أبحاث

التطور الدلالي في (لغة الفقهاء)

العدد 42

– 1 –

يكاد يتفق علماء اللغة على أن معرفة نشأة اللغة العربية وتطورها التاريخي قبل الإسلام من المسائل الشائكة التي تتسع فيها الآراء وتقبل اختلاف وجهات النظر، وذلك لعدة أسباب منها,

أن اللهجات العربية القديمة المروية في الكتب العربية لا توجد آثارها جلية واضحة في الشعر الجاهلي، كما أننا نفتقر إلي نصوص مكتوبة أو آثار نستطيع أن نحدد على ضوئها تاريخ العربية قبل الإسلام لذلك نقول : إن اللغة التي نستخدمها اليوم في الكتابة والتأليف والآداب ،هي اللغة التي وصلتنا عن طريق الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والسنّة النبوية .

لقد ضمن القرآن لهذه اللغة الخلود، وقد ساعدت تلاوة القرآن الكريم على ثبات تلك اللغة – لاسيما في جانبها الصوتي ، وهو أكثر جوانب اللغة تعرضاً للتغير والانحراف والتشويه ، فضلاً على أن الأسلوب القرآني ظل المقياس الأمثل لرقي أساليب الكتاب والشعراء ، حتى أن مكانة أي كاتب أو شاعر تقاس دائما بمقدار ما يقترب من مثالية الأسلوب القرآني أو يبتعد عنه .

إلاّ أن هذا الذي قرر ناه ثبات حول ثبات اللغة العربية وخلودها لم يمنع من حدوث بعض التطورات في الأداء الصوتي من جانب ، وفي المفردات والتراكيب من الجانب الآخر. وهذا من طبائع الأشياء . وحسبنا أن نقرأ نصاً قديماً ، ثم نقارنه بنص لكاتب معاصر حتى نلمس الفرق بين النصبين ، ولا بأس أن يكون هذا النص مما نحن بصدد الكتابة فيه :

هذا البيضاوي (ت685 ھ ) يكتب مفسراً(1) قوله تعالي : )وعلّم آدم الأسماء كلّها ثُمٌ عرضهم على الملائكة، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كُنتم صادقين ( (2) :

) وعلّم آدم الأسماء كلّها ( إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه ، ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل ، والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالباً ، ولذلك يقال : علمته فلم يتعلم . و ( آدم ) اسم أعجمي كأزر وشالخ ، واشتقاق ما يكون علامة للشي ودليلاً يرفعه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال ، واستعماله عُرفاً في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركباً أو مفرداً مخبراً عنه أو خبراً أو رابطة بينهما ، واصطلاحاً في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، والمراد في الآية أما الأول أو الثاني ، وهو يستلزم الأول لأن العلم بالألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني ، والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدّاّ لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها (ثم عرضهم على الملائكة )

الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمناً إذ التقدير أسماء المسميات فحذف المضاف عليه وعوّض عنه اللام لقوله تعالى 🙂 واشتعل الرأس شيباً ( لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأسماء سيما إن أُريد به الألفاظ والمراد به ذوات الأشياء ، أو مدلولات الألفاظ وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء ))

أما سيد قطب (ت 1386 ھ ) فكتب في شرح الآية الكريمة نفسها :(3) .

(( ها نحن أولاء – بعين البصيرة في ومضات – نشهد ما شهده الملائكة في لملأ الأعلى ..هانحن أولاء نشهد طرفاً من ذلك السًر الإلهي الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلّمه مقاليد الخلافة. سرّ القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها – وهي ألفاظ منطوقة – رموزاً لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة. وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على والشخوص.درك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ، لو لم يُوهب الإنسان على الأرض تدرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ، لو لم يُوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات ، والمشقة في التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه .. الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! ..إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يُودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات. فإما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية ، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم ومن ثَمَّ لم تُوهب لهم ، فلما علّم الله آدم هذا السر، وعرض عليهم  ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص .. وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم, والاعتراف بعجزهم، والإقرار بحدود علمهم، وهو ما علمهم )).

فاللفظ عند البيضاوي ذو معني يناسب عصره، يجمع بين التفسير والتأويل، ويقرر الأدلة على أصول أهل السنة. ودلالة ألفاظه تعكس ما كان يتسلح به مفسرو القرآن الكريم من قوة العقل ، وسعة الأفق والنظر، والمشاركة في مختلف العلوم من نحو وصرف وبلاغة ومنطق وجدل وفقه ورواية وفلسفة وطبيعيات ، مع ما نجد من بعض التكليف والإغراب من نحو ( سابقة اصطلاح ليتسلسل ) (4) و( الاسم باعتبار الاشتقاق )، أي بالمعني اللغوي. ونحن لا نستعمل هذه اللفظة في هذا المعنى الآن . والجملة تميل إلى التفريع والاستطراد مع اتجاه فكري ينزع إلى أساليب الفلاسفة ، وإعلاء قضايا العقل من نحو (لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات )(5).

وله في استعمال الأدوات ، أقصد : الحروف وما هو في وظيفتها , فذات نظم خاص، واستعمال غريب عن استعمالنا اليوم ، فعبارة البيضاوي ( إما بخلق علم ضروري بها فيه ) ، أي بما أودع الله سبحانه قلب آدم معرفة الأسماء ، وفتق لسانه بها فكان يتكلم بتلك الأسماء كلها .

أما النص الذي اخترناه لسيد قطب فهو يقدّم لنا خصائص لغتنا المعاصرة ، فأسلوبه مسترسل بأناقة يفيض بالطاقات الشعورية والأحاسيس، وألفاظه ذات موسيقى جميلة، دون تكلف، أو لجوء إلى الحذف والتضمين.

– 2 –

ليس معني هذا أن المتأخرين يخترعون الألفاظ ، أو يخلقون لغة من العلوم ، فالمادة الأولية للغة ثابتة ، ولكنَّ أشكالها متجددة ، وأي باحث يدرك بأدنى تأمل أن الأشكال اللغوية لا تثبت على حال فهناك صيغ تولد لم يكن الناس يعرفونها من ذي قبل – كما ولدت كلما سوكرة، وتأمين، وتأميم .. وغيرها ، فتشيع وتنتشر وتأخذ مكانها في الاستعمال إلى أمد ثم لا يلبث بعضها أن يذبل ، أو يموت لتخلف مكانها كلمة أخرى ، كما ماتت كلمة (( النشيطة )) وحل محلها كلمة (( صفيّ )) ، أو تموت لا إلى خلف كما ماتت كلمات:المباع ، والمكس والإفادة ، والحلوان بمعنى الأجر.. وغيرها من مئات الكلمات (6).

ولكن السؤال الآن: ما الذي يدعو إلى مثل هذا التطور في عناصر اللغة ومدلولات ألفاظها ؟

-3-

لن نفصل القول في الأسباب التي تدعو إلى ولادة بعض الألفاظ في اللغة بشكل عام ، حتى لا نخرج عن موضوعنا الذي خصصناه ( لغة الفقهاء ) ، ولكننا لا نستبعد الحديث عن بيان التطور الدلالي الذي لحق ( العربية ) في أصواتها ومفرداتها وأساليب دلالاتها ، فاللغة مرآة تنعكس عليها حضارة الأمة ، ونظمها ، وعقائدها ، واتجاهاتها العقلية .

ونري أن أهم عامل أدى إلى طروء مثل هذا التبدل في (العربية ) كان انتقال العرب من خشونة البداوة إلى لين الحضارة.

فبعد الفتوحات الإسلامية دعت مرافق العمران من زراعة وصناعة وتجارة وملاحة وحياكة وطراز وهندسة وبناء .. وما أشبه من الحرف والفنون إلى الأخذ عن الأمم الأخرى عادات ومصطلحات ومسميات جديدة في المأكل والمشرب والملبس والفرش والزينة والحلي والأواني والأدوات والأسلحة والأجهزة والطب والصيدلة،  ولما لم يعهد العرب التعبير عن هذه المستحدثات في حياتهم الأولى ،فقد أخذوا في نقل قسم من ألفاظها الأعجمية بعد تعريبها والتصرف بها ،كما لجأوا إلى الاشتقاق والتوسع في الكتابة والمجاز أيضاً، وهكذا تولدت ألفاظ جديدة .

ونذكر على سبيل المثال هذه الألفاظ .

إبريسم : للحرير الخالص ، فارسي دخيل .

أردب : مكيال تقدر به الحبوب ، أرامي دخيل .

أستار:شفرة الحذاء أو حديدة في طرف رمح لصيد بقر الوحش ، يوناني دخيل .

أستار: أربعة، فارسي من جهاز.

إسطرلاب : الآلة التي يعرف بها الوقت ، يوناني من استرولابون .

اسفيداج : رماد الرصاص ، أرامي من سفيدج .

أسقف : رئيس ديني عند المسيحيين ، يوناني من أبيسكوبوس .

اصطبل : مربط الدواب ، لا تيني من سنبلم

إكسير : ما يلقي على الفضة ونحوها ليحليه إلى ذهب خالص في رأي المتقدمين ، يوناني من كسيرون .

بستان : حديقة ، فارسي من يوستان .

بشكير : ما ينشف به الجسم بعد الاستحمام ، فارسي من بيشجير .

بندقة:لرئيس والعظيم من الروم والقائد من قوادهم ، يوناني من بتريكسيوس .

بندقة: آلة من آلات الحرب، فارسي بندق.

دهليز: ممر، فارسي دخيل.

زرنيخ : حجر له ألوان كثيرة إذا جمع مع الكلس حلق الشعر ، يوناني من ارسنيكون .

سفتجه : خط ، وأصلها أن يكون لواحد ببلد متاع عند رجل أمين فيأخذ من آخر عوض ماله ويكتب له خوفاً من غائلة الطريق ، فارسي من سفته .

سمسار : وسيط وبائع وشاري وساعي للواحد منهما ، فارسي من سبسار .

صك:: لعبة شهيرة يلعبها اثنان عادة ، هندي من تشطورنجا .

صك: وثيقة، فارسي دخيل.

طراز : زخرفة الملابس ، فارسي من تراز .

طيلسان : معطف من الصوف ، فارسي تاليسا .

عربون: ما تعقد به المبالغة من ثمن، يوناني من أربون.

فهرس : خاتمة محتويات الكتاب ، يوناني بوريستيس .

فيلسوف : حكيم ، يوناني من فيلوسوفوس .

قنطرة : ما يبني على الماء للعبور وكذلك ما ارتفع من البنيان ، يوناني من كنتا ناريون .

ياسمين:هرة من أزهار الربيع ، يوناني من تركيسوس .

وسق : ستون صاعا ، أرامي من وسقا .

ياسمين: زهرة طيبة الرائحة، فارسي دخيل.

ومن  الألفاظ الحديثة:

بنزين : سائل لوقود السيارات والطائرات ،انجليزي دخيل .

دوسيه: وثيقة، إيطالي من بوليته.

دوسيه: حافظة الأوراق، فرنسي دخيل.

سندوتش : شطائر محشوة ، انجليزي من سندويش : نسبة إلى مخترعه اللورد sandwich الذي عاش فيما بين عامي 1718 – 1792م

شاي : شراب منبه يشرب عادة ساخناً ، صيني من جاي .

فاتورة : قائمة بالأشياء أو المبالغ المطلوبة ، ايطالي فتورا .

كابون : بطاقة للتبادل ، أو فضلة من فضلات القماش ، فرنسي من كوبون .

كروكي : رسم ، فرنسي من كروكوي .

كمبيالة : حوالة مالية،ايطالي دخيل .

لتر: مكيال للسوائل، فرنسي دخيل.

موبيليات: أثاث المنزل، إيطالي دخيل.

موتور : محرك ألماكينة وما إليها ، انجليزي دخيل .

نمرة : رقم ، إيطالي من نمرو .

نيلون : مادة مركبة تصنع منها الأقمشة والجوارب وكثير من أدوات الملبس وأثاث   المنزل، انجليزي دخيل .

وهكذا نرى أن العرب قد استعاروا من كل الأمم ألفاظاً للتعبير عن أشياء دعت إليها الحاجة     أو الضرورة ، وقد عمدوا إلى تلك الألفاظ فحوروا في بنيتها وجعلوها على نسج الكلمات العربية ، وهي ما تسمي بالألفاظ المعربة (7)، وتركوا البعض الآخر على  صورته وهي التي تسمي بالدخيل (8) على أننا يمكن أن نذكر أسبابا أخرى للتطور الدلالي منها :

أ- الرغبة في التبدل . وهذه الرغبة تنشأ :

إما من ثقل اللفظ الأصيل على النطق نحو كلمة (( حَوْجم )) التي استبدلت بكلمة (( ورد ))    وكلمة (( مستشزر )) التي استبدلت بكلمة (( خشن )) .

تلمس الحشمة والآداب في التعبير، وخاصّة فيما يتصل بالألفاظ الجنسية ، وقد لجأت ( العربية ) بعد الإسلام إلى الكناية والمجاز، وكان لها في ألفاظا القرآن وعباراته أسوة حسنة : (( نسائكم حرث لكم )) ، (( واهجروهن في المضاجع )) ، ((أو لامستم النساء )) ،   و(( قد أفضى بعضكم إلى بعض )) .. وما إلى ذلك كريم العبارات ونبيل الألفاظ. وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه ( مثالب الوزيرين )):                                                                                               (( ماذا أرادت العرب بتكثير أسماء الفرج من قيحها ؟ فأجاب : لما رأوا الشيء قبيحاً جعلوا يكنون عنه ، وكانت الكتابة عند فشوها تصير إلى حد الاسم الأول ، فينتقلون إلى كناية أخرى ، فإذا اتسعت أيضاً رأوا فيها من القبيح مثل ما كنو عنه من أجله ، وعلى هذا فكثرت الكنايات ، وليس غرضهم   تكثيرها )) (9) .

– وإما لمّجرد التقليد ، وهذا يعود إلى جذور نفسية عقد لها ابن خلدون في مقدمته فضلاً خاصاً جعل عنوانه(( وَلعُ المغلوب بالاقتداء بالغالب في مأكله ومشربه وملبسه ولغته..))(10)، ومن هذا ما نراه اليوم من كثرة استعمال الألفاظ الأجنبية للآلات والمخترعات، بل وفي اللغة اليومية، حتى أننا لنجد لفظة أجنبية حلت محل لفظة عربية عند بعض الفئات، رغم ثقل اللفظ الأجنبي على السمع واللسان، وخفة اللفظ العربي،كحلول لفظ Excuse me  الانجليزية (عُذراً ) أو ( أعذرني ) العربية .                                                                                                           – الصراعُ اللغوي، وأهم عوامله: الفتح، والاستعمار، الحرب، هجرة السكان، واحتكاك شعبين متجاورين، والعلاقات التجارية أو الثقافية بين أمتين، وتقارب الشعبين في درجة الحضارة والثقافة أو تباعدها فيهما. وغيرها من العوامل، ومن أجلى مظاهر هذا الصراع في تاريخ العربية المعاصر صراعها مع اللغة الفرنسية في الجزائر بسبب الاستعمار.

ب – ضيق الدلالات المحملة لألفاظ اللغة عن استيعاب دلالات جديدة حدثت، وعندئذ يلجأ إلى استعمارة اللفظ من دلالته الأصلية لصالح دلالة جديدة مع وجود علاقة بين الدلالة الأصلية والدلالة الحديثة ، كما هو الحال في لفظ (( صلاة )) مثلاً فإنه يدّل في الأصل على معني (( الدعاء )) ولكن لما جدَّ جديد وهو وجود مجموعة أقوال وأفعال على هيئة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم يُتَقرب بها إلى الله تعالى ، ولم يكن لابدَّ من توليد لفظ لها، فكان لفظ (( الصلاة )) لما يجعله هذا اللفظ من المعاني العامة في القرب من الله (11) .

ومن هنا كانت القاعدة في فقه اللغات بوجه عام أن الكلمة الواحدة تعطي من المعاني والدلالات بقدر ما يتاح لها من الاستعمالات (12) . فكلمة مثل (( قطار )) تدلّ على قطار السكة الحديد ، ولكن معناها المعجمي القديم : الإبل يسير الواحد منها وراء الآخر .

– 4 –   

 

ولكن الشيء الذي لا يجوز لباحث أن يتجاوزه حتى ببينه في هذا المقام هو : هل يحق لآي باحث أن ينقل أي لفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد – أعني المعنى الاصطلاحي – دون قيد أو شرط ،أو لابد أن يكون هناك شروط يجب مراعاتها في هذا النقل ؟

ولكننا بادئ بدء إذا قلنا بحرية نقل الألفاظ من معانيها الأصلية إلى المعاني المستجدة –الاصطلاحية – دون قيد أو شرط كنا قائلين بالفوضى اللغوية، وقد تودي هذه الفوضى باللغة وتخرجها عن أصولها، وهذا مالا يرضاه باحث منصف، ولا محب غيور.

وإذا كان الأمر كذلك فلابد من البحث عن الشروط الواجب توافرها لجواز هذا النقل،وقد سبقنا من أستقرأ هذه الشروط والقيود (13) فوجدها لأتخرج عما يأتي :

أ- لابدّ من وجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد، ولكن لا يشترط أن تكون هذه العلاقة قد وصلت إلى حد المطابقة، بل يكتفي بأدنى علاقة.

ب – لابد أن يراعى في وضع المصطلح الاهتمام بالمعنى قبل اللفظ.

ج – يستحسن ألا يُختار المصطلح من بين الألفاظ ذات الدلالات الأصلية الشائعة المعروفة، لأن نقل الذهن عنها إلى غيرها من الصعوبة بمكان.

د – يستحسن ألا يصطلح بلفظ واحد لتأدية معان علمية مختلفة، ولكن يلاحظ أن الفقهاء المسلمون لم يتقيدوا بهذا الشرط كثيراً،إذ نراهم قد يطلقون لفظاً واحداً على معان اصطلاحية متعددة (14)

ھ – يستحسن ألا يصطلح بألفاظ مختلفة للمعنى العلمي الواحد، وهذا أيضاً لا يتقيد به الفقهاء المسلمون كثيراً، من هم أكثر تحللاّ منه عندما تخرج من دائرة المذاهب المتعددة، فشركة المضاربة يطلق عليها بعض المذاهب لفظ (( مضاربة )) بينما يطلق عليها بعض المذاهب الأخرى (( قراضاً )) .

و – يفضل اللفظ – المصطلح – العربي على غيره ما أمكن إليه سبيلاً .

ز – يستحسن تجنب الألفاظ التي ينفر الطبع منها إما لثقلها على اللسان أو لفحش دلالتها.

ح – يستحسن تجنب النحت ما أمكن .

– 5 –

-وإذا مات نقل اللفظ-  أعني المصطلح- من المعنى الأصلي إلى المعنى الاصطلاحي، فان ذلك لا يعني فقدان دلالته على المعنى الأصلي. بل يصبح الآن: ذا دلالتين الأولى أصلية لغوية، والثانية اصطلاحية.

والسؤال الآن: أيصير اللفظ بذلك قبيل المشترك ؟ أم أن دلالته على المعنى الأصلي هي دلالة حقيقية، ودلالته على المعني الجديد هي دلالة حقيقية، ودلالته على المعنى الجديد هي دلالة مجازية ؟

لقد أطال العلماء البحث في ذلك، وكثر بينهم الجدال مما يُخرجنا الخوص فيه عما قصدناه من هذه المقدمة، ولكن الذي نطمئن إليه :

إن المشترك لابد من أن يعبر اللفظ الواحد فيه عن دلالتين متباينتين كل التباين، دون أن يكون بينهما أي اشتراك (15) كالعين مثلاً، أنها من المشترك ،لا أنها تدل على العين الباصرة ، وتدل على العين الجارية ،وتدل على الذهب، وتدل على أشياء أخرى ولو ذهبنا نبحث عن نقطة لقاء بين هذه الدلالات كلها لرجعنا بخفي حنين .

وإن المجاز لا بد من أن يعّبر اللفظ الواحد فيه عن دلالتين يوجد بينهما اشتراك (16)، وقد عدّ علماء اللغة أبواب الحذف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعني والتحريف كلّها من المجاز (17) .

وإن المستقرئ للمصطلحات يدرك بأدنى تأمل الاشتراك الواضح للفظ ، معنى الأصلي للفظ وبين المعنى الذي اصطلح على إطلاقه عليه ،لأن المعاني الاصطلاحية لا تخرج في جملتها عن كونها تحمل زيادة على المعنى الأصلي للفظ أو حذفاً منه.

ونخلص من هذا إلى أن المعاني الاصطلاحية هي معاني مجازية للفظ، وأن إطلاق اللفظ عليها هو إطلاق مجازي، وليس من قبيل المشترك.

– 6 –

تلك مقدمة في بيان طبائع اللغات اتخذناها جسراً نعبر عليه لنتوصل به إلى نشأة المصطلح الفقهي.

لقد بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام ، وجعل معجزته القرآن الكريم، وهي المعجزة اللغوية الوحيدة بين معجزات الرسل عليهم السلام، وقد تبوأ القرآن الكريم مكان الصدارة لدى أرباب اللغة والبيان، ومن ثَم اعتبره الباحثون قديماً وحديثاً أهم حَدَث في تاريخ هذه اللغة (18) ، وبد أثر هذا الحدث واضحاً في لغة الحديث النبوي  الشريف، ونستطيع أن نلاحظ هذا الأثر بسهولة ويسر في مجيء القرآن الكريم بأصول الدين الإسلامي وأحكامه مجملة دون تفصيل، ثم تولت السنة النبوية الشريفة تفصيل ذلك وبيانه،) وأنزَلنا إليك الذكرَ لتبين للناس ما نزل إليهم ( – النحل /44 –  فالقرآن الكريم مثلاً لم يذكر التكاليف العلمية التفصيلية، بل هو لم يبيّن المعاني المُرادة لكثير من الألفاظ التي تحمل هذه التكاليف، فضلاً عن بيانه كيفية أدائها، مع أن هذه الألفاظ كانت تحملُ معاني جديدة لم يكن العربُ يعرفونها من ذي قبل ولعلّ أبرز مثال على ذلك ألفاظ  (( الصلاة ،الزكاة ،الحج )) مع أن هذه الألفاظ تبّين الأركان العلمية للدين، السنة النبوية الشريفة تفصل أوقات الصلاة وكيفياتها ،كما فصلت القواعد والأسس التي يجب إتباعها في أداء الزكاة وجبايتها وصرفها (19).

والصلاة والزكاة نموذجان لما تناولته السنة النبوية بالبيان والشرح، حتى أنه ليصح لنا القول – إذا تكلمنا باسم اللغة – أن السنة النبوية تبين المراد ألفاظ القرآن الكريم مما جعل الخلاف ينشب بين العلماء في جواز تفسير ألفاظ القرآن الكريم بياناً لغوياً، كما أنها توضح المفاهيم الجديدة التي أتى بها القران الكريم مما جعل الخلاف ينشب بين العلماء في جواز تفسير ألفاظ القرآن الكريم بكلام العرب من شعر ونثر.

وكان أبو عمرو بن العلاء ( ت 154 ھ ) يرى أن فهم لغة القرآن الكريم وتدبر معانيه غاية كل مسلم، وأن ما حفظ من شعر العرب ونثرهم ينبغي أن يكون أداة فهم لغة القرآن الكريم، لأنه إنما نزل بلغتهم،وعلى هذا النهج ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 ھ ) كتابه (( مجاز القرآن )) وسائر كتابه في هذا الباب ،وهما مقلدان لعبد الله بن العباس (ت 68ھ ) رضي الله عنهما، فقد روي السيوطي في الإتقان (20) إن ابن العباس كان جالساّ بفناء الكعبة وقد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، قال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر : قم بنا إلي هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بمالا علم لديه ،فقاما إليه، فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بما صدقه من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما. فقال نافع : اخبرني عن قول الله تعالى (عن اليمين وعن الشمال عزين) ؟                                                                                             فقال ابن العباس : العِزون : حلقُ الرفاق .  قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟  قال ابن عباس: نعم ، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:

فجاءوا يهرعون إليه حتى     &     يكونوا حول منبره عزيناً

ثم استمر يسأله عن هذا الوجه مسائل عديدة…

بينما كان الأصمعي – عبد الملك بن قريب ( ت 214 ھ ) يعارض تفسير القرآن بكلام العرب من شعر أو نثر، فقد اشتهر عنه أنه لم يكن يتعرض لتفسير ألفاظ القرآن تورعاً وتديناً، فضلاً عن الاستشهاد بالشعر في هذا الباب (21).

ولعل تحرج الأصمعي مردّة إلى أن القرآن الكريم طرح معاني جديدة لكثير من الألفاظ هي غير المعاني التي تعارفها لها العرب، ولاكتها بها ألسنتهم ،والإسراف في تحكيم المفاهيم العربية كما جاءت في شعرهم أو نثرهم بالمعنى المراد من ألفاظ القرآن قد يوقع في ترجيح مراد الناس من ألفاظ القرآن الكريم على مراد الله تعالى منها .

لقد زاد القرآن الكريم هذه اللغة ثراء بما طرحه من المعاني الجديدة، وبما نقله من الألفاظ من معانيها الأصلية وجعلها معبرة عن المعاني الجديدة، وبذلك يكون القرآن قد أهل اللغة العربية لاستيعاب التعبير عن الحضارة الجديدة ذات المفاهيم الجديدة.

لقد غرست الحضارة الإسلامية في أعماق الإنسان مفاهيم جديدة في العقيدة، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق مما لم يألفه العرب في جاهليتهم، وبذلك بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة، وانعكس أثرها على اللغة العربية إذ هي وعاء الفكر ودليله (22).

ومن الطبيعي أن تتطلب هذه الحضارة الإسلامية مادة لغوية – تغاير معاني الألفاظ المعهودة قبل الإسلام – للتعبير عن المعاني الجديدة تستمد معانيها من لغة التنزيل المجيد،والحديث النبوي الشريف، وهكذا نشأت طائفة من الكلمات الإسلامية (23) سماها العلماء بعد ذلك (( المصطلحات الإسلامية )) قال ابن برهان : وصاحب الشرع إذ أني بهذه الغرائب التي اشتملت الشريعة عليها من علوم حار الأولون والآخرون في معرفتها مما لم يخطر ببال العرب ،فلابد من أسامي تدل على تلك المعاني (24).

ويقول ابن فارس : كانت العرب في جاهليتها على إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور،ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت ،وشرائع شرعت ، وشرائط شرطت ،فعنّى الآخر الأول ،وشغل القوم بعد المغادرات والتجارات وتطلب الأرباح والكدح للمعايش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد المعاقرة والمياسرة بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبالتفقه في دين الله عز وجل، وحفظ سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام ،فصار الذي نشأ عليه آباؤهم ونشأوا هم عليه كأن لم يكن، حتى تكلموا في دقائق الفقه ، وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دوًن وحفظ حتى الآن (25) وبعد الاستقراء والتتبع نستطيع أن نقول إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما اللذان فتحا باب الاصطلاح على مصراعيه، وكان القرآن الكريم والسنة النبوية هما أول من أرسى قواعد المصطلح الإسلامي، وكان عملهما في هذا السبيل .

أ‌-    إماته كلمات لا مكان لدلالاتها من الحضارة الحديثة التي أرسى قواعدها القرآن والسنة، ونذكر على سبيل المثال : ألفاظ : إتاوة : ما يفرضه الرئيس ونحوه لنفسه على الشخص من المال بغير حق، وقد يرى البعض أن هذه هي الزكاة مع تبدل الاسم وبقاء الجوهر، الحقيقة ليست كذلك ،لأن الزكاة لا تجب إلا على الغني، وبنسبة أمواله وهي ليست للرئيس ولا يحق له أن يأخذ منها شيئاً وإنما هي للفقراء والمساكين . الحُلوان : ما يأخذه الرجل لنفسه من مهر ابنته، وهذا قد حرمهُ الإسلام ،أو يأخذه الرجل على عمل غير الأجر أو على عمل لا يستحق عليه أجراً،كحلوان الكاهن ونحوه، وقد حرمه الإسلام أيضاً لأنه إثراء بلا سبب وأكل لأموال الناس بالباطل. المكس : ما يأخذه الرئيس لنفسه من غلال الأرض أو مما يحمله التجار،وقد يرى البعض أن هذا هو عشر الزروع المفروض في الزكاة، أو ما يؤخذ من أصحاب الأراضي الخراجية في الخراج، أو هو العشر الذي يحمله التجّار من الأموال التجارية، والحقيقة أن بين المكس وبين هذه الأشياء فرقاً جوهرياً وإن بدت صورتها واحدة ،وهذا الفرق هو: أن هذه الأموال كانت تجببى للرئيس خاصة يتصرف بها كيف يشاء، بينما صارت في ظل الإسلام تجبى لتتحقق بها مصالح الناس في خطة معلنة واضحة ومصارف معروفة منصوص عليها.

المرباع : أخذ الرئيس خالصاً لنفسه ربع ما يحوزه رجاله من الغنائم، وقد يرى البعض أن هذا هو الذي نص عليه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله ) واعلَمُوا أن ما غنمتُم من شيء فان لله خُمُسَه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ( الأنفال /41 والحقيقة أن بينهما فرقاً، إذ الرئيس كان يأخذ الربع ، بينما كان الذي خصصه للرسول صلى الله عليه وسلم  هو خمس الخمس أي ينفق منه على نفسه وعياله ،فإن فاض منه شيء أنفقه على الفقراء والمساكين، ولم  يمسك منه شيئاً (26).

النشيطة : ما ينشط الرئيس لأخذه لنفسه من نفائس الأموال عند قسمة الغنائم وقد يرى البعض أن هذا هو الصيفي، والحقيقة أن بينهما فرقاً،فالنشيطة من حق النبي صلى الله عليه وسلم وحده (27) أما غيرهُ من الرؤساء فليس له أن يصطفي لنفسه، ولكن له أن يصطفي للمصلحة العامة وقد اصطفى عمر بن الخطاب أموال كسرى وآل كسرى، وأرض كل من فرَّ عن أرضه     أو قتل في المعركة وكل مفيض ماء أو أجمة، فكان يقطع منها لمن أقطع (28) .

يقول الجاحظ (29) : ترك الناس مما كان مستعملاً في الجاهلية أموراً كثيرة فمن ذلك : تسميتهم للخراج : إتاوة، وكقولهم للرشوة ولما يأخذه السلطان : الحلوان والمكس ،كما تركوا : أنعم صباحاً، وأنعم ظلاماً، وصاروا يقولون : كيف أصبحتم وكيف أمسيتم ،كما تركوا أن يقولوا للملك أو السيد المطاع : أبيت اللعن، وقد ترك العبد أن يقول لسيده ربي، وكذلك حاشية السيد والملك تركوا أن يقولوا : ربنا،… إلى أن  قال:

… ومن الكلام المتروك والتي زالت أسماؤه مع زوال معانيها المْرباع والنشيطة ، وبقي الصفايا، فالمرباع : ربع جميع الغنيمة الذي كان خالصاً للرئيس، وصار في الإسلام الخمس على سنة الله تعالى . وأما النشيطة : فإنه كان للرئيس أن ينشط عند قسمة المتاع العلق النفيس يراه إذا استحلاه، وبقي الصفي، وكان لرسول الله من كل مغنم .

ب- استعارة ألفاظ جديدة من لغات أخري للتعبير عن دلالات جديدة وقد اشترك في هذه الاستعارة كل من القرآن والسنة ثم الصحابة والتابعون من بعدهم ثم الفقهاء من بعدهم وستبقي هذه الاستعارة مستمرة واستمر تأثر الحضارات بعضها ببعض واللغات بعضها ببعض .

– فالقرآن قد استعار لفظ (( المنافق )) من الحبشية ليعبر بها عن الرجل الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان (30)، فأجراها الناس على أصولهم اللغوية، شأنهم فيها شأنهم في أكثر ما يَجْلبونه من غير العربية إليها.  كما استعار ألفاظ ( أباريق، وإستبرق والتنور وغيرها من لغات أخرى.

– والسنة قد استعارات ألفاظاً من لغات متعددة مع دلالاتها، واعتمدتها ضم المصطلحات الإسلامية من ذلك لفظ (( ديوان )) من الفارسية فقد قال صلى الله عليه وسلم ( الديوان عند الله ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً،وديوان لا يغفره الله ..الحديث (31) قال في نهاية: الديوان: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء وهو فارسي معرب (32).

ولفظ (( خوان )) فقد قال صلى الله عليه وسلم ( .. حتى أن أهل الخوان ليحتجون على خوانهم ..) الحديث (33) قال الجواليقي : الخوان ما يوضع عليه الطعام ليؤكل، فارسي معربّ (34) .

ولفظ (( بريد )) فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أخيس العهد ولا أحبس البُرْد ) أي الرسل،وأصل البريد في الفارسية البغل المقطوع الذئب، فسمى الرسول الذي يركبه بذلك مجازاً (35) .

وغير ذلك من الألفاظ كثير .

– والصحابة استعاروا لفظ (( دهقان )) وهو بالفارسية يعني رئيس الفلاحين أو رئيس القرية، وقد أقر هذا المصطلح عمر بن الخطاب (36) وعلى بن أبي طالب (37) ولفظ طسْق وهو الخراج فقد ورد على لسان عمر بن الخطاب (38) ثم على لسان عبد الله بن مسعود قوله ((من أقرّ بالطسق فقد أقّر بالذلّ والصغار )) (39) ولفظ بيشارجات وهو فارسي عامي وفصيحة فيشارجات (40) وهو ما يقدم قبل الطعام ،قال علي بن أبي طالب : البيشارجات تعظم البطن، ولفظ (( الباج )) وأصله بالفارسية (( باها )) وهو ألوان الطعام (41) قال علي أبن أبي طالب : اجمعوا الهدايا واجعلوها باجاً واحداً (42) وأول من تكلم بها في العربية عثمان بن عفان (43) وتابع الفقهاءُ القرآن والسنة والرعيل الأول من الصحابة في استعارة ألفاظ من اللغات الأخرى، وجعلها مصطلحات تعبر عن معاني محددة في التصور الإسلامي، فكان مما استعاروه في الفقه : السفتجة ،والكدك وده بيازده ،والسوكرة وغيرها من الألفاظ ،لا يرون بذلك بأساً طالما قد سبقهم إلى ذلك من هو خير منهم .

ج – توليد كلمات جديدة من أصول عربية عن طريق تعديل الصيغة العربية لها على الأوزان الصرفية المعروفة للتعبير عن دلالات معنية، وما أكثر ما صنع هذا القرآن والسنة وأصحاب رسول الله ،والفقهاء الذين أتوا من بعدهم ،من ذلك على سبيل المثال لا الحصر :

أطلاق الاستمتاع على الوطء ) فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ( وإطلاق الاستفتاح على الدعاء المخصوص الذي يقرأ بعد التحريمة في الصلاة، وإطلاق الاستيلاء على اتخاذ الأمة للوطء طلباً للولد وإطلاق المبتوته على المرأة المطلقة طلاقاً بائناً وإطلاقالمبعض على العبد الذي أعتق بعضه وبقى بعضه الآخر رقيقاً

وإطلاق المحاقلة على بيع الحب في سنبله وإطلاق المرابطة على الإقامة في الثغور في مقابلة العدو حراسة له من الغدر .

د- النَّحْتُ : ونقصد بالنحت أن تأتي إلى كلمتين أو فتنحت من كل واحدة حرفاً أو أكثر                            ثم تصنع من هذه الحروف كلمة جديدة .

وقد وقع النحت في المصطلحات الإسلامية على ألسنة الفقهاء، ومن ذلك

البسملة: قول (( بسم الله الرحمن الرحيم )).

الحوقلة: قول (( لا حول ولا قوة إلا بالله )). الحيعلة : حي على الصلاة .

الحيعلتان : قول (( حي على الصلاة ،حي على الفلاح )) في الأذان ورغم أنهم لم يتوسعوا  في النحت، إلا أنهم استخدموه .

ھ– النقل : ونعني بالنقل : نقل اللفظ العربي من معني إلى معني أخر، كنقل لفظ الزكاة من معنى النماء إلى معنى آخر هو أداء مقدار مخصوص من مال مخصوص لصرفه في مصارف مخصوصة، فيقال للمعنى الأصلي – النماء – لكلمة زكاة : المعنى اللغوي ، ويقال للمعني المنقول اللفظ إليه : المعنى الاصطلاحي ويقال للفظ المنقول: المصطلح .

وما أكثر ما وقع النقل في العربية بعد مجيء الإسلام  فقد كان يكفي وجود أدنى مناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ويقال للفظ المنقول : المصطلح . وما أكثر ما وقع النقل في العربية بعد مجيء الإسلام, فقد كان يكفي وجود أدنى مناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي حتى يتم نقل اللفظ إليه. قال ابن فارس:

(( فكان مّما جاء في الإسلام ذكر المُؤْمن والمُسْلم والكافر والمنافق, وأنَّ العرب إنما عرفت المُؤمن من الأمان والإيمان (44) وهو التصديق ،ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافاً بها سُمَّي المؤمن بالإطلاق مؤمناً.وكذلك الإسلام والمُسْلم، وإنما عَرَفتْ منه إسلام الشيء. ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء. وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاءَ والسَّترْ. فأما المنافق فأسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع (45) ولم يعرفوا في الفسق إلا قولهم : فسقطت الرطبة (46) إذا خرجت من قشورها، وجاء في الشَّرْع بأن الفسق الإفحاش في الخروج عن طاعة الله – عز وجل – ومما جاء في الشَّرْع الصَّلاة، وأصله في لغتهم الدعاء. وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هذه الهيئة .

وقال النابغة الذبياني :

أو دُرَّة صدفيَّة غواصها                  &              بهج متى يَرها يُهل ويَسْجُد

وقال أبو عمرو : أسْجَدَ الرَّجلُ : طأطأ رأسه وانْحنى . وأشتد : • أسْجِدْ لليلى فأسْجَدا (47)

يعني البعير إذا طأطأ رأسه لتركبه. وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعْداد والمواقيت والتّحريم للصلاة والتحليل منها. وكذلك الصيام  أصْلُه عندهم الإمساك. ويقول شاعرهم (48) .

خَيْل صيام وأخرى غير صائمة        &           تحت العَجَاج، وخيل تعلُك اللجُما

ثم زادت الشريعة النية وحظرت الأكل والمباشرة ،وغير ذلك من شرائع الصّوْم .

وكذلك الحجّ لم يكن عندهم فيه غير القصد وسبر الجراح (49)، من ذلك قولهم (50).

وأشْهدُ منْ عوف حُلولا كثيرة ّ         &        يَحُجُّون سِبَّ الزّبرقان الُمَزعْفَرا

ثم زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره ،وكذلك الزكاة لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء وزاد الشَّرعُ ما زاد فيها مما لا وجه لإطالة الباب بذكره وعلى هذا سائر ما تركنا ذكره من العمرة والجهاد وسائر أبواب الفقه.

فالوجه في هذا إذا سُئل الإنسان عنه أن يقول: في الصَّلاة اسمان لغُوَي وشَرعي، ويذكر ما كانت العرب تعرفه ثم جاء به الإسلام (51) )) ا ھ. والمتتبع لهذه الألفاظ المنقولة يجدها كلها وقعت في الأسماء دون الأفعال والحروف قال الإمام فخر الدين الرازي (( وقع النقل من الشارع في الأسماء دون الأفعال والحروف،فلم يوجد النقل فيهما بطريق الأصالة بالاستقراء بل بطريق التبعية، فإن الصلاة تستلزم :صَلىّ )) (52) ا ھ أقول : ولذلك رتبنا معجمنا هذا على الأسماء دون الأفعال وطالما أن باب النقل مازال مفتوحاً، لأنه لا يمكن أن يُغلق – كما قررنا سابقاً – فالمجال أمام الفقهاء ممكن في نقل بعض الألفاظ – المصطلحات – إلى معان اصطلاحية مستجدة، لذا نجدهم قد استعملوا مصطلح (( إشعار )) إذا أطلقوه على الإعلام الرسمي المكتوب الموجه من جهة رسمية، وفي مصطلح (( استيلاد )) إذ أطلقوه على التلقيح الصناعي لصنوف الحيوانات، وفي مصطلح (( إشاعة )) عندما أطلق على نشر الكلام لا أصل له وغير ذلك من المصطلحات الحديثة.

الهوامش

 

(1) البيضاوي، ناصر الدين أبي سعيد عبد الله بن عمر( ت 685 ھ )/ أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي ص 24. مصور عن طبعة : استانبول ، المطبعة العثمانية، 1305ھ .

(2) البقرة:31.

(3) سيد قطب / في ظلال القرآن 11967م.ر التراث العربي, بيروت ط 5،1967.

(4) التسلسل : ترتيب أمور غير متناهية ( تعريفات الجرجاني ).

(5) المتخلية : هي القوة التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المنتزعة وتصرفها،أما الموهومات فهي قضايا يحكم بها الوهم في أمور غير محسوسة (كلّه عن تعريفات الجرجاني )

(6) انظر السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر (ت 911 ھ )/ المزهر في علوم اللغة وأنواعها 2/296 ط دار إحياء الكتب العربية،القاهرة . تحقيق محمد أحمد جاد الموالى وآخرين .

(7) انظر السيد أدى شير / الألفاظ الفارسية المعرّبة،المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1908 م .

(8) انظر الجواليقي ،أبو منصور بعدها،طاهر (ت 540 ھ )/ المعرب من الكلام الأعجمي، تحقيق أحمد محمد شاكر،القاهرة ،وزارة الثقافة، ط2، 1389 ھ  .

( 9 ) مثالب الوزيرين ص 254 وما بعدها، ط دمشق 1969.

(10)ابن خلدون،عبد الرحمن / المقدمة ص 258 ط2 دار الكتاب اللبناني, بيروت 1979 م.

(11) انظر إبراهيم أنيس / دلالة الألفاظ ص 145 وما بعدها،ط2 مكتبة الانجلو المصرية 1963 م .

(12) انظر صبحي الصالح / دراسات في فقه اللغة ص 292، ط 6 دار العلم للملايين، بيروت 1976 م.

(13) انظر البحث الذي قدمه الدكتور جميل الملائكة إلى مؤتمر التعريب الثاني في الجزائر بعنوان (( مستلزمات المصطلح العلمي ))، نشر في مجلة المجتمع العلمي العراقي 24/ 974 ظ / م.

(14) أنظر ألفاظ مثل: العدَّة ( في الصوم، وفي المرأة المطلقة أو المتوفى زوجها )، العدل ( في الرهن، وفي الشهادة )، المُقتضي ( في البيع، والنص ).. وأمثالها.

(15) السيوطي ،الزهر 1/ 369 .

(16) انظر محمد الأنطاكي / الوجيز في فقه اللغة ص 390، مكتبة الشهباء ، حلب 1969م .

(17) السيوطي ،المزهر 1/357 .

(18) انظر الباقلاني ، أبو بكر محمد بن الطيب (ت 403 ھ ). إعجاز القرآن تحقيق السيد أحمد صقر.القاهرة، دار المعارف 1374 ھ /1954 م ص 19 و35. انظر فك، يوهان. العربية : دراسات في اللغة واللهجات والأساليب ، ترجمة عبد الحليم النجار. القاهرة 1951 م. ص 1 وما بعدها.

(19) انظر ابن الأثير، المبارك بن محمد (ت 606 ھ ). النهاية في غريب الحديث والأثر تحقيق طاهر الزاوي ومحمود محمد الطناحي – ط الحلبي القاهرة ( 63- 1965 م ) المقدمة 1/4 وما بعدها.

(20) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911ھ )،الإتقان في علوم القرآن ط الحلبي القاهرة 1370ھ / 1951 م 1 /120 وما بعدها .

(21) انظر أبو الطيب، عبد الواحد بن علي اللغوي (ت 351 ھ )، مراتب النحويين تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط مصر 1955 م ط 48.

(22) ولذلك وجدنا الحروب الصليبية المعاصرة قد وضعت مخططين للقضاء على الإسلام أحدهما سياسي بجميع أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو لا يعنينا بشيء، والآخر فكري بجميع أبعاده اللغوية والأدبية والثقافية والأخلاقية والنفسية.

(23) انظر الرازي،أبو حاتم أحمد بن حمدان (ت 322 ھ )،كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية . تحقيق حسين الهمداني ط القاهرة  1957 م .  الجزء الأول ص 56 وما بعدها.

(24) السيوطي / المزهر 1/ 299 .

(25) ابن فارس، أبو الحسين أحمدت 395 ھ . الصاحبي في الفقه اللغة وسنن العربية في كلامها . تحقيق مصطفى الشويمي ط لبنان 1383 ھ . ص 78 وما بعدها.

(26) انظر محمد رواس قلعة جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة : غنيمة / 2ب 2، ط مكتبة الفلاح بالكويت سنة 1401 ھ .

(27) انظر ابن فارس / الصاحبي ص 90 .

(28) انظر قلعة جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة : صفي /2 .

(29) الجاحظ، أبو عثمان / الحيوان 1/ 327 – 328، تحقيق عبد السلام هارون، ط الحلبي بالقاهرة سنة 1958 م.

(30) انظر صلاح الدين المنجد / المفصل في الألفاظ الفارسية المعربة ص 83 وما بعدها ط 1 بإيران سنة 1398ھ.

(31) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 240، الطبعة الأولى.

(32) ابن الأثير / النهاية في غريب الحديث، مادة: ديوان.

(33) الحديث أخرجه الإمام احمد في المسند 2/295 .

(34) الجواليقي / المعرب ص 177 .

(35) المنجد / المفصل في الألفاظ الفارسية ص 120 .

(36) انظر قلعة جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة : جزية /3ب .

(37) انظر قلعة جي / موسوعة فقه على بن أبي طالب مادة : جزية/5 طبع دار الفكر بدمشق .

(38)انظر قلعة جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة : خراج / 3ب .

(39) انظر قلعة جي / موسوعة فقه عهد عبد الله ابن مسعود مادة : أرض /1 ج ط جامعة أم القرى .

(40) الجواليقي / المعّرب ص 252 .

(41) نفسه ص 121 .

(42) معجم البلدان 4538 .

(43) الجو الأصل:المعرب: المعّرب ص 121.

(44) لعل الأصل: من الأمان أو الإيمان وهو التصديق. لأن الأمان -بمعني الأمن- غير الإيمان كما هو معروف.

(45) في اللسان : سمي المنافق منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه .

(46) في الأصل المطبوع الرطبة بسكون الطاء والأصح فتحها كما في اللسان مادة (ق س ق ).

(47) شطر البيت من إنشاء أبي عبيد (اللسان ) .

(48) البيت وأراد في (اللسان ) منسوباً للنابغة الذبياني . وهو في ديوانه .

(49) البيت وارد في (اللسان ) منسوباً للمخبل السعدي القريعي التميمي، وهو شاعر مُجيد مخضرم .

(50) يقال حجّ الشجة إذا سبرها بالميل ليعالجها ( انظر معجمات اللغة ) .

(51) الصاحبي لابن فارس ص 79 .

(52) المزهر للسيوطي 299 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر