر أننا نعيد اكتشافنا لذاتنا ولتراثنا من خلال جهود المستشرقين منهم والمستغربين منا .

انظر معى للشكل التالى يوضح تبادل الإسهام والتتلمذ .

شكل 7

(2) قواعد التفاعل مع الغرب :

والآن لنعد للحاضر ونتساءل كيف يفيدنا معرفة هذه الخبرة التاريخية :

إن التواصل الحضارى اشتبك مع الصدام العسكرى .

هى تفيدنا فى وضع قواعد للتفاعل مع العرب ،وها أنا أسهم ببعض الاقتراحات حول هذه القواعد .

القاعدة الأولى :التمييز بين التواصل الحضارى والصدام العسكرى ففى عصرنا هذا للصدام العسكرى شكل واحد ،هو غزو الدول الأوربية لبلادنا واستعمارها ،وآخر أشكال هذا الغزو العسكرى هو احتلال إسرائيل لأرض فلسطين ،والقواعد العسكرية أو الهيمنة البحرية والجوية من جانب أمريكا وروسيا على أجزاء متنوعة من بلادنا ،ومع هذا الاستعمار العسكرى توجد هيمنة سياسية واقتصادية ،ثم كل هذه الأشكال من الاستعمار ليس هناك إلا شكل واحد للتفاعل معها : الرفض والمقاومة والنضال .

القاعدة الثانية : هو نقد الحضارة الغربية – المسيحية نقدا يمكننا من التمييز بين ما هو غزو استعمارى وسم هارى ،وبين ما هو إسهام إنسانى وغذاء بانى ،آن أوان التوازن والاعتدال ،والتوقف عن الحركة المتطرفة بين نقيضين هما إلإحساس بالدونية المنتج للانبهار بكل ما هو غربى متصورا أنه كل غذاء بانى ،والإحساس بالعنجهية المنتج للاحتقار الرافض لكل ما هو غربى متصورا أنه كله سم هارى .

وهذا يعنى أن ننقد الغرب فينا وننشغل بتفاعلنا معه ،ولا نشغل أنفسنا بنقد الغرب فى ذاته ونحاول إنقاذه من نفسه .

فتلك مهمة يقوم هو بكفاءة لن نطاوله فيها ..

القاعدة الثالثة :أن ننقد ذاتها ونعترف بمسؤليتنا عن أفعالنا كأمة ،ونعترف بخطايانا السياسية وسيئاتنا الحضارية ،ونواجه أنفسنا لنجاهدها .. ذلك هو الجهاد الأكبر والأصعب . أما إن نركز فقط على الغرب وأفعاله بنا فذاك اعتراف أننا لم نعد غير كتلة مفعول بها .. لا .. نحن نحتاج أن ننظر لأعماقنا فى شجاعة لنعرف من أين أتت هذه الهزائم ،هل نذكر قول الله تعالى ردا على تساؤل المسلمين عن هزيمتهم فى غزوة أحد : {أولمَا أصابَتكٌم مُصِيبَة قد أصَبتُم مِثليَها قلتُم أنى هَذَا قل هُو مِن عِنِد أنفسكُم} .

نحن نحتاج أن نتطهر من الإحساس بقلة القيمة ،نحن نغتاظ من الغرب لأنا نراه مستخف بنا وبعظمة عقيدتنا ، وهو يفعل ذلك لأنه لم يراها غيرتنا وأصلحت من حالنا . المسألة ليست أن نقتنع الغرب بأن لنا تراثا عظيما قادرا على إلهام مستقبل أعظم وإنما المسألة أن نقنع أنفسنا ،نعم أنفسنا .

إن المعركة الموازية لمقاومة الاستعمار الغربى هى مقاومة قابليتنا نحن للاستعمار والتبعية ،المعركة أن نغير حقا ما بأنفسنا ،لقد جاء علينا يوما كنا فيها ذوى حضارة ونعمة لما كنا بالله مؤمنين ،نخافه وحده ونطمع فى رضاه وحده ،ثم تغير ما بنفوسنا فتغير واقعنا الحضارى{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }.

القاعدة الرابعة: إن نظرتنا المتوازنة للغرب ستنعكس فى نظرة متوازنة لأنفسنا ،الآخر هو مرآة لنفسى فأن نسقط على الغرب كل شرورنا وعيوبنا ونجعله شماعة تبرر كل نكساتنا ،هو تطرف ذات ،رفضت رؤية ظلامها وفجورها ،ولذا فهى غير قادرة على امتلاك ذلك الظلام وإعلان مسئوليتها عنه .. ذلك فريقنا الذى امتلاء بالكبر والتعالى والسخرية من الغرب .

وهنا فريقنا الآخر .. بتطرفه المضاد .. أسقط على الغرب كل خيراتنا وميزاتنا وإبداعنا وقوتنا ،وجعله رمزا لكل إحلامنا فى الخير والإبداع والقوة والحرية ..

فريق رفض أن يرى ذاته التى كرمها الله بالنور والتقوى واستخلفها فى الأرض ،ولذا يبعدنا عن الإيمان بأننا أيضا رجال قادرين أن نبنى حضارة مبدعة خيرة عابدة لله مصلحة لأرضه ،ذلك فريقنا الذى سقط فى الدونية وقلة الثقة ،والاستضعاف للغرب .

أما آن أوان التوازن والقسط والاعتدال ،أوان التصالح مع أنفسنا ،التصالح بين فريقينا المتناحرين ،أما آن أوان إدراك كل منا أنه إنما يمسك بجزء فقط من الحقيقة ،وأنه يضل إن تصور أنه يملكها كلها وحده إن الله يضئ قلبه وحده ؟

القاعدة الخامسة : والآن تعال نركب التناقضات المتطرفة لنصل إلى الوسط الموزون فى علاقاتنا بالغرب ، علاقتنا بأهم الأغيار .

لا دونية مستضعفة ،ولا عنجهية مستكبرة ،وإنما تكافؤ وتساوى .

لا تشابه عالمى ،ولا اغتراب محلى ،وإنما اختلاف إنسانى .

لا غزو ودمج ،ولا انعزال وفصل ،وإنما تفاعل وتبادل .

وبلغة النماذج يمكن صياغة ذلك كالآتى :

النموذج المرفوض فى العلاقة بالغرب

ا

لنوذج المستهدف فى العلاقة بالغرب.

شكل 8

النموذج المرفوض هو نموذج الماضى القريب والحاضر (قرنى 19، 20) ضعف التكافؤ وميوعة الاختلاف

والنموذج المستهدف هو نموذج المستقبل القريب والبعيد (قرون 21 ، 22 ، ..) قوة التكافؤ ووضوح التميز والاختلاف ..

فماذا عن الماضى البعيد … ؟

(3) الماضى : التكافؤ والتمايز اللامتزامن :

عنوان غريب ،أليس كذلك ؟ وسبب غرابته أنه الحضارات المختلفة لها مسارات زمنية مختلفة ،مراحل صعود وهبوط غير متعاصرة ،فكيف نقارن بينها ؟ هل نقارن بين عصرى ازدهار كل منهما ،بين أرقى تجسدات كل منهما ؟أم نقارن ازدهار واحدة وأفول أخرى ؟مثلا بين أعلى إنجازات الحضارة العربية الإسلامية ،وبين أسفل ممارسات الحضارة الغربية – المسيحية ؟

وهل نقارن بين المبادئ الروحية والقيم الثقافية فى كل منهما .. أم بين المبادئ الروحية فى حضارة وبين الأفعال البشرية لحضارة أخرى ؟ كأن نقارن مثلاً بين المبادئ الروحية الرفيعة فى القرآن والسنة وبين ممارسات ملوك وشعوب الغرب ،أو العكس ،بين المبادئ الروحية فى الإنجيل والدساتير والفلسفات الغربية وبين ممارسات ملوك وشعوب المسلمين ؟

أنا لا أعرف إجابة شاملة على هذه الأسئلة . لكنى أعرف إجابة تخص موضوعنا فى هذا البحث . وهذه هى أنى سأنظر لمظاهر التكافؤ ،وبواطن التمايز بين مبادئ وممارسات الحضارة العربية الإسلامية فى قرون ازدهارها الأولى (9- 12) ومبادئ ممارسات الحضارة الغربية المسيحية أيضاً فى قرون ازدهارها

(16- 19) ولى فى ذلك ثلاثة أسباب :

الأول :أن هذه المقارنة تبدو لى عادلة ،والثانى : أن ما هو مكتوب ومتاح للمعرفة هو أوضح ما يكون فيما يتصل بهاتين المرحلتين ،أما الثالث : فهو أن النهضة العلمية والبحثية فى بلادنا فى القرن 20 (همنا الجوهرى فى هذا البحث) متأثرة بالدرجة الأولى بنوعية الازدهار والنهضة العلمية والبحثية فى الغرب فى تلك القرون (16- 19) . جامعاتنا ونظم تعليمنا ومؤسساتنا البحثية ومعاييرنا فى الترقية والنشر والتفضيل ، متأثرة بالفكر العلمى وأسسه الفلسفية فى الغرب فى هذه القرون .

وقد يتعرض أحدنا بقوله وأين غرب القرن 20 ؟ أين الاتجاهات الجديدة التى جاءت مع نظرية النسبية ونظرية الكم ونظريات الاحتمالات وبحوث الأعصاب وعلم النفس وعلم الكونيات ؟ أين تأثير كل هذا فى تغيير نظرة الغرب لذلته وللكون وللآخرين ؟ (اقرأ المرجع 6) .

أقول إن تأثرنا بهذه الاتجاهات ضعيف . صحيح أن علماءنا وباحثينا مطلعون على أحدث منتجات العلم والتكنولوجيا الغربيين ،غرب القرن 20 ،لكنهم غير متأثرين بالاتجاهات الفلسفية والقيمية لذلك الغرب .

مظاهر التكافؤ فى التلمذة والإبداع :

تحدثنا سابقا عن تجربة التلمذة المتبادلة ..

(صفحة 22- 23) ،وهذا هو المظهر الأول للتكافؤ اللامتزامن . أما المظهر الثانى فهو الإبداع والإضافة ، نحن لا نحتاج لتعداد مظاهر الإبداع والإضافة الغربيين ، وإنما نحتاج لنذكر هذه المظاعر فى حضارتنا العربية – الإسلامية فى القرون 9 – 12 .

أنا لا أنوى تلخيص واف للكتب العديدة (انظر المراجع 1، 2 ، 3 ، 8 ، 10) التى كتبها عرب أو غربيون ، وإنما أنوى تلخيص هذه المظاهر فيما تبقى من هذه الصفحة .. لنتذكر من نحن ؟ ومن أين أتينا ؟ .. ولنوقن فى أعماقنا أنا لسنا ((محدثى نعمة))(حضارة) ،وإنما نحن قوم لنا جوهرى حضارى من ذهب ،كل ما علينا هو أن ننفض التراب من فوقه ،فى قلوبنا ،لنجد أساسا وطيدا للبناء ،ولنصدق حقا أننا أنداد للغرب .

ولنبدأ بالرياضة فنذكر الخوارزمى وكتابه  (الجبر والمقابلة ) ،والكاشى واكتشافه لنظرية ذى الحدين ، والعالمى واكتشافه لنظرية ذى الحدين ،والعالمى واكتشافه لنظرية الخطأ فى كتابه (الخلاصة فى الحساب) والسموأل المغربى وكتابه (الباهر) فى الجبر والحساب والطوسى وبراهينه فى الهندسية اللاإقليدية ،وجهابذة آخرين مثل الخيام والبوزجانى والكرخى .

وفى ميدان الفيزياء نذكر الحسن بن الهيثم وكتابه فى البصريات (المناظر) واكتشافات ابن سينا (الإشارات والتنبيهات) فى الميكانيكا ،ثم مؤلفات البيرونى (القانون المسعودى) فى الجاذبية الأرضية .

أما الاكتشافات فى ميدان الصوت وخواص المادة فنذكر ابن المرزبان وابن الهيثم والبيرونى والبغدادى .

وفى ميدان الفلك نذكر التبانى وكتابه (الزيج الصابئ) والصوفى (النجوم الثابتة) ،والبيرونى فى (القانون المسعودى) ،وابن الهيثم العظيم ،ونذكر الفزارى واختراعه للإسطرلاب ،وابن رشد ودراسته للكلف الشمسى وابن سينا وأخوان الصفا وكتاباتهم وأجهزتهم فى الأرصاد الجوية .

نذكر المراصد الدقيقة والاكتشافات التى شهد سارتون أنها المقدمة الحقيقية لكبلر وكوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن .

وفى الكيمياءنذكر جابر بن حيان (السموم) والغافقى والبيرونى (الجماهر فى معرفة الجواهر) والرازى (الأسرار) .

وفى الطبنذكر الرازى (الحاوى) ،وابن سينا (القانون) و (الشفاء) ،والزهراوى فخر الجراحة ،وابن النفيس مكتشف الدورة الصغرى .

وفى النباتنذكر الدينورى (كتاب النبات) ،والإدريسى (الجامع لصفات أشتات النبات) .

أما فى الجعرافيافنذكر البيرونى (كتاب الهند) ،والمقدسى (أحسن التقاسيم) والهمذانى (صفة جزية العرب) ، والهمذانى (صفة جزية العرب) ،والإدريسى (نزهة المشتاق) .

وفى الجيولوجيانذكر البيرونى واكتشافاته فى الزلازل وأسبابها ،وابن سينا ومؤلفاته عن الصخور .

بواطن التمايز والاختلاف

الحضارة العربية الإسلامية

فى قرون 9-12

الحضارة الغربية المسيحية

فى قرون 16 -19

● غاية الوجود هى عبادة الله .

●الوجود مرحلتان : دنيا وآخرة

● الأرض والسماء ملك لله ،والإنسان مستخلف لإعمار وإصلاح الأرض .

● يحقق الفرد بتعميق صلته بالله .

●الأفراد متساوون أمام الله ،ويربطهم عقد إلهى هو عقيدتهم المشتركة .

●غاية الدولة / الجماعة هو تمكين أفرادها من عبادة الله ،العمل الصالح والبر والإحسان .

●العلم فريضة لكشف آيات الله فى الكون وفى نفس الإنسان .

●الوجود ثلاثة أجزاء : محسوس ومعقول وغيب . بالعلم نعرف الجزئين الأولين . أما الغيب فسر لن نعرفه لكن نؤمن بوجوده .

●العلم بالإسباب والسنن والقوانين فى الجزءين المحسوس والمعقول شرط ضرورى لكن غير كاف . لابد من التوكل على الله ،عالم الغيب وحده .

●العلم والتكنولوجيا والحضارة كلها وسائل قيمتها تتحدد بهدف استخدامها .

●العلم يحتاج الحكمة لتحدد له غاية استخدامه وتهديده فيها .

●طالب العلم موسوعى يعرف العلم الطبيعى من رياضه وفيزياء و .. والمعلم الدينى من فقه وفلسفة وشعر وحكمة

● غاية الوجود هى سعادة الإنسان .

● الوجود هو الحياة الدنيا .

● الأرض والسماء ملك الإنسان بقدر ما يستطيع من وسائل للسيطرة .

●يحقق الفرد ذاته بتعميق صلته بالمجتمع .

●الأفراد متساوون أمام عقد اجتماعى يحدد حقوقهم وواجباتهم المدنية .

●غاية الدولة / الجماعة هو تمكين أفرادها من الأرض ،والرفاهية والحرية والتقدم .

●العلم قوة لغزو وتملك أرجاء الكون ،ولتحرير الإنسان من مخاوفه .

●الوجود جزآن محسوس ومعقول كله قابل الآن يعرف وما غير معروف سيعرف .. العلم يتقدم فيكشف حجب الغيب واحدة وراء الأخرى .

●العلم بالأسباب والسنن والقوانين المادية والعقلية شرط ضرورى وكاف لتحقيق سعادة الإنسان على الأرض فى الدنيا .

●العلم والتكنولوجيا والحضارة أهداف وغايات سامية .

●العلم منفصل عن الحكمة والفلسفة والسياسة والدين

 ●طالب العلم تخصصى تكنوقراطى يتعمق فى جزئية من جزئية ليمكنه استكناه أسرارها .

●الشعور الدينى المدرك فى الكنيسة يزهد الإنسان فى الدنيا ،ويبعده عن طلب العلم فى جسارة وحرية وإبداع .

القسم الرابع

النماذج الرياضية – العددية

كمنهج للبحث فى العلوم الهندسية

أحاول هنا أن ألخص خبرتى كباحث فى العلوم الهندسية ،تعلم مناهجها فى جامعات ومراكز بحوث غربية (أمريكية بالتحديد) ،وأنجزها فى البيئة المصرية فى مؤسسات مصرية ،ورغم أنها خبرة خاصة إلا أنها تمثل نمطا عاما .. المنهج غربى والموضوع محلى .. الفكر غربى والمادة محلية ،ومن خلال التوغل برفق وتؤده فى تفاصيل العملية البحثية سنرى معا أوجه الانحياز المنهجى ونكتشف معا ،درجة الموضوعية والإطلاق والشمول فيه ،ونحدد لأى مدى يكون هذا المنهج غربيا ،ولأى مدى هو إنسانى عام .

أولا : عناصر المسألة الهندسية :

كيف يبدأالبحث الهندسى ؟

يبدأ بإدراك مشكلة هندسية يراد حلها ،أو هدف هندسى يراد بلوغه (يراجع القسم الثانى والشكل ل[4]) وفى الحالتين يتعلق الأمر بالتفاعل بين جسمين أو أكثر ،بعضها مصنوع وبعضها طبيعى . أمثلة :

التفاعل بين جسم طائرة وجسم تيار هوائى ،بين مكبس محرك وإسطواتنه ،بين مياه نهر وأعمدة كوبرى ،بين قنبلة كيماوية وأرض حقل ذرة ،بين جسم كوبرى والسيارات المارة فوقه ،بين أمواج بحر وشاطئ .

وفى هذا التفاعل تتبين عناصر المسألة الهندسية : المادة والطاقة ،المكان والزمان ،القوة والحركة .

تعال الآن نعرف هذه العناصر مطبقة على المثال الأخير .. التفاعل بين أمواج البحر والشاطئ .

المادة :الخواص الفيزيائية والكيمائية للأجسام المتفاعلة مثلا كثافة وانضغاطية ولزوجة مياه البحر .. كتلة وحجم درجة تماسك رمال قاع الشاطى وجوافه .

الطاقة :نوع وكم إيقاع الطاقات المتبادلة أثناء التفاعل .. وأشكال واحتمالات تحولاتها من صورة لأخرى .. مثلا الطاقة الحركية لموجات البحر قبل اقترابها من الشاطئ ،وتحولها إلى طاقة حرارية بعد اصطدامها برمال قاع الشاطئ وتفتيتها له ..

المكان : الشكل الخارجى الذى يحدد نهايات حدود الحيز المكانى للأجسام المتفاعلة ،وسعة هذا الحيز .. مثلا شكل الشاطئ وتعرجاته وانحناءاته وتغيرات عمق الماء ،والحدود الخارجية لأى أبنية أومنشآت على الشاطئ

الزمان :بداية التفاعل إيقاعه من حيث السرعة والبطء ،استمراريته أو انقطاعاته مثلا زمن ارتطامها بالشاطئ ،الرياح وزمن ومدة هبوبها ،معدل نحر أجزاء من الشاطئ وترسيب أجزاء أخرى .

القوة :نوع وشدة كل من القوى المتبادلة المؤثرة على الإجسام المتفاعلة مكان واتجاه ونمط وتوزيع تأثيرها .

مثلا قوة ضغط الأمواج ،وقوة انكسارها ،وقوة الاحتكاك بين طبقات الماء ،وقوة مقاومة قاع البحر لحركة التيارات …

الحركة :مقدار واتجاه سرعة الأجسام المتحركة بالنسبة لبععضها البعض ،ومقدار تغير هذه السرعات (التسارع) .

مثلا ما يحدث لأمواج البحر من انعكاس أو حيود أوتشتت ،وما يحدثه كل هذا فى توزيع سرعة جبهة الموجة وانقسامها لجبهات متعددة . سرعة حركة كتل الرمال من مكان لمكان .

ثانيا : خطوات البحث الهندسى :

والباحث يبدأ ومعرفته عن هذه العناصر ضئيلة ،ولذا بحثه بجمع المعلومات عن موضوع بحثه ،وللمعلومات نوعين من المصادر .

(أ) مباشرة سواء بالقياسات بأجهزة خاصة أو بملاحظات الحواس البشرية .

(ب) وغير مباشر مثل الحوار مع باحثين سابقين أو الاطلاع على بحوثهم المنشورة ،ويخرج الباحث من مرحلة جمع المعلومات بثلاثة نتائج :

(1) يكون قاعدة من المعرفة يمكنه البناء فوقها بداية صحيحة

(2) يحدد نوع مساهمته فى حل المسألة ،واستكمال أى نقص فى بحوث السابقين ،وتصحيح أى خطأ يحدد نوع مساهمته وإبداعه فيما فات السابقين عليه .

(3) يبلور فى ذهنه نموذجا مبدئيا لعناصر المشكلة الهندسية كما يتصورها ،وللحل الذى يهدف لإيجاده .

وتنقسم البحوث الهندسية إلى نوعين من حيث أهدافها ..

نوع علمى يهدف طبيعة التفاعل ،فهم يربط العناصر بعلاقات سببية ،ويمكن الباحث من تفسير الماضى والتنبؤ بالمستقبل . ونوع تطبيقى يهدف للتحكم فى طبيعة التفاعل ،وذلك بإدخال عناصر صناعية مقيدة .

فمثلاً لو كانت المسألة هى حماية الشاطئ الشمالى لمصر من التآكل والتشوه بفعل أمواج البحر وعواصفه ،  يهدف البحث العلمى إلى فهم طبيعة التفاعل بين التيارات الناجمة عن أمواج البحر ورمال القاع الشاطئ ،أما البحث التطبيقى فيهدف لتصميم منشآت حاجزة للأمواج بشكل معين فى أماكن معينة .

والتمييز بين نوعى البحث لا يمثل تمييزا قاطعا بين موضعيهما .. ذلك أن الأجسام المتفاعلة تتبادل التأثير فى جدلية أبدية ..

فالحواجز المعدنية والمنشآت المدنية المزمع إنشاؤها لتقليل نحر الأمواج لشاطئ ستحدث بدورها تغييراً فى حركة الأمواج ،وفى نمط النحر ،وهذه تحتاج لبحث آخر وهكذا ..

ثالثاً : تكوين النموذج الرياضى : أشكال

التبسيط وأنماط الانحياز :

أتحدث عن بحوث النوع الأول الهادف لفهم الظاهرة الهندسية لأن هذه تشكل معظم خبرتى البحثية . يبدأ الباحث بنموذج مبدئى للظاهرة الهندسية ،بصورة ذهنية لشكل التفاعل وعلاقات القوى وتحولات الطاقة فيه .. وتمثيل هذه الصورة الذهنية فى رموز هو ما نسميه بالنموذج الرياضى ،وكل واقع مادى له نموذج عقلى .. فالأكترون مثلاً واقع أحد نماذجه أنه جسيم أو شحنه سالبة ،والبروتون أحد نماذجه أن جسيم ذو الشحنة سالبة..

والتفاعل بينهما ظاهرة مادية أحد نماذجها قانون التجاذب .. كرة القدم واقع نموذجه الكرة .. اللوحة المستديرة واقع نموذجه الدائرة .. وهكذا .

والنموذج ضرورى لإدراك إلا تكوين النماذج ،والواقع دائما أغنى وأخصب وأعقد من النموذج العقلى الذى بد يدرك . خذ مثلا واقع التعرجات والانحناءات والتجاويف فى شكل أى كيلو متر من شاطئ مصر الشمالى كيف ندركه فى ذهننا .. وكيف نمثله فى نموذج تفاعله مع أمواج البحر ؟

لابد من التبسيط .. نمثله كقوس من دائرة أو كقوس من سيكلويد .

خذ مثلا أمواج البحر وما يحدث لجبهتها قرب الشاطئ من تداخ وانعكاس وحيود وما يحدث لباطنها من تقليب وما يحدث لقممها من انكفاء ،لا بد من تبسيط هذا كله بنموذج عقلى ..

النموذج العقلى إذن يقوم على فروض تبسيطية.. وهذه الفروض يجب تمييزها عن المسلمات وعن الافتراضات :

أ – فليست هى مسلمات – بديهيات واضحة بذاتها لا يمكن – وليس من الضرورى البرهنة عليها ..مثلا تتحرك أمواج البحر نحو الشاطئ ،هذه بدهية .

ب- وليست هى افتراضات مسبقة عن شكل التفاعل يهدف الباحث للتحقق من قدر صحتها . كأن نفترض مثلا أن النحر يتم من الغرب للشرق ولنوضح ماهية هذه الفروض المكونة للنموذج المبدئى تعال ننظر لمكونات النموذج :

(1) نموذج لمادة الأجسام المتفاعلة .. فروض عن تغيرات كثافة مياه البحر ،عن درجة تماسك رمال الشاطئ فروض تحتمها قصور معرفة الباحث بهذه الخواص ،إما لضعف أجهزة القياس أو لغيبة وسائل نقلها عن آخرين .

(2) نموذج للمكان : لشكل الحيز المكانى ،ولانحناءات جداره وحدوده لكل الأجسام المتفاعلة ،ونموذج يمكن وصفه برموز رياضية على شكل منحنيات هندسية أو يمكن وصفه عاديا .

مثلا توصيف شكل امتداد جزء من الساحل الشمالى بأنه قوس من دائرة .

(3) نموذج للقوى الفاعلة ،أى القوى تمهل وتستبعد ويفترض ضعف تأثيرها ،وأيها نهتم بدراسة تأثيرها ، وكأن نمهل حيود وانعكاس الأمواج وحركة التيارات البحرية ،وقوى المد والجزر ،ونهتم بانكسار الأمواج وبالتقليب الباطنى فيها .

والباحث يفعل هذا حسب هدفه من البحث ،وحسب درجة التعقيد التى يتمكن من التعامل معها ،ففى المثال السابق يهتم الباحث بأثر التقليب الباطنى ،ولا تهمه التيارات .

(4) نموذج لعلاقات القوى إلى وتحولات الطاقة : وهنا يحتاج الباحث إلى العودة إلى قوانين الديناميكا الأساسية .. القوانين التى تصف كيف تنتقل الكتلة المائية مع الأمواج وكيف تتحول الطاقة الموجية لطاقة احتكاكية تخلع رمال الشاطئ وتفتتها وتنقلها ،وهذه القوانين ليست بدورها إلا نماذج وجدها ومثلها باحثون سابقون ،وارتأى المجتمع العلمى أن لها قدرة معقولة على التفسير ،ولم يجد مبدع جديد نموذج أدق تفسيرا حتى لحظة إجراء البحث .

(5) نموذج للزمن : لتغيرات القوى مع الزمن ،للوحدة الزمنية التى بها ندرك التغير .. فمن يريد بحث التغيرات فى حركة أمواج البحر عليه أن ينطر كل 10 دقائق على الأقل ومن يريد بحث التغيرات فى شكل الشاطئ نتيجة النحر ،عليه أن ينظر كل 10 ساعات مثلا . كثرة النظر مكلفة جهدا ومالا ؛ ولذا من المهم تحديد حدها الأدنى الذى يجعل الباحث يبصر ما يبحث عنه .

وإذن ما بين القصور فى أجهزة الرصد والقياس ،والحدود فى معرفة الباحث بالقوانين الحاكمة ،والقيود المفروضة عليه من داخل تحيزاته واهتماماته وموارده عن الوقت والمال .. يولد النموذج .. محاولة لإدراك الواقع ،اجتهاد فى تفسيره ،ليس إلا .

ولأن لغة الرياضية ورموزها طبعة ومركزة وقادرة على وصف الكميات والاتجاهات ،يصوغ الباحث الهندسى نموذجه بمفرداتها فيتبلور النموذج ومكوناته من الفروض فى أحد شكلين :

الأول :هو قيم عديدة – تقديرية أو مقاسة – لبعض أو كل الخواص الفيزيائية أو الكيميائية أو الميكانيكية لمواد الأجسام المتصادمة أو المتحاكة أو المتداخلة ،ولأن الحدود غالبا تكون معقدة الطبوغرافية لابد من حدوث تقريبات وتبسيطات فى هذه الأرقام ،وتصف هذه المقادير الرقمية فى مصفوفات مستطيلة .

الثانى :علاقات تربط بين العناصر المختلفة .. يرمز لهذه العناصر برموز رياضية ،وتوضع العلاقات فى شكل معادلات رياضية . وهذه تنقسم إلى ثلاثة أنواع بحسب طبيعة ما تربطه وعلاقته بالزمان والمكان فهناك معادلات جبرية أو مثلثية ،وهذه ثابتة فى الزمان منتظمة فى المكان ،وهناك معادلات تفاضلية تصف التغير فى الزمان والاتنقال فى المكان بالنسبة إلى أى جسيم مادى فى كل من الأجسام المتداخلة بمجموع مادتها أو محتوى طاقتها الكلية أو زخمها الكلى .

وكما وضحنا سابقا .. هذه المعادلات ليست إلا تعبيرات رياضية عن درجة المعرفة الموضوعية لطبيعة العلاقة التى تحاول وصفها .. هى تعكس أمانة كل النقص والذاتية الكامنة فيها ،وتعقيد رموزها لا يعنى بالضرورة زيادة دقتها أو قدرتها على التفسير وإنما قد يعكس تشوش فهم صانع النموذج : الباحث ، فالمعادلات الرياضيات (وقبلها المصفوفات العددية) ليست إلا تمثيل بلغة رمزية خاصة للنموذج الذهنى الذى كونه الباحث باستقراؤه للملاحظات الجزئية التى جمعها بنفسه ،أو خلال قراءاته أو بالاشتراك مع مجموعته البحثية .

بتفصيل أكثر يمكن القول إن هذه المعادلات هى التعبير الأنيق عن كل التحيزات الواعية وغير الواعية للباحث فهو يختار عوامل أو قوى ،ويركز عليها بوصفها بأنها جوهرية وأساسية وهامة ومحورية ،ويختار عوامل أخرى ،ويصفها بأنها هامشية سطحية .. ويبرر بهذا إهمالها واستبعادها ،وحتى العوامل أو القوى التى يصفها بالجوهرية عليه أن يختار مرة ثانية – بطريقة ((حسدية))الشكل الذى تتغير به ..ويسمى اختياره ، نموذجه الذهنى لإدراك الواقع ((قانونا))!!

وقد يبدو هذا الكلام غريبا على الباحثين فى العلوم الإنسانية الذين يتعاملون مع وحدات تحليلية معقدة كالشخصية الفردية أو الأسرة أو القبلية أو الطبقة ،تبدو إلى جوارها الوحدات التحليلية فى العلوم الطبيعية (الألكترون فى الفيزياء ،الجزئى فى الكيمياء الخلية فى النبات والحيوان ،الجسيم فى الميكانيكا ..مثلا) أقل تعقيدا وأقل احتياجا للتبسيط والحذف . فى هذا الاعتقاد جزء من الحقيقة .. وهو أنها – أى الوحدات التحليلية فى العلوم الطبيعية – أقل تعقيدا .. لكن هى بذاتها معقدة جدا .

فالعالم الصغير ،للذرة مثلا ،هو انعكاس للعالم الكبير للمجموعة الشمسية ،والكون الباطن ،فى نفس الإنسان مثلا ،هو صورة لها نفس التعقيد والخصوبة ،للكون الظاهر فى آفاق الكون ،والمتناهى فى الصغر هو الوجه الآخر للامتناهى ،والذى يلامس المتناهى فى الكبر وجهة الأول ،وإعجاز الله فى خلقه ،وعمق الغنى فيه هو نفسه سواء نظر الإنسان لمجرة درب التبانة أو نظر لجناح البعوضة ،وحركة المجتمع التى تموج بدفع الناس بعضهم لبعض ،وتصادم الطبقات وتشابك المصالح يماثله فى زخمه وغناه حركة الألكترونيات فى ذرات الأكسجين التى تكون جزيئات الماء المتصادمة المتدافعة فى عشوائية مثيرة فى كوب ماء .. فما بالك بأمواج البحر الهاردة المضطربة المتكسرة قرب الشاطئ .

والانحياز ليس فقط فى ((القوانين))صاغة رياضيا فى معادلات وإنما أيضا فى قام المصفوفة فى ذاكرة الباحث فإن تقديرية فهى بداهة محملة بدرجة الباحث للخاصية موضوع التقدير .

كانت مقاسة بجهاز فلنمعن النظر فى منابع الانحياز فيها .. أولا مدى ملائمة سعة الجهاز للخاصية موضوع القياس ،مدى قدرته على إبصارها ،مدى دقته فى رصدها . وثانيا هناك التغير الذى يحدث فى الخاصية ذاتها أثناء وبسبب عملية القياس والنظر والرصد فيما اكتشفه هانزنبرج فى ميدان ميكانيكا الكم وسماه بقانون استحالة اليقين . وثالثا هو الإنسان القائم على الجهاز ،إنسان لدرجة تركيزه حدود ،لحدة انتباهه حدود ، ولحالته النفسية أثناء القياس طاقة يؤثر مجالها فى موضوعية تلك الأرقام المرتبة بأناقة فى مصفوفات .

رابعاً : تشغيل النموذج بين العقل التحليلى

والحاسب العددى

والآن لنعد للباحث مصمم النموذج ،هو حتى الآن استخدام ما يشبه منهج الاستقراء فى بلورته للقوانين – المعادلات ،مبتدءاً بملاحظاته الجزئية عن عملية التفاعل الهندسى . ومسجلا لخواص المكان والمدة فى مصفوفات . ولكنه لم يسمح للتفاعل أن يحدث بعد ،لم يسمح للتفاعل أن يحدث بعد ،لم يسمح للقوى أن تؤثر فى الأجسام فتحركها فتتصادم وتتحول الطاقة وتنتقل وتتوزع بعد ،لكأنه حتى الآن جهز أمواج البحر للحركة وجهز الشاطئ لتلقى ارتطامها به .. ولكن لم يسمح لهما بالتداخل ،بالارتطام والنحر والانكسار .

هنا تجئ مرحلة تشغيل النموذج ،أى مرحلة حل المعادلات معا ،وتخصيص حلولها فى الخواص المقدرة رقميا فى مصفوفات وتلك مرحلة يحتاج فيها الباحث إلى ما يشبه منهج الاستنباط لعلم الرياضة الذى طور طرقا كثيرة لحل المعادلات ،وهذه تنقسم إلى نوعين :

(1) طرق تحليلية تحتاج إلى ورقة وقلما ،وذهنا مدربا مركزا .

(2) طرق عددية تحتاج إلى الحاسب الآلى ،وإلى تدرب على لغته ورموزه .

فمن حيث القدرة على حل معادلات أعقد تصف ظواهر أعقد تتفوق الطرق العددية . فالمستخدم للطرق التحليلية محدود بشروط تضع سقفا على المعادلات الحاكمة لعل أهمها شرط الخطية أو شرط أن واحد زائد واحد يساوى أى شئ ؛لأن الأضافة ليست جبرية وإنما هى تفاعلية اندماجية ،فرجل وامرأة يساوى كيان معقد من ((نحن))خصبة العمق ،تأتى خصوبتها من انطلاق قوى تفاعلية وطاقات اندماجية فى كل منهما لم تكن موجودة فى كل منهما بمفرده .. وكذا فى الفيزياء أكسجين وأيدروجين يساويان كائنا جديدا هو الماء .. الطبيعة والكون والإنسان والمجتمع أساسا لا خطية لا جبرية ،إنما هى اندماجية تفاعلية خلاقة متحولة فى حالة موت وميلاد مستمرة .

وقد أضاف الحاسب الآلى هذه الإضافة للبحوث الهندسية ،إنه أطلق الباحثين من قيود المعادلات الخطية إلى رحابة المعادلات اللاخطية ،ومكنهم من أن يغوصوا فى أسرار الطبيعة الخصبة ،وبدا أنه ذلك الساحر الذى يمكننا من أن نلقى إليه بنموذج رياضى من معادلات لاحظية معقدة ،ومصفوفات رقمية متعددة الأبعاد ،وهو بكفاءته وسرعته سيخرج لنا بالحل الشامل وبالوصف العميق . وبدا  للحظة أن الحلول التحليلية أصبحت موضة قديمة عتيقة ،ولكن .

اكتشف الباحثون أن الإفراط فى تعقيد النموذج لا يعين فى أحيان كثيرة على فهم تعقيد الواقع ،ووجدوا أن بحوثهم تحولت إلى حشد لأرقام هائلة فى مصفوفات ضخمة ،وحشد لمعادلات مركبة لاخطية مجهزة للحل العددى . وتخرج النتائج من الحاسب الآلى فى الشكل الذى دخلت به ،حشود هائلة من الأرقام تطبع فى حشود هائلة من المنحنيات . ووسط هذا الحشد المزدحم يتوه عقل الباحث فى البحث عن معنى ما يحدث من تفاعل ، عن تفسير تحولات الطاقة ،عن إدراك السر المستغلق وراء انتقال الرمال من هذه الربوة فى الشتاء ووراء نحر ذاك التجويف فى هذا الشاطئ فى الصيف .

وهنا يجد الباحث الذى يؤرقه البحث عن معنى يضئ ويكشف ،ودلالة للنتائج تربط وتفسر وتتنبأ ،يجد أنه محتاج إلى نموذج أقل تعقيدا يمكن حل معادلاته تحليليا والسر فى هذا بسيط ،إن الحلول التحليلية تعتمد على أساليب العقل فى التحليل والتصور ،وعلى قوانين المنطق فى البرهنة والتركيب ،وهى بهذا تمكن العقل المدرك من النفاذ برفق للمعنى أى لعلاقة يمكن للعقل تصورها بين عناصر المسألة الهندسية بين سرعة وارتفاع واتجاه وزخم الأمواج البحرية ،وبين تقلبات ودورانات وانتقالات حبيبات الرمال فى القاع والجدران وعلاقة كل هذا بتوقيت هبوب الريح وارتفاع المد والجزر …

القضية ليست فى تفضيل أحد الأسلوبين على الآخر ،وإنما هى معرفة أى مقال لأى مقام ،أى أسلوب لأى مرحلة ،ففى بداية البحث يعتبر الباحث الاستعانة بالطرق التحليلية فى حل معادلات مبسطة لينفذ لجوهر التفاعلات وقواعد التحولات الرئيسية .ثم يبدأفى التفصيل والتعقيد تدريجيا ،محاولا فى كل درجة من درجات السلم الهابط فى أعماق الخصوبة الواقعية ألا يفقد بصيرته ،وألا يجعل سهولة الحاسب الألى تغويةه وتبعده عن غايته فى الفهم . فإن حدث وذهب للحاسب الآلى قبل أن يقبض يده على قعر المسألة سيجد أنه يسأل الأسئلة المهزوزة البعيدة عن الجوهر ،ولا يتوقعن – من آلة – إلا أن تجيبه على قدر أسلته !!

خامسا : النتائج وانحيازات المعاصرة

والمصداقية والتفسير

والآن لنتصور أن النموذج قد تم تشغيله ،وخرجت النتائج سواء كانت على شكل صيغ رياضية أو مصفوفات رقمية أو منحنيات . على الباحث أن يتأكد من درجة ثقته فيها ،وليس فقط ليقنع الآخرين بها وإنما ليقتنع هو أيضا ،ولأن البحث هو غوص فى مجهول ،وكشف لأرض لم يسبق وطأها تصبح قضية الصدق – حسنا – معقدة .

الاختيار الأول هو المعايرة والاختبار الثانى هو المصداقية .. المعايرة هى المقارنة مع يقين مؤكد حدث فى الماضى ،هو ضبط النموذج العام لكى يفسر / يرى واقعا محدودا خاصا ،ومشابها للواقع الحاضر ،لكنه حدث فى الماضى ،وكيف يحدث هذا ؟ بتغيير الأرقام المعبرة عن الخواص المادية والمكانية بحيث يمكن لمخرجات النموذج (نتائجه) أن تفسر تلك المسألة الهندسية المشابهة ..

لنفرض مثلا أن النموذج الحاضر مصمم ليدرس نحر شاطئ مصر الشمالى بجوار ميناء دمياط ،ولنفرض أن الباحث يملك بيانات عن قياسات دقيقة عن ظاهرة نحو شاطئ أمريكا الشرقى قرب مدينة بوسطن بيانات تشمل خصائص الأمواج وتحكات الكتل الرملية ،يحاول الباحث أن يستبدل أرقام مصفوفة الخواص المادية المكانية والتى تلخص جغرافية وطقس وخصائص بحر وشاطئ دمياط بتلك المناظرة لبحر وشطئ بوسطن ، ويشغل نموذجه ،ويقارن نتائجه بتلك القياسات عن تحركات الكتل الرملية فى بوسطن .. وبقدر تقارن النتائج يقول إنه عاير نموذجه على بيئة((مشابهة))فالمشكلة هنا واضحة ،إنها ما معنى التشابه هنا .. فالخواص المادية والمكانية والجغرافية والطقسية يصعب تلخيصها فى أرقام ومصفوفات مهما كان تعقد المصفوفات ووفرة الأرقام ؛لأن التفاعلات فى بوسطن بين الهواء والماء وقاع البحر قد تختلف كيفيا عن التفاعلات المناظرة فى دمياط !!

والاختبار الثانى هو المصداقية ،وهو اختبار قدرة النموذج على تفسير سلوك الأجسام المتفاعلة فى العملية الهندسية خلال مداها الزمنى المفترض . وهناك وسيلتان لذلك .. الأولى مقارنة نتائج النموذج بنموذج آخر أنشأه وشغله باحث آخر مستخدما رؤية مختلفة . والثانية مقارنة النتائج بقياسات واقعية تجرى بأجهزة وبطريقة وفى أماكن وأوقات يحددها الباحث .

مثلا ،يقارن تأثير أمواج بحر دمياط على نحر شاطئه بنتائج نموذج آخر استخدام أسلوبا آخر فى حل المعادلات أو اهتم بقوى وأهمل قوى بطريقة مختلفة . كأن أكون فى نموذجى قد ركزت على تأثير انكسار الأمواج ،وتقلبها الباطنى بعد انهيارها ،بينما باحث آخر قد ركز على تأثير حيود الأمواج وتغيرات عمق قاع البحر ،وبديهى هنا أن المقارنة تكون بين شيئين مختلفين ،وليس بين شئ حق والآخر باطل ،فهذا المناظر يرى الوجود ورديا ،وهذا المنظار يرى الوجود مشربا بالزرفة ،اختلاف لا ينبت ولا ينكر المصداقية .

أما استخدام القياسات الواقعية فى منظومة رصد شاملة فما أصعب أن يكون شاملاً موضوعياً ،وما أسهل أن يكون جزئياً . ما أسهل أن نختار أماكن القياس بحيث تثبت أن النموذج جيد ،ما أسهل أن نختار مواقع قياسات سرعات الموجات أو توقيتات هذه القياسات ونوائمها مع قياسات للكتل الرملية المتحركة ،بحيث تبين وتوضح ما نريده مسبقا أن نبينه ونوضحه . ومما يسهل مرور هذه الممارسات تعقيد النموذج وهيبة شكل منتجاته ، سواء هيبة الصيغ الرياضية أو هيبة الجداول الرقمية الخارجة من كم الحاسب الآلى .

فكما أن التبسيط والتقريب يخفى لطف الأسرار ،ويعمى عن إبصار رهافة الخصوبة فى الكون ،كذلك يخفى التعقيد المفرط وحدة المبادئ الحاكمة وعمق الصلة التى توحد بين الظواهر المتنوعة ،وفى عالم البحوث الهندسية المعاصر نأخذ نحن أمراض هذه البحوث المصاغ مبادؤها فى الغرب ،أمراض التفتيت والتشيئ وإغراق مستخدمى النموذج فى غلالة مهيبة من الرموز والأرقام والمصطلحات ،تخفى الانحيازات والتناقضات والتقريبات والتقييفات التى مارسها الباحث فى الغرب ،العلم وبحوثه ،ككل شئ آخر ،سلعة يجب تسويقها وبيعها وإغراء المستهلك بنفعها ،وفى سبيل هذا الغرض ،يمكن أن يتحول الباحث ،دون وعى مباشر إلى مشارك فى هذه الهيصة الإعلانية التى تطمس همسات الحقيقة .

سادسا : ملخص لمصائد الانحياز فى

البحوث الهندسية :

يبين الشكل التالى العملية البحثية من أول خطوة إلى آخر خطوة ،كما تتم فى المجتمع المستفيد من البحث .. وفى كل مرحلة أبواب للانحياز ،وأنماط للنسبية والذاتية فى المرحلى الأولى (1) والأخيرة (7) تكمن مصائد الانحياز فى المجتمع الحاضن للبحث .. وفى المراحل الوسيطة (2) حتى (6) تكمن مزالق الانحياز فى الفرد أو الجماعة الباحثية .

تعديل النموذج وتطويره

1- الإحساس بمشكلة هندسية ،الرغبة فى تحقيق هدف هندسى .

2- ملاحظات وتأملات وقياسات ،قرءات فى بحوث سابقة .

3- تخلق فكرة محورية مبدئية ،صورة دهنية ،نماذج لعناصر المسألة .

4- التبلور: القوانين فى معادلات رياضية والخواص فى مصفوفات رقمية .

5- تشغيل النموذج ،إحداث التفاعل ،حل المعادلات

6- معايرة النتائج واختبار مصداقيتها .

7- استخدام النموذج فى تفسير الماضى والتنبؤ بالمستقبل والانتفاع به فى التصميم والإنشاء والتحوير .

ما يميز المجتمعات الغربية انفتاح فكرها النقدى ،والذى يجبر الباحثين على التعديل والتطوير المستمر ،أما فى مجتمعاتنا فنن غارقون فى العاطفية الذاتية التى تتأرجح بنا بين نقيض تقديس النماذج الرياضية وكهنوت الحاسبات العددية ،وبين نقيض الاستهانة اليائسة من إمكانية التوغل برفق وتواضع فى إسرار الطبيعة فى شك فطن ،وإدراك يقينى أن الكمال لله وحده وأن الإنسان مستخلف ليعلم الأسماء كلها .

القسم الخامس : ملامح منهج

إسلامى للبحث فى العلوم الهندسية

هنا نأتى لأصعب وأهم الأجزاء فى هذا البحث ،هنا نواجه السؤال العسير : إبداع البديل فى الأجزاء السابقة كنا مشغولين بالماضى وإرثه ومعاركه ،والآن أوان  الانشغال بالمستقبل .

تخيل معى أننا الآن سنة 2050 مثلا ،قد استنزفنا كل معركنا الداخلية حول الأصالة والمعاصرة ،وتطهرت عروق كل تياراتنا الفكرية من الانشغال المحموم بالغرب ،تخيل معى أنا عبرنا كل مستنقعات هذا الزمن الردئ وأصبحنا وحدنا . لم يعد أمامنا آخر نشتبك معه ،وإنما أنفسنا .. وأمامنا آخر نشتبك معه ،وإنما أنفسنا . وأمامنا مهمة واحدة عاجلة ،أن نبنى بحرية حياتنا الجديدة ، وانظر معى للعنوان وتأمله ،تأمل تلك الصفة التى وصفت بها منهج البحث ؛صفة أنه إسلامى ،المتضمن هنا أن منهج البحث العلمى هو أحد ثمار شجرة الحضارة ،أما جذورها العميقة فتمتد فى تصورها للإنسان وللكون والله ،فى نظرتها الكونية ،للحضارة الغربية نظرتها الكونية ،قيمها الحاكمة التى ينبع منها منهج غربى للبحث العلمى ،وكذا نحن .

نعن نحن ،ألسنا وللكون ولله ،فى نظرتها الكونية ،للحضارة الغربية نظرتها الكونية ،قيمها الحاكمة التى ينبع منها منهج غربى للبحث العلمى ،وكذا نحن .

نعم نحن ،ألسنا مقبلون على دورة جديدة للنهضة الحضارية سيشهدها – بإذن الله – القرن 21 . ألم يأن الأوان للاعتراف أن جذور نظرتنا الكونية ،أسس قيمنا الحاكمة ،تصورنا لجوهر العلاقة بين الإنسان والكون والله ، كلها راسخة فى الإسلام ،قيم أوحى الله به لخاتم أنبياؤه .

وأن منهجنا للبحث العلمى لن يكون إلا منهجا نابعا من هذه النظرة الكونية الإسلامية ..

كيف ؟ هذه هى مهمة جيلنا . مهمة لها شقين .. الأول أن نصوغ النظرة الكونية الإسلامية بلغة عصرنا وبرموز تحديات عصرنا ،كما صاغتها كل الأجيال المسلمين من وفاة النبى فنجحت أجيال وأخفقت أخرى .. الأجيال التى نجحت هى التى أبدعت رؤية مجددة لذاتها .

والشق الثانى أن ننتشر فى أرجاء الأرض والسماء والبحر والفكر والعلم والفن والتكنولوجيا نبحث ونكشف ونفهم وندرك ونعمل الصالحات .

فى الصفحات القليلة القادمة أقدم خواطرى الخاطفة القليلة القادمة أقدم خواطرى الخاطفة .. عن ملامح المنهج الإسلامى للبحث النابع عن نظرة كونية إسلامية .. خواطر هى بذور تساؤلات أكثر منها ثمار إجابات .

تتبدى ملامح المنهج الإسلامى للبحث العلمى فى ثلاثة نواحى هى أولا : موضوع العلم أو فيم نبحث ،وثانيا : أسلوب أو منهج العلم أو كيف نبحث ،وثالثا : غاية وهدف العلم أو لماذا نبحث ،وفيما يلى نفصل هذه العناصر

أولا : فيم نبحث ؟ موضوعات وميادين

البحث العلمى :

(أ) الكون كله كتاب الله المنظور ،كل ما فيه آية تشير إلى الحق .

الكون الخارجى اللاإنسانى : السموات والأرض ،والآفاق

والكون الداخلى الإنسانى : جسم ونفس الفرد والمجتمع ،أنفسنا .

{سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الخلق } .

(ب) سنن حركة البشر والحضارات :

{سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً}.

سنن حركة الجمادات والنباتات والحيوانات فى السماء وفى الأرض :

{يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان}. {وقل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدا الخلق}.

(ج) فيم ينفع الناس ويصلح فى الأرض .

اكتشافات الطيبات التى سخرها الله فى الأرض وفى السماء : {ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض}.

ثانيا : كيف نبحث ؟

 أسلوب ومنهج البحث العلمى:

(أ) الملاحظة والرصد الحى :{أولم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ}و {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت} ،{فلينظر الإنسان مم خلق}وهنا يدخل كل ما يمكن أن يبتدعه الإنسان من أجهزة تزيد قدرته الحسية على الرؤية (الميكروسكوب ،التليسكوب) والسمع (أجهزة التصنت ،الردار) .

(ب) استعمال العقل :وهنا قد يطول الاستشهاد بآيات قرآنية لكثرة الأفعال المعرفية فيها : اقرأ ،تفكر ،اعقل ، تدبر،تفقه ،تبصر،اذكر ،تذكر . أفعال تهدى الإنسان إلى أن الله أنعم عليه بأداة البحث الرئيسية وهى العقل ، أليست وهى العقل ،أليست وظائف التذكر والإدراك والتخيل والاستنباط والتأمل والاستدلال والتفكير والتحليل وظائف عقلية ؟ أليس العقل الإنسانى هو القادر على أثارة وصياغة التساؤلات وعلى تمحيص واختيارات الإجابات ؟ .. وهل هى صدفة أن الله الذى أذن لأنبيائه أن يكون لهم معجزات حسية ،اختيار لخاتم أنبيائه معجزة عقلية ،معجزة تخاطب عقل الإنسان وتدعوه منذئذ لتطوير وتنمية وتعميق هذه النعمة ،هذه الوسيلة لمعرفة الحق .

(ج) الخبرة المتخصصة :وهذه تعنى بصفة عامة أن الرغبة العارمة فى معرفة الكون دفعت الإنسان لاستنباط وسائل تعين المنهجين السابقين ،وفى ميدان البحث فى العلوم الهندسية ابتدع العلماء( المسلمون فى القرون 16-20) وسيلتين متخصصيتين :

(1) التجريب والاختيار المعلمى :وهذه وسيلة لمعاونة الملاحظة والرصد الحسى للطبيعة فى تفاعلها التلقائى هنا يصمم الإنسان ظروف خاصة معملية تضع جزء من الطبيعة فى شروط صناعية تمكنه من أن يستخلص أو يبصر أو يقيس خواص معينة لها .

2– الرياضة : وهذة وسيلة له تعين العقل . فاللغة الرمزية للرياضة تمكننا من صياغة العلاقات السببية فى معادلات مختصرة ،وهياكل البرهنة المنطقية التى تشتملها أبنيتها النظرية تعين العقل على تحليل المسائل وتمحيص مفرداتها وتركيب كلماتها فى منطق العقل .

ولقد أضاف العلماء الغربيون وسيلة متخصصة ثالثة فى القرن 20 ،وهى الحاسبات الآلية والتى سبق الحديث عما تسيره من التعامل مع الأرقام الضخمة الكثيرة ،وفى إجراء حلول تقريبية للمعادلات الرياضية ،وفى عرض نتائج النماذج بطريقة واضحة .

(د) الإيمان بأن الحق واحد :

الحقيقة ،أى حقيقة ،هى جزء من الحق المشتمل على كل الحقائق ،والله هو نبع ،مصدر ،خالق هذه الحقائق المتنوعة وبما أن الله واحد فالحق واحد . وهذا اليقين يؤدى إلى الآتى :

1- تتنوع مظاهر حركة الأجسام فى الزمان والمكان لكن تحكم هذه الحركة قوانين بسيطة ،مثلا قوانين حفظ الكتلة وحفظ كمية الحركة وحفظ الطاقة فى الميكانيكا ،وقوانين ثبات سرعة الضوء وثبات القوانين فى الإطارات المرجعية المختلفة واستحالة مراقبة أو قياس أى كمية طبيعية دون التأثير فى المنظومة المشتملة عليها ؛فى علم الفيزياء كلها قوانين سهل الإيمان بوجودها اكتشاف مئات الارتباطات الجزئية بين الكميات الطبيعية ..

2- بما أن الحق هو الله ،وبما أن الله هو البديع والظاهر / الباطن يكون لدينا هنا معايير تهدينا فى صدق ((المعادلات أو النظريات أو النماذج المعرفية ))وتلك هى :

(أ) البساطة والوحدة والتناسق والانسجام الداخلى .

(ب) والتماثل (وجود الشئ ونقيضه سالب / موجب – شمالى / جنوبى ..) .

(ج) والجمال الفكرى (القدرة على الجمع بين ظواهر تبدو شديدة الاختلاف فى ارتباطات بسيطة مثلا : الطاقة =الكتلة ×مربع سرعة الضوء..أو استقامة الانحناء فى الفضاء الكونى فى نظرية النسبية العامة) أى أن – النظريات المتسمة بالتعقيد والانفراط والانحياز تجاه أحد النقائض والبشاعة الفكرية أو الضيق المفرط فى مجال استخدامها هى نظريات يجانبها الصواب ،ويداخلها الاعوجاج .

3- استحالة وجود أى تناقض بين الوحى الإلهى والعلم الإنسانى . وظهور أى تعارض معناه نقص معرفتنا فى هذه اللحظة التاريخية وحافز لنا لاستكمال علمنا الإنسانى بحيث يطابق ويتفقوينسجم مع الوحى .. فالله يدعونا أن نستزيد من العلم لنعرفه ،حتى يتبين لهم أن نستزيد من العلم لنعرفه ،حتى يتبين لهم أنه الحق .. فكلما رأينا أكثر فى آفاق الأرض وأجواز السماء ،وكلما عرفنا أعمق فى نفس وجسم الإنسان اقتربنا أكثر من الله ،الحق ،خذ هذا المثال . لو قرأنا الآية التالية من 50 سنة لرأينا بينها وبين ما نعلمه تناقضا :{أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أحرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }(الآية 40 من سورة النور) ؛لأننا وقتها كنا نعلم وجود نوع واحد من أمواج البحر ،تلك هى الأمواج السطحية المدفوعة بالرياح والمتموجة بفعل ثقل الكتلة المائية ،لكننا الآن وبعد أن الموج السطحى من تحته موج داخلى يدفعه الاختلاف فى درجة حرارة الكتلة المائية ،رأينا أن التناقض زال ،أى أن الإيمان باستحالة التناقض يمكن أن يدفع العلماء فى البحث عن تلك الأمواج التحتية والذى ذكرها الحق فى الوحى :{فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج } .

ثالثا: لم نبحث ؟ الحوافز العميقة

والغايات العليا للبحث العلمى

التمتع بزينات الحياة الدنيا : إشباع شهوة المعرفة ،إرضاء فطرة حب الاستطلاع ،تغذية عقولنا النهمة المتسائلة التى لا تكف عن التساءل منذ بداية نطقنا للكلمات وسماعنا للأسماء وكأننا نريد أن نكون مثل أبينا آدم نعلم الأسماء كلها .

عبادة الله والتقريب منه : العلم أحد طرق التقوى {إنما يخشى الله من عباده العلماء }وذلك لأن العلم هو طريق إرضاء أرواحنا القلقة فى ظلام جهلها بنفسها وبالآخرين . وبالكون الشاسع الذى وضعنا الله فيه .. بالعلم نقترب من اليقين المطمئن .. العين الجاهلة لا تبصر والأذن الجاهلة لا تسمع والفؤاد الجاهل لا يرضى والعقل الجاهل لا يضئ ..{والراسخون فى العلم يقولون آمنا به } . ولهذا فإن أعمق رغبات الروح هو أن نعرف الله أى نعلم الحق .

☼ أداء أمانة الاستخلاف :

استخلاف الله لآدم ولبنيه فى الأرض تكريم له وابتلاء : {قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعلمون } . هذا هو الابتلاء أما التكريم فتبينه الآية التالية من سورة النور .. {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض }والأمانة الثقيلة على كاهل من يرزقه الله بقدرة على البحث العلمى هى أن ينفق من هذا الرزق فى سبيل الله ،فيعلم غيره ويساهم فى تجميل وإصلاح الأرض وفى تفريج هموم أخوته المسلمين ،وفى إعانتهم على بناء حياة حضارية يبتغون فيها من فضل الله فى الدنيا . لم يشأ الله أن يمهد الأرض والسماء تمهيداً كاملا لنا ويكشف لنا عن كل قواميسه ،لا ولم يشأ أن يجعله وعرا مستغلقا وإنما جعله وسطا ،تحديا مناسبا لقدرات الإنسان .. تكليفا بقدر سعة نفسه وجعل مع كل عس يسرا {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير }

 [الشورى 27] ،ولذا لا بد من الجهد (الجهاد) الإنسانى .. ومساهمة أهل العلم فى الجهاد الحضارى هو الجهاد بالحث العلمى .

ظوابط وقيم البحث العلمى كنشاط إنسانى :

(1) العلم ككل أنشطة الحضارة الأخرى من فنون وصنائع ومؤسسات إنتاجية وخدمية وسياسية وعسكرية ليست غايات فى حد ذاتها ،وإنما وسائل تستعين بها الأمة على تحقيق غايتها العليا : عبادة الله .. وإذن العلم لله الفن لله الحضارة بأسرها لله ..

(2) التعامل بعدل وإحسان مع موضوعات بحثنا سواء كانت أشياء أو حيوانات أو نباتات أو كانت بشر ،سواء كان البشر أقارب لنا أو غرباء عنا .. وقواعد العدل والإحسان هى :

1- لا نشوه بينة أو شكل موضوع البحث ولانفسد انسجامه الفطرى .

2- لا نبدد مادته ،ولا نستفز طاقته بغير حق .

موضوع البحث هو الكون وهو ليس ملكا لنا وإنما ملك لله .. هو وديعة من الله استخلفنا فيها ،أنفسنا وأجسامنا وأراضينا ومياهنا وهواءنا وتراثنا وثرواتنا .. إنما هى أمانة فى أعناقنا {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } فلنحاول قدر طاقتنا أن نتعامل مع الشئ المبحوث ليس كأنه خصم نغزوه ،وإنما كأنه حليف نصادقه ،ليس كأنه كائن أصم أعمى ،وإنما هو كائن حى ،وهل الخشب والحديد والجبال إلا كائنات تموج بالحياة إن تغلغلنا فى أعماقها ، ورأينا جزئياتها تنزلق وتتشكل طوال الوقت ،وألكتروناتها تدور حول نوى ذراتها فى مدارات مرحة منتظمة والمجرات البعيدة تتمدد وتتباعد والنجوم السحيقة تحتشد بالانفجارات الهيدروجينية .. هل نسينا أن الكائنات كلها تسبح الله لكنا لا نفقه تسبيحها . أما إسراف الحضارة الغربية فى استنزاف موارد الأرض وإفسادها للمحيط الحيوى الذى خلقه الله حولها فليس إلا نتيجة للقيمة الغربية الناظرة للبحث العلمى على أنه وسيلة الإنسان لقهر وغزو واستغلال الطبيعة .. {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون } .

(3) موسوعية العلم والفن والحكمة :

التخصص الدقيق ليس فضيلة وإنما هو تضييق للأفق وتسطيح للحكمة .. الله واسع كبير ملأ الكون بآياته المادية والروحية ،فى النطفة وجناح البعوضة وفى السمع والبصر والأفئدة ،فى جمال بروج السماء وفى لطف همس أنفاسنا ،فى ضخامة الجبال المثلوجة ورقة الخواطر الدافئة .

وإذن فلنطلب العلم بآيات الله فى دنيا الروح ،القلب ومشاعره ،والعقل وأفكاره ،والنفس وقيمها ،والأسرة وروابطها ،المجتمع ومؤسساته ،لقد عرف أسلافنا هذه القيمة .. إن الحكمة ضرورية للعلم وإن الفن متصل بالعلم ،ولذا كانوا موسوعيين يبحثون عن الواحد الحق البديع فى كافة تجلياته . فنرى الحسن بن الهيثم مثلا فقيها ولغويا وموسيقيا بجانب علمه بالرياضيات والميكانيكا والبصريات .

آن أوان انفتاح العلوم الطبيعية والتطبيقية الهندسية الطبية على العلوم الإنسانية والاجتماعية واكتمالها فى كل يتوخى الحكمة الحضارية {ومن أوتى الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً}.

(4) إنسانية العلم : إلإسلام هو دين كل الناس والله رب كل العباد . وإذن فنحن مع الحق فى أى مكان لأن الحق هو الله ،هو ضالتنا مهما كان شكل ولون ودين وجنس من اختارهم الله لنشره . نأخذه دون حرج ونعطى الفضل لأهله (الأمانة العلمية) ..

نحن منفتحون على الحق نسمع القول فنتبع أحسنه ،سواء جاءنا هذا الحق من الغرب أو من الشرق ،من الأسلاف أو من المعاصرين ،لكن نحن نعرف أن مسؤولية صنع مصيرنا هى مسؤوليتنا نحن أمام الله {وقل اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}وإذن لن يجدد حياتنا ويبنى حضارتنا إلا سواعدنا نحن .

ملخص للكشوف العلمية للغرب فى القرن 20 :

الغرب ؟ مرة أخرى ؟ نعم . فسلنا نريد أن ندخل القرن 21 دون أن نعلم القبس من الحق الذى استودعه الله للحضارة الغربية فى قرننا الحالى فى كتابه العلم فى منظوره الجديد شرح واف لهذه الكشوف ،ولما أحدثته من تغييرات فى النظرة الكونية للحضارة الغربية .. وهاك ملخص قصير يعرفنا أين هو الآخر والآن ..

الفيزياء :

لم تعد الذرة أصغر جسيم وإنما أصبح الألكترون ،ولم تعد للجسيمات صفات مادة ،كالكتلة والحجم والصلابة فقط ،وإنما أصبح لها صفات موجية كالطول والتردد والشدة ،أيضا . لم يعد الزمان مطلقا ممتدا ومستقلا تماما عن المكان الثابت ،وإنما ارتبط الزمان والمكان ،وظهر اعتماد شكلها على ظروف المراقب مشاركا فى صنع الحركة أو الظاهرة التى يرقبها .

المادة وحدها لا تفسر العالم الطبيعى وإنما لا بد من إضافة وعى المراقب لها .

المادة والطاقة صورتان مختلفتان لنفس الجوهر فكما أن المادة تتحول من صورة لأخرى (اتحاد غازى الأكسجين والهيدروجين يحولهما إلى ماء) ،وأن الطاقة تتحول من صورة لأخرى (تحول طاقة وضع مياه الشلال إلى طاقة كهربية يولدها التوربين) كذا تتحول المادة إلى طاقة بالاحتراق والطاقة إلى مادة بالتبريد والضغط الكثيف . لا يمكن تحديد وضع أو حركة أو خاصية أى كائن (جسيم أو موجه) طبيعى بيقين تام وإنما بدرجة ما للخطأ .

بحوث فسيولوجيا الأعصاب :

النشاط الكهربى والكيميائى للمخ والأعصاب فى استقبالهم للمؤثرات الحسية القادمة من الحواس شرط ضرورى ولكن غير كاف للإدراك الحسى .. فيمكن أن ننظر ولات نرى ،ونبلغ ولا نذوق ،ونلم ولا نحس .. الشرط الكافى هو الإدراك ،هو إرادة الرؤية إرادة السمع إرادة اللمس ،قال تعالى :{ومنهم من يستمع إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى }المخ يقوم بوظائف التذكر والإحساس والخيال وضبط الحركة وتنظيم إفرزات الغدد . ولكن وظائف الفهم والإدراك والتعليل والربط والتفكير فيقوم بها العقل .

وأين العقل هذا ؟ تماما مثل الإدارة ،أو تزيد مثل الضمير والروح ،ليس لهما مكان جسدى . الكيمياء والفيزياء والفسيولوجيا والتشريح لا يمكنها إبصارهم ،هذا هو الجزء السر فى الإنسان ،الجزء الحر فى الإنسان والذى يملك أن يطيع ،ويملك أن يعصى الله .

وهذا الجزء لا يغنى ولا يموت بعد وفاه الإنسان وفناء الجسم وتحلله .

الفلك وعلم نشوء الكون :

فى العشرينات اكتشفنا أن الكون يتمدد ويتسع والمجرات تتباعد . وفى أواخر الثلاثينات تم تفسير سر استمرار ثبات الطاقة الشمسية من خلال اكتشاف طاقة الاندماج النووى لذرات الهيدروجين ،فى سنة 1965تم اكتشاف إشعاع الأساس الكونى بقيمة من أثر الانفجار العظيم درجة حرارته 3.5 درجة مطلقة . كل هذا أثبت أنه فى لحظة ما منذ 12 مليار سنة تقريبا كانت كل مادة وطاقة الكون معبأة فى حيز مكانى أصغر كثيرا من البروتون وعندما أمر الله وقال كن انفجرت هذه المادة والطاقة الهائلة ،وظلت تمتد ،وتكون المكان والزمان بمجراته الشاسعة ،ثم شمسنا بكواكبها وأقمارها وأرضنا معهم .

الكون يتمدد بسرعة حرجة ،مناسبة تماما ليحدث تطور بيولوجى حيوى على الأرض يظهر فى نهايته الإنسان ،المشاهد المراقب للكون .. الوعى الإنسانى تطلب ظهوره حياة والحياة تطلبت عناصر ثقيلة وهذه تطلبت اندماجا نوويا من ذرات الهيدروجين . الزمن المطلوب لكل هذا 10 سنة والامتداد المكانى للكون 10سنة ضوئية . أى أن سبب أو علة ضخامة الكون هى خلق الإنسان .. أما علة خلق الإنسان فهى أن يعبد الله

وكما أن للكون بداية محددة لعمر محدد ونهاية محددة ،تلك هى القيامة التى لا ريب فيها يسائلنا الله عما فعلنا بالأرض التى استخلفنا عليها . فلندعو الله معنا أن يكون جوابنا أننا بنينا فوقها حضارة عربية إسلامية تدعو للخير ،وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .

                                       المراجع

●الحورات:

استفدت كثيرا من حوارات عميقة مثمرة مع أصدقاء كثيرين مع أشخاصهم ومع كتاباتهم . اذكر منهم الدكاترة حامد الموصلى ،وعبد الوهاب المسيرى ،وسيد دسوقى ،ومحمد عامر والأساتذة طارق البشرى ،وعادل حسين ،ومحمد عمارة ،ونبيل مرقص .

● القراءات :

تفسير الجلالين للقرآن الكريم .

(1) إعادة تشكيل العقل المسلم ،د . عماد الدين خليل ،كتاب الأمة 1983 .

(2) وعود الإسلام ،روجيه جارودى ،مدبولى ،1985م .

(3) الإسلام والفسفة والعلوم ،أربعة محاضرات نظمتها اليونسكو ،1981 .

(4) ضحى الإسلام ،أحمد أمين ،النهضة المصرية 1977 .

(5) النماذج ،أدوات لتشكيل الواقع ،مجلة العلم والمجتمع ،1982 .

(6) العلم فى منظوره الجديد ،اغروس وستانسيو ،عالم المعرفة 134 ،1989 .

(7) مقدمة لتاريخ الفكر العلمى : الإسلام ،د . أحمد سعيدان ،عالم المعرفة 131 ، 1988 .

(8) تراث الإسلام ،شاخت وبوزورث ،عالم المعرفة طبعة ثانية 12 ،1988 .

(9) التراث العلمى للحضارة الإسلامية ،د. أحمد فؤاد باشا ،دار المعارف ،1984 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر