أبحاث

البحث العلمي في العالم الإسلامي

العدد 61

إن الموضوع الرئيسي الذي تدور حوله هذه الدراسة هو حركة البحث العلمي في العالم الإسلامي. والغرض منها هو إلقاء نظرة سريعة على وضع الأنشطة في مجال البحث العلمي واتجاهاتها الإساسية وتطورها وتحديد المشاكل التي تواجهها بصورة عامة وإيجاد المجالات التي يجب أن يتم فيها التنسيق والتعاون بين مؤسسات البحوث المختلفة؛ ولهذا فسوف اعتمد على نتائج الندوة الدولية التي نظمها المركز في شهر  سبتمبر/ أيلول  الماضي حول “الدراسات والأبحاث العلمية في الحضارة الإسلامية : نظرة على العقد القادم” التي ركزت على البحث العلمي في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية. كما انتهز هذه الفرصة لأقدم لحضراتكم نتائج دراسة أولية قام بها المركز حول موضوع ” الأبعاد الثقافية للتنمية في الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي ” ويعني قسم منها بالبحث العلمي في كافة مجالات المعرفة.

     تعلمون حضراتكم أن البحث العلمي هو من الأمور التي عايشتها المجتمعات الإسلامية منذ صَدر الإسلام, فقد أكد الدين الحنيف على أهمية البحث والعلم والتعلم, حتى اتبعت الدول الإسلامية – منذ القرون الأولى من الإسلام – ذلك المبدأ, فجعلت للنشاط العلمي مكانه المرموق في المجتمع, وأولته الأهمية التي يليق بها. ونستطيع القول أن مناهج البحث العلمي بدأت مع بداية تاريخ الإسلام, وكان تسجيل الأحاديث النبوية الشريفة وجمعها بمثابة البداية الواضحة على ذلك الفهم, حتى ظهر تأثيرها على الأنشطة العلمية التي جرت في العصور التالية. فقد تطورت عقب هذه البداية مناهج البحث في فروع العلم المختلفة, وظهرت عدة مؤلفات. وكانت مادة التاريخ مجالاً لتطوير منهج قوي, يختلف عن ذلك الذي استخدمته الحضارات السابقة. وبدأت تظهر في إطار هذا المنهج الدراسات التاريخية حيث كُتِبَ تاريخ الخلفاء والحكام وأثرى التأليف في مجال السير وطبقات الرجال, وتاريخ المدن, كما تطورت نظريات ومناهج في مجال فلسفة التاريخ وعلم اجتماع التاريخ. ولا زالت الأسس العلمية التي استند عليها ذلك الكم من مادة التاريخ تحافظ حتى اليوم على جدتها. وكما حدث في مجال التاريخ حدث أيضاً في مجال الجغرافيا, فقد وضعت المؤلفات الرصينة في هذا العلم معتمدة على مبادئ ثابتة وموضوعية, وأعد الكثير من المؤلفين كتبا حول الجغرافيا التي تحتوي عناصر اقتصادية وثقافية والعديد من كتب الرحلات. وفي مجال اللغة والأدب تم وضع قواعد النحو والبلاغة في اللغة العربية. وساهمت النشاطات المتعلقة بجمع النصوص القديمة والقصائد الشعرية وما تميزت به مختلف اللغات المحلية في تطوير تقاليد البحث.

وأما في مجالات العلوم الطبيعية والرياضيات فقد أخذ المسلمون عن الحضارات القديمة, وهو ما سموه ” علوم الأوائل “, واستوعبوها ثم اغنوها باكتشافاتهم ومساهماتهم, أضف إلى هذا أن تشجيع روح البحث العلمي, والمواظبه عليه وكذلك المناهج التجريبية قد أدت إلى رفع المستوى العلمي عند المسلمين بالشكل المعروف لدينا جميعاً.

     غير أن المناهج العلمية المتطورة وروح البحث التي استقرت في المجتمع لم تستمر بنفس الشكل, إذ بدأ العالم الإسلامي يفقد مع مرور الوقت موقعه الريادي فيه دنيا العلم. ولن نتعرض هنا للعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فعلت فعلها على امتداد العصور, ولكن حسبنا أن نشير إلى الحقيقة الواضحة حول أن الدول الإسلامية قد أصبحت مع الأسف في وضع متخلف في مجال البحث والعلم والتكنولوجيا في ضوء التطورات السريعة التي تمر بها التكنولوجيا في عصرنا الحاضر. ولاشك أن وضع سياسة للبحث والعلم هو واحد من أهم الموضوعات التي يجب أن تتناولها الدول الإسلامية بصورة جادة, وهذه السياسة لها جانبان أساسيان : إذ يُعني الجانب الأول ببحث التراث الحضاري الإسلامي العريق والحفاظ عليه ثم دراسته وتطويره وتقديمه للأجيال القادمة, أما الجانب الثاني فهو يُعني بعدم الاكتفاء بمجرد تعقب التطورات العلمية في العالم والوصول إلى المستوى الذي يمكننا به أن نقوم ببحوثنا الخاصة وإنتاج علمي محلي يضيف إلى مادة العلم عناصر جديدة.

     وأهم شرط لهذا هو دفع كل قطاعات المجتمع للأهتمام بموضوع العلم, فلا شك أن دراساتنا اليوم والمعلومات الجديدة التي نضيفها إلى رصيدنا سوف تشكل فيما بعد التراث الحضاري لأجيال الغد.

     وقد لاحظنا بامتنان في السنوات الأخيرة أن هناك اهتماماً أكبر ونشاطا متزايدا بالبحوث التي أجريت في موضوعات تدخل ضمن إطار الحضارة الإسلامية بوجه خاص. فقد ارتفع عدد مراكز البحوث في شتى الدول الإسلامية, وبدأت هذه المراكز وغيرها من كليات الجامعات والأشخاص يطلقون أيديهم في موضوعات جديدة في مجال الثقافة والحضارة الإسلامية, ومن ثَم بدأت تُعد برامج البحوث وتتنوع موضوعاتها, فاحتوت الساحات التي تُعني بالعلوم الإسلامية والثقافة والتاريخ وتاريخ العلوم واللغة والأدب والفنون والعمارة وغيرها مما يشكل الحضارة الإسلامية والمبادئ التي تتعقب تطورها.

     ومع ظهور تلك التحولات بدأت تظهر الحاجة أيضاً إلى المبادئ التي تحقق التنسيق والتعاون والتنظيم التي تؤكد بدورها على حرية البحث العلمي ونشاط رجال العلم؛ لأن هناك مؤسسات تقوم بدراسات عن الحضارة الإسلامية, ليس في دول العالم الإسلامي فحسب, بل في الدول الغربية وفي الدول النامية الأخرى, وتلك المؤسسات ليست على علم كامل بما يحدث فيما بينها من أنشطة وفعاليات. وهذا بدوره سوف يؤدي إلى أن تتكرر الموضوعات التي تَدرُسها أو تتشابه فيما بينها مما يمهد السبيل بالتالي إلى الإسراف في الموارد وتضييع للوقت والجهود. أضف إلى ذلك أن تلك المؤسسات قد لا تستفيد من نتائج البحوث التي تجريها كل منها. وقد بدأ كثير من الباحثين والمؤسسات العلمية – بعد أن شعروا بضرورة التنسيق والتنظيم – في إقامة الندوات المنظمة والاجتماعات والجمعيات وغير ذلك مما يهدف إلى توطيد العلاقات فيما بينهم. وإذا شئنا أن نضرب بعض الأمثلة على تلك المحاولات المختلفة لوجدنا أن مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية ( أرسيكا ) المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي قد بادر بمجموعة من الندوات والمؤتمرات التي استطاع من خلالها أن يجمع مختلف الباحثين والمؤسسات العلمية من شتى أنحاء العالم الإسلامي. وكان أول هذه الاجتماعات والندوات الندوة الدولية التي أقامها المركز في سبتمبر/ أيلول عام 1988, حول الدراسات والأبحاث العلمية في الحضارة الإسلامية : ” نظرة على العقد القادم ” حيث ركزت تلك الندوة على أربعة مجالات متصلة بالبحث وهي : أهمية المعطيات والمعلومات في البحث, ومناهج البحث, وبرامج البحث, والموارد اللازمة والحاجة إلى الطاقات البشرية. وقد تم في تلك الندوة دراسة أوضاع الباحثين والمشاكل الموجودة والاحتياجات واقتراح طرق الحل وغير ذلك. وإنني إذ أقدم لحضراتكم نتائج تلك الندوة فذلك لأن القضايا التي ناقشتها هي مكملة للمسائل التي نحن بصدد بحثها هنا. لذلك فإنني آمل أن تسهم هذه الأفكار في بلورة أعمال ندوتنا هذه حيث إنها قد اهتمت بالبحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية, في حين أن ندوتنا هذه تعالج البحث العلمي في كافة مجالات العلوم بما في ذلك العلوم البحتة, هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن الندوة التي أقمناها في العام الماضي قد اهتمت بوضع البحث العلمي بصفة عامة وبالمشاكل التي تواجهه, في حين أن ندوتنا هذه تركز بصفة خاصة على التنسيق والتعاون بين مؤسسات البحث. وأود هنا أن أقدم نموذجاً عن تلك المحاولات التي نتحدث عنها من خارج العالم الإسلامي نفسه. وهو عمل يضم الباحثين الغربيين وبعض الباحثين المسلمين ممّن يعملون في دول الغرب, ويتمثل في المؤتمر العالمي الذي يعقد في شهر نوفمبر القادم في باريس تحت عنوان ” تاريخ العلوم والفلسفة عند العرب ” كما ينوي القائمون على تنظيم ذلك المؤتمر تأسيس ” جمعية تاريخ العلوم والفلسفة عند العرب ” يكون من أهدافها تنظيم لقاء الباحثين العاملين في حقل تاريخ العلوم وتوفير جو التعاون والتنسيق فيما بينهم. وهذه المحاولات التي قدمت بعض النماذج منها تدلنا بما لا يدع مجالاً للشك على أن هناك شعوراً بالحاجة في هذا الموضوع. حسنٌ, فما هي هذه الاحتياجات التي تشكل السبب وراء تلك المحاولات, وما هي المشاكل التي نواجهها في هذا الصدد ؟.

     أما في مجالي العلم والتكنولوجيا يمكن ملاحظة تزايد إدراك الدول الإسلامية وبخاصة منذ العقد الماضي, إلى الحاجة إلى تطبيق سياسات عاجلة لتنشيط البحث والتنمية, وتعزيز التنمية العلمية والتقنية في إطار استراتيجيات طويلة المدى. وقد أظهرت الدراسة التي أعدها المركز حول ” الأبعاد الثقافية للتنمية في الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي ” أن الدول الإسلامية بذلت جهوداً لأجل إنشاء القاعدة المؤسسية لأنشطة البحث والتنمية, واتخذ البعض منها – مثل الأردن والباكستان وتركيا ومصر – خطوات كبيرة لدعم البحث المؤسسي. ولكن في مجالي العلم والتكنولوجيا أيضاً هناك حاجة ماسة إلى اتخاذ العديد من التدابير لضمان التطور العلمي والتكنولوجي في العالم الإسلامي. ولا شك أن التنسيق والتعاون بين مؤسسات البحوث سيرجعان بالفائدة على هذا التطور العلمي والتكنولوجي.

     أما بالنسبة للاحتياجات والمشاكل التي نواجهها في مجال البحث فتجدر الإشارة إلى أن محتوى البحث هو محتوى واسع, سواء كان من ناحية الموضوع وسواء كان من ناحية الساحة الجغرافية التي انتشر عليها العالم الإسلامي. وجانب من المشاكل التي يمكن مواجهتها هو نتيجة الاتساع الجغرافي للعالم الإسلامي. وأولى تلك المشاكل إنما تنجم عن أن الدراسات والبحوث حول المناطق المختلفة للعالم الإسلامي إنما تجري بشكل يعدم التواصل فيما بينها فالمناطق المختلفة في العالم الإسلامي مثل العالم العربي ( المشرق والمغرب ) والعالم التركي ( آسيا الوسطى, والأناضول, منطقة البلقان ), وإيران وجنوب آسيا والهند, وعالم الملايو في جنوب شرقي آسيا وإفريقيا السوداء إنما تعرض لنا في الأصل حضارات ظهرت من امتزاج الحضارة الإسلامية نفسها بالعناصر الثقافية المحلية والإقليمية, ومن ثَم احتوت على العديد من الخصائص المشتركة. ولكن المؤسف له أن البحوث المتعلقة بتلك المناطق, في الوقت الذي يمكن لها فيه أن تفيد وتستفيد من بعضها البعض سواء من الناحية المنهجية وسواء من ناحية المصادر وغيرها من الأمور الأخرى, نراها تُجرى بعيدة ومنعزلة عن بعضها البعض. أضف إلى ذلك أن الذين يقومون ببحوث في العالم الإسلامي وفي أماكن مختلفة من العالم حول منطقة بعينها وحول حضارتها يعدمون الصلة فيما بينهم, فلا يعلم الواحد منهم شيئاً عما يفعله الآخرون, وهذا بالطبع يمهد السبيل كما أسلفنا للتكرار وهدر الموارد وتضييع الوقت والجهد. ويمكننا أن نسمي هذه المشكلة بوجه عام بأنها مشكلة نقص الإعلام بين الباحثين ومؤسسات البحث. وهنا تظهر الحاجة الماسة إلى إعداد الفهارس والأعمال الببليوغرافية والنشرات الدورية لملخصات البحوث بشكل منظم حول البحث العلمي تبعاً للموضوع وتبعاً لمناطق العالم الإسلامي على السواء. ولا شك أن التخطيط الجاد للأعمال الببليوغرافية والنشرات الدورية لملخصات البحوث والعمل على تعقب البحوث الجارية بشكل منظم والتوزيع الواسع للفهارس الدورية التي تعد, إنما هو أمر على درجة كبيرة من الأهمية في مستقبل النشاط البحثي. ولهذا الأمر فائدة أخرى هامة تتجلى في العمل على تحديد نوعية البحوث التي تتمم بعضها البعض وتحديد الساحات التي يلزم القيام فيها ببحوث جديدة. والمشكلة الأخرى التي تواجهنا في إطار نقص الإعلام هي المعلومات الكمية والكيفية التي تستلزمها البحوث, والصعوبات التي تواجه الباحث في الحصول على مصادر بحثه. فالمعروف أن هناك مصادر في شتى موضوعات الحضارة الإسلامية لم تصل إليها الأيدي بعد, كما توجد معلومات ومصادر لا يعلم بوجودها إلا بعض الباحثين بينما يجهل وجودها باحثون آخرون هم في حاجة للاطلاع عليها, وأن نشر الفهارس الدورية في موضوعات مختلفة لا شك سوف يقضي على جانب كبير من هذه المشكلة إن لم يقض عليها تماماً. وهناك مشكلة أخرى تواجهنا في موضوع الحصول على المعلومة ذات الكم والكيف واستخدامها وتوزيعها, وهي تنجم عن اختلاف المعايير ( التوحيد القياسي ) وعدم الانسجام. فالمناهج المستخدمة في تصنيف المعلومات أخذت عن الغرب بوجه عام ثم تم تطبيقها لمواجهة الاحتياجات المحلية ولكن بطريقة تختلف من بلد إلى آخر, حتى في البلدان التي تتكلم نفس اللغة. فكان من نتيجة ذلك أن أصبح الباحثون في العالم الإسلامي ورجال الإعلام على السواء يشعرون من حين لآخر بأنهم غرباء على النظم والمناهج التي يستخدمها الآخر. وهناك محاولة استهدفت حل مشاكل توزيع المعلومات وتعاطيها وحل مشاكل التوحيد القياسي, وتمثلت في “المؤتمر الثالث للمكتبيين والإعلاميين المسلمين ” الذي انعقد في إستانبول في أواخر شهر مايو/ آيار الماضي, وهذا المؤتمر قد نّوه بطرق الحل المختلفة التي تنطوي على إقامة ” شبكة عالمية للإعلاميين المسلمين ” ولكن هذا المؤتمر الثالث لم يعط دفعاً لهذه المحاولة حيث إن الآمال التي تم التعبير عنها لم تجد الفرصة لكي تتحول إلى نشاط ملموس. وهذا يتطلب منا الوقوف على مسألة توسيع تلك المحاولة التي لا تزال جديدة والإكثار من مثيلاتها من خلال العمل على مشاركة جميع الدول الإسلامية فيها وعلى كل المستويات. إن محاولتنا لحل المشاكل التي يواجهها البحث العلمي يجب أن تعتمد على مبدأين : الأول تخطيط التعاون الذي يستند على الإمكانات المتوفرة لدى الأطراف المعنية بالتعاون, الثاني هو وضع أسس التعاون الذي يتم على مراحل تدريجية بقصد توسيع آفاقه تمشيا مع الخبرة التي نكتسبها.

     والمشكلة الأخرى التي نواجهها في مجال البحث العلمي إنما تتعلق باللغة؛ إذ يلزم علينا أن نقوم بحركة ترجمة واسعة يكون من شأنها تيسير عملية الوصول إلى مصادر البحوث التي تجري في مناطق أخرى من العالم الإسلامي. فالمعروف أن دول العالم الإسلامي تستخدم العديد من اللغات, ولكن يلاحظ عند تدقيق في الإحصائيات الخاصة بالترجمات التي نشرت في بلدان العالم الإسلامي أن معدلها منخفض, كما أن عدد الترجمات التي تمت بلغات الدول الإسلامية يقل كثيراً عن عدد الترجمات التي تمت عن لغات أخرى وعلى رأسها العالم الإسلامي أن نصيب اللغة العربية اللغة الإنجليزية. وتشير الأرقام التي أمكن الحصول عليها من 13 دولة من دول كلغة كتبت بها الأعمال الأصلية لا يمثل في مجموعه إلا 4% من هذه الترجمات. ففي ست دول من هذه الدول الثلاث عشرة ( أندونيسيا وإيران وماليزيا ونيجيريا وباكستان وتركيا ) على الرغم من أنها صاحبة أرقام مرتفعة في حركة الترجمة إلا أن مجموع الترجمات التي قامت بها عن اللغة العربية لا يمثل إلا 4,6% من المجموع العام. ومن ثَم يبرز لنا أن دول العالم الإسلامي لا تستفيد إلا بمقدار ضئيل من المؤلفات التي تخرج بها كل منها, أو بتعبير آخر من حركة النشر في كل منها.

     وعلى هذا يبدو لنا مدى الأهمية التي تنطوي عليها حركة ترجمة يتم لها التخطيط على نطاق واسع. إن البحوث والدراسات والكتب التي تنشر حول المجالات العلمية المتعددة يجب أن تترجم إلى مختلف اللغات التي يتحدث بها المسلمون ثم تنشر, كما يجب من ناحية أخرى أن تطبع البحوث والمؤلفات التي تمت في العهد الحاضر من خلال حركة نشر وترجمة منظمة مخططة.

     وسعيا لحل المشاكل التي عرضناها هنا والمشاكل الأخرى الموجودة عداها فلابد من إيجاد الموارد اللازمة. وأود هنا أن أقف عند موردين أساسيين يلزم توفيرهما من بين هذه الموارد وهما مورد الطاقة البشرية والمورد المالي. فالطاقة البشرية الموجهة لحركة البحث العلمي في الدول الإسلامية عندما نقارنها – تبعاً للمعايير المختلفة بما لدى الدول الأخرى نرى مدى انخفاض معدلها. إذ تقول الأرقام التي نشرتها منظمة اليونسكو فيما يتعلق بالبحث والباحثين في العالم أن الدول النامية تحظى بنسبة تقرب من 11,2% من هذا المجموع. وتمثل نسبة العاملين في البحوث في الدول العربية 0,9% من نسبة الباحثين في العالم حيث أن البيانات الإحصائية التي نشرها اليونسكو والتي ترجع إلى 1980 تفيد أن عدد العلماء والباحثين في العالم بالنسبة لنفس السنة يقدر ب 3756100 عالم. في حين أن الدول العربية إذا تناولناها كمجموعة نرى أنها تمثل من حيث عدد السكان 1/20 من مجموع سكان العالم, وبالتالي يجب أن يكون الرقم النهائي لعدد العاملين في مجال البحوث 5,5 أضعاف ما هو عليه الآن. وهذه الأرقام تضم أيضاً العاملين في مجالات الهندسة والطب والتكنولوجيا إلى جانب الطاقة العاملة في مجال العلوم الإنسانية. ولا شك أن العمل على زيادة حجم الطاقة البشرية من ناحية الكم فقط أمر لا يكفي, فمن الواجب علينا أن نعمل على تنمية الكيف أيضاً, أي توزيع الطاقة العاملة بشكل أمثل والعمل على زيادة القدرات العلمية ورفع الكفاءات. ولا يشكل العمل في مجالات البحث العلمي شيئاً جذاباً اليوم في عالمنا الإسلامي بوجه عام. إلا أننا نلاحظ من جهة أخرى تطورا إيجابيا, فنرى أن البحث العلمي بدأ بوضع حديثاً في خطط التنمية كمجال لسياسة مستقلة.

والأمر الهام الذي نود التطرق إليه في موضوع الطاقة البشرية هو أمر زيادة القدرات العلمية ورفع كفاءات الباحثين العاملين في مجال البحث العلمي. وهناك حاجة ماسة لتوسيع نطاق الجهود التي يمكن أن تتم بقصد تعليم المناهج الجديدة في موضوعات البحث التي تستلزم طاقات بشرية مدربة, ورفع الكفاءات في الموضوعات التي تستلزم الخبرة وذلك عن طريق وضع البرامج التدريبية ذات المدى القصير, وخاصة الإفادة من استخدام التقنيات الحديثة التي يوفرها الكمبيوتر وذلك للوصول إلى متابعة التطورات العالمية في مجالات التقنية المستخدمة في البحث العلمي. ويجب علينا أن نتناول البرامج التدريبية هذه من خلال مستويين : هما تدريب الطاقات البشرية التي ستعمل في مجال البحث والموضوعات العلمية الأخرى, وتدريب من سيكلفون بتنفيذ برامج التدريب, أي تدريب المدربين أنفسهم. ولا شك أن الواجب الأكبر من أجل إنجاز البرامج التدريبية في الساحات التي تستلزم الخبرة إنما يقع حقيقة – في كلا المستويين – على الجامعات والمعاهد وغيرها من مؤسسات التعليم العالي. ولا أن روابط التعاون التي يمكن إقامتها في هذا الموضوع بين جامعات العالم الإسلامي والمؤسسات القومية والإقليمية أو العالمية المسؤولة عن حركة البحث العلمي والنشر قد يكون على درجة كبيرة من الفائدة, لأن الدول الإسلامية لا يمكن لها أن تستفيد من مخزون الخبرة عند كل منها إلا بهذا الأسلوب, وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم ” التكامل “, وهو أمر يمنع الإسراف في الوقت والجهد والمورد ويحول دون التكرار الذي لا طائل من وراءه. وفي هذا الخصوص فإن المركز يعمل جاهدا على تنفيذ مهمة التنسيق التي أوكلت إليه بتوصية من الندوة التي أقامها في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي في إطار الموضوعات التي تمت مناقشتها. وحيث يبذل المركز مجهودات كبيرة لتنفيذ هذا الهدف فإنه يعتمد في ذلك على مشروعين أساسين أولاهما أهمية خاصة منذ أن شرع فيهما, أولهما أرشيف المعلومات حول المؤسسات الثقافية الإسلامية في العالم الذي نتج عنه نشر “الدليل الدولي للمؤسسات الثقافية الإسلامية ” عام 1984. وهذا المشروع قد مكننا من جمع معلومات مفصلة عن المؤسسات والتعرف على مجالات نشاطاتها وبالتالي التعرف على أوجه التعاون المختلفة التي يمكن إقامتها معها والاطلاع على الأعمال التي تقوم بها ومشروعاتها. المستقبلية, حتى يمكننا تفادي التكرار وإضاعة الوقت والجهد والمال. وثانيهما ” النشرة الإخبارية ” التي يصدرها المركز ثلاث مرات سنويا باللغات الرسمية الثلاث لمنظمة المؤتمر الإسلامي ( العربية والإنجليزية والفرنسية ) ويوزع منها 10,000 نسخة, والتي ينشر فيها معلومات عن نشاطات المؤسسات التي تعني داخل العالم الإسلامي, وخارجة بموضوعات ذات صلة بالمعرفة في العالم الإسلامي. وهكذا يعمل المركز بهذه الوسيلة على الإسهام في التقريب بين المؤسسات, وإتاحة الفرصة أمامها للاطلاع على نشاطات بعضها البعض.

     وإلى جانب ذلك فهناك أيضاً مجموعة من التدابير يمكن اتخاذها لتطوير البحث العلمي وتشجيعه؛ تتمثل في وضع برامج للمنح الدراسية وتنظيم المسابقات ذات الجوائز, فقد أثبتت التجارب التي قام بها المركز أن تنظيم المسابقات للقيام ببحوث في موضوعات بكْر لم تتناولها الأيدي بشكل تام – هي أنجح الوسائل وأجدها لجذب الباحثين إلى تلك الموضوعات وتشجيعهم على القيام ببحثها. وإلى جانب هذه الفائدة من المنح الدراسية والمسابقات فهناك أيضاً ميزة أخرى تتمثل في الدور الذي تلعبه كعامل ” توجيهي “. ومن ثَم فإن المنح والجوائز التي يمكن توزيعها على الموضوعات التي نرى نقصاً فيها إنما تشكل الوسيلة الفعالة في الخطط والسياسات الموضوعة من أجل تقدم البحث العلمي وتطويره.

     أما عن مدى أهمية الموارد المالية في دعم البحث العلمي فأحب أن أشير هنا بوجه خاص إلى أننا نظرنا إلى الأبواب المخصَّصة للصرف على أنشطة البحث والتنمية في الدول الإسلامية – نرى أنها منخفضة بالنظر إلى المعايير والمقاييس الدولية المعروفة في هذا الصدد؛ فالنصيب المخصَّص من ناتج الدخل القومي لمثل هذه الأنشطة في كل القطاعات يزيد عن 2% في الدول المتقدمة وفي الدول النامية التي بلغت حداً من التقدم النسبي في المجال التكنولوجي, بينما تقرب نفس النسبة في قسم كبير من الدول الإسلامية – مع الأسف – إلى نصف في المائة. ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن هذه النسبة تختلف من بلد إسلامي إلى آخر حيث إنها تعتبر مرتفعة نسبياً في كل من الكويت والأردن مقارنة بالدول الإسلامية الأخرى, كما أن الأردن قد شرع في تطبيق سياسة تستهدف تعزيز المؤسسات العلمية الرسمية مثل الجمعية العلمية الملكية. وإذا نظرنا إلى الأرقام التي توضح توزيع أبواب الصرف هذه تبعاً لموضوعات البحث لرأينا أن الموارد المخصصَّة للعلوم الإنسانية لها نصيب مرتفع إلى حدٍ ما داخل المجموع العام. ولكن انخفاض الموارد المخصصة للبحث بوجه عام أمر يبرز لنا مدى ضرورة اتخاذ بعض التدابير في هذا الشأن. وإلى جانب الأرقام النهائية فمن الطبيعي أن توزيع الموارد حسب الموضوعات ونوع الأنشطة – هو أمر هام أيضاً. وهل يتم تخصيص الموارد تبعاً لمجالات الاحتياج حقيقة, أم لا يتحقق توزيع أمثل لها ؟ فذاك أمر آخر يجب دراسته.

     وفي ختام هذا البحث أحب أن أعرض على حضراتكم بعض التوصيات التي توصلنا إليها, وهي عبارة عن نتائج الدراسات والبحوث والتجارب التي قمنا بها وهي كالتالي :

في مجال تطوير الوعي العام بأهمية العلم :

–         ضرورة التأكيد في كل مناسبة على الاهتمام والإجلال اللذين يبديهما الإسلام تجاه العلم والعلماء.

–         ينبغي على الدول الإسلامية أن تستفيد من كافة وسائل الإعلام لإثارة الاهتمام الجماهيري بالعلم, وإبراز أهميته بالنسبة للحياة الكريمة لأي أمة من الأمم.

–         ينبغي بذل الجهد من أجل ضمان مواصلة التوعية بالتطورات العالمية في مجال العلم والتقنية.

–         ينبغي التركيز على أهمية العلوم في التعليم الفكري والأخلاقي والاجتماعي للأطفال بدءا بمستوى التعليم الابتدائي.

   وفيما يتعلق بتنشيط البحث والتنمية :

–         ينبغي التأكد من أن المخصصات المالية تكفي أنشطة البحث والتنمية, ويجوز تخصيص نسبة 1% على الأقل من إجمالي الناتج القومي لأنشطة البحث والتنمية, باعتبارها أحد الأهداف المرسومة.

–         ينبغي إجراء دراسات متعمقة وواقعية لتقييم المشاكل التي تواجه البحث والتنمية, وأي عقبات من أي نوع تعترض البحث والتنمية, وأوجه النقص في التسهيلات المتاحة, بالنسبة لقطاعات الاقتصاد كل على حدة. كما ينبغي اتخاذ التدابير الملائمة من أجل التوصل إلى حلول لها.

–         ينبغي تقييم ظروف العمل في مؤسسات ووحدات البحث والتنمية بواسطة اتباع منهج متعدد الجوانب يضع في الاعتبار النواحي النفسية والاقتصادية والمادية وغيرها مما يحيط ببيئة العمل. كما ينبغي اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين ظروف تلك البيئة.

–         ينبغي بذل كافة الجهود لجعل مهن ووظائف البحث والتنمية على المستوى الذي يمكنها من جذب القوى العاملة.

–         ينبغي العمل – بصفة خاصة – للحيلولة دون عزل العلماء ومؤسسات البحث والتنمية عن نظائرهم في العالم والتركيز على ذلك, واتخاذ التدابير الكفيلة بتيسير تدفق المواد والوثائق العلمية وتشجيع عقد الاجتماعات الدولية.

–         ينبغي زيادة المنح الدراسية والمسابقات ذات الجوائز على المستويين القطري والعالمي لتشجيع الابتكارات, وخاصة في المجالات والقطاعات التي تحظى بالأولوية في إطار خطط التنمية.

–         ينبغي إنشاء مراكز ونواد للبحث والتنمية يؤمها الشباب, كما ينبغي الاعلان عنها للتأكد من أن الشباب يقضي جزءا من وقت فراغه في هذه الأنشطة.

–         ينبغي إعداد سجل لمؤسسات البحث والتنمية في الدول الإسلامية, واستخدام كافة الوسائل لتوعية الدول بأنشطة بعضها البعض.

–         ينبغي تشجيع القطاعات الخاصة على إنشاء وحدات البحث والتنمية, وذلك من خلال التدابير المالية وغيرها.

وفيما يتعلق بتنمية الطاقة البشرية من أجل البحث والتنمية :

–         ينبغي زيادة التركيز بأقصى قدر ممكن على التخطيط الإنمائي للطاقة البشرية, وربطه بأجهزة التخطيط العامة.

–         ينبغي إصدار الدوريات العلمية التي توجه للشباب بصفة خاصة.

–         ينبغي إعلام الجماهير بشأن مؤسسات التدريب في الدول الإسلامية, ومجالات تخصصاتها.

–         ينبغي النظر في إمكانيات زيادة مشاركة العلماء المسلمين في البرامج التدريبية التي تنظمها الدول المتقدمة تقنيا.

–         ينبغي إجراء دراسات خاصة عن السياسات التي تتصدى لمشكلة هجرة العقول التي أصبحت مشكلة عامة بالنسبة لكافة الدول الإسلامية, وأن يحظى حل هذه المشكلة بالأولوية.

–         ينبغي تشجيع الأبحاث في الجامعات بواسطة تقديم الجوائز وإجازات البحث وما إلى ذلك. كما ينبغي التأكد من نشرها على نطاق واسع.

وأخيرا في مجال الإعلام والتوثيق :

–         ينبغي اتخاذ تدابير مالية وإجرائية لتسهيل اشتراك مؤسسات البحث والتنمية والجامعات في الجرائد العالمية, ولشراء المواد اللازمة للمكتبات.

–         ينبغي تنشيط ترجمة المراجع العلمية الأجنبية إلى اللغة القومية وتشجيعها.

–         ينبغي العمل على إنشاء وتشجيع بنوك المعلومات والتوثيق في مراكز البحث والتنمية والجامعات والمؤسسات العامة والخاصة في الدول الإسلامية.

–         يمكن للدول الإسلامية أن تبحث إمكانية إنشاء بنوك مشتركة للمعلومات في هذا المجال, من أجل تخزين ونشر كافة المعلومات الخاصة بالعلوم والتقنية, ومشروعات البحث والتنمية التي نفذت أو التي يخطط لتنفيذها من جانب الدول الإسلامية, وبالخدمات المتاحة في مجال الاستشارة والخبرة, وكذلك المنح الدراسية والجوائز المقدمة والمطبوعات العلمية الجديدة.

–         ينبغي العمل على إنشاء برامج خاصة لتبادل العاملين في مؤسسات البحث والتنمية, والهيئات الجامعية التي تعمل في نفس المجال, من أجل زيادة الوعي فيما بينها, وتعميم المكاسب الناتجة عن المنجزات التي تحققت من قبل.

     وفي ختام حديثي فإنني لعلى ثقة تامة بأن بحوثاً قيمة سوف تقدم في هذه الندوة, وتلقي الضوء على مختلف جوانب الموضوع, وتُعرض من خلالها تجارب جديدة ومفيدة وأفكار بناءة تستهدف جميعها تقويم البحث العلمي وتطويره وتحسينه وتشجيع القيام به. لا سيما وأن ورقة العمل التي سبق أن أعدتها الأكاديمية الإسلامية للعلوم حول ” التنسيق والتعاون بين مؤسسات البحوث والدراسات وتطبيقاتهما في إطار الفكر الإسلامي ” قد أضاءت جوانب عديدة من هذا الموضوع الهام وفتحت باب النقاش لإثراء الأفكار التي تدور حوله. كما أن هذه الورقة القيمة قد أكدت لنا أن التنسيق والتعاون بين مؤسسات البحوث ضرورة حتمية للوصول إلى أفضل النتائج التي نسعى جميعا لتحقيقها. وإنني لعلى أمل كذلك بأن الخطط والبرامج التي يتقرر تنفيذها من خلال التعاون بين المؤسسات المعنية في العالم الإسلامي وعلى ضوء هذه الأفكار سوف تكون محل عناية من الجميع. وأخيراً أتمنى للندوة النجاح والتوفيق وأشكركم جميعاً, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر