أبحاث

القيم الخلقية في رسائل النور

العدد 110

(1)

ترتبط منظومة الفكر الإسلامي ارتباطًا عميقًا بحياة الإنسان في وجوهها المتشعبة كافة، فلا تترك مجالاً لحركة أو سلوك أو تصور إلا وحكمته بالمنظور الإسلامي الذى تصنعه المفاهيم القرآنية وتوضحه السنة النبوية، ولقد جاءت (رسائل النور) لبديع الزمان سعيد النورسى لتؤكد على توغل هذه المفاهيم القرآنية في شتى وجوه الحياة الإنسانية، ومن هذا المنطلق كان اهتمام النورسى بفلسفة الأخلاق، وتأصيل القيم الخلقية داخل نفوس أبناء الأمة الإسلامية بوصفها مصدر السعادة الدنيوية والأخروية، ومنطلق العمل من أجل رضا الخالق جل وعلا، وعزّة المسلمين في واقعهم الإنساني .

ولاشك أن النورسى، كان نتاجًا لبيئة إسلامية صالحة أهلته ليقوم بدور الداعية الإسلامي الناضج الذي يحفظ شعلة الإسلام مضيئة ومستمرة في مرحلة من أصعب فترات الأمة الإسلامية في تركيا. لقد أثرت هذه المرحلة على الوجود الإسلامي، وعصفت بالمسلمين عصفًا شديدًا، فهيأ الله النورسى ليرفع الشعلة ويحافظ عليها من خلال سلوكه ودعوته معًا .

لقد ولد النورسى عام 1293هـ = 1873م، بقرية نورس، قضاء خيزان بولاية بتليس شرق الأناضول، وزمن الميلاد هذا كان يؤذن بأحداث جسام انتهت في شباب النورسى ونضجه إلى إلغاء الخلافة الإسلامية، وتتريك المسلمين، بمعنى نقلهم إلى العلمانية، ومحاولة استئصال الإسلام من النفوس والقلوب …

جاء سعيد إلى الدنيا، لأب صوفى ورع يدعى (ميرزا) كان يضرب به المثل في الورع حيث لم يذق حرامًا، ولم يطعم أولاده من غير الحلال، حتى إنه إذا عاد بمواشيه من المرعى شد أفواهها لئلا تآكل من مزارع الآخرين. . ويروى أن أمه، وكانت تدعى (نورية) قالت: إنها ما أرضعت أطفالها إلا وهي على طهر ووضوء(1) .

سعيد إذًا، ابن بيئة أسرية صالحة ونقية، ثم إنه حفظ القرآن الكريم والحديث الشريف وحصل العلوم الشرعية، وكان يملك ذكاء خارقًا، وقوة خارقة للحفظ، وتعرف على أعلام عصره الموثرين ومن بينهم شاعر تركيا الشهير (محمد عاكف) وكانت قصة حياته مفعمة بالأحداث والانفعالات فجمعت إلى العلم العمل والدعوة والأسر والمحاكمات والمواجهات والنفى، على النحو الذي فصله في سيرته الذاتية، وتناولته الدراسات التى اهتمت بحياته وشخصه، ولكنها جميعًا تصب في دائرة الداعية صاحب الرؤية الثاقبة والنظرة العميقة التى تتجاوز السطح إلى العمق، والقشر إلى اللب، ولعلنا نستشف هذا من قوله:

(كنت قد حدثت خيالي في عهد صباي: أي الأمرين تفضل؟ قضاء عمر سعيد مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهى ذلك إلى العدم، أو وجودًا باقيًا مع حياة اعتيادية ذات مشقة؟ فرأيته يرغب في الثانية ويتأفف من الأولى، قائلاً: إننى لا أريد العدم بل البقاء)(2) .

إن فهم موقف النورسى من فلسفة الأخلاق في ضوء القرآن الكريم لا يتم إلا بفهم سلوكه الشخصى تجاه الأحداث الصعبة والمواقف الحساسة، فمن خلالها، يمكن للباحث أن يربط بين الفكر والسلوك لهذه الشخصية الفريدة في تاريخ الدعوة الإسلامية من ناحية، ووعيه بطبيعة القيم الخلقية للإسلام من ناحية أخرى ، وسوف نكتفى هنا بمثالين :

الأول: تمسكه بإسلام المؤمن وعزته، عند أسره بعد دخول الروس مدينة (بتليس) فقد جاء خال القيصر وهو القائد العام للجبهة ليزور الأسرى في (قوصتورمة) . شرقى روسيا، وقام الأسرى جميعًا تحية له إلا سعيد النورسى. لاحظ ذلك القائد العام للجبهة فرجع مرة ثانية أمامه فلم يعره اهتمامًا، فغضب القائد وقال له:

_ يبدو أنك لا تعرفني .

فأجاب بديع الزمان:

_ لا .. إننى أعرفك، إنك خال القيصر والقائد العام .

_ إذا فلم تحتقرني؟

_ لا. إننى لم أحتقر أحدًا، ولكننى فعلت ما تأمرنى به عقيدتي ومقدساتي.

_ وبماذا تأمرك عقيدتك؟

_ إننى عالم مسلم وفي قلبي إيمان ، والمؤمن أفضل من عديم الإيمان . إن قيامي لك ابتذال لعقيدتي ومقدساتي ولذا لم أقم لك .

_ إذًا، فهذا يعنى أننى عديم الإيمان، وبذلك تكون احتقرتني واحتقرت جيشى واحتقرت أمتى وكذلك احتقرت القيصر؛ لذا يجب تشكيل محكمة عسكرية لاستجوابك .

تشكلت المحكمة، ورغب كثير من الأسرى الأتراك والنمساويين والألمان حمل سعيد على الاعتذار إلى القائد فرفض قائلاً:

_ إننى أرغب في الرحيل إلى الآخرة والوصول إلى حضرة رسول الله eوأنا في حاجة إلى جواز سفر للذهاب إلى الآخرة، ولا أستطيع أن أفعل ما يتعارض مع إيماني .

ساد الحزن معسكر الأسرى، وصدر الحكم بإعدام سعيد! وفي يوم التنفيذ حضر الجنود الروس بقيادة ضابط لأخذه إلى ساحة الإعدام ، فطلب سعيد أن يمهلوه خمس عشرة دقيقة ليتوضأ ويصلى. وحينذاك يخاطبه القائد العام بقوله :

_ كنت أعتقد أنك بفعلك هذا تقصد إهانتى والتحقير من شأنى، ولكننى الآن أفهم أنك بتصرفك هذا كنت تؤدى ما تأمرك به عقيدتك. لذا فقد ألغيت قرار المحكمة، وأقدرك لتقواك وورعك ، وأرجو قبول اعتذاري عما بدر منا من مضايقات لك(1) .

ولا شك أن عزة المؤمن تتجلى خير ما تكون في هذا الموقف الذي تظهر فيه قوة الإيمان ورباطة الجأش والثقة المطلقة في الله .

الآخر، موقفه مع (أتاتورك) بعد انتصار الأتراك، ودعوة قادة الاستقلال لسعيد كي ينضم إليهم، فقد زارهم في أنقرة ، ولاحظ أن معظم النواب لا يؤدون الصلاة، كما أن سلوك مصطفى كمال وتصرفاته المعادية للإسلام أحزنته كثيرًا. وكان أن وضع النورسي بيانًا في 19/ 1 / 1923 ضمنه نقاطًا عديدة، كانت نتيجته بعد أن ألقاه الجنرال (كاظم قره بكر)، القائد الأول لحركة الاستقلال أن ما يقارب ستين نائبًا قد استقاموا على التدين وأقاموا الصلاة.

استدعاه (أتاتورك) وحدث بينهما حوار، وكان مما قاله أتاتورك:

_ لا ريب أننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك المهمة، ولكن أول عمل قمت به لنا هو الحديث عن الصلاة. لقد كان أول جهودكم هنا هو بث الفرقة بين أهل هذا المجلس .

فأجابه بديع الزمان مشيرًا إليه بإصبعه في حدة :

(باشا .. باشا) إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة. وإن الذي لا يصلى خائن. وحكم الخائن مردود) .

كانت النتيجة أن فكر أتاتورك في إبعاده عن أنقره بحجة تعيينه واعظًا عامًّا للولايات الشرقية، وبمرتب مغر، ولكن النورسى رفض هذا الطلب(2) .

من المثالين السابقين يتضح لنا مدى وعى سعيد بالمفهوم الخلقى القرآني، في مواجهة الأحداث عبر سلوك يلتزم بقيم الإسلام ويستمسك بجوهرها، دون أن يرهبه موت أو يغريه عطاء، وهو ما ركز عليه في معالجته للقيم الخلقية الإسلامية، حيث يؤكد على ضرورة استيعاب هذه القيم فكرًا وسلوكًا حتى تكون شخصية المسلم جديرة بالانتساب إلى الإسلام، وإقامة المجتمع الإسلامي القوي .

ويلاحظ أن بديع الزمان في فهمه لفلسفة الأخلاق القرآنية، كان ينطلق من قاعدة بناء المسلم الفرد، ليستقيم المجتمع الإسلامي ككل، وكثيرًا ما يمزج بين التربية الخلقية الفردية، والتربية الخلقية الجماعية، لتؤدى القيمة دورها في بناء الطرفين، وتشييد المجتمع الإسلامي المأمول .

إن منهج بديع الزمان يقوم في توصيفه للقيمة الخلقية عن الانطلاق من الآيات القرآنية الكريمة التى تتناولها، مع الاسترشاد بالحديث الشريف، ثم يدعو إلى التطبيق من خلال سرد الأدلة العقلانية المؤيدة للقيمة، سواء كانت حدثًا تاريخيًّا قديمًا أو معاصرًا ، أو حدثًا شخصيًّا عايشه ومرّ به أو افتراضًا واقعيًّا يصل إلى إثبات صحته .. وهذا ما يجعل منه وزنًا حقيقيًّا ومؤثرًا، وإذا عرفنا أن كثيرًا من القضايا التى تناولتها (رسائل النور) جاءت ردًّا على أسئلة طلاب النورسي وتلاميذه، أدركنا مدى اقترابها من الواقع والحياة؛ حيث يكون السلوك القيمي غالبًا أساس كثير من هذه القضايا، ولعل هذا ما يجعل لاستشهاداته بالحوادث والوقائع التى عايشها، ومر بها، تأثير كبير في الإقناع والقبول .

لقد عالج الإمام الغزالي _ رحمه الله _ في إحياء علوم الدين، وشرحه لأسماء الله ا لحسنى، فلسفة الأخلاق القرآنية، وتعمق الرجل في الحديث عن القيم الخليقة إلى درجة مدهشة، ومن يتأمل حديث النورسى عن هذه القيم يلحظ تشابهًا كبيرًا بين الرجلين، وإن كان كل منهما ينتسب إلى لغة خاصة وزمن خاص وواقع خاص. فالغزالى ينتسب إلى القرن الخامس الهجري وكانت فيه بلاد الإسلام لما تزل قوية، والنورسى ينتسب إلى القرن الرابع عشر الهجرى، وصارت فيه بلاد الإسلام قصعة الأمم.. لغة الغزالى تبدو أقرب إلى الأكاديمية التى تخاطب العقل أولاً، أما لغة النورسى فتبدو أقرب إلى الجماهير العامة التى تخاطب القلب أولاً. وفي اللغتين عقل وقلب، وجوهر واحد تقريبًا، وسنشير إلى بعض النماذج في ثنايا الورقة إن شاء الله ، ولكن ما نود التأكيد عليه هنا، أن دور النورسى في مرحلة انهيار الخلافة الإسلامية وتمزيق العالم الإسلامي شر ممزق، كان دورًا مهمًّا للغاية، فقد توقع هذه الكارثة، ونبه الحكام إلى أن القرن الجديد (العشرين الميلادي) قرن العلم. ولا تكفي فيه المدارس الدينية التى تكتفى بدراسة العلوم الشرعية، ولكن أحدًا من الحكام لم يلتفت إلى تنبيه النورسى، وكان عليه أن يحمل هموم الأمة ، ويقوم بأعباء الرسالة التى نذر لها نفسه وحياته وكل لحظة من وقته بعيدًا عن المحافل السياسية وأروقتها، وانكب على تأليف رسائل النور ونشرها بين طبقات الأمة في ظروف غاية في الدقة والصعوبة ليهييء بها مجتمعًا إسلاميًّا كاملاً يتدفق بالإيمان والحيوية(1) .

ويمكن القول: إن رسائل النور قد تناولت معظم القيم الخلقية الإسلامية إن لم يكن كلها بطريقة وأخرى، وإن كانت (اللمعات) على وجه خاص قد احتشدت لها بطريقة مركزة، وفي رسائل النور نستطيع أن نجد تناولاً للقيم الإيجابية والسلبية، فهناك من الأولى:

الإخلاص، الأخوة، الاستغفار، الاستقامة، الاقتصاد، الأمانة، الإنصاف، الإيثار، التربية الإسلامية، التنظيف والتطهير، التواضع، العفة، التوكل، التساند، التعاون، التضحية، الحب ، الحسنة ، الخير، الشجاعة، السخاء، الصبر، الصدق، العدل، العزة، العمل، الكرامة، الكرم، المحبة، الوفاء، الهمة…

ومن الأخرى:

الإفراط والتفريط، الإسراف، البخل، البدعة، التخريب، التكبر، الحرص، عشق الدنيا، الرياء، السفاهة، السيئة، الشهرة، الشهوات، العبث، الغرور، الكبائر، الإعجاب بالنفس، الأنانية، الهوى …

وقد يتناول النورسى كل قيمة من هذه على حدة، وقد يتناول القيمة الإيجابية ونقيضتها السلبية في آن واحد، وفق الموقف الذي يعالجها من خلاله.

وفيما يلى سنرى كيف عالج النورسى بعض هذه القيم، وأقول بعض، لأن الإلمام بها جميعًا يحتاج إلى كتاب ضخم، لا تحتمله هذه المناسبة .

(2)

أولى القيم الإيجابية وعمدتها لدى النورسى، قيمة (الإخلاص) ولأهميتها، فقد أفرد لها رســــالتين في (اللمعات) (العشرين ، والحادية والعشرين)، فضلاً عن إشارات أخرى عديدة في أكثر من لمعة، وأكثر من مكان في رسائله العظيمة.

ويقوم تناوله لقيمة الإخلاص على تأمل الآية الكريمة {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلاَ لِلَّهِ الدِّيـــنُ الْخَالِصُ } (الزمر : 2) ، وقول الرسول e(هلك الناس إلا العالمون، وهلك العالمون إلا العاملون ، وهلك العاملون إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم) .

ويرى أن الآية الكريمة تدلنا مع الحديث الشريف على مدى أهمية الإخلاص في الإسلام، ويجيب على سؤال مهم ومثير للدهشة من خلال سبعة أسباب تبين لماذا يختلف أصحاب الدين والعلم وأرباب الطرق الصوفية، وهم أهل حق ووفاق ووئام، بالتنافس والتزاحم، في حين يتفق أهل الدنيا والغفلة والضلالة والنفاق من دون مزاحمة ولا حسد فيما بينهم، مع أن الاتفاق من خصائص الأولين والخلاف ملازم لأهل الشقاق والنفاق؟

إن الأسباب السبعة تستغرق اللمعة العشرين كلها على طولها وإفاضتها، ولكنه يستطرد في اللمعة الحادية والعشرين لمزيد من تجلية قيمة الإخلاص من خلال المفاهيم القرآنية في قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ، وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} ( البقرة: 238)، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 9، 10) . وقوله تعالى : {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} ( البقرة: 41) ، ويقوم على ضوئها ثلاثة أسس أو دساتير للإخلاص، وأيضًا ثلاثة موانع له .

ويرى النورسى أن اختلاف أهل الحق غير نابع من فقدان الحقيقة، كما أن اتفاق أهل الغفلة ليس نابعًا من ركونهم إلى الحقيقة، بل إن وظائف أهل الدنيا والسياسة والمثقفين وأمثالهم من طبقات المجتمع قد تعينت وتميزت، ولكل منهم مهمته الخاصة التى ينشغل بها، وأُجرته عليها متميزة ومتعينة أيضًا، فضلاً عما يأخذه من أجرة معنوية كحب الجاه وذيوع الصيت والشهرة.. فليس هناك إذًا ما يولد منافسة أو مزاحمة أو حسدًا فيما بين هؤلاء، وليس هناك ما يوجب المناقشة والجدال، لذا تراهم يتمكنون من الاتفاق مهما سلكوا من طرق الفساد .

أما أهل الدين وأصحاب العلم وأرباب الطرق الصوفية، فإن وظيفة كل منهم متوجهة إلى الجميع، وإن أجرتهم العاجلة غير متعينة وغير متخصصة، كما أن حظهم من المقام الاجتماعي وتوجه الناس إليهم والرضا عنهم لم يتخصص أيضًا . فهناك مرشحون كثيرون لمقام واحد، وقد تمتد أيد كثيرة جدًّا إلى أية أجرة، مادية كانت أو معنوية ، ومن هنا تنشأ المزاحمة والمنافسة والحسد والغيرة، فيتبدل الوفاق نفاقًا، والاتفاق اختلافًا وتفرقًا .

ويرى النورسى أنه لا يشفى من هذا المرض العضال إلا مرهم الإخلاص الناجع، أي أن ينال المرء شرف الامتثال للآية الكريمة : {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّه} (يونس: 72) . بإيثار الحق والهدى على اتباع النفس والهوى، وبترجيح الحق على أثرة النفس، وأن يحصل له امثتال بالآية الكريمة : {وَمَا عَلَى الرَّسُـــولِ إِلاَّ الْبَــــلاَغُ الْمُبِين} (النور: 54) باستغنائه عن الأجر المادى والمعنوى المقبلين من الناس ، مدركًا أن استحسان الناس كلامه وحسن تأثيره فيهم ونيل توجههم إليه هو مما يتولاه الله سبحانه وتعالى، ومن إحسانه وفضله وحده، وليس داخلاً ضمن وظيفته التى هي منحصرة في التبليغ فحسب، فمن وفقه الله إلى ما ذكر آنفًا يجد لذة الإخلاص، وإلا يفوته الكثير(1).

إن الدنيويين الغافلين يحصرون نظرهم حصرًا في الحياة الدنيا فهي أكبر همهم ومبلغ علمهم، وتراهم يرتبطون معها بأوثق رباط، وبكل ما لديهم من مشاعر وروح وقلب. فأيما شخص يمد لهم يد المساعدة يستمسكون بها بقوة، فهم يحصرون وقتهم الثمين جدًّا في قضايا دنيوية لا تساوى شيئًا في الحقيقة لدى أهل الحق(2) .

إن النورسى ، ومن خلال خبرته الحياتية والدعوية يرى أن الحسد والمنافسة نتاج لعدم الإخلاص، وأن الأعمال الصالحة التىتفضى إلى الآخرة لا مجال فيها للتنافس أو التحاسد، فمن تحاسد فهو لاشك مراء يتحرى مغانم دنيوية تحت ستار الدين ويبحث عن منافع باسم العمل الصالح، أو إنه جاهل صادق لا يعلم أين وجهة الأعمال الصالحة ولم يدرك بعد أن الإخلاص روح الأعمال الصالحة وأساسها(1) .

ويشير النورسي إلى أن العلاج الوحيد للتحاسد ويسميه بـ (المرض) ، هو : اتهام المرء نفسه، والانحياز إلى جهة رفيقه في نهج الحق وعدم الانحراف عن دستور الإنصاف، أي إن طالب الحق المنصف يسخط نفسه لأجل الحق، وإذا ما رأى الحق لدى خصمه رضى به وارتاح إليه(2) .

ويخاطب النورسى تلاميذه قائلاً:

(اعلموا أن قوتكم جميعًا في الإخلاص والحق. نعم! إن القوة في الحق والإخلاص. حتى إن أهل الباطل يحرزون القوة لما يبدون من ثبات وإخلاص في باطلهم.

نعم! إن خدمتنا هذه في سبيل الإيمان والقرآن هي دليل بذاتها على أن القوة في الحق والإخلاص . فشيء يسير من الإخلاص في سبيل هذه الخدمة يثبت دعوانا هذه ويكون دليلا عليه)(3) .

ويحدد النورسى في نهاية الأمر ثلاثة موانع للإخلاص هي:

أولاً: الحسد الناشئ من المنافع المادية، وسبقت الإشارة إليه، وإلى طرق العلاج منه.

ثانيًا: حب الشهرة وذيوع الصيت أو إعطاء ما يداعب أنانية النفس الأمارة بالسوء.

ثالثًا: الخوف والطمع .

ومن الأمثلة الواقعية البسيطة التى يضربها النورسى، ليقنع الناس بما يقول، هذا المثل الذي يضربه لإدامة الإخلاص.

يقول:

 (يحصل الصناعيون وأهل الحرف على الإنتاج الوفير وعلى ثروة هائلة نتيجة اتباعهم قاعدة (المشاركة في الصنعة والمهارة) وإليك المثال:

قام عشرة من صناع إبر الخياطة بعملهم، كل على انفراد، فكانت النتيجة ثلاث إبر فقط لكل منهم في اليوم الواحد .. ثم اتفق هؤلاء الأشخاص حسب قاعدة (توحيد المساعى وتوزيع الأعمال) فأتى أحدهم بالحديد والآخر بالنار، وقام الثالث بثقب الإبرة والآخر بإدخالها النار والآخر بدأ يحدها.. وهكذا فلم يذهب وقت أحد سدى، حيث انصرف كل منهم إلى عمل معين وأنجزه بسرعة؛ لأنه عمل جزئي بسيط أولاً، ولاكتسابه الخبرة والمهارة فيه ثانيًا _ وحينما وزعوا حصيلة جهودهم رأوا أن نصيب كل منهم في يوم واحد ثلاثمائة إبرة بدلاً من ثلاث إبر .. فذهبت هذه الحادثة أنشودة يترنم بها أهل الصناعة والحرف، الذين يدعون إلى توحيد المساعى وتوزيع الأعمال)(1) .

وإذا كانت هذه الفوائد العظيمة نتيجة الانفاق في الأعمال الدنيوية فكم يكون يا ترى ثواب أعمال أخروية ونورانية! وكم يكون الثواب المنعكس من أعمال الجماعة كلها بالفضل الإلهي في مرآة كل فرد منها !.

إن الفوائد العظيمة دنيويًا وأخرويًا كفيلة بإدامة الإخلاص بين المسلمين ، ثم إنها تدفعهم إلى التعاون والتلاحم لتجاوز صعوبات الحياة ، والتغلب على مشكلاتها ، والتساند لإقامة الدين ونشره ومواجهة خصومة ، ومن هذا المنطلق فإن المسلم يترك أوجه الاختلاف ويحرص على أوجه الانفاق ، خاصة وأن دساتير الإخلاص تحقق وحدة الأمة ، أو الجماعه ، وترابط المسلمين في كل مكان

إن النورسى يعد الإخلاص محور النجاة ومدارها بالنسبة للمسلمين والإخلاص يجب أن يشمل كل شئ في حياة المسلم ، ويرى أن ذرة من حب خالص تفضل على أطنان من الحب الصورى الشكلى ، وهو ما عبر عنه شاعر قديم بقوله:

وما أنا بالباغي على الحب رشوة

           ضعيف هوى يبغى عليه ثواب(2)

إن رؤية النورسى تتلاقي في مجملها مع رؤية  أبى حامد الغزالي للإخلاص ، وإذا كان النورسى قد انطلق من الواقع الذي يحياه تلاميذه ومجتمعه معتمدًا على المعطيات القرآنية والسنة النبوية وأحداث التاريخ والحياة ، فإن الغزالي يبدو أقرب إلى (( الأكاديمية )) التى تلجاً إلى منهجية التعريف والأدلة والبراهين ثم الوصول إلى النتائج ، من خلال لغة تبدو موجهة للخاصة قبل العامة.

يبين الغزالي حقيقة الإخلاص فيقول (( اعلم أن كل شئ يتصور أن يشوبه غيره ، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمى خالصًا ويسمى الفعل المصفى المخلص إخلاصًا. قال الله تعالى:

(( مِنْ بَيْنِ فَرْثِ وَدَمِ لَبَنّا خَالِصَا سَائِغًا لِلشًارِبِين))(النحل66) ، فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل ما يمكن أن يمتزج به. والإخلاص يضاده الإشراك ، فمن ليس مخلصًا فهو مشرك ، إلا أن الشرك درجات ، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية ، والشرك منه خفى ومنه جلى ، وكذا الإخلاص ، والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب ، وإنما يكون في القصود والثبات ، وقد ذكرنا حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث ، فمهما كان الباعث واحدًا على التجرد سمى الفعل الصادر إخلاصًا بالإضافة إلى المنوى ، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص ، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص ، ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب))(1) .

ويستمر الغزالي في شرح حقيقة الإخلاص  ، وما يلتبس به من مفاهيم حتى يصل إلى مفهوم التجريد قصد التقرب إلى الله تعالى ، وتخليص العمل من كل الشوائب قليلها وكثيرها ، وهو ما لا يفعله إلا محب لله مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق لحب الدنيا قي قلبه قرار.. (2)

إن الغزالي يمضى في شرح حقيقة الإخلاص ، متتبعًا دقائقه مستعينًا بأمثلة وحكايات تؤكد ما يذهب إليه ، كما يسجل أقاويل الشيوخ في الإخلاص ، ثم يتحدث عن درجات الشوائب والآفات المكدرة للإخلاص ، وهي تعادل ( موانع الإخلاص) التى ذكرها النورسى ، ومنها : الرياء ، والخوف والرجاء ، ويفيض الغزالي في شرح دور الشيطان ووسوسته للمؤمن كي يشوب إخلاصه بهذه الموانع(3)

ولا شك أن التقارب في الحديث عن حقيقة الإخلاص وشوائبه بين النورسى والغزالي يؤكد على وعي الرجلين بقيمة الإخلاص بوصفها أساسًا خلقًيا تقوم علية حياة المسلم ونهضة المسلمين وعزتهم وقوتهم في الدنيا ، وقبولهم عند الحق سبحانه في الآخرة.

ويمكننا أن نعد هذه المقارنة السريعة بين تناول قيمة الإخلاص لدى الرجلين موجودة بمشابهاتها المتعددة في تناول بقية القيم الخلقية الإسلامية ، سواء في رسائل النور للنورسي ، أو إحياء علوم الدين ، وأسماء الله الحسنى للغزالي.

(3)

وإذا كانت قيمة الإخلاص في الأخلاق الإسلامية هي القيمة المحور والأساس ، فإن النورسي يعطي قيمة الأخوة بين المسلمين اهتمامًا خاصًا ، فالأخوة ، وهي قرين المحبة عند النورسي ، محور من محاور بناء الأمة وصياغتها وفقًا للمفاهيم الإسلامية ، ويقيم النورسي فهمه لقيمة الأخوة والمحبة على أساس تعميق محبة الله في قلوب المسلمين ، لأنها أس الحراك الاجتماعي في حياتهم ، وهي الموجه للعديد من سلوكيات المسلمين.

لقد خصص النورسى المكتوب الثاني والعشرين من المكتوبات لمعالجة قيمة الأخوة ، وانطلق من الآيات الكريمة التالية ليؤكد على أهمية هذه القيمة في معالجة جروح المسلمين وبنائهم ذاتًيا وإنسانيًا:

–        ( إِنًمَا الْمُوْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحْوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ )(الحجرات:10).

–        ( ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنًهُ وَلِيٌ حَمِيمٌ) (فصلت:24).

–        وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعَافِينَ عَنِ النَََاس وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ( آل عمران: 25).

ويطرح النورسي أسباب الشقاء التى تعصف بالمسلمين ، وهي التحايز والعناد والحسد والنفاق  والحقد والغل والعداء… إن هذه الأمراض مرفوضة ، ترفضها الحقيقة والحكمة ، ويرفضها الإسلام الذي يمثل الروح الإنسانية الكبرى ، وإن العداء – على وجه الخصوص – ظلم شنيع يفسد حياة البشر الشخصية والاجتماعية والمعنوية ، بل هو سم زعاف لحياة البشر قاطبة(1).

ويعدد النورسى ستة أوجه من وجود كثيرة لهذه الحقيقة ، ويضرب الأمثلة على ذلك ليؤكد أن عداء الإنسان لأخيه ظلم في نظر الحكمة وضرر بالغ يصيب الحياة الاجتماعية وزعزعة لحياة المؤمن المعنوية وتضيع للإخلاص.

إن العداء والمحبة نقيضان – كما يقول النورسي – فهما كالنور والظلام لا يجتمعان بمعناهما الحقيقي أبدًا ، فإذا ما اجتمعت دواعى المحبة وترجمت أسبابها فأرسلت أسسها في القلب ، استحالت العداوة إلى عداء  صورى ، بل انقلبت إلى صورة العطف والإشفاق ، إذ المؤمن يحب أخاه ، وعليه أن يوده ، فأيما تصور مشين يصدر من أخيه يحمله على الإشفاق عليه ، وعلى الجد في محاولة إصلاحه باللين والرفق دون اللجوء إلى القوة والتحكم. فقد ورد في الحديث الشريف:

( لا يحل لمسلم ان يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) أخرجه البخاري ومسلم.

أما إذا تغلبت أسباب العداوة والبغضاء وتمكنت في القلب، فإن المحبة تنقلب عندئذ إلى محبة شكلية تلبس لبوس التصنع والتملق(1).

ويلخص النورسى علاقة المسلم بالمسلم بقولة:

(( إن لم تكن تصرفات المؤمن وحركاته فوق الدساتير السامية التى وضعها الحديث الشريف:(الحب في الله والبغض في الله) والاحتكام إلى الله في الأمور كلها ، فالنفاق والشقاق يسودان… نعم ، إن الذي لا يستهدى بتلك الدساتير يكون مقترفًا ظلمًا في الوقت الذي يروم العدالة.

ويروى النورسى حادثة ذات مغزى وعبرة:

في إحدى الغزوات الإسلامية ، كان الإمام على رضى الله عنه يبارز أحد فرسان المشركين فتغلب عليه الإمام وصرعه. فلما أراد الإمام ان يجهز عليه تفل على وجه الإمام. فما كان من الإمام إلا أن أخلى سبيله وانصرف عنه ، فاستغرب المشرك من هذا العمل.

فقال: إلى أين؟

قال الإمام: كنت أقاتلك في سبيل الله ، فلما فعلت ما فعلت خشيت أن يكون قتلى إياك فيه ثأر لنفسي فأطلقتك لله.

فأجابه الكافر: كان الأولى أن تثيرك فعلتي أكثر فتسرع في قتلي! وما دمتم تدينون بدين هو في منتهى السماحة فهو بلا شك دين الحق(1).

إن النورسى يدرك ما أصاب المسلمين وخاصة في العصر الحديث بسبب الشقاق والتفرق والتحزب والخلاف! لذا يعيب عليهم أمراضهم هذه ، ويذكرهم أن أشد القبائل تأخرًا يدركون معنى الخطر الداهم عليهم ، وينبذون خلافاتهم الداخلية وعدواتهم الجانبية عند إغارة العدو الخارجي عليهم… ويصف النورسى بقاء دعاة الإسلام أسرى لعداواتهم الجزئية الطفيفة بأنها تمثل تدهورًا مخيفا ، وانحطاطَّا  مفجعًا ، بل خيانة بحق الإسلام والمسلمين(2).

ويخاطب النورسى المؤمنين قائلاً:

( إن كنتم تريدون حقًا الحياة العزيزة ، وترفضون الرضوخ لأغلال الذل و الهوان ، فأفيقوا من رقدتكم وعودوا إلى رشدكم ، وادخلو القلعة الحصينه المقدسة: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) (الحجرات10) ، وحصنوا أنفسكم بها من أيدى أولئك الظلمة الذي يستغلون خلافاتكم الداخلية(3)… بيد أن النورسي ، هو بأسى لحال دعاة الإسلام وأحوال المسلمين ، يرى أن الأخوة لا تؤسس إلا على الإيمان ، فالإيمان يؤسى الأخوة بين كل شئ ، لا يشتد الحرص والعداوة والحق والوحشة في روح المؤمن ، إذ بالدقة يرى أعدى عدوه نوع أخ له. أما الكافر فيشتد حرصه وعدواته وحبه لنفسه لأنه يرى في الدنيا مكافأة حسناته ، ويرى المؤمن جزاء بعض سيئاته في الدنيا. إنها سجن المؤمن وجنة الكافر.

الإيمان يرى تحت القشر الفاني لبًّا لطيفًا رصينًا ويرى ما يتوهم حبابًا مشمسًا زائلاً ، ألماسًا متنورًا ، والكفر يرى القشر لبًّا فيتصلب فيه فقط ، فتنزل درجة الإنسان من الألماس: إلى الزجاجة بل إلى الجمد ، بل إلى الحباب ، وهكذا شاهدت(4)

إن الإيمان والإسلام والإنسانية وأمثالها من السلاسل النورانية المتينة والحصون المعنوية المنيعة هي من أسباب المحبة عند النورسى. أما أسباب العدواة والبغضاء تجاه المؤمن فإنما هي أمور خاصة تافهة تفاهة الحصى. لذا فإن إضمار العداء لمسلم إضمارًا حقيقيًّا ، إنما هو خطاََ جسيم لأنه استخفاف بأسباب المحبة التى هي أشبه بالجبال – إن الود والمحبة والأخوة هي من طباع الإسلام وروابطه ، والذي يحمل في قلبه العداء ، فهو أشبه ما يكون بطفل فاسدا المزاج يروم البكاء بأدنى مبرر للبكاء. أو أشبه ما يكون برجل متشائم لا يحسن الظن بشئ ما دام سوء الظن ممكنََا ، فيحجب عشر حسنات للمرء بسيئة واحدة. ومن المعلوم أن هذا مناف كلََّيا للخلق الإسلامي القاضي بالإنصاف وحسن الظن(1).

ولا ريب أن الركيزة الأولى في هذا كله هي محبة الله؛ لأنها تحقق نجاة الإنسان من الوحشه الهائلة التى تلف حياته الدنيا ، وتشفيه من الغربة الأليمة التى يحسها إزاء الكون ، وتشعره بالأنس المعنوى في الدنيا والآخرة معًا ، كما تشعره بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية ليصل بهذه المحبة إلى مرتبة الإنسان الكامل(2).

إن محبة الله احتياج إنساني أصيل يسهم في تشكيل حياة الفرد والمجتمع تحت ظلال الإسلام ، فمحبة الله – كما رأينا – تحرر الإنسان من كل ما عدا الله ، وترتقى بروحه ووجدانه وتتغلب على معظم الأحاسيس المادية الدنيئة.

إن المحبة الإلهية تحقق الوجود الإنساني الحقيقي ، بانسياق لطائفة جميعًا إلى ما خلقت من أجله ، لأنها تحرك قلب الإنسان الذى يعد مركزًا لجسمه ، ولولبًا لحركته ، وتوجهه إلى الله ، فيندفع بذلك كثير من اللطائف الإنسانية إلى الحركة والظهور ، فتتحقق حقيقة الإنسان(3).

إن محبة الله ، أساس الإيمان ، والإيمان طريق الأخوة ، والأخوة تعنى تماسك المجتمع وتسانده وتعاضده وقوته وعزته ، وهذا ما ألح عليه النورسى من خلال المفاهيم القرآنية والسنة النبوية وأحداث الواقع والتاريخ ، وهو أيضًا ما جعل مفهوم الأخوة يحتل مساحة كبيرة في رسائل النور سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

وقد اهتم الغزالي في معالجته لمفهوم الأخوة اهتماما عظيمًا بقيمتها الخلقية في الإسلام ، فخصص لها في إحياة علوم الدين ، كتاب (( آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق)) يتحدث فيه عن فضيلة الألفة والأخوة ، ومعنى الأخوة في الله ، من خلال الحب في الله والبغض في الله  ومعني المحبة في الله تعالى ، والحب لله وفي الله ، والبغض في الله ، ومراتب الذين يبغضون في الله. والصفات المشروطة فيمن تختار صحبته ، وحقوق الأخوة والصحبة ، وحق الأخوة في المال ، وحق الأخوة في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات ، وحقوق الأخوة من جهة اللسان ، والحق على اللسان بالنطق ، والعفو من الزلات والهفوات ، والدعاء للأخ في حياته وبعد مماته ، والوفاء والإخلاص والتخفيف وترك التكلف والتكليف ، وشروط الأخوة في الله ، وآداب العشرة والمجالسة مع أصناف الخلق … الخ ، وهو ما استغرق مساحة كبيرة أيضًا في الجزء الثاني من إحياء علوم الدين ، نكتفي بالإشارة إليها لضيق المجال.

(4)

وإذا كان النورسى قد توقف عند بعض القيم الخلقية وقفات مركزة تستقضى جوانبها الدقيقة من خلال مفاهيمها القرآنية ، فإنه عالج قيمًا أخرى من خلال منظور شامل يربط بينهما برباط عضوى لا ينفصم ، بل إنه يربطها أيضًا بقيم الإخلاص والأخوة والمحبة… ولعل تناوله لقيم التعاون والعمل والسلام والرحمة والشفقة والعدل. على سبيل المثال ، يؤكد هذا الربط ، الذي يصب في بناء الفرد والمجتمع تحت ظلال الإسلام. إن حشد الكائنات وجمعها حول الإنسان ضمن حكمة إلهية مقدرة ، وجعل كل منها يمد يد العون إليه لدفع  حاجاته المتزايدة ، نابع – كما يقول النورسى – من إحدى حالتين اثنتين: فإما ان كل نوع منة أنواع  الكائنات يعرف الإنسان ويعلم به فيطيعه ويسعى لخدمته ، أي أن هذا الإنسان الغارق في عجز مطلق يملك قدرة سلطان مطلق !! ( وهذا بعيد كل البعد عن منطق العقل فضلاً عما فيه من محاولات لا تحد) …

أو إن هذا التعاون ولإمداد إنما يتم بعلم محيط لقادر مطلق محتجب وراء الكائنات… أي إن أنواع الكائنات لا تعرف هذا الإنسان لتمد له يد العون ، وإنما هي دلائل على من يعرف هذا الإنسان ويرحمه ويعلم بحاله .. وهو الخالق الرحيم(1).

قيمة التعاون هنا ، قيمة إلهية ، فقد سخرت الكائنات لتمد يد العون للإنسان رحمة به وشفقة عليه ، وكان من المفترض أن تعم هذه القيمة النابعة من (( بسم الله الرحمن الرحيم)) بنى الإنسان ، ولكنهم للأسف تناسوها ، والتفتوا إلى أنفسهم وذواتهم ، وكانت الأنانية هي البديل الذي أشعل الصراع بين الإنسان والإنسان وكانت الحروب والصراعات ، وقبل ذلك جحود الخالق ونسيان فضله… ولعل هذا هو ما جعل النورسى يشدد على انتقاده للأوربيين أو (( أوروبا الثانية الفاسدة)) التى تستند إلى أسس واهية نخرة ، فتزعم أن كل كائن حي ملك لنفسه ، ابتداء من أعظم مللك إلى أصغر سمك ، كل يعمل لذاته فقط ، ولأجل نفسه فحسب ، ولا يسعى أحد إلا للذاته الخاصة ، ولأجل هذا له حق الحياة ، فغاية همه وهدف قصده هو ضمان بقائه واستمرار حياته. إن أوربا تحسب أن (( قانون التعاون)) الجاري بين المخلوقات امتثالاً لأمر الخالق الكريم وتحسب السنه الآلهية وتلك التجليات الكريمة الرحيمة المنبعثة من ذلك التعاون العام… تحسب ذلك جدالآً وخصامًا  وصراعََا ، حتى حكمت ان الحياة جدال وصراع(2).

إن المخلوقات تقوم بخدمة غيرها ، وتجد في ذلك لذة تفوق كل شئ؛ لأنها تمتثل لقانون التعاون الذي صنعته السنة الإلهية. إن اللذة كامنة في الوظيفة نفسها ، والموجودات تقوم بأداء هذه الوظيفة التعاونية في غاية اللذة والمتعة ما دامت تكسب بها مرتبة نورانية سامية ، إن الديك – مثلاً – يؤثر الدجاجات على نفسه ، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه إلهين دون أن يأكل ، ويشاهد أنه يقوم بهذه المهمة وهو في غاية الشوق وعز الافتخار وذروة اللذة… فهناك إذًا لذة في تلك الخدمة أعظم من لذة الأكل نفسه. وكذا الحال مع الدجاجة – الراعية لأفراخها – فهي تؤثرها على نفسها ، إذ تدع نفسها جائعة في سبيل إشباع الصغار ، بل تضحى بنفسها في سبيل الأفراخ ، فتهاجم الكلب المغير عليها لأجل الحفاظ على الصغار(1).

إن موجودات الكون بأنواعها المختلفة تتعاون فيما بينها تعاونًا وثيقًا ، ويسعى كل منها لتكملة الآخر ، وهذا التعاون والتساند والتجاوب والتعانق يجعل الكون وحدة واحدة تتعصى على الانقسام والانفكاك(2).

إن زمننا هو زمن الجماعة وليس زمن الفرد ، ومواجهة المد الإلحادي والانقسامات والضعف ، لا يتحقق إلا من خلال تأصيل قيم الأخوة والتعاون القائمة على الثوابت القرآنية.

إن النورسى ينظر إلى ما وراء القيم ليفسر أو يحاول تفسير الحكمة من وضعها أو فرضها ، وليقنع بالعقل والمنطق أنها لصالح الإنسان بصفة عامة ، والإنسان المخلص بصفة خاصة. إنه يرى أن هناك ثوابًا معجلاً لأعمال البر والحسنات ، وعقاًبا معجلاً لأعمال الفساد والسيئات. والإنسان المسلم يستشعر الثواب والعقاب. إن الحسنات تحمل في طياتها لذائذ وجدانية مما يذكر بنعم الآخرة والسيئات تحمل في ثناياها عذابات معنوية تشعر بعذاب الآخرة الأليم(3).

ويطبق النورسى هذا المفهوم على قيمة السلام والعداء ، فيرى أن إفشاء المحبة والسلام في صفوف المؤمنين ، إنما هو حسنة كريمة للمؤمن ، فله ضمن هذه الحسنة لذة معنوية وذوق وجداني وانشراح قلبي ما يذكر بثواب الآخرة المادى ، ومن يتفقد قلبه يشعر بهذا الذوق.

وإن بث الخصومة والعداء بين المؤمنين إنما هو سيئة قبيحة. فهذه السيئة تنطوى على عذاب ، وجداني ، وأى عذاب ، بحيث يأخذ بخناق القلب والروح معًا ، فكل من يملك روحًا حساسة وهمة عالية يشعر بهذا العذاب. ويضرب النورسى مثلاً بنفسه ، ويذكر أنه مر بأكثر من مائة تجربة على هذا لنوع من السيئات ، فكلما ((حملت عداء على أخ مؤمن تجرعت عذاب تلك العداوة ، حتى لم يبق لي ريب من أن هذا العذاب هو عقاب معجل لسيئتى التى ارتكبتها فأعاقب عليها و أعذب بها))(1).

إن تحقيق قيمة السلام داخل النفس ، ينسحب على المجتمع ، مع الأفراد والطبقات ، مما يعنى إقامة بناء مجتمع قوى يخلو من شرور الفرقة والآختلاف ، ويؤصل للأخوة والمحبة ، وهو أيضًا ما يتمثل في قيم الرحمة والشفقة والاحترام والرأفة ، فتوفير الجديرين با الاحترام والرأفة. وإبداء العطف والرحمة لمن يستحقة عمل صالح وحسنة للمؤمنين ، وفي هذه الحسنة تمكن لذة عظيمة ومتعة وجدانية إلى حد قد تسوق صاحبها إلى التضحية حتى بحياته. انظر إلى اللذة التى تكسبها الوالدات من بذل شفقتهن لأولادهن ، حتى أنها تمضى في سبيل تلك الرأفة والشفقة إلى الجود بنفسها.

في الاحترام والرأفة ، والشفقة والرحمة أجرة معجلة ، يشعر بها وبلذاتها أولئك الذين يملكون أرواحًا عالية ونفوسًا أبية شهمة(2).

ويعالج النورسى بعض القيم الخلقية من زاوية ما تثيره من التباس لدى بعض الناس ، ويكشف عن مفاهيمها الأصلية من منظور قرآنى ، تؤيده الأمثلة والأدلة التاريخية والواقعية. فهو مثلاً يعالج قيمة العمل ليؤكد على أن العمل الإيجابي البناء يأتى امتثالاً لأمر الله سبحانه دون ربطه بالنتائج ، فالذين يعملون في طريق الحق ويجاهدون في سبيله ، يجب ألا يفكروا فيما يخص شئون الله سبحانه وتدبيره ، أو يبنوا أعمالهم عليه فيخطئون.

ورد في كتاب (( أدب الدنيا والدين)) أن إبليس – لعنه الله عليه – حين ظهر لعيسى ابن مريم علية السلام ، قال: ألست تقول: إنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم. قال فارم نفسك من ذروة هذا الجبل؛ فإنه إن يقدر لك السلامة تسلم ، فقال له: يا ملعون! إن لله أن يختبر عبده ، وليس للعبد أن يختبر ربه.

أي إن الله سبحانه هو الذي يختبر عبده ، ويقول له: إذا علمت هكذا سأوفيك بكذا ، أرأيتك تستطيع القيام به؟ يختبره… ولكن العبد ليس له الحق ، ولا في طوقه أصلاً أن يختبر ربه ويقول:

إذا قمت بالعمل هكذا فهل تعمل لي كذا؟ فهذا الأسلوب من الكلام الذي يومئ بالاختبار سوء أدب تجاه الربوبية ، وهو مناف للعبودية. فما دام الأمر هكذا ، فعلى العبد أن يؤدى واجبه ولا يتدخل بتدبير الله سبحانه وقدرة.

ومن أمثلة التاريخ يضرب النورسى مثلا آخر:

كان جلال الدين خوارزم شاه ، هو أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة ، كان يتقدم جيشه إلى الحرب ، فخاطبه وزراؤه ومقربوه: سيظهرك الله علي عدوك وتنتصر عليهم!.

فأجابهم: (( عليّ الجهاد في سبيل الله اتباهًا لأمره سبحانه ولاحق لي فيما لم أكلف به من شئونه ، فالنصر والهزيمة من تقديره سبحانه)) ، ولبلوغ هذا البطل العظيم إدراك هذا السر الدقيق في الاستسلام إلى أمر الله والانقياد له ، كان النصر حليفة في أغلب الأحيان نصرًا خارقًا.

نعم إنه ينبغى ألا يفكر الإنسان – بما لديه من الجزء الاختياري – بالنتائج التى يتولاها الله سبحانه(1).

إن العمل الإيجابي النباء – كما يراه النورسى – علاج للغرور والأنانية ، لأنه عمل المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب ، من دون أن يرده إلى تفكيره ، أو يتدخل في عمله عداء الآخرين أو التهوين من شأنهم ، أي لا ينشغل بهم أصلاً(2).

لقد قام النورسي بتناول أسماء الله الحسنى ، ومن خلال شروحه لها قام بتأصيل معظم القيم الخلقية التى تستند إلى التداخل بين صفات الخالق وقيم المخلوق ، ومن ثم فقد جاءت شروح النورسى للأسماء الحسنى مثل العدل ، الحكم ، الحكيم ، الحق…. الخ حاملة لإيضاح بارز للقيم الخلقية الإنسانية ، ونكتفي هنا بمثال واحد يتعلق باسم الله العدل.

يقرر النورسى أن العدل مرتبط بنظام الكون الدقيق وفق مشيئة الله سبحانه. هذا ما تدل عليه الآية الكريمة: ( وَإِنْ مِنْ شَئْ إِلإَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلَُوم) (الحجر:21) ويضرب مثالاََّ يوضح هذا الارتباط: هذا الكون قصر بديع يضم مدينة واسعة تتداولها عوامل التخريب والتعمير. وفي تلك المدينة مملكة واسعة تغلى باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة ، وبين جوانح تلك المملكة عالم عظيم يسبح كل حين في خضم الموت والحياة.

ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب فإن موازنة عامة وميزاَّنا حساسَّا ، وعملية وزن دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينه وتسود في كل أرجاء المملكة وأطراف العالم ، وتهيمن علية هيمنة ، بحيث تدل بداهة:

أن ما يحدث ضمن هذه الموجودات التى لا يحصرها العد من تحولات ، وما يلج فيها ، وما يخرج منها لا يمكن أن يكون إلا بعملية وزن وكيل ، وميزان من يرى أنحاء الوجود كلها في آن واحد ، ومن تجرى الموجودات جميعها أمام نظره ومراقبته في كل حين … ذلكم الواحد الأحد سبحانه.

وإلا فلو كانت الأسباب الساعية إلى اختلال التوازن ، سائبة أو مفوضة إلى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة البلهاء ، لكانت بويضات سمكة واحدة التى تزيد على الألوف تخل بتلك الموازنه ، بل بذيرات زهرة واحدة – كالخشخاش – التي تزيد على العشرين ألفًا تخل بها ، ناهيك عن تدفق العناصر الجارية كالسيل والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التى تحدث في أرجاء الكون … كل منها لو كان سائًبا لكان قمينََا أن يخل بتلك الموازنة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات ، ويفسد التوازن الكامل بين أجزاء الكائنات خلال سنة واحدة ، بل خلال يوم واحد ولكنت ترى العالم وقد حل فيه الهرج والمرج ، وتعرض للاضطرابات والفساد.

فالبحار تمتلئ بالأنقاض والجثث وتتعفن…..

والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة ، ويفسد ..

والأرض تصبح مزبلة ومسلخة وتغدو مستنقعًا آسنًا لا تطاق فيه الحياة(1).

يطلب النورسى التأمل وإمعان النظر في الكون ، لنرى أن كل شئ يوزن ويقدر بميزان خارق الحساسية ، وأن العلوم التى توصل إليها الإنسان ما هي إلا ترجمة لذلك النظام البديع ، وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.

ألا يدل ذلك دلالة واضحة على أن الله سبحانه هو (( العدل القدير)) و((العدل الحكيم))؟

إن الذي لا يعتقد أن أعمال الجن والإنس يوم الحشر الأكبر توزن بميزان العدل الإلهي ، ويستغرب منها ، ويستبعدها ، ولا يؤمن بها ، لو تكمن أن يتأمل فيما هو ظاهر مشاهد من أنواع الموازنة الكبرى أمامه في هذه الدنيا لزال استبعاده واستنكاره…

إن النورسى يوجه نداءه للإنسان المسرف الظالم:

(( اعلم أن الاقتصاد والطهر والعدالة سنن إلهية جارية في الكون ، ودساتير إلهية شاملة تدور رحى الموجودات عليها ، لا يلفت منها شئ إلا أنت أيها الشقى ، وأنت بمخالفتك الموجودات كلها في سيرها وفق هذه السنن الشاملة تلقى النظر منها ، والغضب عليك ، وأنت تستحقها))(1).

لقد ذكر الميزان أربع مرات في سورة الرحمن إشارة إلى أربعة أنواع من الموازين في أربع مراتب ، وبيانًا لأهمية الميزان البالغة وقيمته العظمى في الكون .. وذلك في قولة تعالى

( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانَ(8) وَأَقِيمْوا الْوَزْن بالْقَسْط وَلاَّ تُخْسِرْوا الْمِيزَانَ ) (الرحمن من 7-9 )

أن النورسى يصل بعد هذا إلى بيان معنى العدل ، وضرورة أن يكون خلقَّا من أخلاق المسلم لتستقيم حياته ، وحياة مجتمعه ، ويقول موجهَّا كلامه للمسلم موضحًا ارتباط أحكام القران بالكون ( فاعلم من هذا أن (( العدالة والاقتصاد والطهر)) التى هي من حقائق القرآن و دساتير الإسلام ، ما أشدها إيغالاً في أعماق الحياة الاجتماعية ، وما أشدها عراقة وأصالة. وأدرك من هذا مدى قوة ارتباط أحكام القرآن بالكون ، وكيف أنها مدت جذورًا عميقة في أغوار الكون فأحاطته بعرى وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها إفساد تلك الحقائق ممتنع كامتناع إفساد نظام الكون ، والإخلال به وتشويه صورته))(2).

ولا شك أن من يطالع ما كتبه أبو حامد الغزالى حول أسماء الله الحسنى سيجد تشابهًا كبيرًا بينه وبين النورسى في شرح المفاهيم المتعلقة بالصفات الإلهية والقيم الخلقية الإسلامية ، على النحو الذي سبقت الإشارة إليه في تناول قيم الإخلاص والمحبة والأخوة عبر رسائل النور وإحياء علوم الدين ، ويمكن للقارئ أن لن يعود بنفسه إلى ما كتبه الغزالى لضيق المجال هنا.

(5)

من المؤكد أن النورسى ، من خلال النماذج القليلة التى سبقت ، استطاع أن يؤصل بمهارة واقتدار للقيم الخلقية من خلال المفاهيم القرآنية ، ويكشف بوعى وبساطة عن فلسفة هذه القيم وتأثيرها في حياة الفرد المسلم والمجتمع المسلم كما أوضح فوائدها العظيمة للأمة الإسلامية جميعًا ، وخاصة زمن الهزائم ، والاستباحة من قبل أشرار العالم.

وإذا كان النورسى قد كشف ضمنًا عن القيم السلبية المقابلة أو النقيض للقيم الخلقية الإسلامية ، فإنه خصص العديد من المواضع في رسائل النور ليهاجم الأخلاق السيئة ، ويند بها ، ويبرز أضرارها وشرورها بالنسبة للأفراد والمجتمعات.

يشير إلى أربعة أمراض شائعة تصيب الإنسان ، ويوضح كيفية معالجتها أو الشفاء منها ، وهي: الياس والعجب والغرور وسوء الظن ، ويرى أن اليأس يعالج بالاستماع بقلب شهيد إلى قوله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذيِنَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذٌّنوبَ جَمِيعَا إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53)

والعجب يشفى إذا تبرأ المرء من دعوى المالكية وتوهم مصدرية المحاسن ، والاعتراف بالنقصان والقصور ، فالملك لله وحده ، وله الحمد ولا قوة إلا بالله.

والغرور ينشأ عن النظر إلى الأسلاف العظام من بعد ، والحرمان من محاسن إرشاداتهم ، وعلاجه بالنظر إليهم من قرب ، فنراهم أعاظم كشفوا في أربعين يومًا ما لم تقتدر على كشفه إلا في أربعين سنة.

أما سوء الظن ، فالجائع يتوهم أن الناس جياع. وإساءة الظن بسبب المرض والرياء بأولئك الأسلاف العظام ، فقد رأيت أنك بغمض عينك جعلت النهار ليلاً على نفسك فقط(1).

وإذا كان النورسى يقدم لنا أربعة أمراض شائعة أو أربعة قيم سيئة ، ويكشف عن علاجها في إيجاز ، فإنه يتوقف في مواضع متعددة لتفصيل بعض هذه الأمراض أو القيم السيئة ، وسوف نتناول بعضها على سبيل المثال:

إن النورسى يحدثنا عن الغرور من حيث طبيعته ونتائجه من خلال الآية الكريمة: ( إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِا لسُّوء) (يوسف: 51).

وقيمة الاستغفار تنبع من القلب ، الذي هو مستقر الإيمان والقيم الخلقية ، لذا يكون ذكر الله النابع من القلب كفيلاً بإصلاح القلب ، وعلاجًا للانحراف الخلقي.

ويوضح النورسى ذلك بأن كل ما تكسبه أيدينا من إثم ، وكل ما يلج إلى أذهاننا من شبهة يشق جروحًا غائرة في قلوبنا ، ويفجر قروحًا دامية في أرواحنا.

ويضرب المثال بسيدنا أيوب عليه السلام الذي كان جروحه المادية تهدد حياته بالخطر في الدنيا القصيرة الأجل. أما جروحنا المعنوية نحن ، فهى تهدد حياتنا الأخروية المديدة بخطر أكبر.  فنحن إذاً محتاجون أشد الحاجة إلى تلك المناجاة الأيوبية الكريمة بأضعاف أضعاف حاجته علية السلام إليها. وبخاصة أن الديدان المتولدة من جروحه علية السلام مثلاً أصابت قلبه ولسانه ، فإن الوساوس والشكوك – نعوذ بالله منها – المتولدة عندنا من جروحنا الناشئة من الآنام والذنوب  تصيب باطن القلب الذي هو مستقر الإيمان ، فتزعزع الإيمان فيه ، وتمس اللسان الذى هو مترجم الإيمان ، فتسلبه لذة الذكر ومتعته الروحية ، ولا تزال تنفره من ذكر الله حتى تسكته كليًّا.

والمناجاة الأيوبية التى أشار إليها النورسى هي ما ورد في الآية الكريمة:

( وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادّى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بهِ مَنْ ضُرَّ وّءَاَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابَدَينَ)( الأنبياء: 83 – 48)

ورد في الآية الكريمة: (وَاذْكُرْ عَبْدَ نَا أَيُّوبَ إِذْ نَادّى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍٍ وَعَذاَبِ(41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَاردٌ وَشَرَابٌ(42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَّهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنًا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ(43) وَخُذْ بيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بهِ وَ لاَ تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْم الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:41- 43).

وهي مناجاة تحمل الاستغفار إلى جانب الذكر والاعتراف بالضعف ومس الشيطان ، لذا كانت الاستجابة الآلهية مباشرة وسخية ، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بهِ مَنْ ضُرَّ وّءَاَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ…) (الأنبياء:84).

ويشير النورسى إلى أن الإثم يتوغل في القلب ويمد جذوره في أعماقه ، وما ينفك ينكت فيه نكًتا سوداء حتى يتمكن من إخراج نور الإيمان منه ، فيبقى مظلمًا مقفرًا فيغلظ ويقسو.

نعم ، إن في كل إثم وخطيئة طريقًا مؤديًا إلى الكفر ، فإن لم يمح ذلك الإثم فورًا بالاستغفار يتحول إلى دودة معنوية ، بل إلى حية معنوية ، تعض القلب وتؤذيه(1).

إن النورسى كان موفقًا تمامًا في ضرب المثل بسيدنا أيوب عليه السلام: حيث يقدم صورة محسوسة للابتلاء والصبر عليه ومواجهته بالدعاء والتضرع والإنابة إلى الله: فضلاً عن كون هذه الصورة مشهورة ، ولها حضورها في الوجدان الشعبي الإسلامي بصور متعددة.

يقول النورسى: إن من يرتكب إثًما يخجل منه ، فيرغب إنكار الملائكة ، ومن يقترف كبيرة تفضى إلى عذاب جهنم – ولا يستغفر – تتولد لديه جرأة إنكار جهنم ، ومن لا يقيم الفرائض ولا يؤدى وظيفة العبودية حق الأداء ، تؤدى به إلى الضيق الشديد ، والرغبة في الإنكار والعداء المعنوى تجاه الألوهية ، ويستشهد بالآية الكريمة: ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون) (المطففين:14).

ويخلص النورسى إلى أن التقوى والسنة النبوية والاستغفار هي الدواء الشافي من وسوسة الشيطان وجنوده ، وسلاح المؤمن في مواجهة المعاصي:

(( فيا معشر أهل الإيمان! إن درعكم المنيع لصد أولئك الأعداء ، هو التقوى المصنوعة في دوحة القرآن الكريم ، وإن خنادقكم الحصينة هي سنة نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام. وأما سلاحكم فهو الاستعاذة والاستغفار والالتجاء إلى الحرز الإلهي))(2).

إن النورسى يرى أن ((الاستغفار يقتضي الاعتراف بالذنب والتقصير ، والاستعاذة من الشيطان ، والاعتراف في كل الأحوال يفضي إلى العفو:

(( ومن اعتراف بتقصير نفسه يستغفر ربه يستعذ به من الشيطان. وعندها ينجو من شروره.. وإنه لتقصير أكبر ألا يرى الإنسان تقصيره ، وإنه لنقص أعظم كذلك ألا يعترف بنقصه ، ومن يرى عيبه وتقصيره ، فقد انتقى عنه العيب ، حتى إذا ما اعترف يصبح مستحقًا للعفو))(1)

إن النورسى حين يطرح القيم السلبية يكشف طبيعتها ونتائجها المدمرة بالنسبة للإنسان الفرد والمجتمع المسلم على السواء ، ولكنه لا يكتفي بذلك ، بل يقدم العلاج المفيد من خلال المفاهيم القرآنية ، ولكل قيمة سلبية على حدة ، ويخصص قيمة (( الاستغفار )) لتكون تطهيرًا للمسلم أولاً بأول ، وتزكية لروحه ، وتجديدًا لحياته كي تفارق الذنوب والخطايا. وتولد من جديد صافية نقية.

وبعد:

فإن فلسفة الأخلاق الإسلامية من خلال رسائل النور تحض على كل ما هو إيجابي وفعال لإسعاد الفرد والجماعة ، وهو ما بينه القرآن الكريم ، ووضحته السنة النبوية المطهرة ، وأيدته أحداث الواقع والتاريخ… وأيضًا؛ فإنها ترفض ماهوسلبي وسيئ؛ لأنه يضعف الفرد ، ويدمر الجماعة ، لذا فإن أخلاق الإسلام تحرص على تطهير النفس الإسلامية أولاً بأول ، وتزكيتها بلاستغفار والتوبة والندم حتى تستحق العفو والغفران ، وتنعم في الدنيا والآخرة جميعًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر