أبحاث

الاقتصاد في المذهبية الإسلامية

العدد 4

بين المذهبية المنهاج:

يبدو لي أن غالبية الباحثين في الاقتصاد الإسلامي قد عالجوا موضوع الاقتصاد مباشرة شارحين ما ارتأوا أنه من الأصول التي يقوم عليها “العلم” أو الفروع المتعلقة بقواعده وقوانينه، وذلك كله دون النظر إلى أمرين رئيسيين أغفلا تماماً أو لم يعطيا حقهما من قبل الدارسين:

الأمر الأول:

هو المذهبية الإسلامية ذاتها أننا افترضنا وضوح هذه المذهبية “Doctrine” في نفس كل مسلم، وإن المسلمين جميعاً يفهمون مدلول “الإسلام” فهماً واحداً، وهذا فرض غير صحيح، إذ قلما تجد فئة وإن قلت من المسلمين اتفقت على مدلول هذا اللفظ بما يشتمل عليه من مضمون واسع يضم أمور المعاش والمعاد، وقلما تلتقي الآراء حول فلسفة واضحة، لهذه المذهبية وقصارى ما نقرأه لا يعدو استدلالاً من قرآن أو حديث ينصب على فكرة واحدة معينة أو أصل مقرر من أصول الشريعة يهم الكاتب الاعتماد عليه في التدليل على رأي أو الدفاع عن وجهة نظر.

إن ما نحتاج إليه فيما أرجح هو صياغة الفلسفة التي تقوم عليها المذهبية، وإقامة بنيان له أبعاده ومتميز صفاته، بحيث تكون المثالية المذهبية –وهي بمثابة الهدف الذي تسعى من أجله الأمة- واضحة في أذهان العام والخاص، وبحيث يتوحد المدلول والمضمون في الأذهان حين يذكر لفظ الإسلام، فلا ينصرف ذهن مستمع لهذا اللفظ إلى الشهادتين فحسب بينما ينصرف ذهن مستمع آخر إلى فكرة التوحيد، وينصرف ذهن ثالث إلى مذهبية معينة يقصد بها مجتمع معين يعيش في حياته اليومية بمختلف صورها حسب قوانين معينة هي قوانين الشريعة السمحاء تسري على الأوضاع السياسية والاجتماعية والخلقية والحربية وما عدا ذلك على حد سواء.

وليس يكفي في هذا المضمار إيراد اللفظ على عمومه، أو مجرد سوق مختلف الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، ولكن لا بد من استخلاص المذهبية الإسلامية من تلك النصوص وتنسيقها تنسيقاً منطقياً وعرضها بلغة العصر حتى يتبين للمسلم وغير المسلم علام يقوم هذا الدين: ما فلسفته وما هدفه وما منهاجه.

وحتى تستبين سبل الباحثين في هذه المذهبية، أضرب مثلاً بالمذهبيتين المثاليتين السائدتين في الوقت الراهن، وأعني بهما الديمقراطية الرأسمالية والماركسية أو سمها الاشتراكية العلمية أو الشيوعية.

فالمذهبية الديمقراطية الرأسمالية تقوم على أساس مبدأ الحرية الفردية، يطبق في أوسع صورة بحيث يقل التدخل الجماعي في تصرفات الأفراد إلى أقصى حد ممكن، أو ذلك الحد الضروري لضمان أكبر حرية ممكنة لتصرفات الأفراد، وبحيث تتماسك الجماعة فلا يبددها طغيان الأفراد سواء على المجتمع ككل أو على أفراده، وسواء أكان هذا الطغيان سياسياً أم اجتماعياً أم اقتصادياً أم عسكرياً.

وعلى أساس هذا المبدأ انبنت فكرة الديمقراطية (حكم الشعب) وهي فكرة مستقاة من النظام الأثيني القديم، تعطي الشعب في صورة غالبية أفراده العددية حق السيادة ومقود السلطان، وتسمح بالتجمع الحزبي واختيار الوكلاء عن الشعب، وهي إذ تخضع لرأي الغالبية إلا أنها لا تفتئت –نظرياً على الأقل- على حق الأقلية في المعارضة والجهر بالرأي المخالف، وعلى أساس هذا المبدأ أيضاً أقيم صرح البناء الاقتصادي حيث رسخ مبدأ الملكية الفردية واستقرت فكرة التنافس الحر، على أن يطبق المبدآن في أضيق حدود التدخل الحكومي، وعلى أن يتقبل الضرر الناشئ عن تطبيقهما على أنه أخف الأضرار أو أنه ضرر مؤقت يؤدي إلى نفع دائم.

أما المذهبية الماركسية أو الشيوعية فتقوم على أساس اجتماعي، أي مجتمع متشارك يفترض فيه نوع من التكافل الاجتماعي الاقتصادي المفروض على الأفراد، والأصل عندهم أن الإنسان إنما يصدر في كل أعماله عن بواعث مادية نفعية، وإذ الإنسان أناني بفطرته فقد توافقت مصالح طائفة في كل مجتمع لتستغل طاقات الطوائف الأخرى، وينشأ عن هذا صراع مستمر بين الطبقات حتى تتلاشى جميعاً فلا تبقى إلا طبقة الرعاع (أو البروليتاريا).

وفي هذه المذهبية تضيق حقوق الأفراد الشخصية بحيث ينعدم حق تملك رأس المال، الإنتاجي، وبالتالي يختفي صاحب رأس المال الذي يعتبر عماد الإنتاج في النظام الرأسمالي ويحل محله نظام جماعي متشارك، ويرى ماركس أن مال الأمر أن تنعدم “الدولة” كما نعرفها ويحكم الشعب نفسه بنفسه، وإن كان ماركس لا يبين كيف يتم ذلك.

وإذا كانت الفكرة الاقتصادية –أو فكرة الإشباع المادي- هي مساك هذه المذهبية فقد اقتضى منطق الفكرة أن يوجد في الدولة حزب واحد يمثل الجماعة كلها ولا يسمح لأية معارضة أن ترفع صوتها لنقد ما تقرره الجماعة ممثلة في الحزب الواحد الذي يسيطر على أجهزة الدولة كلها والذي يحكم سائر الناس إن طوعاً وإن كرهاً.

إنما أسوق هذين المثالين لأبين لكل باحث إسلامي ما أعنيه من ضرورة إيجاد مثالية خاصة بالإسلام، تكون واضحة المعالم، مضطرة السياق مع أصلها وفلسفتها، تحدد الأسس والأصول التي تقوم عليها وتبني عليها نظمها وأنماطها.

أما الأمر الثاني:

فهو المنهاج الذي يجب اتباعه لتحقيق المثالية المذهبية، إذ من الجلي أن المنهاج يتبع نوع المثالية، وإن منهاج الفكر الرأسمالي يختلف تماماً عن منهاج الفكر الشيوعي، وذلك أمر طبيعي منطقي، إذ تختلف المقدمات والغايات، وبالتالي تختلف الطرائق الموصلة إلى الأهداف، ولو اتبع أصحاب أحد المذهبين منهاج المذهب الآخر لاضطرب أشد الاضطراب في منطقه واختل في مسيره ولما وصل إلى أدنى غاياته.

الواقع أن غالبية الباحثين في النظام الإسلامي تنهج منهج الديمقراطيين الرأسماليين، وتستعير مصلطحاتهم وأنماطهم، فتقسم علم الاقتصاد إلى نفس الأقسام الرئيسية الواردة في كتب الرأسماليين ثم تحاول جاهدة إقامة هيكل جديد “إسلامي” تتخذ كل أطره من هيكل المذهبية الغربية، وهكذا تجد التعنت والحرج فيما نتمخض عنه مثل هذه الدراسات، ويبدو الهيكل الإسلامي الجديد مشوهاً ممسوخاً يعلوه الضعف والتفكك نظراً لأن هؤلاء الباحثين يحاولون إيجاد نوع من الاتساق بين ما يقرره الإسلام من أصول وما يجري في الحياة الواقعية من أمور هي بالضرورة نتيجة لقيام مذهبية معينة مغايرة للمذهبية الإسلامية، وإنما نقع في هذا الحرج لا لمجرد رغبتنا في تحقيق هذا الاتساق أو تلك المواءمة، ولكن لأن منطق منهاجنا الغربي يؤدي بنا يقيناً إلى نوع من التضارب بحيث نحس التعارض بين ما نريد تحقيقه وبين ما نحن بصدد البحث فيه، أو إن شئت بين المذهبية الإسلامية ونتائج المنهاج الغربي المنطقية، حينئذ لا نجد محيصاً عن محاولة التوفيق بين المتعارضات وقد نذهب في سبيل ذلك إلى تأويل متعسف، أو إلى تحميل لمعنى ما لا يحتمل، أو إلى التغاضي عن حقيقة شرعية مقررة، وكل ذلك خطأ بالغ الضرر ناشئ عن خطأ في أسلوب البحث، وهو اختيار المنهاج الصحيح الملائم للمذهبية الإسلامية.

المذهبية والمنهاج في القديم:

إن ما أغواني بكتابة هذا المقال فكرتان، لمعت الأولى منهما لمجرد قراءة عابرة في لحظة تشوفت فيها النفس إلى روحانية وطمأنينة، فالتقطت الجزء الرابع من “أحياء علوم الدين” للإمام أبي حامد الغزالي، وأخذت أقرأ في كتاب الشكر حتى وصلت إلى “بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه (ص 90 وما بعدها) فإذا بالرجل يضرب مثلاً “للحكم لخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى تعتبرها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم، فنقول: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير….”.

وقبل أن أسرد ما ذكره الإمام الغزالي بهذا الصدد، يجدر بي أن أقرر أنه صدر لهذا المثال بأمرين: بيان المذهبية ومنطق المنهاج، وذكر ذلك كله في سطور قليلة فريدة في بلاغتها فهو يقول:

“المراد من خلق الجان وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بها على الوصول إلى الله تعالى، ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، وتجافي عن غرور الدنيا ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالغذاء، ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء، ولا يتم ذلك إلا بخلق السماوات والأرض وخلق سائر الأعضاء ظاهراً وباطنا، فكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجح إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، فلذلك قال تعالى “وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون” فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر بنعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية، في هذه الأسطر الموجزة نجد المذهبية الثالثة: الخلق كله وسيلة إلى غاية قصوى هي الوصول إلى الله تعالى ودوام الأنس به، وإنما خلق الله ما في السماوات والأرض وسخرها لابن آدم حتى يعيش على الأرض في يسر ييسر له ذكر خالقه.

وفيها أيضاً المنهاج، إذ لا وصول إلى الله إلا بمحبته ودوام الذكر والفكر، وهما من وظائف البدن ولا يصلحان إلا بصلاحه، ولا يصلح البدن إلا بتسخير الكائنات لخدمته في شكل منظم مضطرد النسق محكم الحركة، وكل تسخير لما خلق الله يقصد به غير طاعة الله فهو كفر بالنعمة وموجب للمعصية. وخروج بالأمر عن مقتضاها التي خلقت من أجله.

أما المثال الذي ساقه الغزالي فهو عندي من أروع ما كتب في الاقتصاد القديم، وهو فيما أعلم أقدم ما قرر من حقائق عن النقود والتداول وما يستلزمه التداول من إنتاج وتوزيع، وإني لأرجو مخلصاً أن يرجع كل باحث اقتصادي إلى هذه الصفحات القليلة ويقرنها بما كتبه الاقتصاديون المعاصرون في هذا الباب ليعلم فضل السبق الإسلامي من ناحية وخطأ أتباع المنهاج الغربي في البحث للوصول إلى تحقيق المذهبية الإسلامية من ناحية أخرى. -يقرر الغزالي ضرورة المعارضة أو ما نسميه المقايضة Troc- ويرى أن أعيان المعارضة تفتقر إلى “متوسط بينها يحكم بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب، علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي”. وذلك ما يطلق عليه وظيفة واسطة التبادل Medium of Exchange ووظيفة مقياس القيمة Standard of Value ثم هو يقرر إن من الخطأ أن يكون النقد مطلوباً لذاته، ولو كان كذلك لما أدى وظيفته كمقياس صحيح للقيمة. إذ تختلف حينئذ قيمته بالنسبة للمتعاملين، لذلك فالنقد لا غرض فيه وهو وسيلة لكل غرض”. وذلك ما يعبر عنه بأن النقود حق على سائر الطيبات Claim on other goods ويستنبط الإمام من صفات النقدين ضرورة الاستمرار في تداولهما، إذ النقود على حد تعبيره بمثابة الحاكم بين السلع فمن كنز النقدين “فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه… وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معروفة المقادير مقومة المراتب”.

ثم إنه يرى وجوب تثبيت قيمة النقدين حتى يتمكن الناس من تعيير الأعيان.

وأخيراً يستطرد الإمام في التحليل فيرى “إن كل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر بالنعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسيهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة، إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم…”.

أما الفكرة الثانية التي سنحت لي فقد جاءت إثر قراءتي لمقدمة الإمام تقي الدين بن تيمية لكتابه “السياسة الشرعية” فهو يقرر أن رسالته “مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعماً يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير وأحسن تأويلاً” (النساء 58 و 59). ثم يقول:

“قال العلماء نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق…

وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة”.

هنا نجد الإمام الفقيه ابن تيمية يرى أن المذهبية السياسية تقوم على أداء الأمانة والحكم بالعدل. والأمانة لديه حق الله المفروض، أما المنهاج السياسي فهو بناء هيكل يتضمن هذين الركنين، فيبدأ باستعمال الأصلح من الخلق “الذين هم عباد الله، والولاة نواب الله على عباده” وهم وكلاء العباد على نفوسهم بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ثم يذهب إلى طريقة اختيار الأمثل فالأمثل على سبيل الإلزام حيث لا بد من توافر عنصري القوة والأمانة للحاكم، والورع والعلم للقاضي….الخ.

ويرى ابن تيمية أن أمانة الأموال تأتي بعد أمانة الولاية، ويفصل منهاجه بتحديد لفظ الأموال وعلاقة الحاكم بالمحكوم فيما يتعلق بهذه الأموال، ومؤدي الأمانة منها على هدى القرآن والسنة، ثم ينتقل إلى الحدود والحقوق وواجبات الدولة إزاءها.

وقفت أمام ما كتبه الإمامان الجليلان أتدبر الأمر، وكيف عالج كل منهما موضوعه، لقد حددا الهدف في وضوح، وهو في الحالين هدف ينصب على صميم معنى هذا الدين الحنيف، وهو هدف معنوي، فعبادة الله عند الغزالي هي الغاية القصوى، وإنما يسعى الإنسان في هذه الحياة الدنيا مستفيداً مما سخره الله له من الكائنات كوسيلة لحفظ البدن الذاكر الشاكر المتفكر، وهذه الاستفادة وسيلة لإيجاد صلة العبد بالرب، ولم تكن الوسيلة لديه مجرد صيام وقيام، ولكنه ضرب لذلك مثلاً هو من الحياة المادية في الصميم ولو كان الغزالي بيننا اليوم لما وفق في اختيار مثله بأكثر مما وفق حينذاك.

“والراجح عند الله هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، هذه النفس المطمئنة لا توجد إلا في حالة توازن بين الروح والجسد، والجسد يتطلب المادة، والمنافع المادية نتيجة جهد الخلق وهي لا تتحقق دون معاوضة وتبادل، ولا يتم التبادل دون وساطة ومقياس للقيمة أو ما يسميه الغزالي “متوسط وحكم” ولا يصلح المتوسط ولا ينزه الحكم إلا باستمرار أداء الوظيفتين حيث يتواصل التبادل فيتم النفع باستمرار الطلب على الأعيان فتشبع رغائب الجسد الحسية، ويحصل التوازن الاقتصادي في المجتمع في نفس الوقت الذي يحدث فيه التوازن الإنساني في ذات الفرد، كما يتحقق العدل الاجتماعي إذ بالتبادل الصحيح ينال كل منتج جزاءه، كما ينتفي وجود تلك الفئة الظالمة التي تعيش دون إنتاج عن طريق “الاتجار” في النقد وأكل الربا.

والإمام ابن تيمية يرى أن كل ما استخلفنا عليه في الأرض والسماوات إنما هو أمانة، وإن كل مسلم في مجتمعه أمين على ما استخلف عليه من مال ومسئوليات قبل أهله ومجتمعه وخالقه، وإن عليه أن يؤدي الأمانات مادية (في المعاملات) ومعنوية (في الحقوق والواجبات). فالقسط والعدل فيها قوام التوازن بين ما هو مادي وما هو معنوي، ومقتضى ما تنشده النفس الكامنة في الجسد حتى تصبح راجحة عند الله مطمئنة، فليس الحكم إلا وسيلة لأداء ما استودعه الله سبحانه وتعالى بني آدم عن أمانات مادية ومعنوية، ولا يعدو هذا الأداء أن يكون في جوهره ومضمونه سوى عبادة الله تعالى كما أمرنا أن نعبده.

المذهبية أو المثالية الإسلامية:

المذهبية أو المثالية عندي بمعنى واحد، ومدلول اللفظ هو تلك الغاية القصوى التي يسعى من أجلها مجتمع إسلامي معين ويتطلع إلى تحقيقها كل أفراده في حياتهم الخاصة والعامة.

وبلفظ آخر: هي جواب لسؤال يتردد على كل لسان، أو يجب أن يتردد، وهو الغاية من هذه الحياة؟ يسأل الفرد نفسه: لماذا أعيش؟ ويسأل المجتمع لماذا نعيش؟.

وكل مذهبية في إطار هذا التعريف ضرب من العقيدة إن لم تكن هي لباب العقيدة التي يدين بها الفرد ومجتمعه، أو هي كل عقيدة الفرد ولا عقيدة غيرها في قرارة نفسه.

يؤمن الشيوعي بالماركسية كعقيدة، وقد يؤمن كذلك بإله آخر أو بالطبيعة أو بالوجودية وقد لا يؤمن.

والرأسمالي الديمقراطي يؤمن أولاً بمذهبيته الرأسمالية كعقيدة قد يضيف إليها اعتقاداً آخر في دين سماوي أو بدعة أرضية… وقد لا يغفل.

أما الإسلامي فلا مجال له إلا الاعتقاد الكامل في إسلامه، فإن خلط به مذهبية أو مثالية أخرى فقد غش دينه ونفسه، ووقع في حرج شديد من جراء ما يصطدم به من تعارض سبق أن أشرنا إليه.

ولكن ما هي المذهبية الإسلامية وعلام تقوم؟

عندي أن الإسلام –وهو دين الرسل جميعاً عليهم السلام- يقوم على مبدأ الوحدة وفلسفتها: وحدة الموجد لهذا الكون، ووحدة الموجودات في السماوات والأرضين، ووحدة البشرية جميعاً، ووحدة المجتمع المسلم أصلاً، ووحدة الفرد في ذات الفرد.

يؤمن المسلم بالله سبحانه خالقاً مدبراً لهذا كله، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وإليه يرجع الأمر كله.

فالله بهذه الصفات قوة مبدعة مقننة مقدرة عالمة بظاهر كل أمر و….. كل ضمير. وهو جل شأنه إذ خلق الكائنات سن لها قوانين أزلية تسير على مقتضاها، فجعل معاني الخير والجمال في إتباع هذه القوانين، كما جعل الشر والقبح في مخالفتها.

وإيمان المسلم بخالقه الواحد الأحد يجعله ينظر إلى مخلوقات الله تعالى باعتبارها راجعة إلى خالقها، فأصلها واحد ومرجعها هذا الأصل الواحد.

وهذا الإيمان لا يتحقق إلا إذا صدقه العمل، والمؤمن يعمل أبداً ليحس بصدق إيمانه، دائماً يكون ذلك بإيجاد ما يسميه الغزالي “الصلة” بين العبد والرب.

فأس مذهبيتنا إذن هو التوحيد الخالص.

ولا سبيل لإقرار هذه المذهبية في نفوس البشر إلا عن طريق المحاولة الدائبة للاتصال بالقوة الإلهية الواحدة الخالقة، فإن وجدت هذه الصلة حتى في أوهى صورها، سمت بالمرء عقيدته وأوصلته إلى مراقي استقصاء الحق والوفاء بالأمانات وإقامة العدل والتعرف إلى الكمال والجمال وشأو النعم والمحافظة على هذه المعاني جميعاً باعتبارها غايات قريبة كلما شارفها ارتفعت به إلى غايات أبعد تقربه من الله زلفى.

إن المسلم يعيش ليتصل بالله، لا عن طريق الانقطاع إلى العبادات فحسب ولكن عن طريق العمل الدائب حتى يتحقق الخير وتصفو النفس، ولن تصفو النفس إلا بصفاء البدن، ولا بصفو البدن الذي هو “مطية النفس” إلا أن أشبعت رغائبه المادية التي ركبت فيه إشباعا لا ظلم فيه ولا إفراط ولا تفريط، إشباعا لا يكمل ولا يؤتي ثماره إلا في ظل المثالية الإسلامية التي تدعو إلى اعتبار الكون كله خاضعاً لقوانين الفطرة الأزلية، وإنه وحدة متماسكة سخرها الله للإنسان المستخلف عن الأرض ليقوم عليها بحقها.

وإشباع الحاجات المادية لا يتصور إلا في وسط مجتمع بشري، والمثالية الإسلامية تحتم وحدة هذا المجتمع العقدية والسياسية، كما تحتم تكافله المادي وتسانده المعنوي، بل إنها تحتم وحدة المجتمع البشري أصلاً كما تقتضي وحدة الأسرة وترابطها وتلاحم وشائجها بحيث تقوم الحياة الجماعية البشرية على مبدأ التقارب وليس التجارب.

ويقوم المجتمع على الأسس النظرية السليمة من شعور بالانتماء إلى العشيرة إلى إشباع لغريزة الاستكمال والامتداد، إلى نشر للمرحمة والمحبة.

هذا الإشباع المادي الذي لا ينسى القيم المعنوية إنما يقصد به توحد الفرد في ذات الفرد بحيث لا يحدث انفصام في شخصيته، ولا احتراب بين ظاهر وباطن عقله، ولا تحمله غرائزه على اقتحام حمى دينه، الفرد المتوحد هو أساس المجتمع المتوحد، وهو ذلك الفرد الذي تتوافق فيه الغرائز الفطرية مع القوانين الأزلية، فهي مركبة فيه ليسمو لا ليتدانى، وليحقق الغاية من وجوده في نسق منتظم وسلام دائم مع نفسه ومع من حوله من مجتمعات وبيئات.

المنهاج الاقتصادي:

إذا اتضحت هذه الغاية فأصبحت نشدة الرد والمجتمع، وبعبارة واضحة إذا استطعنا أن نقنع كل مسلم في مجتمعنا بأنه يحيا ليعبد الله وحده، والعبادة لا تكون إلا بالإيمان الصحيح، والإيمان لا يتم إلا بالعمل الصالح، والعمل الصالح لا يكون إلا بإتباع قوانين الله الأزلية: ما أوصى به إلى محمد صلوات الله عليه وما ترك للعقل البشري يستكشفه ويستدل عليه ولا يتصور العمل الصالح إلا في مجتمع مسلم يؤمن بالمذهبية الإسلامية ويطبق قوانينها في مختلف معاملاته وتصرفاته ويستخدم المادة الكونية للحفاظ على حياة كريمة وجسد سليم.

إذا بلغت هذه الفكرة من ضمير الفرد العقيدة، اتضح المنهاج الذي يجب أن يسير على مقتضاه كل باحث في أي علم أو فن، وتحدد طريق البحث في دائرة الأصول المقررة في الشريعة السمحاء، وهي أصول أقرب ما تكون إلى منطق البديهة، وضعها بارئ السماوات والأرض حتى ييسر للناس سبيل الاتصال به والتسبيح بحمده والإقرار بوحدانيته وحتى يستطيع الخلق العيش في وحدة إنسانية وسلام وعدل.

ويجب عندي أن يكون أصل التوحيد هو أساس المنهاج سواء في البحث الاجتماعي أم السياسي أم الاقتصادي، وقد حاولت أن أطبق هذا المبدأ في رسالة كتبتها منذ عشر سنوات عن “الخطوط الرئيسية للاقتصاد الإسلامي” فوجدت الطريق معبداً للخوض في جميع ما يتطلبه العصر الحاضر من حلول لمشاكله الاقتصادية المعقدة، وددت لو تناول الزملاء الأفاضل هذا المنهاج الجديد القديم بالنقد والتعديل والاستكمال حتى يتميز منهاجنا الإسلامي، وحتى ننأى عن طرق أبواب هذا العلم ومناقشة موضوعاته على أسس اشتراكية أو رأسمالية.

وأحب أن أشير هنا إلى أن “الاقتصاد” كسائر العلوم الاجتماعية ليس (علماً) بالمعنى الكامل، ولكنه مجموعة من القواعد المستنبطة والمستقرأة في بيئة معينة تساعد المعنيين بالدراسة على تفهم وضبط تصرفات الأفراد والمجموعات البشرية في نشاطهم المنصب على استغلال الموارد الطبيعية والطاقات البشرية وذلك بقصد الحصول على أكبر نفع مادي يؤدي بالمنتفع منه إلى مذهبيته ومثاليته. ولئن ذهب كل من الفريد مارشال عميد المدرسة الرأسمالية وكارل ماركس صاحب المدرسة الشيوعية إلى أن الإنسان يتأثر في حياته الدنيا بالأمور الاقتصادية أكثر مما يتأثر بعقيدته الدينية، فإننا معشر المسلمين نقول بعكس ذلك تماماً، ولئن كان للغربيين مسيحيين ومن سواهم ندحة دعتهم إلى ما ذهبوا إليه، فليس للمسلمين من سبيل إلا نكران دعواهم والجهر بغلبة عقيدتهم على كل رغبة مادية أو حافز إنساني، إذ العقيدة لدينا تطالبنا بالنشاط المادي وبتحقيق الرفاهية الاقتصادية، وتحدثنا في غير هوادة على التكافل والإنتاج في أوسع صورها. وبهذا ينتفي التناقض بين العقيدة وإشباع الرغبات الحسية، وهو التناقض الذي دفع بالمذاهب الأوربية إلى اعتناق المادية وجحود القيم المعنوية. حتى لقد ذهب الفيلسوف المعاصر أريك فروم Eric Fromm في كتابه الأخير The Same Society إلى أن تغليب الباعث المادي في الحضارة القائمة على متطلبات النفس للقيم المعنوية سبب بلاء عم معتنقي هذه الحضارة، رأسمالية وشيوعية، حتى أورثتهم من الأمراض ما فيه القضاء على الحضارة برمتها.

في رأيي أنه من الضروري أن يبدأ منهاج الاقتصاد الإسلامي من البحث في كيفية الوصول إلى الغاية المذهبية في ظل الحكم الإسلامي حيث لا جدال فيما قرره الله تبارك وتعالى من حقوق للأفراد على الجماعة وحقوق للجماعة على الأفراد.

ثم إن إرجاع هذه الحقوق إلى أصولها في الشريعة ثم إظهار آثارها على الفرد والمجتمع إنما هو فلسفة المذهبية التي تحتاج من الباحثين إلى عميق درس وتمحيص وذلك حتى تتضح معالم الحرية الفردية وحدود التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي وحيث تحدد دائرة التكافل الاجتماعي وتعرف مصادر الضمانات الاجتماعية، وحتى تسير عجلة الاقتصاد في اتجاه التطور الذي توجبه العقيدة المذهبية في نسق مضطرد الحركة والاتزان.

ويأتي بعد ذلك فيما أرجح بحث الزكاة وتفهم فلسفتها والنظر في تطبيقها كعمود فقري لكل هيكل أو نمط أو سياسة اقتصادية يمكن أن تقام في المجتمع الإسلامي، ذلك أن الزكاة هي الركن الثالث من هذا الدين، وقد جحدناها معشر الباحثين حقها. وأنا كفرد يؤمن بأن هذه الدين من عند الله تعالى لا يداخل عقلي ولا قبلي ظل من شبهة في شك في أن الزكاة هي النظام الأمثل لاقتصاديات أي مجتمع إسلامي، فإن نحن تغافلنا عنها ولم نفهمها على حقيقتها أو لم نتمكن من بناء هياكلنا الاقتصادية على أساسها فلا نلوم إلا أنفسنا.

وعندي أن فلسفة الزكاة ستجرنا قطعاً إلى فكرة التداول وبحث النقود، وأهم من هذا ستضطرنا دون شك إلى دراسة “كمية” للدخول وإيرادات الحكومة ونفقاتها. وإجمالاً سنجد أنفسنا في صميم دراسة ما يسميه الاقتصاديون المعاصرون الاقتصاد العام Macro Economics وسرعان ما نجد لبنات أنماطنا الاقتصادية تتوالى ويعلو بعضها بعضاً في بناء هيكلنا الاقتصادي الإسلامي دون خلط في مذهبية غريبة عنا ولا اتباع لمنهجية وضعت لغير مذهبيتنا. والله الموفق وهو يهدي السبيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر