أبحاث

الزهاد المسلمون ومجالات العمل الإسلامي

العدد 33

توطئه

لعل إغراق الناس في ماديات الحياة. وسيطرة الرفاهية عليهم دون توجيه لها ، لعل هذا يعيد إلى الذهن المسلم صورة الحياة في الدولة الإسلامية يوم أن كان بعض الخلفاء العباسيين ومن سار على نهجهم صورة حية للبذخ والنعيم غير آبهين بما يعانيه قطاع كبير من المسلمين آنذاك. ويذكرنا هذا بصيحات الزهاد([1]) والمصلحين آنذاك طلباً للتوازن في الحياة ، فجاءت دعوتهم إلى الزهد وتقليلهم من الاهتمام بالدنيا في موضعها اللائق وأوجدت جماعة من الناس يتبنون هذا الاتجاه ، ويجدون جذوره في حياة الرسول الكريم وحجابته الأطهار ، غير تاركين واجباتهم المنوطة بهم في مجال العمل الإسلامي.

فكانوا كعمر بن الخطاب جرأة في الحق ، وصدعاً به ، وتعالياً فوق مغريات الحياة حتى أنه كان يخطب في الناس وعليه إزار فيه ثنتاً عشر رقعة ، وقميص فيه أربع رقاع ، دون أن يكون له غيرهما([2]).

وحركية عمر ونشاطه مع زهده أوضح الفرق بين سلبية من يهربون من الحياة باسم الزهد ، وبين الزهد الإسلامي الذي يعني امتلاك الأشياء لتسخيرها للعمل الإسلامي والإسهام في كل نشاط فعال يخدم الحياة الإسلامية ، فالامتلاك مع التسخير زهد لا محالة ، وأما من يفهم الزهد على غير هذا فقد أساء إلى نفسه ، ويبرأ الفهم الإسلامي عن فهمه هذا.

وقد وجد في الحياة الإسلامية من يتخذ الزهد حرفة ، ولذلك حين رأت الشفاء بنت عبد الله طائفة يسمون أنفسهم بالنساك ، ووجدتهم يسيرون جائعين منطوين سألت: فقيل لها إنهم النساك فأجابت ، كان والله عمر بن الخطاب إذا تكلم أسمع ، وإذا ضرب أوجه ، وإذا مشى أسرع ، وهو الناسك حقاً([3]). من هنا فإن دعوة البعض إلى إعادة الحساب مع الرفاهية التي ألانت الجلود ، وفترت القلوب ، إنما هي دعوة للتجلد والتعالي على مغريات حضيض المادة ، وبذلك يتهيأ الجو للطاقات المسلمة أن تجاهد وتثابر في سبيل إعادة الحق إلى نصابه.

وهذه صفحات من التاريخ تثبت أن من يزهد بالمعنى الإسلامي قادر على أن يتحرك حركة واسعة في مجالات العمل الإسلامي تربية ، وجهاداً ، وانطلاقاً بالإسلام.

معنى الجهاد عند الزهاد المسلمين:

يجد الباحث معاني عديدة للجهاد في حياة الزهاد المسلمين وكلها تتكامل لتؤدي في النهاية إلى نشاط اجتماعي يخدم الفكرة الإسلامية سواء بالكلمة أو بالتوجيه عن طريق الفدوة ، أو بالإسهام في ميدان العمل الحربي دفعاً لراية الإسلام ، وإيقافاً لتيارات العداء للإسلام ، وقد كان بيانهم لفساد العصر ومجابهتهم للأمور بجرأة وصدق ، وسلوك كل منافذ التغيير الاجتماعي ، لوناً من النشاط يحمل معنى الجهاد عندهم استهدافاً لتغيير المنكر وفق الوسيلة الممكنة للتغيير.

وقد كان أبرز ألوان الجهاد عندهم- كسالكين لطريق الله- جهاد النفس ومخالفة هواها ، واستشعار القوة حيال مغرياتها ووساوس شيطانها وهذا المعنى للجهاد عندهم حملته إلينا أقوال لهم وأفعال ، فأبو يزيد البسطامي (261هـ) حين يقول “كنت اثنتي عشر سنة حداد نفس”([4]).

إنما يصف جهاده ضد هواء طوال هذه الفترة لتقويم اعوجاج نفسه.

والحكايات الموثقة في هذا الجانب وفيرة ، فكم قرأن عن سهل التستري (283هـ) وموافقة مع نفسه لتأديبها حين تحاول التراخي عن واجب([5]).

بل إن السري السقطي (253هـ) يعتبر القوة الحقيقية كامنة في أن تغلب هو نفسك لا تغلبك هي ، أقوى القوة غلبتك نفسك ، ومن عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز ، ومن علامة الاستدراج العمى عن عيوب النفس([6]) ، وذلك إنهم ينطلقون من فهم حدده أبو العباس أحمد بن عطاء (من زهاد القرن الثالث الهجري) حين قال: “النفس مجبولة على سوء الأدب ، والعبد مأمور بملازمة الأدب ، فالنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة ، والعبد يردها بجهده عن سوء المخالفة فمن أطلق عنانها فهو شريكها ومعها في الفساد([7])” وهذا الميدان من ميادين الجهاد لا ينفك عن الجهاد الحربي ولا ينفصل عن مدلوله فهذا الإعداد للشخصية المسلمة ، وهذه التهيئة للطاقة الإنسانية تصب في ميدان القتال حماسة ، وبعداً عن الخوف وضعف النفس.

ثم هو من ناحية أخرى نشاط ذاتي يعود أثره على الحركة الاجتماعية بكل أبعادها الإسلامية ، وقد وقفت أمام جهاد النفس عندهم وقفة طالت كثيراً حين كان الموقف العلمي يقتضي بيان ذلك([8]) وأما هنا فتكفي هذه الإشارة.

وإدراك الصوفية لتكامل كل ميادين الجهاد هو الذي جعلهم يقفون من ظاهرة الإدعاء لدى من يستغلون المواقف لحساباتهم الشخصية يقفون منهم موقف الجهاد وكذلك من أولئك الأدعياء الذي اندسوا وسط الزهاد المرتبطين بالكتاب والسنة فكانوا خطراً على الحركة الروحية فضلاً عن كل النشاطات الاجتماعية ، وبخاصة ما يتصل منها بالتربية والأخلاق ، فعلى حين يدعي هؤلاء الأدعياء الصلاح والزهد تراهم يتقربون للسلطان ويطلبون الدنيا منت أخس الطرق وأسفل الوسائل “الأمر الذي جعل كثيراً من الزهاد الأصلاء يجاهدون هذه الظاهرة المرضية ، فنجد سهلاً التستري (283 هـ) في كتاب له بعنوان “المعارضة والرد على أهل البدع- وأهل الدعاوى في الأحوال([9]).

يفند موقف هؤلاء الأدعياء ، مدركاً إن خطرهم أشد على الإسلام من أهل البدع ، لأنهم ينكرون ما من شأنه أن يكون مصدر الصفاء والثقة والإخلاص. وجهاد الزهاد في هذا الباب باب محاربة / الأدعياء ، وبيان الحق كما يجب ، أمر تفردت به بحوث ، ووجد في كتب التاريخ والطبقات.

ولا أريد هنا أن أرصد هذا ، ولكن فقط أريد أن أثبت تعدد معاني الجهاد عند الصوفية دون تناقض أو تضاد ، كما أريد أن أثبت أن هذه الألوان من الجهاد نشاط اجتماعي مؤد إلى الغاية من الجهاد الحربي وتأمين الثغور الإسلامية “ولا جدال في أن حراسة الأفكار والعقائد والنبات والأعمال لا تقل شأنها عن حراسة الثغور والبلاد ، فأعداء الإنسان من نفسه ربما كانوا أشد خطراً عليه من أعدائه الخارجين”.

الجهاد الحربي عند الزهاد المسلمين

من أخلص نفسه لله ، وفهم دوره في هذا الكون لا يتصور منه إلا بذل الروح في سبيل الله حين يدعو داعي الجهاد وتقتضيه حراسة الدعوة الإسلامية ، ومثلما حفل تاريخ الرعيل الأول من الصحابة والتابعين بالبطولات والتضحيات في ميادين القتل ، عرف التاريخ شجاعة وبطولة كثيرين من الزهاد وهذا هو المنطقي مع زهدهم في الدنيا وطلبهم رضا الله في كل حال ومن أي طريق.

وإذا كان الزهاد على قدم سابقيهم وعلي طريق رسول الله فإنهم اسهموا بكل ما يملكون في ميدان الجهاد.. مثلما أسهم سابقوهم وعلموهم كيف تكون شجاعة المسلم ، وتذكر هنا بعض الأمثلة ضاربة في القدم وسارية إلى اليوم ، وما نذكره مجرد إشارات تعني وجود الظاهرة الاجتماعية موضوع الحديث.

فقد اشترك محمد بن واسع مع يزيد بن المهلب في غزو خراسان ويظهر أنه أقام بها زمناً في عهد ولاية قتيبة بن مسلم في جيش – وكان صاحب خراسان – وكانت الترك خرجت إليهم فبعث إلى المسجد ينظر فيه ، فقل له : ليس إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه ، فقال: إصبعه تلك أحب إلى من ثلاثين ألف عنان([10]).

وعلى نفس النهج كان إبراهيم بن أدهم (161) هـ ، حدثني عن أبي طالب بن سوادة ثنا أحمد بن محمد أبو سعيد البكاء ، حدثني جامع بن أعين قال/ غزونا مع إبراهيم بن أدهم ، فأصابنا ثلج كثير حتى غلب على الخيال والأخبية فقام إبراهيم فالتف بعباءة وألقى نفسه فركبه الثلج وخرجنا نحن هاربين مخافة أن يغمرنا الثلج ، وتركنا رحالاتنا فلما أصبحنا التفت بعضنا فقال: ويحكم قد أقلبت خيل ، فغادرنا إلى شجرة نختبئ فيها ، فقلنا: العد وقد جاءنا ومعنا على بن بكار فقال: على : تثبوا ما هذه الخيل ، فأشرف قوم منا الجبل فقالوا: يا أبا الحسن خيل قد أقلبت بسروجها ليس عليها ركاب وخلفها فارس بطردها بقناب. فقال علي: ويحمه فإنه إبراهيم بن أدهم. إنزلوا لا نفتضح عنده مرتين فإذا إبراهيم بن أدهم بالخيل ثلاثمائة وستين فرساً ، فاستقبلناه ، فقال لنا جاءتكم الشهادة فغدرتم ، فقال لنا علي بن بكار: إنه دعا الله فجمد الثلج فأعانه على سوق الخيل”([11]).

وقد كان ابن أدهم يجاهد في سبيل الله لا طلباً للمال ولا للشهرة ، وقد عرف عنه أنه لم يأخذ سهماً في الغنائم ، وقد دلت أخبار كثيرة على اشتراكه في غزوات بحرية ضد البيزنطيين: “عن أحمد بن بكار قال غزا معنا إبراهيم بن أدهم غزاتين ، كل واحدة أشد من الأخرى ، غزاة عباس الأنطاكي وغزاة محكاف فلم يأخذ سهماً ولا نفلاً ، وكان لا يأكل من مقاع الروم تجئ بالصوائف والعسل والدجاج فلا يأكل منه ويقول: همو حلال ولكني أزهد فيه وكان يأكل مما حمل معه وكان يصوم.. وغزا في البحر غزاتين لم يأخذ سهمه ولا يفترض ، قال: على هذا يكون الغازي([12])“.

وقد مات إبراهيم في واحدة من غزواته ضد البيزنطيين فضرب المثل للمجاهد المسلم في سلوكه الحربي وفي فهمه لدوره الحضاري الذي يفرض عليه أن يبحث عن الشهادة في سبيل الله ما دامت هي الطريق إلى رفعة الإسلام ومن روح ابن أدهم كان فهم شقيق البلخي (194 هـ) لما يجب أن يكون عليه إحساس المجاهد في سبيل الله فقد علم شقيق حاتماً الأصم (227) هـ وهم في غزوة ضد الترك يصفها حاتم بقوله في يوم لا أرى فيه إلا رؤوساً تطير وسيوفاً تقطع ورماحاً تقصف ، يعلمه فيه شقيق حاتم الأصم حين يسأله عن إحساسه أهو مثل ليلة زفافه ، فيجيب حاتم لا والله ولكن شقيق يقول له لكني والله أرى نفسي في هذا اليوم مثله في الليلة التي زفت فيها إمرأتي إلى ([13]) وعن سريان هذه الروح بين الزهاد كثير من الموقف والبطولات صاحبت فيها جرأة السوفي المجاهد عون الله له ونصره إياه ، على غرار ما يحكي حاتم الأصم حيث أخذه في ذلك اليوم الشديد تركى واضطجعه للذبح ولم يكن حاتم مشغولاً بالذبح قدر انشغاله بماذا يحكم الله بينهما.

وبينما يخرج التركي سكينه إذ جاءه سهم غائر فذبحه فألقاه. وعن حاتم الأصم ([14]) “أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”.

وتسري هذه الروح في أوصال الجماعة المسلمة فنجد لمشايخ الطرق التي تكونت بدءاً من القرن السادس الهجري ، نجد لهم مواقف وبطولات تثبت أن الصوفية مجاهدون مسلمون اشترك منهم من اشترك في ميادين الجهاد ومن لم تسعفه سنه وجهده كان وراءهم في الميدان ليقوي العزم ، ويشحذ الهمة ويبث فيهم – وهو الشيخ الموثوق فيه – روح الإيمان وطلب الشهادة أو النصر ([15]) ويستوي في ذلك حرب الصليبيين أو الحملة الفرنسية كما يحكي الجبرتي.

وعبارة عبد القادر الجيلاني في هذا الصادد تبين منطلقهم للجهاد ، أنه السير على قدم رسول الله ، واتباع نهجه “من صحت تبعيته للرسول صلى الله عليه وسلم أهدى إليه درعه وخوذته ، وقلده سيفه وتحله من أدبه وشمائله وأخلاقه ، وخلع عليه من خلعه واشتد به فرحه: كيف هو من أمته ([16]) ومن ينطلق إلى الجهاد بهذا الفهم لا يكون منه إلا ما تقربه العيون وتتغنى به الألسنة وتثني عليه قلوب المؤمنين الصادقين.

وقد يغفل التاريخ ذكر المجاهدين من الزهاد لأنه من جهة يؤرخ للحروب من خلال الملوك والحكام ومن جهة أخرى فإن الزهاد لا يسعون إلى بيان أدوارهم رغبة عن الشهرة وبعداً عن الرباء ومع هذا فقد حفظت كتب التاريخ اشتراك بعض الزهاد في معارك المسلمين مثل اشتراك بعض الزهاد في معارك المسلمين مثل اشتراك الشيخ أبي الحسن الشاذلي في معركة المنصورة عند الصليبيين سنة 648 هـ ، ومعه جمع من العلماء من أمثال الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ أبن دقيق العبد والشيخ محي الدين بن سراقه وغيرهم([17]).

وصحيح أن دور هؤلاء العلماء لم يكن الطعن والنزال ، ولكنه كان الجهاد كما يسروا له كعلماء ، فالجهاد نوعان جهاد بالبيان ، وجهاد بالسيف والعنان فأداء العلماء الزهاد للجهاد في بابهم له أثره وخطره في تعبئة الروح وتهيئة النفس لأن تجود طالبة إحدى الحسنين أمناً النصر أو الشهادة ([18]) وهذه الروح لها أهميتها حين تسود جو المعارك وميادين الحروب ، وهذا هو الذي يعطي للمعارك طابع “الجهاد المقدس” ولعل التاريخ الحديث يحفظ جيداً الدور الذي قام به القائد الروحي “شامل” لقبائل القوقاز ضد الروس الذي قاد هذه القبائل إلى حرب مقدسة ، استمرت بينه وبين الروس خمسا وعشرون سنة (1734-1859( وقد جعلت حربه من أجل الاستقلال منه نموذجاً اكتسب احترام الأوروبيين خلال حرب القرم من (1853-1855م) وهذا ما يعرف بحرب المريدين([19]) ، وشامل هذا هو ما يسمى بقائد المريدين وهو الذي وحد قبائل القوقاز ضد روسيا ، ودعا إلى حكم الشريعة الإسلامية من خلال القرآن والسنة كما دعا إلى استقلال القوقاز عن الأمبراطورية الروسية ([20]) فإذا أضفنا إلى ذلك جهاد السنوسيه في العصر الحديث ضد الطليان ، وفي الحرب العالمية الأولى ، بل وأثرها في الكفاح في الجزائر وتونس ، إذا أضفنا هذا أدركنا المدى الذي يسهم به الزهاد في ميدان الجهاد الحربي تأميناً للدولة الإسلامية وقهر الأعداء ([21]) أياً كان الأمر فإن روح الجهاد هذه أمر ضروري ، وهو أثر من آثار تربية الزهاد واضطلاعهم بدورهم الاجتماعي المنبثق من فهم إسلامي ، ولعل الربط والزوايا تأكيد لهذا الدور ، الأمر الذي يستلزم أن نلمس الربط والزوايا ودورها الجهادي أو الاجتماعي.

الرباط والجهاد:

من الأدوار الاجتماعية التي تتصل بالجهاد عند الزهاد ما عرف عنهم من المرابطة في الثغور الإسلامية لحمايتها ضد المعتدين ، بل كما يقول بعض الباحثين “نشأ التصوف وتطور واستمر إلى عهد قريب مجاهداً مرابطاً”([22]) وأما عن الرباطات فهي في قلاع حربة حقيقة كانت في أصلها وتطورها خانقهات للزهاد الرابطين فيها للجهاد ضد أعداء المسلمين ، وقد كان رباط عيدان “أول رباط به كثيراً من المشايخ مثل مقاتل بن سليمان (158هـ) وحماد بن سلمه (167هـ) وبشر الحافي (227هـ) ومثله تماماً رباط المنستير في تونس ورباط الفتح في المغرب وغيرها وكلها كانت حصوناً حربية وخانقاهات في وقت واحد ، ويلحق بهذه الربط الزوايا في المغرب حيث أدت نفس الهدف وكثير من الربط والزوايا كان مرتبطاً بشيوخ كبار في حياتهم أو بقبورهم بعد مماتهم([23]).

وفي الرباط بهذا المعنى الحربي “منشأة حربية دينية في آن معاً ، احتفى بها المسلمون دون غيرهم ، ويتصل بهذا الرباط الجهاد أي الذود عن الإسلام والعمل على توسيع  رقعتها بحد السيف([24]).

وتتسم الحياد داخل هذه الربط بسمات تبرز صفتها الحربية والدينية التي تتميز بها عن أي صفة أخرى وعن أي تجمع آخر ، فالمجتمعون في الرباط معظمهم من المجاهدين في سبيل الله ويمارسون مهامهم المختلفة هناك من يراقب – من خلال برج مراقبة – قدوم الأعداء لينحدر أهل البلاد عند الضرورة وهناك حامية تحمي داخل البلاد ، كما أن هناك من يمارس حراسة الحدود وفق خطة حربية واعية.

وقد كثر التحاق الناس بهذه الربط لكن هذا لم يكن إجبارا بحال من الأحوال بل رجال الرباط متطوعون من أهل التقى والورع نذروا أنفسهم للذب عن الإسلام وتدربوا على الحرب والتعبد معاً ، بل كانوا يعدون أنفسهم للاستشهاد بالصلوات الطويلة يؤدونها تحت رعاية شيخ من شيوخهم([25]) ولأن الرباط صالح للدين والدنيا معنا استكثر الناس من بنائه مدفوعين بدافع الغيرة على الدين ذلك أنهم اعتبروا هذا عملاً من أعمال البر والتقوى بل كان من الثواب عندهم أن يدعوا المرء الناس إلى الانخراط في سلك الرباط للجهاد في سبيل الإسلام والثواب كل الثواب أن يبدأ المرء بنفسه “وذكر المقدسي أن الرباطات التي قامت على شواطئ فلسطين كانت تستعمل لأغراض أخرى من الأغراض التي يقصد بها وجه الله ، فقد كانت مناراتهم تستخدم لتنبيه القوم عند اقتراب السفن النصرانية التي تحمل أسرى المسلمين الذين اتفق على تبادلهم وكان كل امرئ يسعى حتى يكون له نصيب في هذا العمل ما وسعته طاقته([26]).

وإذا كانت هذه الصفة الحربية للرباط قد أصابها التغيير ، فأصبح موضعاً للإقامة (تكبه) لبعض الناس الذين يقضون بقية عمرهم فيها ، أو فقد كثير من خصائصه التي ميزته ، أقول إذا كان هذا قد حدث ، فإن المعنى الذي نقصده وهو أنه كان في بداية أمره عقلة عسكرية – يؤكد الارتباط الذي بينه وبين معنى الجهاد وممارسته كما كان في حياة الزهاد.

وهذا معناه أن الفكرة فكرة الجهاد الحربي عند الزهاد – لها أصول ممتدة في حياتهم التاريخية المبكرة ، وأن على هذا تبروا فمن تقاعس عن الجهاد الحربي منهم ولم يكن خير خلف لخير سلف ، كان مستهدفاً للنقد إذ هو واقع في باب الزيف ومعدود في زمرة الأدعياء.

ومن هذا الفهم رأي أبي عربي أن الخذوة بمعناها المتعارف عليه لا تتناقض مع الجهاد في سبيل الله ولذلك يوصى المريد بالرباط فإنه من أفضل أحوال المؤمن فكل إنسان يختم على عمله (إذا مات) إلا المرابط فإنه ينمي له خيراً إلى يوم القيامة ويأمن فتنه القبر ، ثم يوصيه كذلك بأن يهيئ له فرساً أو جملاً للجهاد في سبيل الله إذا كان ذا ثروة وحظ من الدنيا وأن يجاهد بماله ونفسه من أشرك بالله([27]).

وابن عربي يعتبر نسيان الرمي بعد تعلمه كبيرة من الكبائر ، لأن الأمر عنده ألا يحرم المسلم نفسه من أي من صور الجهاد ، فإذا استطاع قتالاً فليقاتل وإن لم يستطع ذلك فليجاهد بلسانه مع الحرص على تجديد نية الجهاد وقتاً بعد وقت ، فإذا لم يتمكن من هذا أو ذاك كان له أن يجهز غازياً ممن يخرجون لملاقاة الأعداء ([28])ويصف أحد الباحثين هذا الفهم عند أبن عربي وغيره فيقول “وهذه سمة من السمات الإيجابية لتصوف أبن عربي وهي سمة نجدها لدى بعض السابقين عليه من الصوفية كأبي طالب المكي ، ولدى بعض المتأخرين عليه([29]) وجدير بالذكر أن الزوايا التي عرفها التاريخ أدت نفس الدور ، وسارت على نفس النهج ، وحسبنا أن نذكر بالدور الذي أدته زوايا السنوسية في الجهاد والأعمال الحربية التي كان لها أثرها في تونس والجزائر وليبيا([30]).

ولعل خير ما نؤكد به دور الرباط ودور الصوفية في العمل الحربي ، هو أن نشير إلى أن دولة المرابطين (448-541هـ) قامت على هذا الأساس حيث رابط عبد الله بن يس مع مريديه وعلمهم من الأخلاق وفنون الحرب ما يمكنهم من خوض معركة لتغيير واقع أليم في حياة المسلمين وحين تكاثر مريدوه حتى صاروا ألفا هتف فيهم. إنكم لن تغلبوا عن قلة وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه فأخرجوا بنا لذلك خرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتوته وكتاثة ومهموهة حتى أنابوا إلى الحق واستقاموا على الطريقة([31]).

وما الجهاد في حياة الزهاد إلا جماع ما تعلموا ، وذروة ما تمنوا من نشاط اجتماعي بغية نصرة العمل الإسلامي ودحض محاولات أعدائه. “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.

الصوفية ونشر الإسلام:

حقيقة تاريخية لا يختلف فيها اثنان تلك هي أثر الطرق الصوفية في نشر الإسلام في بقاع كثيرة من العالم وتجد الإشارة بهذا الدور في كتب تاريخ الفكر كما تجدها في كتب التاريخ العام ، وكثر من المؤرخين لهذا الأمر يركزون على الطرق القادرية والتيجانية والسنوسية دون إغفال لبقية الطرق حسب دورهما كما وكيف([32]) ويرتبط انتشار الإسلام في إفريقيا السوداء جنوبي الصحراء (السنغال – مالي – النيجر – غينيا – غانا – نيجيريا – تشاد) يرتبط بالطرق الصوفية زوايا هذه الطرق وشيوخها بما يبذلون من جهود في هذا الصدد([33]). وفي الهند كذلك نجد “أن الإسلام لم ينتشر بواسطة الحروب بل انتشر بفضل الصوفية والطرق الكبرى وهي الجشتية والكيروية والشطارية والنقشبندية ذلك لأن التوافق الاجتماعي بين الكافرين والمسلمين لا يتم إلا بواسطة أولئك الذين يعطون ولا يطلبون ويقرضون لا يأملون في شيء([34]).

“كما كان للصوفية الفضل في نشر الإسلام في اندونيسيا وغيرها من الأقطار النائية أو كانوا ينشرونه بالقدوة الطيبة والخلق الكريم أكثر مما ينشرونه بالدعاية التي قد لا تجدي([35]).

وتعليل ذلك ليس يصعب فقد عاش الشيوخ بين عامة الناس وفقرائهم وشاركوهم حياتهم بكل ما فيها فرأوا فيهم إخوة يتسمون بالتقوى والصلاح إلى جانب مشاركتهم لهم في ظروفهم ، وتقديم ما أمكنهم من الخدمات الاجتماعية والتعاون على البر والإحسان والمواساة([36]).

وقد انتشر الإسلام بفضل التفوق الخلقي وما تحلى به المسلمون من صدق ووفاء وفي إفريقية أصبح اعتناق الإسلام مفخرة لصاحبة لأنه التزام بصفات هي في جوهرها مطلب للحياة كالصدق والوفاء والتعاون وغيرها ، وعن طريق هذه النماذج الإسلامية انتشر الإسلام كثيراً وإذا كان الداعي من مشايخ الطرق الصوفية فإنه يجذب الجماهير حوله بما عرف عن رجال الطرق الصوفية من وسائل تجعل الناس يتهافتون عليهم ويتخذونهم ملاذاً في ساعات الضيف والعسرة([37]).

وفي إفريقيا حيث بساطة الحياة وفراغ الوقت وحيث أفاقت القارة من وثنيتها وهي تتطلع إلى ما يملأ فراغها ، تطلع الناس فوحدوا في الالتفاف حول الشيخ وفي الانضمام للحلقات ما يشبع هذا الظمأ ويسد هذه الحاجة([38]) وإذا كان للتجار دور في نشر الإسلام فإن للطرق الصوفية دوراً أعظم لأنها لم تعكف على المدن ولم تطلب المال بل تبث الهداية  للناس في كل مكان وبالأخص حيث النجوع والقرى.

وقد التزمت هذه الطرق بالإسلام في دعوتها واعتبرت أن البعد عن القرآن والسنة هو أصل داء هذه الأمة وإن علاجها لا يكون إلا بالعودة إليهما وقد سئل مؤسس التيجانية: أيكذب عليك؟ قال نعم إذا سمعتم عني شيئاً فزنوه بميزان الشرع فما وافق الشرع فاعلموا به ، وما لم يوافق فهو كذب على ، يتحتم عليكم أن تتركوه([39]).

وقد صور صاحب حاضر العالم الإسلامي مجاري نشر الإسلام في إفريقيا حيث ذكر أن أهمها أربعة الأول هو التيار المراكشي الذي يخرج من زوايا المغرب العديدة ومدارس فارس ، ومراكش يخترق جهات السنغال فينشر الإسلام هناك والثاني وهو الذي ينتشر من مدارس القادرية في تميكتو ومن بعض زوايا الطريقة التيجانية ويتبع مجرى نهر النيجر ، والثالث هو الذي يصدر من زوايا السنوسية في الجنوب ويمتد متجهاً جهات بحيرة تشاد والمجرى الرابع يخرج من الأزهر فيتبع منابع النيل وأوغندة ويضاف إلى هذه المجاري الأربعة ما يقوم به التجار المسلمون من مصر وطرابلس وزنجبار([40]).

وبهذا الوصف يمكننا أن نقرر أن طرفاً كالقادرية والتيجانية والسنوسية قد أدت في باب نشر الإسلام في إفريقيا دوراً له أهمية فأما الفادرية (نسبة إلى عبد القادر الجيلاني توفى 561 هـ فقد انتشرت في العراق واليمن والصومال والهند وتركيا ومصر والمغرب وغربي إفريقيا ووسطها وقد دخلت إفريقية الغربية في القرن الخامس عشر على يد مهاجرين كانوا يتخذون من توت مراكزاً لهم وهي واحة في النصف الغربي من الصحراء ثم انتقل هؤلاء إلى ولاته فجعلوا منها أول مركز لطريقتهم ومنها – بعد حين – انتقلوا إلى تميكتو([41]) وهنا أخذوا يؤثرون أثرهم ، فلم يكتفوا بحلقات الذكر كما كان غيرهم بل اتجهوا إلى مجالات عديدة منها تعليم الصبية القراءة والكتابة وأمور الإسلام ومنها اشتغال بعضهم بالوعظ والتأليف في أمور الدين ، ومنها أنهم كانوا يرسلون النجباء من التلاميذ إلى مراكز الثقافة بالشمال ليتعلموا ويعودوا إلى أهليهم ومنها أنهم فتحوا المدارس لنشر التعليم([42]).

ولذلك فإن القرن التاسع عشر يبرز السيطرة الروحية والفكرية التامة لجماعات القادرية في أكثر نواحي إفريقيا الغربية. فعلى يد رجال القادرية تحول الدخول في الإسلام من حالات فردية إلى ظاهرة جماعية([43]).

وأما التيجانية (أسسها أحمد بن المختار الفقيه المغربي (1737 – 1818م) فقد استقرت في بلاد المغرب ولظروف ما غلب عاليها طابع العنف والحرب ، حتى أن إتباع هذه الطريقة كانوا يطعنون في تساهل القادرية ويعرف التاريه الحاج عمر (ولد 1797م) بحملاته في بلاد الهوسا لنشر الإسلام بين الوثنيين وفي حوض النيجر والسنغال وحقق كثيراً من النشاط الديني والسياسي فأصبح يحكم إمبراطورية واسعة تمتد من تميكتو إلى المحيط الأطلسي ، وكان هذا الخليفة التيجاني ملتزماً بالشرع في حربه وسلمه حتى أنه كان يدرس العلوم لجيوشه الغازية في سبيل الله وظل كذلك حتى قتل (1865م) وبعد أن أدى دورا هاماً في مجال نشر الإسلام([44]).

أما السنوسية (تنسب إلى محمد بن علي السنوسي 1798 – 1859) فإنها أكثر الطرق التي عملت على نشر الإسلام فأدخلت فيه فريقاً كبيراً كان لا يزال على الوثنية كما أن دعاة السنوسية حينما نزلوا بين شعب التتبدا في بلاد تليستي جنوب واحة فزان نجحوا في تعليم هذا الشعب مبادئ الإسلام وأخلاقه ، وللسنوسية كذلك نفوذ كبير في بلاد وادي والجلا وحول بحيرة تشاد ، وفي بلاد كانم وباجرحي ودارفور “على العموم كانت السنوسية تنشر الإسلام من ساحل البحر وحوض النيجر وينشرون زواياهم في واحات هذه الأجزاء”([45]).

وقد اتخذت السنوسية طرقاً عديدة لنشر الإسلام فأقامت المدارس والزوايا وأنشأت الماوى في جميع إفريقيا الشمالية ، لكن أهم ما تميزت به من وسائل في التبشير بالإسلام هو “أنهم كانوا يشترون الأرقاء صغاراً من السودان ويربونهم في حضوب وتمذامس وغيرهما ثم حتى إذا بلغوا أشدهم وأكملوا تحصيل العلم اعتقوهم وسرحوهم إلى أطراف السودان يهدون أبناء بلدتهم الباقين على الفتليثية.

وهكذا يرحل كل سنة مئات من مجاهدي السنوسية وقد تعلموا كيف يقدمون الإسلام في جميع إفريقية الداخلية من سواحل الصومال شرقاً إلى سواحل السينعامية غرباً([46]).

ويكفي أن نعلم أن عدد المريدين السنوسيين قادر بأربعة ملايين ولك أن تقدر مقدار ما يقدمه هذا العدد من خدمة للإسلام ، ولعل هذا هو الذي جعل بعض الباحثين يقرر ان السنوسية كونت أساساً لتبشر بالإسلام لأن هذا الكسب حقيقي للدين. وبالإجمال كان مريدو هذه الطرق كلها هم الذي سعوا في نشر الإسلام ووفقوا إليه في إفريقيا([47]) وقد فسر البعض هذه الظاهرة فذكر أن الفترة (1750-1901) كانت تمثل مرحلة خاصة من العمل الإسلامي حيث أنه “لما دخلت الدعوة البروتستانتية إلى إفريقيا بشدة وضاعفت الكنيسة الكاثوليكية مجاهديها كان لابد من توازن وأن يشتد الصراع وهذه المرة كان على يد الطرق الصوفية مشايخها وإخوانها([48]) هكذا قدمت الطرق الصوفية حديثاً مثلما قدم الزهاد الأوائل جهداً مشكوراً في باب الجهاد من أجل إعلاء كلمة الحق ، وتنوعت في ذلك وسائلها ، مرة لإرهاب الأعداء بالسيف وتأمين الحدود ، ومرة بالتربية وبما تتركه من آثار في حياة الدعوات والحركات ، ومرة بحرب الغزو الفكري المسلط على عقول قوم لا يعرفون الحق من الباطل وهذه الوسيلة الأخيرة “نشر الإسلام ومقاومة المبشرين” هي التي أعطت الطرق الصوفية بقاءها واستمرارها وجعلتها قذى في عيون المبشرين المسيحيين الأمر الذي جعلهم يحتالون على إضعاف هذه الطرق وكسر شوكتها([49]) ولكنهم لم يستطيعوا القضاء عليها وإن ساعدتهم بعض الظروف على إبعاد الطرق عن دورها الجهادي الحركي الذي تميزت به عبر تاريخها الطويل.

ولعل ما قدمناه لا يمثل فخراً الطرق الصوفية اليوم ، وهي أبعد ما تكون عن تمثله بقدر ما يمثل رداً على سلبية الكثيرين منهم ، وفهمهم أن العبادة شيء والجهاد والحركة شيء آخر ، إذ فيما قدمناه نموذج ومثال واقعي لما يجب أن يكون عليه العابد الزاهد المتعالي على مغريات الحياة وفتن الدنيا ، من حيث الإسهام والفاعلية في أحداث الحياة وتفسير المنكر فيها ، طلباً للإصلاح والعودة إلى الحياة الإسلامية كما رسمها الكتاب والسنة.

وهنا نذكر أن المشاحة حول إصطلاح التصوف والصوفية – مع وجودهما التاريخي – إنما تستند في جزء كبير منها إلى ابتعاد من يحملون هذا الاسم عن سمت الشخصية المسلمة في عقيدتها وسلوكها. مما يعتبر هؤلاء شيئاً لا يختلف عن المسلمين في نقاء عقيدتهم ، والوعي بسلوكهم. ولو تفحص الصوفية اليوم حياة أسلافهم لوجدوا أنهم كانوا ترجمة للتربية الإسلامية التي ترى أن الزهد ضبط للإرادة ، وليس سلبية أو هروباً من معركة الصراع بين الحق والباطل. والله المستعان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

أثر التربية الروحية في الدعوى إلى الإصلاح:

ضروري أن تتكامل جوانب البناء في الشخصية المسلمة  ، وتزداد الحاجة إلى هذا التكامل في شخصيات الدعاة المصلحين فلابد من معرفتهم بالأمر والنهي ، ولابد

من إعمال عقولهم في النص الإسلامي ، ولابد من تدقيق الوجدان ليتفاعل مع هذه النصوص ، فيتمثلها عن وعي وبصيرة ، ولا يؤديها أداء شكلياً. ولأن الاهتمام منصب غالباً على الجوانب التعليمية “النصية” والعقلية ، وتكاد تهمل الجانب الوجداني مع أهميته ، لهذا وغيره من أسباب ، أقدم هذه الدراسة الموجزة ، مبرراً أهمية التربية الروحية مدركاً أهمية الجوانب الأخرى وأثرها.

وقد كان هذا واضحاً في شخصيات الدعاة من السلف الصالح ، ومن تبعهم من قرون. لكنه حين تمزقت الشخصية المسلمة ووجدت تيارات فصلت الإنسان المسلم عن حقيقة تكامله ، وجعل النص شيئاً والعقل شيئاً آخر ، ومات الوجدان الذي كان يرهقه أن يرى المنكر ولا بغيره أقول حين حدث هذا وجد في مجتمع المسلمين علماء مصلحون حققوا التوازن حين دعوا إلى الزهد واعتزال المظالم ، كما أسهموا بجهد طيب في تغيير المنكر الذي كان واقعاً آنذاك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. كان هذا في صورة علماء لهم مجالس وحلقات في القرنين الثالث والرابع الهجريين كما كان في القرن السادس الهجري حين تكونت ما سمى بالطرق الصوفية “فإذا بالقرن السادس الهجري يلد لنا وارثاً صادقاً من وارثي تلك الأقباس الأولى لأبن مسعود وأبن المبارك ، ينتفض ويأبى وعيه الانسياق في تيار بدعة الترهب والاختفاء عن الناس فيقف ينادي الأمة  ، ويدلها على الأمراض التي تتهددها([50]).

ولقد عرف الجيلاني دوره وأدرك أهمية الدعوة إلى الإصلاح الشامل بعد أن فسدت جوانب كثيرة في العصر ، وبعد أن تطلع الناس إلى من يعلن عن نفسه ليقود موكب التغيير نحو الأفضل والأمثل ، وما قاد الجيلاني وأمثاله من شيوخ الصوفية الناس إلا لأن هذا هو أسمى دور فليس هناك فوقه إلا دور النبوة([51]).

وهذا هو الذي جعل الشيخ الجيلاني يلح على وجوب الدعوة إلى الله بل بذكر خيار بني الإسلامي الذين تجمعوا من أطراف الأرض في عاصمة الإسلام يصف الدعاة فيقول: “هم قيام في مقام الدعوة ، يدعون الخلق إلى معرفة الحق عز وجل ، ولا يزالون يدعون القلوب”([52]).

ويجعل الجيلاني عمل الداعية أداء لدوره بدأه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قبضه الحق عز وجل أقام له من أمته من يخلفه فيهم ، وهم آحاد أفراد من كل ألف ألف واحد يدلون الخلق ويعبرون عن أذاهم ، مع دوام النصح لهم ، يبتسمون في وجوه المنافقين والفساق ويحتالون عليهم بكل حيلة حتى يخلصوهم مما لهم فيه ويحملوهم إلى باب ربهم عز وجل([53]).

والذي أبرزه الجيلاني في هذا الصدد هو بيان لقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثر هذا في الإصلاح والترقية الخلفية  ، وهو نفسه الذي تحدث فيه الإمام الغزالي فأفاض وجعله واجباً ليس ينتظر أمر السلطة الحاكمة ولإقرار أولي الأمر وبخاصة الظالمون منهم ، وذلك قياساً على جهاد الكفار وقمع حركاتهم ، فكما أنه يجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر فكذلك قمع أهل الفساد جائز([54]).

وما تميز به الزهاد من جرأة في الحق ومجابهة للحاكم الظالم هو دعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، دعوة عملية تترك أثرها على من يراها رؤية العين ، كما تسير في أصلاب مناهج المربيين من الشيوخ ، فإذا كان بين المريدين من هو مهيأ للاستجابة وللتصدي ، ميزته التربية الروحية عن غيره من الدعاة بل وأعطت دعوته البعد الروحي الذي لابد منه للدعوة بل لابد منه للداعية نفسه ، لأنه إذا تشرب روح شيخة في جهاد النفس والرفق بالناس والزهد في مغريات الحياة ، وعرف محاسبة النفس ومراقبة خواطرها كما تفيأ رضا الله في كل حال ورؤيته عند كل فعل ، إذا تعلم هذا ، كان عليه أن يجهر بالحق دون خوف من أحد وأن يتعالى فوق الملذات دون جزع أو ضجر ، وحق له كذلك أن يكون قوله طريق فعله فيرى الناس منه ما يسمعون ، وتجدد دعوته من الأنصار والمجاهدين دونها ما لا تتوقعه حسابات كل الناس ، وصدق الداهية أثر من آثار تربيته الروحية حيث نبذ الزيف وإطراح الخداع ومن قبل كم نعلم من شيوخ أجلاء ضرورة هذا الالتزام في كل فرد فضلاً عن الداعية إلى الله ، والمتصدي لبيان حقائق الدين كما تضمنها القرآن والسنة ، وفي العصر الحديث وجد دعاة صدعوا بدعوات ربطت نفسها بالنبع الأول للدعوة ولكن الدعاة الذين انطلقوا من تربية روحية كان لهم من النجاح حظا برزوا فيه غيرهم وبقيت دعوتهم وكلما تهم تنبض بالحياة لأنها خرجت من القلب وكانت لله وحدة مبدأ وغاية.

ولا نستطيع أن نرصد كل داع وكل دعوة مبنيين بالمقارنة أثر التربية الروحية في شخصية ودعوة الداهية ، فذلك عمل يحتاج إلى بحث مطول وحسبنا أن نشير إلى مثال أو أكثر ممن أثر فيهم جو الزهد وتربيته فأضافوا بذلك إلى دعواتهم ونصوصها بعداً روحياً عميقاً هو بعد فهم النصوص واستكناه الأسرار بتجرد واستغلاء على كل ما يعوق نور العلم وحلاوة الهدى من الوصول إلى المدعوين والمطالبين بتغيير أنفسهم وعصرهم ، رجوعاً إلى كتاب الله وسنة رسوله وسلوك السلف الصالح.

الشيخ حسن البنا

في بيت علم نشأ (1906 م) وحفظ القرآن وتدرج في مراحل التعليم كظروف أقرانه آنذاك وأتيح له أن يجد طريقة صوفية “الحصافية” يتضوى كمريد تحت لوائها فيفيد من ذلك – كما يذكر هو – أيما إفادة بل وتترك أثراً في حياته يظهر في منهجه لتربية الإخوان وكل هذا جعل موقف الشيخ البنا من التصوف موقف ألفاهم ، فهو يدرك ردوهم في نشر الإسلام في مناطق نائبة ، كما يدرك مدى ما يمكن أن يسهموا به في إصلاح الأحوال في الأمة الإسلامية ، لو أن شيوخ الطرق عرفوا ما المطلوب منهم ، ولو سلكوا نفس طريق الأوائل من الزهاد ، الأصلاء من تربية إسلامية للمريدين ([55]) وبعيداً عن شمول هذا الأثر الصوفي لكل سلوك حياة الشيخ البنا أو عدم شموله فإن الحقيقة تبقى وهي أن أثراً واضحاً وبعداً له خطره كان في حياته من هذه التربية الروحية ، اعترف به هو في مذكراته كما فهم من تحليل الدارسين لتاريخ ومنهج جماعته “الإخوان المسلمين”.

الشيخ البنا والطريقة الحصافية الشاذلية:

كان من الروافد التي رفد منها الشيخ البنا صحبة الإخوان الحصافية تقديراً لسلوكها وإعجاباً بشيخهم ، وتبدأ هذه الصلة منذ رأي الإخوان الحصافية يذكرون الله تعالى عقب صلاة العشاء من كل ليلة “فاجتذبتني حلقة الذكر بأصواتها الخاشعة ونشيدها الجميل وروحاً نيتها الفياضة وسماحة هؤلاء الذاكرين من شيوخ فضلاء وشباب صالحين وتواضعهم لهؤلاء الصبية الصغار الذين اقتحموا عليهم مجلسهم ليشاركوهم ذكر الله تبارك وتعالى.

وتوطدت الصلات بيني وبين شباب هؤلاء الإخوان الحصافية ومن بينهم الثلاثة المقدمون: الشيخ شلبي الرجال والشيخ محمد أبو شوشه ، والشيخ سيد عثمان ، والشبان الصالحون الذي كانوا أقرب الذاكرين إلينا في السن: محمد أفندي الدمياطي ، وصاوي أفندي الصاوي ، وعبد المتعال أفندي سكنل ، وإضرابهم ، وفي هذه الخلية المباركة التقيت لأول مرة بالأستاذ أحمد السكري- وكيل الإخوان المسلمين – فكان لهذا اللقاء أثره البالغ في حياة كل منا”([56]).

وقد كثر سماعة لاسم الشيخ الحصافي فوقع من قلبه موقعاً حميداً ، تمنى معه أن يرى الشيخ وأن يجلس إليه ولكنه قبل أن يأخذ العهد كان مؤدياً لما يؤديه الإخوان الحصافية “وأخذت أواظب على الوظيفة الرزوقية صباحاً ومساءا وزادني إعجابي بها أن الوالد قد وضع عليها تعليقاً لطيفاً جاء فيه بأدلة صيغها جميعاً تقريباً من الأحاديث الصحيحة وسمى هذه الرسالة “تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الزروقية” ، ولم تكن هذه الوظيفة أكثر من آيات من الكتاب الكريم وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التي وردت في كتب السنة تقريباً([57]).

وظل الشيخ إلينا متلهفاً إلى معرفة الكثير عن هذه الطريقة حتى وقع في يده كتاب “المنهل الصافي في مناقب حسنين الحصافي” شيخ الطريقة الأول ووالد شيخها “عبد الوهاب” الذي كان يعاصر الشيخ حسن إلينا ، وكان لهذا الكتاب أثره في حياة الشيخ البنا ، فقد وجد فيه الشيخ الحصافي عالماً فاضلاً وداعية واعياً ، ولكن أكثر ما لفت نظر الشيخ حسن البنا هو شدة الشيخ الحصافي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه كان لا يدع الأمر والنهي مهما كان في حضرة كبيرة أو عظيم ([58])” ومن نماذج ذلك أنه زار رياض باشا حين كان رئيساً للوزراء فدخل أحد العلماء وسلم على الباشا وانحنى حتى قارب الركوع ، فقام الشيخ الحصافي مغضباً وضربه على خديه بمجتمع يده ، ونهره بشدة قائلاً ، استقم يا رجل فإن الركوع لا يجوز إلا لله ، فلا تذلوا الدين والعلم فيذلكم الله. ولم يستطع العالم أو الباشا أن يؤاخذه بشيء([59]).

وهذا السلوك الجيد استولى على قلب البنا وهو ابن الثانية عشر من عمره وأخذ شوقه لرؤية الشيخ عبد الوهاب الحصافي يزداد ، وبخاصة حينما رأى الشيخ الحصافي في رؤيا كان الشيطان فيها يصارع حسن البنا ويحاول أن يغويه وتدخل الشيخ الحصافي واحتجز حسن البنا ورفع يمناه مشيراً بها إلى الشيطان صائحاً في وجهة إخسأ يا لعين” وتعلم البنا من ذلك وعلمت الناس موقف الشيطان منهم([60]).

ويظل هذا الشوق إلى كل ما يتصل بالشيخ حباً في نفسه دافعاً لها حتى يذهب إلى دمنهور للتعليم بمدرسة المعلمين الأولية وفيها مدفن الشيخ الحصافي فيزور قبره كل يوم تقريباً ويتصل بالإخوان الحصافية بدمنهور ، وواظب حسن البنا على الحضرة التي كانت تقام في مسجد التوبة كل ليلة وظل الحال كذلك حتى هيأ الله له لقاء مع الشيخ عبد الوهاب الحصافي فأخذ العهد “وحضر السيد عبد الوهاب – نفع الله به – إلى دمنهور وأخبرني الإخوان بذلك فكنت شديد الفرح بهذا النبأ وذهبت إلى الوالد الشيخ بسيوني (مقدم حضرة دمنهور) ورجوته أن يقدمني للشيخ ففعل وكان ذلك عقب صلاة العصر من يوم 4 رمضان عام 1341هـ ، وإذا لم تنحني الذاكرة فقد كان يوافق يوم الأحد حيث تلقبت الحصافية الشاذلية عنه وأذنتي بأورادها ووظائفها([61]).

وقد أفاد البنا من تربية هذه الطريقة كثيراً ، فقد تعلم من حكايات الصالحين ما يرفق القلوب ويسيل العبرات ، بل تعلم الخوف من حساب القبر وظلمته حين كان يزور المقابر مع الشيخ محمد محمد أبو شوشه ، الأمر الذي كان يفجر فيهم حاسة الخوف من عذاب الله ويلزمهم بالتوبة إليه في كل حال([62]).

ولقد قرر الشيخ حسن البنا في مذكراته أنه استفاد من صحبة هؤلاء الإخوان وإن الشيخ عبد الوهاب علمه دون أن يوجهه – كثيراً من الأخلاق الفاضلة “من العفة الكاملة عما في أيدي الناس ومن الجد في الامور والتحرز من صرف الأوقاف في غير العلم أو التعلم أو الذكر والطاعة أو التعبد ، سواء أكان وحده أم مع إخوانه ومريديه ، ومن حسن التوجيه لهؤلاء الإخوان وصرفهم عملياً إلى الأخوة والفقه وطاعة الله([63]).

وكذلك مارس البنا بعض الأنشطة الاجتماعية من خلال هذه الطريقة حيث تكونت “جمعية الحصافية الخيرية” وكان سكرتيراً لها وعملت الجمعية على نشر الخلق الفاضل ومحاربة الرذائل ، كما عملت على مقاومة الإرسالية التبشيرية التي كانت تتمثل في ثلاث فتيات تخفين بالتطبيب وغيره من أعمال “وقد كافحت الجمعية في سبيل رسالتها مكافحة مشكورة وخلقتها في هذا الكفاح جمعية الإخوان المسلمين” بعد ذلك.

وقد ظلت علاقة المودة بين الشيخ البنا وشيخه عبد الوهاب الحصافي حتى بعد أن تكونت جماعة الإخوان المسلمين واجتهاد كل منهما في طريقة الإصلاح فلم يلتقيا على طريقة وخطة موحدة ، لكن ذلك كله لم يهدد العلاقة الطيبة التي كانت بأي شيء([64]).

على أية حال فمذكرات الشيخ حسن البنا مفعمه بالاعتراف بأثر الطريقة الحصافية فيه ، فكثيراً ما يحدثك عن حرصه على الحضرة في أي مكان حل ، وتلذذه بصحبة الإخوان فيها ثم كيف كان يعود نفسه الصمت والعزلة كلون من التربية للنفس حيث لا يتكلمون (هو وأصحابه الحصافية) مع غيرهم إلا بالقرآن([65]) ثم هو يحدثك كيف أتيح له أن يقرأ كتاباً كالأحياء للغزالي مع إخوانه ومن هم أكبر منه سناً الأمر الذي أتاح له التعلم والحوار والمناقشة([66]) ثم كيف كان هو وإخوانه الحصافية يلتقون قبيل الفجر لإيقاظ الناس للصلاة ثم كيف أثرت فيه ناحية نبذ المظهرية والغوص إلى اللب ، حيث تردد في دخول دار العلوم تحت هاجس أنه قد يكون المقصود به مجرد مؤهل عال ، أو بعثة للخارج ونحو ذلك([67]) وينبئك عن رؤى في حياته طمأنت نفسه قبل الامتحانات وإلى غير هذا مما يشعر به الصالحون ويضعون له في حياتهم وزناً.

ويمكنك أن تدرك هذا الأثر واضحاً حين تقرأ في مذكرات الشيخ البنا ، أنه حاول أن يكون فئة من الطلاب الأزهريين والدرعيين للتدريب على الوعظ والإرشاد الديني وذلك ليدعو الناس في كل مكان في المقاهي وغيرها وحين نجحت هذه التجربة يصف البنا إحساسه فيقول “لقد نجحت التجربة مائة في المائة… وقد وجد في هذا المعنى بعض العزاء عن الغيبة عن الجمعية الحصافية التي انحلت شكلاً في المحمودية وإن بقى أعضاؤها إخوة يعمل بعضهم مع بعض للإسلام وتجمعهم الطريقة الحصافية على العبادة والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([68]).

هذا وغيره أكد أثر الحصافية في إبعاد شخصية الداعية حسن البنا وكان لهذا أثره في موقفه من التصوف ، وفي تربية الإخوان المسلمين.

حسن البنا ورأيه في التصوف

رجل نشأ في أحضان طريقة صوفية لا ينتظر منه إلا رأياً منصفاً وهذا ما نجده لدى الشيخ البنا ، فقد ذكر الظروف التي دعت إلى وجوده نزعة الزهد ظاهرة بينة في مواجهة الترف الظاهر ، ثم ذكره “وطرأ على هذه الحقائق ما طرأ على غيرها من حقائق المعارف الإسلامية فأخذت صورة العلم الذي ينظم سلوك الإنسان ويرسم له طريقاً من الحياة خاصاً ، مراحله الذكر والعبادة ومعرفة الله ، ونهايته الوصول إلى الجنة ومرضاة الله.

وهذا القسم من علوم التصوف وأسميه علوم التربية والسلوك لاشك أنه من لب الإسلام وصحيحه ولا شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها والطب لها والرقي بها لم يبلغه غيرهم من المربين ولا شك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب على خطة عملية من حيث أداء فرائص الله واجتناب نواهيه وصدق التوجه إليه([69]).

وفي هذا الإطار يرى البنا التصوف علماً له أهميته ، أما حين اختلط بالفلسفة وغرق في متاهاتها وخلط بالدين ما ليس منه ، وأما حين نحت الطرق منحى غير تربوي أو غرقت في المظهريات ، فإن التصوف يحتاج إلى نظر([70]) واقتضاه الإنصاف أن ذكر دورهم في نشر الإسلام كما ذكر دورهم في التربية “ولا شك أن التصوف والطرق كانت من أكبر العوامل في نشر الإسلام كثير من البلدان وإيصاله إلى جهات نائبة كان ليصل إليها إلا على يد هؤلاء الدعاة ، كما حدث ويحدث في بلدان إفريقيا وصحاريها ووسطها وفي كثير من جهات أسيا كذلك([71]).

ولعل ذلك هو الذي جعله يدعو إلى إصلاح الطرق الصوفية ، ففيها الإصلاح من جهة  ، وصلاحها مصدر كبير من جهة أخرى ويذكر أن محاولات في هذا الصدد بذلت من الشيخ توفيق البكري ومن الشيخ عبد الله عفيفي ، ولكن ظل محصوراً في نطاق النظر بعيداً عن التنفيذ([72]) وأما علاقة البنا بالطرق الصوفية بعد جهره بدعوى الإخوان المسلمين ، فكانت علاقة طيبة وما كانت يريد أن يدخل مع طريقة ما في خلاف أو عداء فكان يحسن استقبال شيوخ الصوفية في الإسماعيلية وينزلهم منزلتهم فكان يقابل الشيخ أمام الناس بترحاب بالغ حتى إلا خلا به حدثه عما يجب بالنسبة لحال المسلمين “وكانت طريقتي مع هؤلاء الشيوخ الكثيرين الذين يزورون الإسماعيلية أن أتأدب معهم بأدب الطريق وأخاطبهم بلسانها إذا خلوت معهم شرحت لكل منهم حال المسلمين وجهلهم بأوليات دينهم وتفكك رابطتهم وغفلتهم عن مصالحهم الدينية والدنيوية وما يهددهم من أخطار جسام([73]).

وقد كان لهذه الفطنة أثرها ، فقد التف حوله كثيرون من الصوفية ، ثم عاونه شيوخ الصوفية في نشر دعوته ، فهذا هو السيد محمد محمد أبو خليل الصغير يحكى لي أن الشيخ البنا حين قدم الزقازيق (1926-1930م) طلب منه المعاونة فعاونه الشيخ أبو خليل – في بلده – بل ظلت هذه الصلة بينهما حتى استشهاد البنا بل لقد حذر الشيخ أبو خليل الإمام البنا مما فعل به وفق رؤية رآها له لكنه لم يفصح له عنها ، وكان كلما اتصل إلينا بالسيد محمد محمد أبو خليل تليفونياً ليخبره خبراً عن الصلح ووساطة صالح حرب ذكر له السيد محمد خطر ذلك إلى درجة أنه قال له: إذا كانوا صادقين فلا تذهب أنت إلى جمعية الشبان المسلمين وأطلبهم في منزلك ، وطلت الصلة بينهما نصحاً ومحاورة حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً([74]).

التربية في جماعة الإخوان المسلمين:

عديد من الدراسات تناولت التربية في جماعة الإخوان المسلمين وفيها تلمح الأثر الروحي الذي عاش داخل الشيخ البنا فترة ثم خرج إلى برنامج محدد يربي عليه الدعاة والرواد.

وحيث نصف إحدى الدراسات التربوية عند الإخوان بأنها تربية بالحال والقدوة فلا يكون المربي على غير ما يحب من تلميذه أو أخيه ، وتربيه بإصلاح العيب وفي خطة عملية تصلح ولا تهين وتربية تتدرج بالمربي وتنتقل به من حال إلى حال ، وتربية يراعى فيها الجانب العملي أكثر من الجانب الكلامي ، وتربية يتحمل الفرد فيها مسئولية وأمانة([75]) وحين تقرأ أن نظام الحلقات هو النظام الذي تمارسه جماعة الإخوان في التعلم وله من المميزات ما له([76]) ، نجد في كل ما تقرأ التربية كما تعرفها الطرق الصوفية ، فالحلقات نظامهم والرفق بالمتعلم ورعاية حالة ، ثم الجوانب العملية في التعليم والمسئولية ، أسس تعلمها البنا حين كان في صحبة الإخوان الحصافية ، بل كانت مثار إعجابه وموضع تفكيره.

ولا نريد أن نسرع في المقارنة بين شعب الإخوان وبين الزوايا في الطرق الحديثة فذلك أمر يحتاج إلى وقفات ولكن حسبنا أن نذكر هنا بأن الربانية التي اعتبرت من خصائص تربية الإخوان المسلمين([77]) إنما تعتمد على تنقية الباطن وتربية النفس ومخالفة هواها ومراقبة الله في الأعمال حيث يرى سبحانه كل شيء ، وعدم الاهتمام بالمظهرية أو الرياء ، وهذه كلها معان جهد الصوفية وامتلأت بها كتبهم بل أن هذه التنقية هي أو الطريق الصوفي ، لأنهم كيف يطلبون رضا الله وجنتيه ورؤيته ونفوسهم لا تزال تضطرب طمعاً وهوى”.

ومن الوسائل التي ابتكرها الإخوان لإيقاظ الشعور الديني الوازع الذاتي ، وتغليب النفس اللوامة على النفس الأمارة بالسوء ، ما سمى بجدول المحاسبة وهو جدول مطبوع يتضمن أسئلة موجهة من الإنسان لنفسه وعليه أن يجيب عليها بنعم أو لا ليعرف مدى محافظته أو تقصيره ويكون ذلك حينما يأوي إلى فراشه ليتبين حصيلة يومه([78]).

وما هذا الذي سماه الدكتور القرضاوي مبتكراً إلا شيء ،ـ عادي في حياة الزاهد بل أن واحداً من الزهاد اشتهر بالمحاسبة حتى سمي بالمحاسبي وما من طريقة – حصافية أو غيرها – إلا وتعلم المريدين ذلك ، فإذا وجد هذا في جماعة الإخوان المسلمين فهو أثر بين ولا شك ومبلغ النجاح فيه متوقف على تعمقه وتمثله وما تركيز الإمام البنا على الجانب الخلفي الذي سماه “عصا التحويل” إلا مظهر من مظاهر نفاذ المنهج الروحي إلى منهج الإخوان المسلمين في التربية وحيث تركز الطرق الصوفية على الجانب الخلقي في تربية مريديها اعتقاداً أن هذا هو المنطلق فإذا صح صحت جميع الخطوات بعده وكم للإمام البنا – وهو الحصافي الواعي – من بيان لأهمية هذا الجانب في التربية([79]).

الأوراد:

ولعل في الأوراد خير دليل على الاهتمام بالجانب الروحي ، حيث ذكر الإمام البنا أن أهم ركيزة يرتكز عليها هي القلوب اليقظة والنفوس المهذبة والمشاعر الواعية وقد وضع لهذا التهذيب الروحي يوضخ اقتفاء أثر شيوخه الحصافية ، فلدية ثلاثة أوراد رئيسية هي:

  1. الوظيفة: وهي عبارة عن الفاتحة وقراءة آيات معينة محددة في سورها.
  2. الورد القرآني وهو أن يكون على كل فرد جزء من القرآن يقروه يومياً.
  3. الأدعية التي وردت في السنة والتي تغطي أحوال المسلم وأزمانه([80]).

وفي الحقيقة فإن التربية التي ترباها الشيخ البنا أثرت في تفكيره وهو يخطط لجماعته هذه وأثرت فيه كداعية يجذب بالكلمة والسلوك مثلما جذبه شيخ إليه بالسلوك والقدوة وأثرت في منهج تربيته لاتباعه حيث حرص على تنقية أرواحهم وتعويدهم جهاد النفس والهوى ثم ضرورة ربطهم في كل حين بالذكر والدعاء ، وكأنا بالشيخ البنا أراد أن يترجم متعته التي كان يجدها في الحضرة والذكر وخدمة الناس والإسلام من خلال الجمعية الحصافية ، أراد أن يترجم هذا إلى منهج وخطة تجد في النفس قبولاً ويكون منهم عليها حدب واهتمام ولا شك أن الإمام البنا لمس في كثير من حياته أثر الذكر والمراقبة وحين أتيح له أن ينقل لإتباعه تجربته ما ضن عليهم بأعلى ما عرف وهو طريق الله وأدب الشيوخ فيه.

ولولا الصدق الذي لمسه الشيخ في الإخوان الحصافية ما انعطف إليهم ، ولولا صدقه هو معهم ومع نفسه وتعلم هذا من الممارسة والذكر لولا هذا لكانت دعوته كلاماً وضيحات كباقي الكلام والصحيات.

ولكنها انطلقت من القلب ولله فصدقت وعملت فأثرت وتركت الخلاف متسامحة ونبذت الدعوة إليه فالتف حولها كل مريد للحق وطالب للإصلاح وهكذا يتبين أثر التربية الروحية في الحركة الإسلامية المعاصرة “فقط ذكر الأستاذ البنا في رسالة التعاليم كيف أن مرحلة من المراحل طابعها صوفي من جانب وذكر في رسالته المؤتمر الخامس أن من خصائص دعوتنا إنها حقيقة صوفية وترك في مذكراته لمريد التربية الخاصة الحرية في أن يسلك طريق ذلك ، وذلك في معركة الكلام عن موقفه من التصوف ([81]) وما كان للإمام البنا أن يحيد عن الاهتمام بالتربية الروحية للإخوان لأن هذا النزوع- كما جربه هو – نزعة أصلية في النفس البشرية فلابد أن تكون جزءاً من الدعوى التي تريد أن تعالج أمراض المجتمع من خلال أمراض النفس التي تعوق حركة العمل الإسلامي.

كما أن الإمام البنا قد أدرك قيمة التراث الروحي وأثره في هذا الجانب فكان عليه أن يستفيد منه قدر طاقته ، الأمر الذي ظهر جلياً في بعض أسماء أصحاب الأدوار في الحركة الإسلامية كالمرشد والنائب وغير هذا مما يتطابق مع المرشد الكامل عند الصوفية والخليفة في تنظيم الطرق ([82]) ولعل في هذا الذي أشرنا إليه دلالة على ما نقصد وحسبنا هذا إذا أن تفصيل الأمر وتبيانه يحتاج إلى دراسة مستقلة في هذا الصدد.

السنوسي وأثر التربية الصوفية:

حين تذكر الدعوات الإصلاحية في العصر الحديث تذكر السنوسية بما حققته في مجالات عديدة أهمها نشر الإسلام في إفريقيا ومحاربة الغزو التبشيري المسيحي فضلاً عن تأسيس دولة إسلامية على أساس روحي لا يغفل الحركة ولا الجهاد. وتذكر السنوسية على إنها دعوة سلفية تأثرت بابن تيمية وفكره وافقت مع الدعوة الوهابية في كثير من المبادئ غير إنها خالفتها في طرق تحقيق هذه السلفية ([83]) فقد اختارت السنوسية التسامح واللين طريقاً لنشر دعوتها ، ولم تحارب السنوسية الطرق الصوفية – كما فعلت الوهابية – بل اعتبرت نفسها طريقة سنية معتدلة إلى جانب أن السنوسية لم تتشنج في موقفها من الولاية والأولياء إلى غير ذلك من الأمور التي ضمنت لها التفوق والإيجابية وسعة الانتشار فأدت بذلك دوراً في الجهاد الحربي – كما نشرت الإسلام وحاربت أعداءه.

وحين تحاول أن نوصل هذه التميزات التي تميزت بها السنوسية عن الوهابية شقيقتها في الدعوة السلفية طريقاً للإصلاح ، حين نحاول هذا نجده في شخصية صاحب الدعوة ذاته ، حيث تربى محمد بن علي السنوسي (1787-1859م) في بيت علم ودين ولديه منذ حداثته نزعه العزلة والتأمل ، كما عرف عن سلوكه التقوى. ولقد عاش متنقلاً بين الجزائر مسقط رأسه  – تونس والمغرب وليبيا ومصر ، وفي جميعها كان يبحث عن العلم والهدى فدرس كثيراً من أنظمة الطرق الصوفية المنتشرة في شمال إفريقية في ذلك الوقت وانتمى إلى بعض منها – فدرس

القادرية والشاذلية والدرقاوية والناصرية والحبيبية والجزولية وغيرها “وعمد في أثناء رحلاته إلى زيارة الزوايا والاجتماع بالإخوان ومعرفة مختلف الطرائق([84]).

وهذه التربية الروحية التي تعم بها السنوسي الكبير جعلته يخطط لدعوته في الإصلاح بما يكفل نجاحها ، إذ أدرك قيمة الزوايا في الدعوات السابقة كما أدرك قيمة البساطة واليسر في تقديم المعلومات الدينية للمريدين كما رأي أن خير هذه الأمة في فترتها الراهنة آنذاك يكمن في توحيد صفوفها ، الأمر الذي جعله لا يتخذ موقف العداء السافر من الخلافة العثمانية من جهة كما جعله يتألف مع الطرق الصوفية الموجودة في عصره من جهة أخرى ، دون أن يغفل دعوة هذه الطرق إلى إصلاح نفسها ودعوتها إلى بث روح الجهاد بين أتباعها([85]).

ولا تعجب – كما عجب بعض الباحثين([86]) من أن تقوم دعوة سلفية متخذة من التصوف رداء لها ، بل تقول أن هذا هو المنطقي للمواءمة بين تربية الرجل وبين حرصه على نجاح دعوته متفادية ما وقع في غيرها من أخطاء وتوافق هذا الباحث على ما قرره “فاتخذت الحركة السلفية على يد محمد السنوسي طابعاً فريداً لقد التأمت مع بعض أشكال الطرق الصوفية ولكنها استطاعت تحويلها من تكايا إلى خلايا حية لتثقيف الأتباع وتنظيمهم لتكوين دولة على الطريقة الإسلامية([87]).

وتبرز قيمة هذا العمل حين ندرك أن السنوسي لم يكن يسعى إلى قيام ملك شخصي يتوارثه أبناؤه من بعده ، بل كان يعيد نظاماً إسلامياً لمجالات الحياة كلها وهكذا تميزت هذه الدعوة بما تميز بها مؤسسها العالم السلفي.

محمد إقبال (1877-1938م)

وفي ميدان الفكر الداعي إلى الإصلاح – بصرف النظر عن تمثله في حركة أم لا – نجد أثر التربية الروحية في فكر محمد إقبال الفيلسوف المجدد الذي أراد أن يحدث انقلاباً منطلقاً من الذات ومن أعماق ذلك الجانب الإلهي في الذات الإنسانية.

عرف إقبال حقيقة الإنسان وقيمته ، فأراد أن يلقنه درس الإنسانية الحقه بما تنطوي عليه من جانب إلهي ، وقد دعا الناس أن يتخلقوا بأخلاق الله وأن يكتسبوا صفاته حتى يكتب لهم الخلود “وهنا تصبح العقبات والمشكلات في طريق الرقي الروحي للإنسان لا شيء ، فلا الزمان ولا المكان ولا العلم المادي بأسره ولا الشيطان نفسه بقادر على أن يثني الإنسان عن عزمه على “الرقي الروحي الدائن وشوقه إلى الاتصال بالحقيقة الخالدة والوصول إلى الله”([88]).

ولقد اهتم إقبال بإصلاح هذا المجتمع المسلم بعد أن رأي فيه ما رأي من تفرق وبعد عن الدين وهالة أن الصوفية قد تفرق أمرهم بينهم([89]) وأن المادة طغت حيث لا يوجد هناك ما يوقفها من السمو الروحي والتعالي فوق مطالب الغرائز.

وقد سلك إقبال في دعوته إلى الإصلاح طريقاً وضح فيها الجانب الروحي حيث المعراج إلى السموات في رحلة خيالية يصطحب فيها مصلحاً أو زعيماً ويتحاوران حول أدواء الأمة الإسلامية وطريقة علاجها([90]) إلى جانب ما أثاره من ضرورة تجديد التفكير الديني كحل لمشكلات المسلمين في العالم المعاصر وهنا ندرك أن هذه السمات المميزة لفكر إقبال ترجع إلى تربيته الروحية حيث نشأته بها ببيت يغلب عليه التصوف([91]).

وقد تربى إقبال في مدرستين مدرسة تقليدية هي مدرسة الشهادات وهذه المدرسة لم تميز فكرة كثيراً بل كان فيها كل الناس.

أما المدرسة الأخرى فهي ما يقول عنها أبو الحسن الندوي “أنها مدرسة توجد في كل زمان ، وهي أقدم مدرسة على وجه الأرض إنها مدرسة داخلية تولد مع الإنسان ويحملها الإنسان معه في كل مكان ، هي مدرسة القلب والوجدان ، هي مدرسة تشرف عليها التربية الإلهية وتمدها القوة الروحية([92]).

أما معلموا هذه المدرسة فيتمثلون في الإيمان الذي يصحبه حب جارف للرسول صلى الله عليه وسلم ، حب هو أبرز مقومات هذه الأمة الإسلامية لأن اتصالها الدائم بنبيها يقتضي إتباعه وفيه صلاحها ووجودها([93]) ومن معلمي هذه المدرسة القرآن لما له من مآثر لا توجد إلا فيه. وكذلك معرفة النفس وكيفية معالجة أدواتها وضبط أمورها من أهم معلمي هذه المدرسة .

كذلك فإن التأمل من مخلوقات الله ومعايشة هذه الحقائق4 في خلوة فكرية هو أيضاً من معلمي هذه المدرسة.

ولقد كانت هذه التربية الروحية سبباً من أسباب تأثير إقبال ، ففي شعره نجد الجانب الديني مسيطراً عليه وفي آرائه نجد ذلك السمت واضحاً ، فهو يرى أن للإنسان وجودين: وجوداً ككل الناس الذي يولدون ووجوداً إيمانياً وه وحمل الرسالة التي هي خلاقة الله في الأرض وحب الرسول وإتباعه وتخلقه بأخلاق الله ، فهو في تسامحه يتخلق بالغفار وفي شدته وغضبه للحق يتخلق بخلق القهار ، وفي نزاهته وعفته يتخلق بخلق القدوس([94]).

ولا يقلل من قيمة التربية الروحية في حياة إقبال رأيه أن التصوف مصدر من مصادر المعرفة وإن هناك مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ([95]) لأن لهذا التصوف – صيغته الخاصة في حياة محمد إقبال الفيلسوف المجدد.

محمد عبده (1849-1905 م)

من المقرر أن أثراً روحياً تدخل في تشكيل شخصية محمد عبده ، وقد امتد إليه هذا الأثر من خال والده الشيخ درويش خضر.

الذي كان مريداً سنوسياً يدعو إلى إحياء إسلامي وفق الكتاب والسنة([96]) وذلك حين عاد محمد عبده من الأزهر معتزماً هجره بعد أن وقر في نفسه – من خلال طريقة التدريس هنا – أنه لن يفهم شيئاً من علوم الأزهر. عاد محمد عبده ليجد الشيخ درويش خضر خال أبيه في القرية فيفسر له الأمر ويهون عليه وقع المصيبة ، وقد كان للشيخ درويش مكانته عند محمد عبده وعند غيره ، حيث هو رجل زاهد مستنير ، من الله عليه بالتعالي عن مغريات الدنيا يعمل لها برفق وتسامح ، ولكنه فوق الإغراء وسيد شهوات نفسه ، وكل هذا سهل مهمته في التأثير في حياة محمد عبده ، إذ أعطاه من الأشياء المكتوبة ما يفهم بيسر ، الأمر الذي أعاد للفتى ثقته بنفسه ، بل وخلال أسبوع واحد كان قد أعداه إلى الأزهر سخي النفس متفتحها([97]) وظلت صلته بالشيخ درويش قائمة ومؤثرة ، ففي كل صيف كان يلتقي به فيعلمه الشيخ درويش كثيراً من السلوك والأخلاق والالتزام ، بل أضاف إليه شيئاً جديداً كان له أثره فيما بعد حيث زج به وسط الناس وعلمه أن يحثهم ويختلط بهم وكأنه علمه الطريق إلى الإصلاح لأن الناس هم مستقبلو النصائح والتوصية([98]).

وسار محمد عبده مراحل حياته ، والتقى بالأفغاني واستفاد منه كثيراً في الجانب العقلي للحركة الإصلاحية ولكن ذلك لم يذهب بل ولم يقلل من قيمة أثر الشيخ درويش في حياة محمد عبده فما نظنه بعيداً ذلك الأثر الذي بدا في اعتقاد محمد عبده أن المدارس هي طريق الإصلاح شأنها في ذلك شأن زوايا السنوسية ومؤسساتها الثقافية([99]).

كذلك تلمح الأثر حين نسمع صوت محمد عبده يقول: “ارتفع صوتي بالدعوات إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من التقليد. وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيه الأولى واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخيطه . وإنه على هذا الوجه يعد صديقاً للعلم بحث على البحث في أسرار الكون داعياً إلى احترام لحقائق الثابتة مطالباً بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل ، والثاني إصلاح أساليب اللغة العربية([100]).

وحتى أولئك الذين يرون أن محمد عبده قد هاجم التصوف في مرحلة من دعوته لا ينكرون أثر الشيخ درويش فيه ، بل يقولون عن الشيخ درويش أن هذا النموذج المعتدل هو شذوذ ليس في الصوفية الكثير منه([101]) ونحن وإن كنا لا نوافقهم على هذا الحكم ، فذلك لأن من يستفيد من التربية الروحية هم أمثال الشيخ درويش وإن من حاد عن هذا السمت فهو دعي. أما تحول محمد عبده إلى الهجوم على بعض الطرق الصوفية فأمر سببه ما رآه من انحراف بعض هذه الطرق عن الدور المنوط بها. إذ أنه تعلم من خلال ما قرأ ووفق ما لمس من الشيخ درويش – كيف أن الزهد تربية للنفس ونور في القلب يؤدي إلى حركة حياة وإلى جهاد دائب من أجل صلاح هذه الأمة المسلمة ، فحين رأى بعض التقابل بين هذه الصورة وبين الواقع ثارت نفسه دون أن يقلل من شأن التربية الروحية حيث استفاد هو في شخصه ودعوته للإصلاح بهذه التربية.

“ولكن ينبغي التفرقة بين مواقفه من التصوف في بحثه النظري له كوسيلة لإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق – وهو هنا يستند إلى الصوفية الأوائل – وبين الواقع المشاهد بواسطة الطرق في عصره”([102]).

وبعد فما قدمناه إشارات دالة على أثر التربية الروحية في الحركات الإصلاحية وهو أثر اجتماعي ولا شك حيث أن آثار هذه الدعوات والحركات إنما تنصب على المجتمع إيجاباً وسلباً.

الهوامش

  • خروجاً من دائرة الخلاف حول مصطلح الصوفية والتصوف ومحاولة التفريق بينهما وبين الزهد ، وإيمانا مني بأن الحركة الروحية سلسلة متصلة الحلقات وإن اختلفت الأسماء حسب الفترة التاريخية ، في حدود هذا الفهم سأتحدث عن الجميع باسم الزهاد ، – وهم كذلك – غير أني سأستعمل مصطلح الطرق الصوفية في بعض الأحيان باعتباره اسماً تاريخياً علماً على التجمع ذي الخصائص المميزة.
  • إبن الجوزي / صفة الصفوة (د.) ط1 ، 1/108
  • علي سامي النشار (د.) نشاة الفكر الفلسفي. – 3/100
  • إبن الجوزي/ صفة الصفوة (د.) ط1 ، 2/173
  • التراث الصوفي: سهل التستري- 1/152
  • إبن الجوزي/ صفة الصفوة – ط1 2/212
  • القشيرية ، 71
  • أبو اليزيد العجمي (د.) / الوجهة الأخلاقية للتصوف الإسلامي – 183 القاهرة : دار العلوم ، رسالة ماجستير. وانظر أيضاً: عبد الحميد مدكور (د.)/ الولاية عند محيي الدين بن عربي – 139-155 القاهرة : دار العلوم 1979م- رسالة دكتوراه.
  • هذا النص مخطوط نشره الدكتور محمد كمال جعفر – القاهرة : دار الإنسان ، 1981
  • الحلية: 2/153
  • الحلية: 8/7
  • الحلية: 7/388. وانظر أيضاً: عبد الرحمن بدوي (د.) تاريخ التصوف- 225.
  • السابق 242
  • الحلية: 8/64 ، الخطيب البغدادي/ تاريخ بغداد – 8 ، /244
  • عامر النجار/ الطرق الصوفية في القرن السابع- 74
  • الجيلاني / الفتح الرباني – مجلس 83/107 وانظر أياضً: محمد أحمد الراشد/ المنطلق – 140- بيروت مؤسسة الرسالة.
  • علي سالم/ أبو الحسن الشاذلي 2/14-17
  • أبو العزائم/ النور المبين 413
  • دائرة المعارف البريطانية- مادة : شامل
  • السابق
  • السنوسية دين ودولة – 96 لوتروب/ حاضر العالم الإسلامي 115/128 من تعليق شكيب أرسلان.
  • عبد الرحمن بدوي (د.) تاريخ التصوف – 26
  • السابق 26-27 وانظر أيضاً: سعيد عاشور / السيد البدوي- 25
  • دائرة المعارف الإسلامية 10/19 مادة : رباط. ويلاحظ أن كلمة بحد السيف هنا تحتاج إلى نظرة إذ حقيقة الأمر أنه تأمين للدعوى وليس إرغاماً للناس على اعتقاد الإسلام.
  • السابق 10/21 مادة : رباط.
  • السابق 10/21 مادة : رباط.
  • ابم عربي/ الفتوحات المكية 4/482 ، 500
  • السابق 4/67 – 487
  • مدكور/ الولاية عند محيي الدين بن عربي 179
  • دعوة التقريب 161
  • أحمد شلبي (د.) موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية- 4/144.
  • محمد أبو زهرة/ الدعوة إلى الإسلام 115/ القاهرة دار الفكر العربي ، دت.
  • أحمد شلبي (د.) / موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 6/209 وأنظر أيضاً: عبد الرحمن بدوي (د.) تاريخ التصوف -25
  • السابق – 25
  • عبد الحليم محمود (د.) مقدمة المنفذ من الضلال -105
  • عبد الرحمن بدوي (د.) تاريخ التصوف -26
  • أحمد شلبي (د.) موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 6/164
  • السابق -209
  • السابق – 210
  • لوتروب/ حاضر العالم الإسلامي 1/286
  • أحمد شلبي (د.) موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 6/212.
  • لوتروب/ حاضر العالم الإسلامي 1/275 هامش.
  • أحمد شلبي- د. موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 6/213
  • السابق – 6/215 لوترب/ حاضر العالم الإسلامي 1/277 هامش.
  • أحمد شلبي (د.) موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية – 6/218.
  • لوترب/ حاضر العالم الإسلامي – 1/278 ، السنوسية دين ودولة -62-64
  • لوترب/ حاضر العالم الإسلامي – 1/278
  • السابق -1/272 هامش
  • السنوسية دين ودولة / 65
  • محمد أحمد الراشد / المنطلق – 113 بيروت : مؤسسة الرسالة.
  • السابق : 122
  • الجيلاني/ الفتح الرباني – مجلس 7
  • السابق: مجلس 83/107
  • محمد أحمد الراشد/ المنطلق – 152- وانظر أيضاً: الأحياء 2/333
  • زكريا سليمان بيومي/ الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامي في الحياة السياسية المعاصرة (1928-1948) 75- القاهرة : مكتبة وهبة ، 1979م.
  • حسن البنا/ مذكرات الدعوة والداعية – دار الشهاب / 1966.
  • السابق – 20
  • السابق – 21
  • السابق – 21
  • السابق – 22
  • السابق – 23
  • نفس المصدر والصفحة
  • السابق – 24
  • السابق – 25
  • السابق – 29
  • السابق – 33
  • السابق – 37
  • السابق – 51
  • السابق – 26
  • السابق – 26
  • السابق – 27 والإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية 76
  • السابق 27
  • السابق 72
  • في حديث شفهي حدثني به السيد/ محمد محمد أبو خليل الصغير بمنيل الروضة بالقاهرة في 28/3/1979م.
  • سعيد حوي/ المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين 148ط2 ، 1979.
  • السابق 95
  • يوسف القرضاوي (د.) التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا 12-14- القاهرة مكتبة وهبة ، 1979
  • السابق 19
  • يوسف القرضاوي (د.) التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا 30
  • رؤوف شلبي (د.) الشيخ حسن البنا ومدرسته الإخوان المسلمون 413 427 وانظر أيضاً : محمود عبد الحليم- الإخوان المسلمون ، أحداث صنعت التاريخ 1/151
  • سعيد حوي/ تربيتنا الروحية -13- القاهرة مكتبة وهبة. 1979
  • السابق 15
  • أكرم الخضري/ الآثار الاجتماعية للحركة السنوسية 68-74 وأنظر أيضاً لوترب/ حاضر العالم الإسلامي – 1-105 ومصطفى حلمي (د.) / موقف مدرسة أبن تيمية من التصوف 537-538
  • أكرم الخضري/ الآثار الاجتماعية للحركة السنوسية- 67 لوتروب/ حاضر العالم الإسلامي – 1/107 أحمد شلبي (د.) موسوعة التاريخ 6/217
  • السنوسية دين ودولة 11 ، 12
  • مصطفى حلمي (د.) / موقف مدرسة أبن تيمية من التصوف – 537
  • السابق 537
  • محمد السعيد جمال الدين (د.) / رسالة الخلود لإقبال – ص 1 من المقدمة
  • محمد إقبال (د.) تجديد الفكر الديني 211
  • السابق 149
  • أبو الحسن الندوي/ روائع إقبال 25- الكويت : دار القلم ، 1978م.
  • السابق 37
  • السابق 38
  • السابق 85-89
  • محمد إقبال (د.) / تجديد الفكر الديني- 145-146 ، وأنظر أيضاً : مصطفى حلمي (د.) / موقف مدرس أبن تيمية من التصوف – 534
  • أكرم الخضري / الآثار الاجتماعية للحركة السنوسية- 84
  • أحمد أمين / زعماء الإصلاح في العصر الحديث 284 – القاهرة مكتبة النهضة : 1965م.
  • السابق 290
  • أكرم الخضري/ الآثار الاجتماعية للحركة السنوسية – 84
  • أحمد أمين / زعماء الإصلاح 327
  • مصطفى حلمي (د.) / موقف مدرسة أبن تيمية من التصرف – 521
  • السابق 522
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر