أبحاث

الاقتصاد السياسي للإجماع منهاجية التحول إلى الاقتصاد الإسلامي

العدد 160

مقدمة:

تعارف علماء الأصول والفقهاء على أن مصادر التشريع الرئيسية في الإسلام أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس، وأصبحت هذه الأصول محل قبول عند أغلبهم، وإن اختلفوا في أدلة أخرى كالاستحسان والاستصحاب وعمل أهل المدينة وغيرها. وإذا كان القرآن والسنة يتضمنان حجيتهما في ثناياهما، فإن الاجماع والقياس احتاجا إلى جهد نظري كبير، بذله الأصوليون لإرسائهما كمصدرين للاحتجاج الفقهي، والملاحظ هنا هو أن الاجماع يبدو -مقارنة ببقية الأصول- غامضا كلما أردنا الانتقال به من الفكرة إلى التطبيق، أو من المثال إلى الواقع، خصوصا إذا بحثنا عن الآثار التي يمكن لدليل الاجماع أن يتركها لو أنـزلناه في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع.

تهدف هذه الورقة إلى كشف سبب ضعف القدرة التفسيرية للإجماع وبقائه متعاليا من الناحية النظرية، هذا من جهة ومن جهة أخرى تفتح اقترابا جديدا لهذا المصدر التشريعي، يبتعد به عن المثالية الصورية ويطوره ليصبح أكثر قدرة على الاقناع، بتوسيع دائرته التي كانت تشمل فقط الفقهاء المجتهدين في عصر من العصور لينفتح على فئات أخرى، كصناع القرار السياسي والاقتصادي، والمتحكمين في أذواق المستهلكين، وتشمل أيضا عموم الأمة والذين تعامل معهم الفقهاء كمقلدين غير معنيين بتأسيس القضايا الإجماعية.

الواقع أن أي قضية خبرية وإن حصَّلت الإجماع التام لدى طبقة المجتهدين، فإنها تبقى رهينة التداول الفقهي، وربما تجاوزت ذلك لتصبح معرفة شائعة لدى عموم الناس، لكنها لا تتحول إلى سلوك والتزام عام، إلا إذا استكمل الاجماع دائرته وأصبح قانونا ملزما، وهذا يستدعي أن يسهم صناع القرار في هذا الاجماع، أو أن يتحول إلى التزام أخلاقي جماعي وثقافة مجتمع، ما يعني إسهام عامة الناس ممن جرى الأمر على استبعادهم في صنع أي قرار يخصهم، أو يتعاون جميع هؤلاء الفاعلين في تحقيق هذا الاجماع فيكون أقرب إلى مقصده الحقيقي الذي استبطنه المنظرون من الفقهاء والأصوليين وأرباب النظر لكن قصرت عباراتهم عن استيفائه، أي أن ينتقل الإجماع من النظرية إلى الواقع .

وعلى الرغم من أن اهتمامنا في هذا المقال ليس تاريخيا، إلا أننا نشعر بضرورة تقصي الأسباب التاريخية التي قصرت بدليل الاجماع عن أن يكون الرافد الإنساني القوي للجانب النصي من الشريعة الإسلامية، ومن ثم نفرغ إلى الإجابة عن سؤال الإشكالية التي تبرز بين أيدينا الآن وهو: كيف يتحقق الاجماع واقعيا في مجال السياسة والاقتصاد؟ وهل يمكن إشراك عامة الناس الذين هم مقلدون لا رأي لهم وفق النظرة الفقهية والأصولية التقليدية في هذا الإجماع؟ وهل يمكن أن يستوعب الإجماع غير المسلمين عندما يتعلق الأمر بقضايا مشتركة بين مختلف المعتقدات؟ وهل هناك ضرورة لإعادة تعريف الإجماع ليصبح أكثر انسجاما مع التغييرات التي ستطرأ عليه؟

الاجماع من تعريف الفقهاء الأصوليين إلى التعريف السياسي:

ليس للإجماع تعريف واحد عند علماء أصول الفقه، بل يمكن تمييز ثلاثة توجهات تتباين حسب الاعتراف به أو توسيع وتضييق دائرة المجمعين:

فهناك توجه لا يعتد بالاجماع أصلا وأبرز من يمثل هذا الرأي إبراهيم بن سيار النظَّام، يقول الجويني: “أول من باح برده -الإجماع- النظَّام ثم تابعه طوائف من الروافض… وعمدة نفاة الإجماع أن العقول لا تدل على كون الإجماع حجة، وليس يمتنع في مقدور الله تعالى، أن يجمع أقوام -لا يعصم آحادهم عن الخطأ- على نقيض الصواب” (الجويني، ج1، ص 676).

والتوجه الثاني يوسع في دائرة أهل الاجماع فلا يقصره على طبقة المجتهدين، بل يشمل المجتهدين وعامة الناس من المسلمين، كما ورد في تعريف أبي حامد الغزالي: “هو اتفاق أمة محمد r خاصة على أمر من الأمور الدينية” (الغزالي، ج1، ص325).

أما جمهور الأصوليين فيميلون إلى قصره على فئة المجتهدين أو أهل الحل والعقد، ومثال ذلك تعريف الكمال ابن الهمام: “اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد r على أمر شرعي” (ابن الهمام، ص399).

أما عموم الشيعة فينكرون الإجماع لارتباطه عندهم بملابسات سياسية، كما يصرح عبد الهادي الفضلي إذ يقول: “بعد أن بويع أبو بكر بالخلافة ولا سند عند الصحابة -الذين دعوا إلى بيعته- يدعم هذه البيعة من ناحية شرعية، حيث لا نص في القرآن الكريم ولا نص في السنة الشريفة يثبت صحة هذه البيعة، اضطروا بغية إضفاء الشرعية عليها إلى ادعاء الإجماع عليها، ولترسيخ الإجماع دليلا وحجة، ولكي تبقى البيعة المشار إليها قائمة على سند شرعي، أدخلوه حيز الدراسات الاصولية والتمسوا الأدلة لإثبات حجيته” (عبد الهادي الفضلي، ج1 ص220).

وفي المقابل فإن أبا حامد الغزالي يعود إلى تأويل تعريفه السابق والذي يدل بظاهره على توسيع دائرة الإجماع لتشمل جميع المسلمين وليس طبقة المجتهدين فحسب، ليخص العوام بالإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، مما يفضي إلى إخراجهم من دائرة الإجماع في المسائل الاجتهادية، ويكيف ذلك بما يشبه فكرة الإنابة والتفويض في النظم البرلمانية الحديثة، حيث يختار الناس من يثقون فيهم من أهل الخبرة من مواطنيهم ليتولوا وظيفة التشريع نيابة عنهم وبرضاهم، ونلاحظ هذا الشبه في قوله: “أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب، أعني خواص الصحابة وعوامهم؛ ولأن العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه. وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامي عاقل؛ لأن العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري، فهذه صورة فرضت ولا وقوع لها أصلا” (الغزالي ج1، ص341).

وسنحاول أن نتجاوز في هذه الورقة عناصر الخلاف الأخرى حول الاجماع، سواء تعريفه، أو سنده وحجته أو مراتبه وأقسامه وصولا إلى تطبيقاته وصوره، لأن ما يهمنا هنا هو البعد السياسي والاقتصادي لهذا الدليل. ويبدو أن فكرة التمثيل والإنابة التي أشار إليها أبو حامد الغزالي في معرض حديثه السابق قد قفزت مرة أخرى إلى أذهان بعض المعاصرين، ليصبح الإجماع أصلا كبيرا من أصول السياسة، فضلا عن تطبيقاته في مسائل الفروع عند الفقهاء والأصوليين القدماء، ومن هؤلاء محمد رشيد رضا في مجلة المنار وفي تفسيره أيضا إذ يقول في المجلة: “لم يحدد الدين الإسلامي كيفية الحكومة الإسلامية، ولم يبين للناس جزئيات أحكامها، وإنما وضع الأسس التي تبنى عليها من وجوب الشورى، وحجية الإجماع الذي هو بمعنى مجلس النواب عند الأوربيين، وتحري العدل والمساواة، ومنع الضرر والضرار” (محمد رشيد رضا، مجلة المنار،ج7، ص ص 379-380).

توسع محمد رشيد رضا في تفسيره المسمى أيضا بالمنار في تقرير وجهة نظره هذه، في معرض تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (سورة النساء،59) بما يمكن أن يعتبر إضافة جديدة لأصول الفقه لا تقل أهمية عن فكرة مقاصد الشريعة عند الشاطبي، فإذا كانت فكرة المقاصد قد أزالت عن أصول الفقه انكفاءه على الشكلانية بدورانه في دلالات اللغة و القياس الصوري، بأن جعلته يقترب إلى الواقع وأبعاده والشريعة وروحها، فإن مقاربة محمد رشيد رضا عن الإجماع زادت أصول الفقه بعدا آخر وهو البعد العملي حيث يقع إشراك إرادة الأمة في تطبيق مراد الشريعة، فيحال دون  وقوع التهميش والتسلط والاستبداد الذي يذهب بحقيقة الدين ويبعد الشريعة عن الحياة، ويفضي إلى ذهاب كيان الأمة. (محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم،ج5، ص ص 180-210).

وتلا محمد رشيد رضا كثير من الباحثين، الذين طوروا فكرة الإجماع كوسيلة لتجسيد إرادة الأمة المسلمة منهم عبد الرزاق السنهوري الذي يرى أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقي للشريعة الإسلامية مصدر متجدد دائم يتولى إرشاد الأمة وهدايتها هو الإجماع، وأن هذا الإجماع يحتاج لكي يواصل تطوره أن يتبع خطوتين:

الأولى: تنظيم الأداة العملية للإجماع بطريق المداولة في مجلس الشورى.

الثانية: اتخاذ الإجماع أساسا للنظام النيابي في الحكم الإسلامي.

لهذا يفرق السنهوري بين نوعين من المجتهدين: أولهم رجال الفقه الذين يختصون بالمسائل الفقهية النظرية، وثانيهم الخبراء ورجال العمل، من المختصين بمعرفة مختلف نواحي الحياة الاجتماعية المعقدة كرجال الزراعة، أو الصناعة، أو التجارة، أو المال، أو السياسة، أو الحرب وأمثالهم، فهؤلاء يمكن اعتبارهم من أهل الذكر (السنهوري، 75-76). ويرى محمد اقبال أن الملك العضوض الذي ساد تاريخ الأمة الإسلامية هو الذي عطل تطور الإجماع وأبقاه مجرد فكرة نظرية، لأن تجميع العلماء من أجل التفكير في القضايا الكبرى كان سيتعارض مع المصالح السياسية للحكم المطلق، ففضَّل الحكام إبقاء العلماء متفرقين وشجعوا الاجتهاد الفردي. لكنه يتفاءل بأن الأمور ستتغير في العصر الحاضر وسيتنبه المسلمون إلى قوة الإجماع التي تحررهم من حكم الفرد، فيقول: “على أنه مما يبعث على الارتياح التام أن نجد أن ضغط العوامل العالمية الجديدة، وتجارب الشعوب الأوربية في السياسة قد جعلت تفكير المسلمين في العصر الحديث يتأثر بما لفكرة الإجماع من قيمة وما تنطوي عليه من إمكانيات” (محمد إقبال، ص ص 205-206).

 

 

من الإجماع السياسي إلى الإجماع الحضاري: إعادة إحياء مفهوم الأمة

إذا تتبعنا فكرة الإجماع عند الأصوليين، نجدهم متفقين على أن أهل الاجماع المخاطبين به هم أمة الإسلام، سواء عند المضيقين ممن يقصرونه على فئة المجتهدين من الفقهاء، أو عند الموسعين ممن يشملون عامة الناس بوصف أهل الإجماع، (الآمدي، ج 1، 262)،  فنلاحظ بأن المقاربة السياسية التي تناولها الباحثون المعاصرون تعتبر الإجماع آلية لتوفير الشرعية السياسية، لذا وقع تشبيهه بالمجالس النيابية في عصرنا، ومعروف أن المجالس النيابية في الدولة الحديثة هي مؤسسات تمثيلية، بمعنى أنها تمثل مواطني الدولة بغض النظر عن دينهم، ومعلوم أن الأمة الإسلامية عاش ولا يزال يعيش فيها أهل ملل ونحل كثيرة فضلا عن المسلمين. ومن هنا يلزمنا أن نعيد تعريف الإجماع في نطاق أوسع من نطاق الأمة الإسلامية التي يشملها دين واحد، إلى نطاق الأمة متعددة الأديان والثقافات التي تشملها منظومة الحضارة الإسلامية.

وقد انبرى مالك بن نبي لتأسيس فكرة الإجماع الحضاري الإسلامي، حيث أفرد لشرحها كتبا عدة أبرزها فكرة كومنولث إسلامي، الذي يرى فيه أن تكتل العالم الإسلامي ضرورة نفسية، فهو ثورة ذاتية داخلية تعصمه من شرور الثورات الآتية من الخارج، التي عادة ما تحمل معها ما يفرق أكثر مما يقوي ويجمع. ولكي ينتظم الكومنولث الإسلامي، لابد من اعتماد تخطيط يراعي وحدته الروحية الإسلامية دون إغفال الفروقات بين الأقاليم والشعوب التي ينتظمها العالم الإسلامي، فهو ليس عالما واحدا، بل هو عوالم متعددة، فهناك العالم الإسلامي الزنجي أو الإفريقي، والعالم الإسلامي العربي، والعالم الإسلامي الإيراني (فرس، أفغان، باكستان)، والعالم الإسلامي الملايو (إندونيسيا، الملايو)، والعالم الإسلامي الأصفر،  هذا دون ذكر الكتل الإسلامية في أوربا وروسيا والهند و الأمريكتين.

ونظرا لوحدته من ناحية، وتعدده من ناحية أخرى، فإن انتظامه في كومنولث فدرالي يرأسه مؤتمر يقوم على أفكار جديدة لمفهوم الإمامة مع توظيف الرابطة الاقتصادية أينما وجدت بطبيعتها مثلا بين مصر والسودان، والرابطة القومية مثلا في الدول العربية يصبح أمرا ذا أهمية (مالك بن نبي، ص ص 14-15). لكن مالك بن نبي يؤكد في كتابه هذا وفي معظم أعماله على أن الرابطة الروحية ينبغي أن تكون هي واسطة العقد في هذا الاتحاد، فهو اتحاد أمم وشعوب لها هدف ورؤية وليس اتحادا جغرافيا، وأساس رابطة الروح أن يكون الاجتماع الإسلامي على أساس عالم الأفكار لا على أساس عالم الأشياء، فالروح في نهاية الأمر هي التي تخلق الفاعلية وتهون الصعاب.

لكن أفكار بن نبي حول هذه الرابطة قد تصطدم اليوم بواقع صراع الأفكار والإيديولوجيات التي تراكمت في تاريخ الأمة الإسلامية الحديث والمعاصر عبر تفاعلها المستمر مع منتجات الحداثة الغربية، وفي هذا الصدد يطور طارق البشري مفهوما جديدا لإجماع الأمة في كتابه نحو تيار أساسي للأمة، يقوم على رؤية حضارية أساسها الاجتماع حول المشتركات في العالم الإسلامي، خصوصا بين الإسلاميين بأطيافهم والعلمانيين بمختلف توجهاتهم.

يرى البشري أن مشكلة الاستقطاب بين هذين التيارين في العالم الإسلامي لم يوجد إلا بعد الحرب العالمية الأولى تزامنا مع سقوط آخر رابطة سياسية إسلامية وحضارية وهي الدولة العثمانية، فالهجمة الاستعمارية تركت شرخا كبيرا في الهوية الإسلامية وأتلفت الكثير من العناصر الروحية والفكرية التي تساهم في تحقيق عودة سريعة إلى الجامعة الإسلامية، ويطرح البشري افتراضا لعله يساعد في ردم هذه الهوة، وهو أن اندماج المحافظة والتجديد الإسلاميين يحلان المشكلة على مستوى الفكر السياسي، بيد أن انفتاح الوطنية الإسلامية على عناصر الأمة لا يزال بحاجة إلى جهود كبيرة، لأن الدول العربية والإسلامية الخارجة من قبضة الاستعمار تشكلت وفق نموذج مركزي ضاغط على النشاط الأهلي الذي هو سائل المزج الحضاري و لحمة المجتمع المدني الذي مازال يعاني الحصار من طرف الأنظمة والحكومات.

وليس المقصود بالنشاط الأهلي فقط المنظمات غير الحكومية، كما هو متعارف عليه اليوم، بل المقصود هو التكوينات التي تشكل وحدات انتماء فرعية في مجتمعنا، والتي يتعين أن يكون لها وجود حقيقي وفاعل في المجتمع، سواء أكان أساسها الإقليم أو النقابات أو الملة أو المذهب أو الحرفة، كل هذا ينبغي أن يكون له شخص يدير شؤونه، كما هو الحال في المجتمعات التي عرفت ذلك قديما وحديثا، وكما هو الحال في الغرب.  وفي المقابل نجد أن الدولة الحديثة في بلادنا تميل إلى إزهاق هذه التكوينات بغرض الحلول محلها، وأثناء عملية الإزهاق والإحلال هذه، يزداد الناس سلبية وبعدا عن الدولة وتزداد الدولة بعدا عن الناس (طارق البشري، ص ص 7-26). فشكل الدول الإسلامية بعد-الاستعمارية المعادي لوحدة الأمة يعيق بشكل كبير تحقق كيان الأمة الإسلامية ذات البعد الحضاري متعدد المكونات، ومن هنا تصبح إعادة الاعتبار لمفهوم المصير المشترك هي أولى اللبنات في بناء إجماع قائم على رؤية حضارية.

نحو إجماع عالمي على أساس المشتركات الفطرية: إعادة الاعتبار لمعطى الإنسانية

نقل الآمدي عن الأصوليين النافين لحجية الاجماع قولهم أن أمة الإسلام أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم (الآمدي، ج1، ص 271)، وهذا الاعتراض جاء في معرض الحديث عن عدم استقلالية دليل الاجماع عن الأدلة النقلية النصية، فهناك من علماء الأصول من يشترط استناد الإجماع إلى نص، غير أن جمهور الأصوليين ينظرون إلى فكرة الإجماع بما يشبه فكرة التواتر عند المحدثين؛ أي أن عدم وجود الخلاف في المسألة هو الذي يخلق الدليل، وليس ما يستند إليه من نصوص حتى وإن كانت قطعية، فقد يوجد النص ويحصل حوله الخلاف كما نقل الحجوي عن الشافعي قوله: “ولا يكون- الإجماع- عن قياس أو اجتهاد لأنهم لو اجتهدوا لاختلفوا” (الحجوي، ج 1،ص45).

غير أن الإشكال الكبير الذي أعاق تطور فكرة الإجماع عند أهل الأصول هو المبالغة في التمسك بالمعنى الحرفي للإجماع وعدم الاكتفاء بمفهوم الكثرة أو الأغلبية التي يمكن تحقيقها واقعيا، فالنـزعة الاستغراقية في البحث عن الاجماع، وصلت به إلى نفس النتيجة التي وصلت إليها فكرة التواتر عند أهل الحديث، والتي جعلت ابن حبان والحازمي، يذهبان إلى أن الحديث المتواتر غير موجود أصلاً، والأمر ذاته بالنسبة إلى الإجماع، فقد نقل عن أحمد بن حنبل قوله: “من ادعى الاجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا” (ابن القيم، ج2، ص54). حيث يفهم من هذا الكلام رفض ابن حنبل للصورة الاستغراقية المنطقية التي تبعد الإجماع عن الفاعلية وتجعل منه تفريعا فنيا تمليه مقتضيات التنظير الأصولي، ولا تبعث عليه الحاجة الاجتماعية لتماسك الأمة الإسلامية.

فالإجماع كما يتحدث عنه متأخرو الأصوليين عبارة عن اتفاق المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض، وذلك بالطبع ما لم يفهمه المسلمون الأولون، وما لا تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، فالإجماع عند المتقدمين هو اتفاق المجتهدين الموجودين ساعة البحث في أمر ما، فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة، وهو مبني على أساس التشاور بين المؤمنين الذي حث عليه القرآن الكريم، وليس الإجماع أن يطلع كل مجتهد أو عالم على وجه الأرض على المسألة ويبدي رأيه فيها بالموافقة ونعلم نحن رأيه، ونجمع أفكار الناس كلهم، وهذا ما يستبعد أنه خطر ببال من قال بفكرة الإجماع من الصحابة ومن بعدهم (علال الفاسي، ص120).

بالرجوع إلى النصوص المؤسسة لدليل الإجماع من الكتاب والسنة كما ذكرها أهل الأصول، نجد أنها نصوص عامة تحث على وحدة الأمة من جهة، ولزوم المرجعية الإسلامية في اتخاذ أي قرار يخص الأمة كجماعة أو كأفراد من جهة أخرى. فمن النصوص التي اعتمدوها، قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (سورة النساء، الآية 115)، وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (سورة البقرة، الآية 143)، وقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” (سورة آل عمران، الآية 110)، “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (سورة آل عمران، الآية 113)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (سورة النساء، الآية 59). أما الأدلة من السنة فكثيرة ومنها أحاديث لزوم الجماعة، كحديث “إِنَّ اللَّهَ لا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَـلالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ” (ابن أبي عاصم، ص ص 86-95).

وإذا تتبعنا المنطق الذي تم من خلاله التأسيس لدليل الإجماع نجده يستند إلى أمرين:

أولا: الاستنباط المباشر من النصوص.

ثانيا: الحاجة الاجتماعية للتوافق وتقوية المشتركات.

والواقع أن النصوص التي استنبط منها الأصوليون دلالة الإجماع لا تؤسس لهذا الدليل بشكل واضح بحيث نعتبرها نصا في الإجماع، بل إنها لا تدل على ذلك حتى بظاهرها كما قال صاحب المستصفى: “فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر” (الغزالي، ج1، ص328). فبقي القول أن الدافع الأساسي وراء قبول فكرة الاجماع لدى فئة المجتهدين هو انسجامها مع مقاصد الشريعة وروح الدين الإسلامي في الاجتماع على الخير، وتقوية الشعور الجماعي لدى المسلمين، لهذا السبب يخاطب القرآن المؤمنين باعتبارهم أمة أكثر من اعتبارهم أفرادا، فلا يوجد في القرآن الكريم نداء للمؤمنين بصيغة المفرد، وإنما بصيغة الجمع.

ويبدو أن هذه الدوافع هي ذاتها التي جعلت فقهاء الشيعة الإمامية يقرون بمبدأ الإجماع في كتب الفروع الفقهية بعد أن قاوموه في كتبهم الأصولية، فقد ظلت الفكرة الإجماعية موضوع نقاش متواصل ليس عند المتأخرين والمعاصرين من مفكري الإمامية فقط بل حتى عند المتقدمين أيضا، منذ السيد مرتضى والشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري.

حين تعامل علماء الإمامية مع هذه الفكرة، لم يتعاملوا معها بوصفها فكرة هامشية، وإنما عالجوها  بدرجة عالية من الاهتمام بوصفها تمثل أحد الأدلة الأربعة إلى جانب الكتاب والسنة والعقل، وبهذا الوزن تبحث وتناقش هذه الفكرة في الدراسات الأصولية في خطوة اعتبر الشيخ المظفر أنها حصلت بقصد مجاراة للنهج الدراسي في أصول الفقه عند المسلمين السنة، هذه المجاراة التي أشار إليها الشيخ المظفر عبر عنها بوضوح مرتضى المطهري في آثاره، وكل هذا يبرز موقفا إيجابيا يكشف عن رغبة لها علاقة بفكرة الانسجام الإسلامي وضرورة توحيد الموقف تجاه المصادر الرئيسية لأدلة الأحكام الشرعية، مع الاحتفاظ بالاختلاف في التفاصيل (زكي الميلاد، ص ص 195-196).

ولو واصلنا السير مع منطق الأصوليين في تأسيس دليل الاجماع، لأمكننا أن نلمس نقصا في استكمال حدود هذا الدليل. هذا النقص يتوافر على مستوى الدليل النصي، وعلى مستوى الحاجات المتجددة في عصرنا الحاضر، فعلى مستوى النص نجد انكفاء في الاستدلال على النصوص التي تخاطب الأمة المسلمة فحسب على اعتبار أن الإجماع دليل شرعي والمخاطب بالشرع هو المسلم لا الكافر، لذا نقرأ في كل تعريفات الأصوليين تخصيص الإجماع بالأمة الإسلامية فهم يرددون في تعريفه عبارات من قبيل أنه: “اتفاق أمة محمد” أو “اتفاق المجتهدين من أمة محمد”، أي أن المخاطب بالإجماع هو أمة الإجابة لا أمة الدعوة (على عبد الرازق، ص 8).

ونلمس نقصا مماثلا على مستوى الحاجة إلى انسجام الأمة الإسلامية مع بقية الأمم، إذ لا يكفي أن تنكفئ الأمة الإسلامية على نفسها دون أن تبحث عن فضاءات للانسجام والمشتركات مع الأمم الأخرى. فما دام الإسلام رسالة عالمية قائمة على الاقناع لا على الإكراه، وعلى الإيمان لا على التقليد، فلا بد من البحث عن مكافئ للإجماع بالطريقة التي طرحها الأصوليون، مع فارق أن المخاطب هنا هو أمة الدعوة فضلا عن أمة الإجابة، ويصبح الأمر جديرا بالدراسة إذا علمنا أن توسيع دائرة الإجماع هذه المرة، سيشمل آفاقا جديدة للتجربة الإجماعية؛ هي المجال الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن وسعه رواد النهضة ليشمل الأفق السياسي بإرساء مبادئ الشورى، وشرعية الأمة، كواقع وآليات، بعد أن كانت أنساقا فضفاضة هشة، يعوزها البعد المؤسسي.

التأصيل الشرعي للإجماع الإنساني:

لم يحدث أن أجمع الناس منذ آدم عليه السلام إلى الآن على معتقد واحد، ولا يمكن أن يحدث ذلك، فالطبيعة البشرية مفطورة على الاختلاف، لذا تعامل الإسلام مع هذه الحقيقة، وبيَّن للمؤمنين أنه ليس من أهدافه أن يفرض نفسه على الناس فرضا، حتى يكون هو الديانة العالمية الوحيدة، كما  بيَّن القرآن الكريم أن كل محاولة لفرض ديانة عالمية واحدة هي إكراه مصادم لسنة الوجود، يستحيل أن يتحقق، نقرأ هذا في كثير من الآيات القرآنية ومنها قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (سورة هود، الآية118-119)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (سورة يونس، الآية 99)، (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (سورة البقرة، الآية 256).

بجانب هذا نجد آيات أخرى ترسي مبدأ البحث عن المشتركات مع المخالفين من الأمم الأخرى، يأخذ هذا البحث عن القواسم المشتركة مستويات عدة، فهناك مستوى المشترك بين أصحاب الديانات التوحيدية، وهو مشترك مهم جدا من حيث تعزيز الرؤية إلى الوجود والكون والحياة التي ستسهم في إرساء الإجماع في مستواه العابر للأمم، فنقرأ عن هذه الرؤية  قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (سورة آل عمران، الآية 64). وهناك مستوى المشترك بين المسلمين والوثنيين وأصحاب الديانات التعددية واللادينيين الذين قد يبدو لكثير من المسلمين ألا مشترك بيننا وبينهم، فالقرآن الكريم بيَّن هذا المشترك المتمثل في الاعتراف المتبادل بالآخر والتعايش السلمي واستدامة الحوار، لنقرأ هذا في كثير من الآيات. ففي مسألة الاعتراف المتبادل بين المشركين والمسلمين وإقرار حرية المعتقد ونبذ الإكراه الديني نجد قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)) (سورة الكافرون)، (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (سورة النساء، الآية 90) ،  وفي المساواة بين البشر نقرأ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة الحجرات، الآية 13).   وقد علق جيفري لانغ على هذه الآية قائلا: “تلخص هذه الآية بإيجاز بارع عالمية القرآن، فهي تبدأ كما يبدأ القرآن دوما بمخاطبة البشرية جمعاء، فالدعوة “يا أيها الناس” تتردد في القرآن حوالي خمس وعشرين مرة، وتشير إلى أن الدعوة موجهة إلى الجميع … وأنه توجد في عائلاتنا وعلاقاتنا مع القربى فرص كبيرة للنماء الروحي والشخصي … وأن الاختلافات بين البشر تزودنا بخبرات هامة أيضا، ذلك أن العدالة والمودة والتعاطف تأخذ بعدا جديدا عندما نطبقها على أولئك الذين ننظر إليهم على أنهم مختلفون عنا” (جيفري لانغ، الصراع من أجل الإيمان، ص 205).

والذي يعنينا الآن هو توضيح الحاجة إلى استكمال دائرة الإجماع بعد أن كان دليلا أصوليا محصورا في فئة المجتهدين من الفقهاء، ثم بعد أن أصبح أداة سياسية لتحقيق إرادة الأمة المسلمة في اختيار من يمثلها تمثيلا شرعيا دون إكراه أو قسر، ليصبح فضاء لخطاب أهل الفطرة من بني آدم فيما يحفظ وجودهم الإنساني، ويكفل الفرصة للإنسان أن يتواصل مع أخيه الإنسان دون وصاية، إلا وصاية الفطرة التي خلق الله الناس عليها.

إن الإجماع الإسلامي الإنساني يمكن أن يجد له دعما عن طريق رابطة التعايش لدى الشعوب إذا تجنبت التوظيف الإمبريالي سواء كان شرقيا أو غربيا، وقد نبه إلى هذه الفكرة نخبة من المفكرين نذكر منهم مالك بن نبي في كتابه فكرة الإفريقية الأسيوية، وغاندي في كتابه حضارتهم وخلاصنا، ومؤخرا طارق رمضان وإدغار موران في كتابهما Au péril des idées ، ويورغن هابرماس وجوزف راتسنغر في كتاب جدلية العلمنة العقل والدين.

الحاجة إلى إجماع اقتصادي إنساني:

لقد تنبه صناع الأفكار في الغرب الرأسمالي إلى الحاجة السوسيو-اجتماعية للإجماع العالمي لإقناع العالم بالخيار المذهبي الاقتصادي النيوليبرالي، فحاولوا ابتكار أساليب “صناعة القبول” لدى الرأي العام المحلي والعالمي لخدمة هذا النموذج، ولعل أوضح مثال على ذلك ما سمي بإجماع واشنطن (Washington Consensus) الذي لم يكن إلا ديباجة لتحرير الأسواق، ومزيد من الخصخصة، تم استغلالها من قبل بعض المؤسسات الدولية لتطبيق أجندة العولمة والسيطرة على موارد العالم والقضاء على خصوصيات الدول وميزتها التنافسية من خلال الدعاية وممارسة الضغوط المعلنة والخفية لتحرير العملة المحلية وتحرير التجارة وإلغاء القيود على الواردات وتبني الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية وفق وصفات مؤسسات العولمة (Chomsky, profit over people, pp 19-40)، وقد تقدم منظرون كثر لتبرير هذا النموذج الليبرالي وإصباغ صفة الحتمية عليه، حتى يتم تطبيعه وتحقيق الإجماع عليه بطريقة لاواعية، ومن بين الكتابات البارزة في هذا الشأن كتاب  نهاية التاريخ The End of History and the Last Man لفوكوياما الذي دافع فيه عن أطروحة الإجماع العالمي على النموذج النيوليبرالي في السياسة والاقتصاد، وأنه نموذج ربما يكون غير مقبول لدى البعض لكنه لا بديل عنه حسب رؤيته، فهو يفرض نفسه بنفسه فلا فائدة من المغامرة بمقاومته.

لكن بعد عقدين من الدعاية لهذا الاجماع القسري، يبدو أن البشرية الآن بما فيها شعوب الغرب نفسه بدأت تحس بخطر هذا الاستبداد الأيديولوجي المسلح بآليات معولمة لقصف العقول والدعاية المسرفة ليل نهار لهذا النموذج ومشتقاته، بيد أن نضالا كبيرا لا يزال ينتظر الأمم التي تحاصرها الأقليات النافذة لخدمة مصالحها التي تتصادم في غالبها مع المصلحة العامة لعموم الناس، بل مع مصلحة الأجيال القادمة والموارد الطبيعية التي تتقلص يوما بعد يوم.

معالم الإجماع الاقتصادي الإسلامي العالمي الجديد:

يطلق الإسلام في مصدريه الأساسيين الكتاب والسنة خطابا عالميا واضح المعالم، فهو يخاطب الفطرة الإنسانية خطابا متعاليا من الله الخالق إلى الإنسان المخلوق، ويترك مسؤولية الاستجابة للفرد في حد ذاته، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (سورة الكهف، الآية 29). هذه الصفة الربانية عامل مهم من عوامل تحريك الإجماع العالمي الإسلامي في المرحلة القادمة، فإذا كان مستند الأصوليين الأقوى في اعتماد الإجماع كمصدر من مصادر التشريع هو شرعية الكثرة في الأمة لا النص المستند إليه، فإن شرعية الفطرة لا تقل عنها قوة ومصداقية.

الفطرة في مفهومها اللغوي ترجع إلى الطبيعة الأولى التي خلق الله عليها الناس، وهي القابلية للتعرف على الخير والشر بشكل طبيعي، ولا تختلف مستويات الإحساس بهذين المطلقين إلا مع تلوث الفطرة بالاحتكاك بالمجتمع، واتباع الأهواء التي تخالف الفطرة أي الميزان الأخلاقي الطبيعي في الإنسان (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سورة الروم، الآية 29-30)، وهنا يأتي دور الدين لإعادة تذكير الناس بما يعلمون، لا بإنشاء قيم جديدة يتلقنها الإنسان لأول مرة، ولا عجب أن سمى القرآن الكريم نفسه “ذِكْرًا” “تَذْكِرَةً” “ذِكْرَى” في أكثر من موضع.

ويمكن القول بأن الإجماع الإسلامي العالمي لن يتوقف عند حدود تحقيق الاتفاق حول مسائل فقهية فرعية معينة، كما تصوره كثير من الأصوليين، ولا هو إجماع جزء من الأمة الإسلامية قل أو كثر على اختيار حاكم أو طريقة حكم، كما تقدم ذكره فحسب، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى تحقيق إجماع عالمي على الأمور التي أصبحت تهدد الوجود الإنساني في حد ذاته، كقضايا استنـزاف الموارد الطبيعية غير المتجددة والإخلال بالتوازن البيئي وتزايد النـزعة الاستهلاكية، وهي قضايا اقتصادية وأخلاقية، يحاول التيار الأساسي في إدارة الاقتصاد العالمي تهميشها وعدم الاعتراف بها.

ويبدو أن أهم القضايا الاقتصادية اليوم لم تعد تحتمل الفصل عن القضايا الأخلاقية، بعد أن حاولت المركزية الغربية منذ قرابة الثلاثة قرون فصل البحث الاقتصادي عن القيم عبر تأسيس علم اقتصاد وفق نموذج مادي فيزيائي، وتم فرض هذه الرؤية في ظرف توافق فيه ضعف شديد أصاب الديانتين التوحيديتين الكبيرتين وهما الإسلام والمسيحية، مع انتصار كبير للعلم المادي التجريبـي الذي حولته المركزية الغربية إلى مصدر للقيمة بدلا عن الأديان التي أعلن عن فشلها في تحقيق الرفاه للإنسان.

لكن الأمر تغير في العقود الأخيرة، وبدأ الشك يساور الجميع حول قدرة العلم على الحلول محل الأخلاق في تحقيق العدالة والرفاه، وظهرت في الغرب قبل الشرق تيارات نقد الحداثة بنسختها الغربية، وتعالت أصوات قوية تنادي بضرورة إيجاد نظام عالمي جديد وفق رؤية إنسانية أخلاقية وبعيدا عن المركزية الغربية المتمحورة حول النموذج المادي للإنسان.

ويبقى السؤال الذي يمكن طرحه هنا؛ هو عن مدى قدرة الأمة الإسلامية ومن يشاركها رؤيتها في الأمم الأخرى على تحقيق هذا الإجماع حول هذه المشتركات القيمية في ظل هيمنة النموذج المادي الاستهلاكي، ونمط الإنسان ذو البعد الواحد، كما يسميه هاربرت ماركوز. وهنا ربما نصل إلى النتيجة التي توصل إليها الكاتب الأمريكي المسلم جيفري لانغ في كتابه حتى الملائكة تسأل، حين راوده هذا التساؤل العدمي عن الأمل في الإنسان، وطرح على نفسه سؤال الملائكة لله تعالى عن سبب خلق الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وتوصل إلى نتيجة أن أزمة المعنى التي يعيشها الإنسان المادي المعاصر هي التي ستدفعه للبحث عن حلول لمشاكله، التي لن يجدها في سعير الرؤية المادية بل في رحاب الإيمان.

من هنا ندرك أن الفارق الجوهري بين الرؤية الاقتصادية الإسلامية والرؤية الاقتصادية التقليدية الغربية هو في النظر إلى الإنسان، فبينما يعتبره الاقتصاد الوضعي إنسانا خاضعا للحتميات المادية الأنانية لا إرادة له خارج دائرة المنفعة الفردية واللذة، يرى الاقتصاد الإسلامي أن الإنسان ليس مخلوقا ماديا صرفا بل إن له قدرة كبيرة على التجاوز والتغلب على جاذبية المادة، ولعل هذه القدرة الروحية غير المادية هي سبب التكليف الإلهي للإنسان وإنـزال الكتب وإرسال الرسل وظهور الأديان السماوية.

إن لب المشروع الإجماعي الإسلامي العالمي هو إحياء الضمير الإنساني بجهد واع ومكثف وإعادة الاعتبار للغرضية والغائية في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة الروح إلى الجسد الإنساني والخروج عن مركزية التحديث المادي الغربي الذي يمر الآن بأزمة كبيرة، ونحن لا نتحدث هنا عن التحديث الغربي ككل، ولكن إلى ما أطلق عليه “النموذج الفعال” أي النموذج الذي يمثل خلفية القرارات المتعينة، السياسية والعسكرية والاقتصادية (المسيري، نحو حداثة إنسانية جديدة).

تطبيقات اقتصادية للإجماع العالمي الإنساني:

  • نظام نقدي ومالي عالمي عادل

منذ الحرب العالمية الثانية لعب النظام المالي والمصرفي دورا حاسما في تمكين كل من القطاعين العام والخاص من توسيع طلباتهما النهمة على الموارد الاقتصادية، وقام النظام المصرفي بوظيفة مزدوجة وهي خلق حاجات جديدة من جهة، وإشباعها عن طريق الإقراض من جهة أخرى حيث أصبح الوصول إلى الائتمان أمرًا ميسورًا. وهكذا مولت الحكومات إنفاقها المفرط بجرعات كبيرة من عجز الموازنة، ثم تم سد هذا الإنفاق بالاقتراض من المصرف المركزي مما أدى إلى تناقص معدل الادخار في القطاع الخاص، في الوقت الذي ضاعف فيه هذا الأخير إنفاقه الاستهلاكي والاستثماري على حد سواء.

قامت المؤسسات المالية بتلبية الطلب المتزايد على الائتمان من خلال خلق الودائع، وتعاونت المصارف المركزية بعضها مع بعض في تحقيق هذا الغرض عن طريق التوسع في إصدار النقود، ولما كانت الموارد الطبيعية محدودة فإن عرض السلع والخدمات لم يستطع مجاراة الطلب عليهما، فنشأت فجوة بين التوقعات وتلبيتها وانتهى الأمر إلى نشوء التوترات التي تعمقت وترسخت في المجتمعات الحديثة، وأدت هذه الفجوة بدورها إلى تسريع معدل التضخم الذي أصبح الآن واحدا من أكبر المشكلات التي يواجهها الاقتصاد العالمي (محمد عمر شابرا، ص ص 32-33).

غير أن الوضع في العشريات الأخيرة أصبح ينذر بكارثة كبيرة على البشرية وعلى الحضارة الإنسانية نتيجة التشويه الكبير الذي طال الاقتصاد المالي والنقدي العالميين، فقد أصبح الربا بديلا عن النقود بصفة شبه كاملة، وصارت البنوك المركزية لا تصدر نقودا إلا في المعاملات المحدودة والبسيطة، أما النقود المهيمنة فهي النقود الكتابية (Scriptural money) التي تخلقها البنوك التجارية بوصفها دينا (Money as debt)، أي أن البنوك لا تقرضك نقودا وإنما تلزمك دينا.  لقد أصبحت هذه الظاهرة إضافة إلى المضاربات والمقامرات في الأسواق المالية آلة تدمير لا ترحم للاقتصاد الحقيقي، وضاعف من قوتها التدميرية اشتباك الاقتصاد العالمي وارتباط بعضه ببعض بفعل العولمة المالية وتقنياتها السريعة والمؤسسات المالية العملاقة التي تدافع عنها (Patrick Artus).

والغريب في الأمر أن هذا الاستنـزاف الممنهج لمقدرات الشعوب لا يوجه إليه أي اتهام رسمي في أي جزء من العالم، فهو يتم وفق القوانين السارية لمعظم الدول كما يقول جون كينت جل بريث في كتابه الأخير اقتصاد الاحتيال البريء.

إن النظام النقدي والمالي العالمي الحالي يحتاج إلى استبدال فوري بنظام يربط النقود بالسلع والخدمات وليس إلى نظام يشتق النقود من النقود، وقد ظهرت في العالم مبادرات كثيرة تحذر من مغبة اسناد أمر خطير كخلق النقود إلى البنوك الخواص، دون أن توجه إليهم أي تهمة في حال أفلس النظام المالي ومعه الاقتصاد الحقيقي كما حدث في الأزمات المالية الأخيرة ((Elie Sadigh. لقد تيقظت بعض القطاعات من المجتمع المتضرر ما أدى إلى ظهور حراك شعبي مدني عالمي ضد العولمة المالية والنظام الربوي المتصاعد دون قيود، كحركة “احتلوا ول ستريت” التي شعارها نحن 99% من السكان ضد1% من المفسدين.

إن الإجماع العالمي الإسلامي الإنساني يمكن أن يتحقق عبر تجميع الرأي العام العالمي على مناهضة الربا ومشتقاته، ومن خلال تواصل المجتمع المدني عبر العالم لإرجاع سلطة الإصدار النقدي بطريقة ما إلى الأمم والمجتمعات وليس إلى أقلية من المرابين (Philippe Derudder) . إن الإجماع العالمي في قضية تصحيح وضع النقود والمال والعملات أمر ضروري ومستعجل لأن النقود تأخذ قيمتها لا في ذاتها، وإنما في قبول الناس لها، وهناك اليوم فزع عالمي كبير من صناعة المال بعيدا عن رقابة المجتمع والدول معا، كما أن الوعي بالاحتيال المعولم من طرف نخب متنفذة لا ضمير لها بدأ يتشكل كرأي عام عالمي.

لقد ظلت صناعة القبول (Manufacture of Consent) هي المهمة الأساسية للدعاية الامبريالية الليبرالية لتبرير الاستغلال المتصاعد لمقدرات الأمم والشعوب. (Walter Lippmann, p 248) وصناعة القبول هذه اتخذت شكلا لا واعيا لقبول الأمور على ماهي عليه بحجة انعدام البديل أو لأننا نعيش مرحلة نهاية التاريخ. وفي المقابل فإن الاقتصاد الإسلامي يعتمد صناعة قبول من نوع آخر لا توجد في الأيديولوجيات الاقتصادية المختلفة وبالأخص الأيديولوجية الليبرالية، لأن هذه الأخيرة تعتمد على خطاب الغرائز، واستثارة النـزعة الفردية الأنانية في الإنسان، فهي غير قادرة على إصلاح نفسها في هذه المرحلة المترهلة من تاريخ الهيمنة. وعلى العكس من ذلك فالخطاب الاقتصادي الإسلامي يعتمد على “الوعي” و”الأمل” و”المسؤولية” في الإنسان ويراهن على إرادة الخير الكامنة فيه لأن الخلفية المعرفية لهذا الاقتصاد ترتكز على أخلاق القرآن.

  • سلوك استهلاكي متوازن مع قدرات البيئة:

في عام 1972، كانت البشرية قد قاربت 85٪ من الحدود الحيوية للسعة القصوى للأرض حتى تتحمل نشاط الإنسان فوقها دون ضرر على البيئة وقدرتها على التجدد، أما اليوم فإن هذه العتبة قد انهارت بنسبة 150٪، وتجاوزنا العتبة الحرجة بكثير، والسبب هو النـزعة الاستهلاكية الإسرافية النهمة التي جعلت شريحة كبيرة من البشر يستهلكون أضعاف حاجاتهم الحقيقية من موارد الأرض المتجدد منها وغير المتجدد (Donella H.Meadows and others, preface , pp x-xxii).

حسب الصندوق العالمي للطبيعة (World Wide Fund for Nature)، وتبعا للبصمة البيئية، إذا رغب كل البشر -الذين يشكلون الآن أكثر من ستة مليارات – في أن يعيشوا في المستوى المعيشي للمواطن الفرنسي متوسط الدخل فإن الأمر يستدعي كوكبين إضافيين بحجم الأرض يمدهم بالموارد، أما إذا أرادوا مستوى معيشيا مماثلا لمواطن أمريكي متوسط الدخل فإن الأمر يحتاج من 6-7 كواكب بالحجم نفسه لتحقيق هذه الغاية وإلى كوكبين أو ثلاثة لرمي النفايات (Pierre Rabhi, p22).

إن البشرية بهذه النـزعة الاستهلاكية ذات النمط الغربي المعولم، إنما تريد أن تصل إلى حتفها، وفي أقرب الآجال، فالاختلالات البيئية و التلوث فضلا عن الغطرسة وإشعال الحروب صارت ميزة هذه الحداثة المنفصلة عن القيمة، إن النمو بدون حدود كما يروج له النموذج الاقتصادي الغربي إنما يعكس تنكر الحداثة في مرحلتها الأخيرة لفكرة الإيمان والدين بشكل كبير، من خلال تنميطها للإنسان الأداتي المادي الجشع الذي لا يؤمن باليوم الآخر، تماما كما لا يؤمن بأخيه الإنسان، ولا يبالي بمستقبل الأجيال اللاحقة، إنه يريد أن يهبط بجنة الفردوس من عالم الغيب إلى الأرض عن طريق الاستهلاك اللامحدود (عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، 42-45).

لقد عبر القرآن الكريم عن الإنسان المادي الاستهلاكي وعرفه في كثير من الآيات منها قوله تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (سورة الماعون، الآيات 1-3)، (كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (سورة الفجر، الآيات 17-20).

ولم تذهب السنة النبوية بعيدا عن هذا التشخيص، إذ روى مسلم عن أبي هريرة: (أن رسول الله r ضافه ضيف وهو كافر فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى ثم أخرى حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له بشاة فشرب حلابها ثم بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله r: المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء” (صحيح مسلم بشرح النووي،7/3175، رقم 5281).

إن إجماعا عالميا يضم كل أصحاب العقول والضمائر، من المسلمين وغير المسلمين لتشكيل جبهة عالمية ضد الاستهلاكية والجشع أصبح أمرا يمليه الواقع قبل أي شيء، وهي فرصة لأهل الأديان وعلى رأسهم المسلمين، لإعادة الناس إلى الإيمان، فقد أصبح العالم اليوم تتقاسمه رؤيتان: رؤية إيمانية متجاوزة تؤمن بالغيب و بالإنسان وهي رؤية أهل الأديان و في مقدمتهم المسلمون، ورؤية مادية استهلاكية لا تتجاوز المادة ولا تؤمن بما وراءها، وتختزل الإنسان في جانبه المادي البحت، و هي رؤية تفقد الإنسان ما يميزه بوصفه إنسانا، ويصبح مادة استعمالية لا قيمة لها، ويتحول إلى مجرد وقود لفرن الاستهلاكية العالمية التي تقود البشرية إلى الإبادة (عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص ص 196-222).

أصبحت قوى المادية العلمانية المعادية للإنسان تعمل وفق آلية وظيفية تخدم مكوناتها بعضها بعضا، فالاقتصاد المالي الطفيلي الذي يعمل بآليات الربا والمضاربات يشجع بصفة لا عقلانية خلق حاجات استهلاكية غير ضرورية تضر بالبيئة وصحة الإنسان وتوازنه المادي والمعنوي، وموازاة مع هذا فإن الهوس بالشراء يضطر الناس إلى الاستدانة الدائمة، وهذه الاستدانة هي التي تزيد في عمر النظام الربوي وتغذي مصاصي الدماء وتجعل الجميع يدورون في متاهة مغلقة، وتخلق صراعا على الموارد فوق قدرة الطبيعة.

لا شك أن مبادرات كثيرة ظهرت في العالم لتجميع جهود المجتمع المدني للوقوف ضد الاستهلاكية واستنـزاف الطبيعة، وهي مبادرات تعطي الأمل في إمكانية تحقيق الإجماع العالمي في القضايا الأخلاقية والإنسانية، إذا بذلت الجهود الكافية في توعية الجماهير وتذكيرها بمصيرها، فعلى سبيل المثال: كانت المقاطعة الطوعية للمستهلكين في الغرب هي السبب الرئيس لترك مركبات (chlorofluorocarbone) المستخدمة في ملء العبوات المضرة بطبقة الأوزون، وقد كانت هذه المادة كثيرة الاستخدام في كندا، والولايات المتحدة، ومعظم الدول الغربية، لكن المقاطعة الواعية من طرف المستهلكين شكلت إجماعا في الغرب يصعب خرقه، ما أجبر الشركات على ترك هذه المادة والبحث عن بدائل لها (p163 Payne and Cecily and others,).

خاتمة:

إن فكرة الإجماع العالمي الإسلامي ليست أمنية أو حلما، وإنما هي فكرة تستمد قوتها من روح الدين الإسلامي في حد ذاته، فهو رسالة عالمية تخاطب الناس وفقا للنعمة التي وزعها الله بين عباده بالتساوي وهي العقل. لكن العقل الذي يخاطبه الإسلام ليس هو العقل الآداتي المادي المستعصي على الإيمان، بل هو العقل السليم المنسجم مع الفطرة، وأهل الفطرة موجودون في الأمم كلها، وإنما يحتاجون إلى “الذكر” و”التذكير” بإنسانيتهم وموقعهم من الكون والحياة، ليدركوا خطر المرحلة التي تمر بها الإنسانية، ويجمعوا جهودهم لمواجهة عدوهم الأول وهو هذه المادية المعولمة المعادية للإنسان، ولا يهم اختلاف الأديان، مادامت مجمعة على كلمة سواء هي مجابهة المادية.

ليس الصراع العالمي اليوم بين الحضارات كما صوره هينتينغتون ومن وافقه، بل إن الصراع بين المادية الاستهلاكية العلمانية المعولمة من جهة، وبين كل ما هو أخلاقي ومتجاوز للمادة وإنساني ورافض للهيمنة الامبريالية في الحضارات كلها، بما فيها الحضارة الغربية في حد ذاتها، حيث أن الدين المسيحي الذي يعتبر تاريخيا هو دين الشعوب الغربية يحاصر وتتقلص مساحته من الحياة الخاصة للأفراد يوما بعد يوم فضلا عن الحياة العامة التي أبعد عنها منذ مدة.

وإذا كانت القسمة ثنائية بهذا الشكل فإن من العبث تضييع الجهود في انتظار ما تفعله القوى المادية المعادية للإنسان، فلابد من السعي نحو إجماع عالمي حول القضايا التي لا يسع البشرية الخلاف حولها، وهي القضايا المرتبطة بمصير المجتمعات الإنسانية ذاتها على وجه الأرض.

إن من أولويات البحث في الاقتصاد الإسلامي في المرحلة الراهنة هو البحث عن سبل لمجابهة سلبيات العولمة بعولمة معاكسة، تحقق أكبر قدر من الإجماع الواعي الإنساني حول القضايا الأخلاقية والكونية الكبرى ومصير الإنسان.

 

* * *

المراجع

  • ابن أبي عاصم، أبو بكر. السنة. تحقيق: باسم بن فيصل الجوابرة. الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، 1998.
  • ابن الحجاج، مسلم. النووي، يحي بن شرف. صحيح مسلم بشرح النووي. تحقيق: عادل عبد الموجود وعلى عوض. مكة المكرمة: مكتبة نـزار مصطفى الباز، 2001.
  • ابن الهمام، كمال الدين. التحرير في أصول الفقه. القاهرة: مطبعة البابي الحلبي، 1351هـ.
  • ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر. إعلام الموقعين عن رب العالمين. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. الدمام: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، 1423هـ.
  • إقبال، محمد. تجديد الفكر الديني في الإسلام. ترجمة: عباس محمود. القاهرة:2000.
  • الآمدي، علي بن محمد. الإحكام في أصول الأحكام. تحقيق: عبد الرزاق عفيفي. الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، 2003.
  • البشري، طارق. نحو تيار أساسي للأمة. القاهرة: دار الشروق، 2011.
  • الجويني، أبو المعالي. البرهان في أصول الفقه. تحقيق: عبد العظيم الديب. الدوحة: مطابع الدوحة الحديثة، 1399هـ.
  • الحجوي، محمد بن الحسن. الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي. الرباط: مطبعة إدارة المعارف، 1340هـ.
  • السنهوري، عبد الرزاق. فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية. بيروت: مؤسسة الرسالة، 2000.
  • الغزالي، أبو حامد. المستصفى من علم الأصول. تحقيق: محمد سليمان الأشقر. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1997.
  • الفاسي، علال. مقاصد الشريعة ومكارمها. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1993.
  • الفضلي، عبد الهادي. دروس في أصول فقه الإمامية. بيروت: مركز الغدير للدراسات والنشر، 2007.
  • المسيري، عبد الوهاب “نحو حداثة إنسانية جديدة”. صفحة ويب:

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2004/12/26

  • المسيري، عبد الوهاب. الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان. دمشق: دار الفكر-بيروت: دار الفكر المعاصر، 2013.
  • المسيري، عبد الوهاب. دراسات معرفية في الحداثة الغربية. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006.
  • الميلاد، زكي. تجديد أصول الفقه: دراسة تحليلية نقدية لمحاولات المعاصرين. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2013.
  • بن نبي، مالك. فكرة الإفريقية الآسيوية. ترجمة: عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر، 1993.
  • بن نبي، مالك. فكرة كمنويلث إسلامي. ترجمة: الطيب الشريف. دمشق: دار الفكر، 2000.
  • جلبرايث، جون كنث. اقتصاد الاحتيال البريء. ترجمة: محمد رضا علي العدل. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010.
  • رضا، محمد رشيد. تفسير القرآن الحكيم. القاهرة: مطبعة المنار، 1328هـ.
  • رضا، محمد رشيد. “كليات الدين الإسلامي والاجتهاد” المنار 10، (30 يوليو 1904):361-400.
  • شابرا، محمد عمر. نحو نظام نقدي عادل. ترجمة: سيد محمد سكر، عمان: دار البشير للنشر والتوزيع، 1990.
  • عبد الرازق، علي. الإجماع في الشريعة الإسلامية. القاهرة: دار الفكر العربي، 1947.
  • غاندي، الماهتما. حضارتهم وخلاصنا. تحقيق: نجدة هاجر- سعيد الغز، القاهرة: سطور الجديدة، 2008.
  • لانغ، جيفري. الصراع من أجل الإيمان إنطباعات أمريكي اعتنق الإسلام. ترجمة: منذر العبسي. دمشق: دار الفكر، 2000.
  • لانغ، جيفري. حتى الملائكة تسأل رحلة إلى الإسلام في أمريكا. ترجمة: منذر العبسي. دمشق: دار الفكر، 2001.
  • ماركوز، هربرت. الإنسان ذو البعد الواحد. ترجمة: جورج طرابيشي. بيروت: دار الآداب، 1988.
  • هابرماس، يورغن و راتسنغر، جوزف. جدلية العلمنة العقل والدين. ترجمة: حميد لشهب. بيروت: جداول للنشر والترجمة والتوزيع، 2013.
  • Artus, Patrick. Les incendiaires: Les banques centrales dépassés par la globalisation. Perrin : 2007.
  • Derudder, Philippe. Rendre la création monétaire à la société civile : Vers une économie au service de l’homme et de la planète. Paris: Editions Yves Michel, 2005.
  • Dinah M. Payne and Cecily A. Raiborn.”Sustainable Development: The Ethics Support the Economics”, Journal of Business Ethics Netherlands: Kluwer Academic Publishers. 2001.
  • Lippmann, Walter. Public opinion. New Brunswick: Transaction Publishers, 1998.
  • Meadows, Donella H. and others. Limits to growth: The 30-year update. London : Earthscan, 2006.
  • Rabhi, Pierre. La part du colibri : L’espèce humaine face à son devenir. Paris : Editions de l’Aube, 2009.
  • Sadigh, Elie. La financiarisation : capital contre travail – Les traders au service des bandits des temps modernes. Paris : L’Harmatton, 2010.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر