أبحاث

نحو وجهة إسلامية لعلم النفس

العدد 62

مشكلة البحث

لعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا : إن علما من العلوم الإنسانية أو السلوكية أو الاجتماعية لم يلق فى تاريخه ما لقيه علم النفس من غارات الهجوم الضاربة .

وكانت أشد هذه الحملات قسوة وعنفا فى السنوات الأخيرة تلك التى صدرت عن فريق من الكتاب الإسلاميين . وعلى عكس الحال فى المجالات الأخرى كالاقتصاد والاجتماع والفلسفة والتربية : لم يجد هذا العلم إلا قله من رجاله ، هم الذين تصدوا لأعباء الدفاع ، وأقل القليل هم أولئك الذين توجهوا لمهام أكثر إيجابية فى مجال الإبداع . وقد واجه الفريقان مشقة المسألة ، ووعورة الطريق على نحو كان يمكن أن يؤدى بهم جميعاً إلى ضيق العيش ، لولا فسحة الأمل .

وبالطبع اختلفت – كيفياً – المشكلات الذين اختارواجبهة الرد أو المقاومة ، وأخطرها أنهم لم يكد يستمع إليهم أحد .

وكانت أسباب ذلك كثيرة يرجع بعضها إلى فيلق الهجوم ويعود بعضها الآخر إلى كتيبة الدفاع .

وأقوى أسباب نجاح فريق الكتاب الإسلاميين المهاجمين ما يمكن أن نسميه ((خصوصية الظرف والوقت)) ؛ فالعالم العربى والإسلامى يمر فى أحواله الراهنة وزمنه الحالى بما اصطلح على تسميته ((الصحوة الإسلامية)) ، وفى مثل هذا الظرف الؤيد ، والوقت المدعم – : تصبح كل إشارة إلى ((الإسلام)) لها جاذبية خاصة ووقع مميز . ولعلى لا أستبق بعض ما سوف يأتى به هذا البحث – ونحن لا نزال فى مطلعه – : إذا قلت : إن قليلاً مما كتب ونشر وأذيع فى السنوات الأخيرة حول ((علم النفس الإسلامى)) أو ((أسلمة علم النفس)) فيه كثير من الحق الذى أريد به وجه الحق فعلاً ، وإن كثير من هذا الذى قرأه الناس أو سمعوه لا يتجاوز حدود استغلال ((الظرف الخاص)) واستثمار

((الوقت المميز))

أما السبب الثانى لنجاح الهجوم الإسلامى على علم النفس فيرجع إلى المكانة الرفيعة لبعض المشاركين فيه ، ولعلى أكتفى فى هذا الصدد بمثال واحد يغنى عن الكثير ؛ فالأستاذ محمد قطب – بمكانته ككاتب إسلامى متميز وبصلة الرحم التى تربطه بالداعية والمفكر الإسلامى الكبير الشهيد سيد قطب – هو أول من قاد الهجوم . وقد انتقلت معظم أفكاره إلى كثيرين غيره ، أشار بعضهم إلى مصدرها الأصلى ، وتبانها آخرون على أنها أفكارهم الخاصة . وفى جميع الحالات كانت حجية ((الشخصية)) ملزمة للكثيرين .

والسبب الثالث – فى رأينا – لنجاح الحملة الإسلامية على علم النفس هو كفاءة بعض المهاجمين فى استغلال وسائل العصر ؛ ولعل أشهر الأمثلة فى هذا الصدد الكاتب والأديب الذائع الصيت الطبيب مصطفى محمود ، فاستخدم الإعلام الحديث – وخاصة الصحف السيارة والمجالات والكتب الخفيفة والتلفيزيون والإذاعة – فى شن الحملة على علم النفس امتد بأثره إلى قطاعات عريضة من عامة المسلمين لا تصل إليها عادة وسائل الثقافة التى استخدمها المدافعون (الكتب الجادة ، وبحوث المؤتمرات العلمية وغيرها) . ولعل هذه النتيجة تمثل أحد أوجه الصراع بين الأعلام والثقافة فى عصرنا ، وهو صراع يتخذ فى بعض وجوهه التناقض فى المحتوى بين الخفة والعمق ، وفى الشكل بين الإقناع الوجدانى والاقتناع العقلى .

أما أسباب فشل المدافعين فترجع فى كثير إلى أسباب نجاح فريق الهجوم بالطبع ، مضافاً إليها مجموعة أخرى من العوامل تخص الذين استجابوا لهذا النقد أنفسهم .

وعلى رأس هذه العوامل أن معظم الأصوات الجادة التى سعت للدفاع عن علم النفس أحبطت أو توقفت ، بينما سادت على السطح بضعة اتجاهات لا تنتمى إلى ((الدفاع)) بقدر إذا استخدمنا لغة سيكولوجية قد ينفر منها نقاد علم النفس .

ولكى نوضح ما حدث نقول : إن النقد العنيف الذى وجهه لكتاب الإسلاميون إلى علم النفس أحداث لدى بعض السيكولوجيين المسلمين       الذى يعود الفضل فى اكتشافه إلى ليون فستنجرCongnitive Dissonance والعرب فى حالة من التنافر المعرفى

عام 1957 . وهى الحالة التى تنشأ من تعامل المرء مع النقائض (سيد عثمان ، فؤاد أبو حطب ، 1978) . L.Festinger

وكان أول من توصل إلى هذا التشخيص – فى حدود علمنا – مالك بدرى (1987) .

ومنشأ ذلك أن الحالة التى عليها علماء النفس فى العالمين العربى والإسلامى ظلت – ولسنوات طويلة – تمتد إلى النشأة الأولى الحديثة لعلم النفس منذ أكثر من قرن ، هى ما يمكن أن نسمية حالة التوافق  أو التكيف أو الاتزان والاستقرار أو التوازن أو الهميوستازية أو التآلف (وكلها من المفردات اللغوية لعلم النفس الحديث) . فعلم النفس الذى ينتسبون إليه هو من السمات البارزة للقرن العشرين كما كانت العلوم البيولوجية سمة القرن التاسع عشر والعلوم الفيزيائية والكيميائية سمة القرون التى تلت عصر النهضة الأوربية (يوسف مراد ،1947) . كما أن العلم الذى سيحقق للإنسان القدرة على الضبط الذاتى ، وسيسهم فى تحقيق الضبط الاجتماعى ليتوزانا مع قدرته على ضبط القوة المادية (جيلفورد ، 1950) .

وهو العلم الذى أصبح (داخل أسرة العلوم الطبيعية) (مصطفى سويف ، 1967) . وهو العلم الذى تزداد صورته لدى جمهرة الناس بهاء والموارد (مصطفى سويف ، 1970) .

وحين تعرضت هذه الصورة المشرقة لعلم النقد المشرقة لعلم النفس للنقد ، وخاصة من جانب الكتاب الإسلاميين – : حدث لدى علماء النفس للمسلمين التنافر المعرفى ، الذى أشرنا إليه ، وما يصاحبه من قلق وصراع داخلى . وكانت معظم الاستجابات التى صدرت عنهم لحل هذا التنافر المعرفى من نوع ((الحيل النفسية)) أو ((ميكانيزيمات الدفاع)) .

( فى اكتشاف أوجه التشابه بين الحيل الدفاعية وطرق حل التنافر المعرفى Hishinumaعلى وجه الخصوص إلى هيشينوما   ويعود

وهى جميعاً – كما يعلم السيكولوجيون قبل غيرهم – قد تكون طرقاً خائبة فى حل الصراعات ومنها الصراعات المعرفية ، وهى طرق أقرب إلى المساومات السلبية منها إلى الحلول الإيجابية ، وبالتالى كان أثرها على علم النفس أكثر خطراً من نقد النقاد أنفسهم .

ولم يبق أمامنا من سبيل لتجاوز المحنة إلا بالجهد الإيجابى الإبداعى من علماء النفس المسلمين . وقد أشرنا فى البداية إلى أن هذا الجهد تكتنفه أيضاً المشكلات والعوائق التى قد يكون دونها خراط القتاد ، ولعل أخطر هذه المشكلات ما يسود الميدان فى وقتنا الحار ما يمكن وصفه بتقسيم العمل العلمى ؛ ففريق ينتمى بحكم التخصص إلى ميدان العلوم الإسلامية ، وينتمى الفريق الآخر إلى ميدان علم النفس ؛ ولهذا ظلت الجهود تتسم بأنها تطويعة اختيارية تحكمها المصادفات ، بينما المهمة أرفع وأجل من أن تقتصر على جهد فرد أو بضعة أفراد .

ولابد أن تتوافر عليها العصبة أولو القوة التى يلم أفرادها بالموضوعين إلماماً عميقاً وواسعاً . فالمتخصص فى علم النفس الذى يتناول هذا الموضوع لا يجب أن يقتصر على ذخيرته من المعرفة فى علم النفس وإنما عليه أن يلم إلماماً دقيقاً بخصائص الإسلام عقيدة وشريعة دون الاقتصار على جانب دون الآخر . وهذا ما يجب أن يقال أيضاً على رجال الدين الذين يتناولون المسائل النفسية من وجهة نظر الإسلام . أى الأمر يجب أن يتجاوز ما يسميه علم الاجتماع الحديث ((توزيع العمل فى الدراسة العلمية)) (عمر حليق ، 1951) .

والجهد الإيجابى الأساسى المطلوب – فى رأينا – لتخطى الأزمة ، والذى يجب أن تكرس له الجهود فى المرحلة الراهنة هو محاولة بناء

لعلم النفس تحدد ((موجهات)) العمل فى الميدان ، وتضع استراتيجيات ما سبق Islamic Psrsdigmjهو محاولة بناء ((وجهة )) إسلامية

أن أسميناه ((التوجيه)) الإسلامى لعلم النفس (فؤاد أبو حطب ، 1978) . وهذا الجهد الإيجابى ، إذا نجح – : لن يعود بآثاره عليهم أنفسهم فحسب فيحل مشكلات تناقضاهم المعرفية ؛ وإنما سوف تمتد هذه الآثار – فى رأينا – إلى علم النفس الحديث كما يعيشه عالم اليوم فيقدم حلولاً لمشكلات مزمنة فيه عجزت عنها حتى الآن فلسفة العلم .

والبحث الراهن هو جهد المقل فى هذا الموضوع الهام . وفى سعينا نحو هذه الوجهة نتناول أولاً الموضوعات الآتية :

(1) تحليل ومناقشة حجج النقاد الإسلاميين لعلم النفس .

(2) ردود الفعل ((الدفاعية)) التى صدرت عن بعض علماء النفس المسلمين .

(3) بعض الاستجابات الإيجابية لعلماء النفس المسلمين .

ثم نخصص الجزء الأكبر من الدراسة لعرض معالم الوجهة الإسلامية لعلم النفس وفى سبيل تحقيق ذلك نعرض ما يلى :

فى العلم .Paradigm  (1) مفهوم الوجهة

(2) بعض وجهات علم النفس الحديث .

(3) معالم الوجهة الإسلامية لعلم النفس .

والله وحده هو الموفق والمستعان والهادى إلى سواء السبيل .

حجج النقاد الإسلاميين لعلم النفس

تحليل ومناقشة

فى بحث سابق (فؤاد أبو حطب ، 1978) عرضنا لحجج نقاد علم النفس من وجهة نظر إسلامية . وكان أكثر النقاد شهرة حينئذ – ولا يزال الكاتب الطبيب مصطفى محمود ، إلا أنه بعد انقضاء أكثر من عشر سنوات على عرضنا السابق وجدنا من المناسب أن نعيد تناول الموضوع بعد اقتحم الميدان نقاد جدد ، وأضيفت إلى الانتقادات حجج جديدة ، ونعرض فيما يلى تحليلاً ومناقشة لهذه الحجج .

(1) الشك فى عملية علم النفس :

لعل أول الحجج وأولاها بالتحليل والمناقشة تلك التى تطعن طعناً مباشراً فى ((عملية)) علم النفس ، وتشكك فى إمكان قيامه كعلم .

فعلم النفس عند النقاد ليس علماً بالمعنى المتعارف عليه للعلم . بل لا تنطبق عليه شروط العلم الواجبة ، وأهمها – عندهم – اليقين والموضوعية .

وكان أول من أثار هذه الحجة مصطفى محمود (1976) ، ثم أعاد طرحها حديثاً (1988) ، وفى الحالتين كان التناول – على طريقته – على المستوى الإعلامى العام ، والصحف اليومية ، والكتب الخفية . أما أول من طرح هذه القضية على المستوى الأكاديمى فكان إسماعيل

حين دمغ العلوم الاجتماعية بصفة عامة – ومنها علم النفس – بأنها جميعاً علوم زائفة .(Al- Faruqui ,1977)الفروقى

ويشبه ذلك  الموقف الفلسفى لتوفيق الطويل (1983) الذى أنكر أيضاً على علم النفس عمليته بسبب نقص موضوعيته .

ولعل هذا ما دفع محمد رشاد خليل (1987) إلى القول بأن إنكار قيام العلوم الإنسانية جاء أولاً من الفكر الغربى ذاته مستنداً فى ذلك إلى آراء فيلسوف العلم الفرنسى موى (1961) ، على الرغم من أنه كانت لديه حجة أقوى عند فيلسوف الوضعية الأشهر أوجيست كونت الذى رأى منذ قرنين من الزمان أن علم النفس ما هو إلا مجموعة من المعارف يمكن أن تتوزع على نحو أفضل بين علوم أكثر موضوعية هى البيولوجيا (علم الأحياء) والسوسيولوجيا (علم الاجتماع) .

والواقع أن رفض علم النفس لأنه – كما يقال – لا تنطبق عليه شروط العلم الواجبة كاليقين والموضوعية حجة متخلفة .

وحسبنا أن نشير إلى أن مفاهيم اليقين والموضوعية – فى الأبستمولوجيا المعاصرة – تتعرض لتطور كبير إلى حد يدفعنا إلى القول بأنه لا يوجد فى فرع من فروع العلم التجرييبى – ومنه العلوم الفيزيائية – يؤدى إلى المعرفة اليقينية ، ولا توجد ملاحظة بشرية معصومة من

. infallibleالخطأ

وكل ما تطمح إليه العلوم التجريبية فى الوقت الحاضر أن يكون ما يقرر الملاحظ حدوثه أكثر احتمالاً فى الحدوث بنسبة عالية من ((اليقين)) ، كما أن ما يلاحظه يكون أكثر احتمالاً فى الاتفاق عليه مع غيره من الملاحظين بنسبة كافية من ((الموضوعية)) . وكل ذلك يعتمد على ما يمكننا أن نستنتجه من دقته وثباته وغير ذلك من الحقائق المتعلقة بعملية الملاحظة .

والرفض بحجة اللاموضوعية واللايقين فى علم النفس ذاته له تاريخ قديم ، بل وكانت صورته أكثر عنفاً من نقد النقاد .

وأشهر أمثلته التطرف السلوكى فى أطواره المتعددة . وقد ناقشنا هذا الاتجاه فى موضوع آخر ، وبينا آثاره فى علم النفس الحديث ، ومعظمها آثار سلبية وصل بعضها إلى مستوى ((المحنة)) وليس أقلها اهتمام هذا العلم – فى إطار السلوكى – بالصور الدنيا والبسيطة من السلوك ، وإهمال النشاط العقلى المعرفى الراقى للإنسان (فؤاد أبو حطب ، 1973) .

وبالطبع فإن هذه فإن هذه الحجة عند نقاد علم النفس من الكتاب الإسلاميين لا يقصد بها الدعوة إلى مزيد من التطرف ((الموضوعى)) ومزيد من التشدد ((اليقينى)) كما فعل السلوكيون وأشياعهم ، وإنما تتضمن نوعاً من الحكم ((بالإعدام)) على هذا العلم ،مادامنت تعوزه الموضوعية ، ومادام لا يستطيع تحقيقها .

وقد أشرنا إلى تهافت هذه الحجة فى ضوء طبيعة الملاحظة فى العلم عامة ، ونشير إلى تهافتها أيضاً فى ضوء التناقض الذاتى الذى وقع فيه بعض الكتاب فى دعوتهم إلى ((إلغاء)) علم النفس إسلامى فى وقت واحد ، فهل يعنى ذلك أن دعوة البناء عندهم تتضمن أن يقوم

((علم النفس الإسلامى)) على الأسس الموضوعية للعلوم الطبيعية مادام علم النفس الذى ينقدونه لا تتوافر فيه هذه الأسس ؟!

إن الإجابة على هذا السؤال ليست الإيجاب قطعاً . وكل ما نستخلصه من كتابات النقاد الذين استخدموا هذه الحجة بإسراف شديد أنهم

الذى غلب على علم النفس الحديث منذ نشأته ، وهو موقف يوافقهم عليه معظم الكتاب المحدثين فى علم Empiricalيرفضون ((المنحى

النفس ، وفى نظرية المعرفة ، ومنهم أقطاب إمبريقيون قدامى لهم باع طويل من أمثال كارناب وبردجمان . ويكفينا أن نشير إلى اهتمام فلسفة العلم المعاصر بالعوامل ((الشخصية)) و ((الذاتية)) فى المعرفة كالحساسية والتمييز والاستبصار والحكم الشخصى والحدسى

بالمعرفة الضمنية (Polanyi,1958)بالإضافة إلى ما أسماه بولانى

، وما دعا إليه بردجمان – مؤسس الإجرائية – فى سنواته الأخيرة من ضرورة العودة إلى الاهتمام indwelling  والاندماج Tacit

بالاستباط وملاحظة شاهد العيان .

أضف إلى ذلك أن تيار ((تيار العلم الطبيعى)) الذى يعتبره نقاد علم النفس محكماً ((لعملية)) هذا العلم أو ((لاعمليته)) إنما يعتمد على ((تيار)) ذلك العلم الطبيعى كما كان فى القرن التاسع عشر ، وهو يختلف عن مفهوم ((العلم الطبيعى)) نفسه كما يقدمه علماء العصر الحاضر . فعلم القرن التاسع عشر – رغم اعتماده بالطبع على الملاحظة – إلا أنه استبعد الملاحظ استبعاداً كاملاً ؛ ولكن علماء الفيزياء المحدثين من أصحاب نظرية الكم والنظرية النسبية أكدوا أن الملاحظ لا يمكن تجاهله . ومن ذلك مثلاً أن مقياس الزمن الذى يلعب دوراً هاماً فى كل العلوم الطبيعية إنما هو ((نوع من الزمن الخاص بالملاحظ)) . وفى ذلك يذكر أستاذ الفيزياء الشهير بوندى أنه فى حالة السرعة العالية فإن

(Burt ,1964عن)الذى يعنينا هو الأزمنة الخاصة التى لا تقع تحت حصر والتى تتحدد فى زمن عام مستقل ))

عجيب إذن موقف النقاد الإسلاميين لعلم النفس من قضية الموضوعية واليقين فى هذا العلم ؛ إنهم يرفضونه بسبب نقص ((موضوعيته)) وزيادة ((ذاتيته)) على عكس خصائص العلوم الطبيعية – كما يتصورونها ، فى الوقت الذى نجد الفروع المتقدمة من علم الفيزياء تتحول تدريجياً إلى ((الذاتية)) .

(2) مادية علم النفس :

الحجة الثانية التى يطرحها النقاد الإسلاميون لعلم النفس هى غلبة الاتجاه المادى عليه بحيث جعله يتصور ((النفس الإنسانية)) تصوراً مادياً فالإنسان عند سيجومند فرويد هو مجموعة ((غرائز)) تتطلب الإشباع المادى المباشر (مصطفى محمود 1967 ، 1988 ) ، وهو عند السلوكيين ((آلة ميكانكية معقدة لا تحركه دوافع موجهة نحو غاية بل مثيرات فيزيقية تصدر عنها استجابات عضلية وغدية مختلفة))

(محمد رشاد خليل ، 1987) .

وحتى تتضح لنا الأمور ولا تختلط أمامنا الأوراق علينا أن نعود بالمسألة إلى أصولها فى ثنايا المثالية

فى كل منهما فئات فرعية كثيرة كان لها جميعاً أثرها وصداها فى العلم عامة ، وفى العلم عامةdualismوالثنائية  monismالأحادية

وفى علم النفس خاصة . ولنتناول المسألة فى إطار يخصنا وهو إطار العلاقة بين العقل والجسم .

الحلول المختلفة التى قدمها فلاسفة الغرب ومفكروه لهذه المشكلة فى عشرة حلول يوضحها الجدول (bunge,1980)يلخص ماريو بنجى

رقم (1) وهى حلول مصنفة إلى القسمين الأساسيين : الأحادية السيكوفيزيائية ، والثنائية السيكوفيزيائية وفى كل منهما خمسة حلول مختلفة

ويشمل الجدول أشهر المثلمين لكل اتجاه فى العصر الحديث .

جدول رقم (1) الحلول المختلفة التى قدمت لمشكلة العلاقة بين العقل والجسم

(bunge( ,1980عن

الثنائية السيكوفيزيائية الأحادية السيكوفيزيائية
(1) العقل والجسم مستقلان . لا يوجد لهذا الاتجاه أنصار فى العصر الحديث سوى فتجنشتين .

(2) العقل والجسم متوازيان (التشاكلية السيكوفيزيائية) : ليبنتز ، لوتز ، جاكسون ، بعض أصحاب نظرية الجشطالت فى علم النفس .

(3) الجسم (المادة) يؤثر فى العقل أو يسببه أو حتى يفرزه (الظاهرياتية المضافة) : فوجت ، برود ، آير ، بتشتى ، هكسلى .

(4) العقل يؤثر فى الجسم (المادة) ويسببه أو يتحكم فيه أو يحيه (مذهب حيوية المادة) :سيجموند فرويد ، سيرى ، كارل بوبر ، تولمين .

(5) العقل والجسم (المادة) متفاعلان (التفاعلية) ديكارت ، وليم مكبد وجل ، أيكلس ، كارل بوبر أيضاً ، مارجوليس .

(1) كل شئ هو العقل (المثالية ، الظاهراتية أو الفينومينولوجيا) : بركلى ،فخته ، هيجل ، ماخ ، وليم جيمس ، وابتهد ، كارل روجرز ، ماسلو .

(2) كل من العقل والجسم (المادة) ليسا إلا مظاهر مختلفة لشئ واحد (الأحادية المحايدة ، وجهة النظر المزدوجة) :

أسينوزا ، وليم جيمس أيضاً ، براتراند رسل ، كارنب شليلك ، فيجل .

(3) لا يوجد شئ اسمه العقل ولا يوجد سوى الجسم أو المادة (مادية (( الحذف أو الاستبعاد )) السلوكية فى علم النفس) :

واطسون ، سكنر ، ترنج ، رونزى ، كوين

(4) العقل مادة أى جسم (المادية الاختزالية أو الفيزيائية) : توماس هوبز ، لاشلى ، سمارت ، أرمسترونج ، فيرابند ، واطسون والسلوكيون أيضاً .

(5) العقل هو مجموعة من الوظائف أو الأنشطة المنبثقة من المخ وهو مادة (المادية الانبثاقية) : ديدور ، تشارلز داروين ، شنيرلا ، دونالدهب ، بندرا .

 

وهكذا يتضح لنا أن مادية واطسون مؤسس السلوكية فى علم النفس تختلف عن ((مادية)) فرويد مؤسس التحليل النفسى ، وهما اللذان صنفا عند النقاد الذين استخدموا حجة ((مادية علم النفس)) على أنهما فى فئة واحدة . بل حقيقة الأمر انه إذا كان واطسون مادياً مسرفاً

(مادية الحذف والاختزال معاً) فإن فرويد ينتمى إلى الاتجاه الثنائى أو الاثنينى مع جعل الأولوية النسبية للعقل (أى ما ليس مادياً) . أضف إلى ذلك أنه لاتقتصر الاتجاهات فى علم النفس الحديث فى النظر إلى هذه المسألة على هذين الاتجاهين وحدهما . فجميع الاتجاهات المتضمنة فى الجدول رقم (1) لها ممثلوها فى هذان الميدان ابتداء من المادية المسرفة عند واطسون وحتى المثالية المسرفة عند وليم جيمس من قبل والفينومينولوجيين من بعد .

وعلى هذا فإن تلخيص الموقف النظرى الراهن لعلم النفس على النحو الذى عرضه النقاد فى مطلع هذه الفقرة يبسط الأمور على نحو يخل بالحقيقة من ناحية ، ويظلم هذا العلم من ناحية أخرى .

ومن الطريف أن بعض هؤلاء النقاد (مصطفى محمود ،1976، 1988وحسن الشرقاوى ،1988) يقبلون فى نفس الوقت العلم ((الطبيعى)) بصورته كما يأتى بها الغرب ؛ فهذا العلم عندهم ((محايد)) والحقائق العلمية فيه ((واحده)) (مصطفى محمود ،1976) ، وهو علم من النوع التكنولوجى المسخر ليس حكرا على أحد دون غيره . بل هو علم يشترك فيه ((الإنسان المؤمن وغير المؤمن)) (حسن الشرقاوى ، 1988)

ولا ندرى كيف غاب عنهم – وهم ينتقدون بضعة اتجاهات فى علم النفس الحديث غلب عليها بالطابع ((المادى)) – أن ((المادية)) فلسفة حياة

وإذا كانت قد تركت بصماتها صريحة – بحيث استطاع هؤلاء النقاد إدراكها – فى بعض اتجاهات علم النفس – وربما غيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية – فإن ((جراثيمها)) مضمرة خفية فى العلوم ((الطبيعية)) التى يقبلونها ويتحمسون لها .

ولا ندرى كيف لا يدرك هؤلاء النقاد وغيرهم ما أحدثته منابع العلم الطبيعى ومراجعه الأصيلة ((المحايدة)) – كما يقولون – من صراع بين ((العلم)) و ((الدين)) لدى المسلمين من المثقفين  والعامة . وقد أشار إلى هذه المسألة أحد علماء الجيولوجيا المسلمين المعاصرين

(زغلول النجار، 1976) حين حلل مصادر التحدى الحضارى الذى يتعرض له المسلمون اليوم ، وخص منها

((ما يحمله تيار العلم – الوافد إلينا من الغرب ، ومن الشرق – من خلفية إلحادية واضحة فى طياته ، جعلت من الكفر بكل ما هو غير مادى سمة هذا العصر)) .

Thomas berryهذه ((المادة العلمية )) التى ترى أن الحقيقة كلها تكمن فى المادة تمثل ما يسميه مؤرخ الحضارة الشهير توماس برى

(فى أغروس وستانسيو،1989 : 15) ((النظرة القديمة للعلم)) ،والتى تأسست على يد نيوتن فى القرن السابع عشر ، وتأصلت على يد هولباخ فى أواخر القرن التاسع عشر ، ومفهوم النظرة عنده أشبه بمفهوم الوجهة أو المنظور

) ( 1970. إلا أن العلم منذ مطلع القرن العشرين تعرض لتغيرات جوهرية مثلت على حد Kuhn  عند توماس كون ،paradigm(

تعبير كون . وكان أقطاب التغير عديدين ابتداء من أينشتين ، وهايز ينبرج ، ورذر فورد فى الفيزياء ، ثم بنفليد فى مجال فسيولوجيا الخ ، وحتى ماسلو فى ميدان علم النفس .

وقد تغيرت نتيجة لذلك الأسس الفلسفية للعلم ، وبدأ التمييز فى العلوم الطبيعية ذاتها بين الوجود الواعى والوجود المادى .

وأصبح اختزال أولهما فى ثانيهما محض عبث ميتافيزيقى . وأدلة بنفليد النيرولوجية على وجه الخصوص أكدت ذلك . فالمخ هو

((مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة ، ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو الإرادة)) ، ومعنى ذلك ((أن العقل البشرى والإدارة البشرية ليس لهما أعضاء جسدية)) (أغروس ، ستانسيو ، 1989: 39) ، وأن العقل لا المخ هو الذى يراقب ويوجه فى وقت واحد والعقل هو المسئول عن ((الوحدة التى نحس بها فى جميع أفعالنا وأفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا)) (المرجع السابق : 42) .

ويرى بنفليد أن تشبيه المخ بالكمبيوتر هو تشبيه صحيح ، ومادام الأمر كذلك فإن هذا الكومبيوتر البيولوجي لا بد من أن تبرمجه قوة قادرة على الفهم المستقبل ، وهو بالطبع هنا العقل . ويسخر من ((المادية)) سخرية لاذعة هنا حين يقول : إن توقع العثور على العقل فى أحد أجزاء المخ كله أشبه بتوقع كون المبرمج جزاءاً من الكمبيوتر (المرجع السابق : 42) ، وأى توقع بأن يقوم المخ أو بعض أجزائه – مهما تعقدت – بما يقوم به العقل أمر مستحيل تماماً . وبنفس الدرجة من الاستحالة توقع انبثاق العقل من المادة .

وعلى ذلك فإن العقل جوهر متميز ومختلف عن الجسم .

ويخلص عالم النيرولوجيا الشهير وفيلسوف العلم الأشهر والحائز على جائزة نوبل فى الطب السير جون إكليس

من هذه النتائج إلى أن العقل والإرادة (والروح بالطبع) حقيقتان غير ماديتين ، وبالتالى فهما لا تخضعان بالموت للتحلل الذى Eccles .j

يطرأ على الجسم والمخ كليهما . وهكذا تحقق نبوءة كريس مريسون منذ بضعة عقود بأن ((العلم يدعو للإيمان)) .

ونموذجاً السلوكية والتحليل النفسى – موضوع نقد النقاد – ينتميان إلى ((الوجهة القديمة للعلم)) ، وبالطبع كان لابد ((للوجهة الجديدة)) أن تنعكس بآثارها على علم النفس فى عصرنا الحالى . ولنأخذ شهادة اثنين من غير الاختصاص حتى يكون موقفنا أكثر حياداً . لقد تناول (أغروس ،ستانسيو ، 1989) أثر النظرة الجديدة على علم الفيزياء (نظرية النسبية وميكانيكا الكم) التى فى التركيز على محورية العقل ، وعلى فسيولوجيا المخ أثبتت استقلال العقل واستحالة اختزاله إلى مادة ، ثم ينتقلان إلى علم النفس المعاصرفيقولان :

((وفى علم النفس المعاصر حركة تتجه إلى النتيجة ذاتها وهى أولية العقل .ففى أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة فى طريقة التحليل النفسى ، وإلغاء العقل فى السلوكية ، قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته فى علم النفس ، معتبرين أن هذا موقف لا يطاق فى فروع من فروع المعرفة مكرس لخدمة الجنس البشرى . وأخيراً التحمت فى الخمسينات من هذا القرن قوة ثالثة فى علم النفس إلى جانب القوتين الأخرين :

التحليل النفسى والسلوكية )) (ص  85- 86) .

وهذه ((القوة الثالثة)) هى التى أطلق عليها فيما بعد (مطلع السبيعنات) اسم ((علم النفس الإنسانى))

، وفيه تحتل ((القيم)) محور الاهتمام ، فإذا أضفنا إلى ذلك ما شهده العقدان الأخيران من تطور فى مجال Humanistic psychology

– : نجدنا بالفعل بإزاء ثورة حقيقية فى علم النفس الحديث ، يمكن استثمارها على نحو Cognitive psychology علم النفس المعرفى))

بالنسبة لعلم النفس الإنسانى على وجه (frager,1987)أفضل فى أى محاولة لبناء وجهة إسلامية لعلم النفس . وهذا ما فعله فراجر

الخصوص .

(3) بناء علم النفس على أساس الطبيعة

الحيوانية للإنسان :

يوجه النقاد الإسلاميون إلى علم النفس نقداً آخر ، خلاصته أنه يبنى الطبيعة البشرية على أساس حيوانى مسترشداً فى ذلك بنظرية التطور – كما يرونها – تنكر الخالق والخلق ، وتقول بالطبيعة المتطورة ، التى تحكمها قوانين تنازع البقاء ، والبقاء للأصلاح – : أصبحت وجهة نظر علم النفس لا تعرف – عندهم – بالروح الإنسانى الذى تميز به الإنسان عن بقية الحيوانات (محمد رشاد خليل ، 1987) .

فى تاريخ علم النفس اتخذت وجهتين أساسيتين :Animal modellingوقبل أن نناقش هذه المسألة نذكر أن النموذجة الحيوانية

أحدهما سعت إلى التعميم الامتدادى (الاستكمال) من الحيوان إلى الإنسان ، والأخرى اتخذت الاتجاه العكس أى التعيم الامتدادى من الإنسان إلى الحيوان .

يقصد به مد ظاهرة معينة (أو وظيفة معينة) بحيث تتجاوز الحدود المعلومة لها . Extrapolationوالتعميم الامتدادى (أو الاستكمال)

والمفهوم فى أصله مفهوم رياضى ، ويتضمن فى جوهره أن الوظيفة (أو الدالة) المتدة – كما تظهر فى صورة منحنى رياضى – يجب أن

؛ ولهذا إذا حدث أى خلل أو انفصال أو انقطاع فيها يؤدى ذلك إلى دحض التعميم أو الاستكمال وContinuous؛  smoothتكون ممهدة

إثبات بطلانه .

ونبدأ الآن مناقشة النوع الأول من التعميم ، أى الاستكمال من الحيوان إلى الإنسان ، وتفسير السلوك الإنسانى فى ضوء البحث على السلوك الحيوانى ، وهذا الاتجاه ينتمى فى جوهره إلى التقليد التطورى الكلاسيكى . وكانت السلوكية فى جميع مراحلها أكثر دعاته حماساً وتطرفاً ؛ فاهتمت على وجه الخصوص بالتعليم البسيط ، وظهر عندها التمييز المشهور بين الاشتراط الكلاسيكى والاشتراط الإجرائى ، وتجاهلت العمليات العقلية العليا ، وتنبت منطقاً- كان أقوى ممثليه كلارك هل – يرى أن هذه العمليات العليا يمكن اشتقاقها من المسلمات التى تحكم مبادئ السلوك الأساسية ، ومن خلال تطبيق مبادئ الاشتراط التى يجب أن نستخلص أولا من نتائج البحوث على الحيوان أو على أبسط استجابات الإنسان .

وفى رأى أصحاب هذا الاتجاه أن أى علم فعال للسلوك يجب أن يكون قادراً على اكتشاف الظواهر السلوكية الأولية حتى يمكن تحليل الأداء المعقد فى ضوئها ، ثم إثبات مدى ملائمة التحليل باستخدام التركيب المناسب .

وقد ظلت السلوكية الجديدة – عند كل من كلارك هل وسكنر – تنتظر لأكثر من عشرين عاماً ( 1930- 1950) الوصول إلى الاشتقاقات الثانوية من المبادئ الأولية للسلوك البسيط لتطبيقها على ((العمليات العليا)) ، إلا أن ذلك لم يحدث لأسباب منهجية وأبستمولوجية تناولناها فى موضع سابق (فؤاد أبو حطب ، 1972) . بل فشلت بعض المحاولات – عند سكنر خاصة – لتفسير السلوك اللغوى عند الإنسان فى ضوء قواعد التسلسل والتشكيل ، وكان هذا الفشل بداية لظهور علم اللغة الحديث عند تشومسكى ثم علم النفس اللغوى فيما بعد

(آمال صادق ، 1989) . وهكذا كان موقف السلوكيين أشبه بشخصيات مسرحية صمويل بكيت الشهيرة التى ظلت تنتظر جودو الذى لا يجئ أبدا .

وظاهرة السلوك اللغوى خاصة أثبتت الفجوة والانفصال فى دالة (أو منحنى) الاستكمال من سلوك الحيوان إلى سلوك الإنسانى . وقد دفع ذلك وغيره بعلماء النفس المعاصرين إلى تجاوز السلوكية ، واعتبار سلوك الإنسان ((فئة مستقلة)) .

وبهذا أسقط علم النفس الحديث افتراض ((حيوانية)) الإنسان .

ويصدق نفس القول على الاتجاه العكسى فى الاستكمال : أى من الإنسان إلى الحيوان . ونحن أن نذكر أن الأساس النظرى للاتجاهين واحد

بين الأنواع ، وهو مبدأ يتضمن بالطبع احتمال التعميم فى اتجاهى Biological continum وهو أفتراض مبدأ المتصل البيولوجى

المتصل . وخلاصة هذا الاتجاه استخدام مفاهيم الخبرة الإنسانية – وخاصة العمليات المعرفية – فى وصف سلوك الحيوانات الأخرى ،

. وإذا كان الاستكمال من النوع الأول يتحرك صاعداً فى (hulse,et .al 1978)وهذا – فى رأى هونج – أيسر فى وضع الصيغ النظرية

المتصل البيولوجى ((من الأدنى إلى الأعلى )) – : فإذا هذا ((الاتجاه المعرفى)) للسلوك الحيوانى يفتح الطرق للتحرك من أعلى إلى أدنى ،

.Anakogicalوفى كلتا الحالتين يستخدم المنهج التمثيلى

وفى ضوء هذه الاستراتيجية أجريت دراسات عديدة نشأ عنها مجال خاص سمى ((السلوك المعرفى المقارن)) تناول ذاكرة الحيوان ، وخريطة المعرفية ، وتعلمه النمط التسلسلى من السلوك ، وذكاء الحيوان ، وسلوكه اللغوى (هولس وآخرون ، 1983) . إلا أن هذا الاتجاه مرة أخرى لم يقدم أدلة على اتصال الإنسان بالحيوان .

وكان مقتله مرة أخرى أيضاً فى دراسة السلوك اللغوى . فقد أجريت سلسلة من البحوث على تدريب القردة والشيمبانزى والغوريلا على ما يشبه اللغة البشرية ، حظيت باهتمام بالغ من وسائل الإعلام وعرضناها بالتفصيل فى موضع آخر (فؤاد أبو حطب ، 1987) ، إلا أت النتائج أكدت مرة أخرى تفرد الإنسان واستقلاله بالسلوك اللغوى عن أى نوع حيوانى آخر ، وهكذا سقط أيضاً افتراض ((إنسانية)) الحيوان

وقد صاحب ذلك كله تغير جوهرى فى صميم ((علم التطور)) ، والخطأ الجوهرى الذى لايزال شائعاً توهم أن هذا العلم لا يزال حتى وقتنا الحاضر تسوده نفس النظريات التى صاحبت نشأته ، والتى اقترحها العالم الفرنسى لا مارك ( 1744- 1829) ، والعالم البريطانى تشارلز دراوين ( 1809- 1882) فى القرنين الماضيين . لقد أصبح هذا العلم فى الوقت الحاضر يجمع أدلته من عدة فروع بيولوجية متطورة هى على وجه الخصوص : علم التشريح المقارن ، وعلم الأجنة ، وعلم التصنيف الحيوانى ، وعلم الحفريات ، وعلم التوزيع الجغرافى للحيوانات ، وعلم وظائف الأعضاء ، وعلم الوراثة . كما أصبحت تسوده الآن نظرية ذات مواصفات مختلفة عن النظريات الكلاسيكية السابقة هى النظرية التركيبية الجديدة والتى نمت حثيثا طوال السنوات الخمسين الماضية ولا تزال تنمو حتى الآن ، ولا يتسع المقام لتناولها ويمكن الرجوع إلى أحد المصادر المبسطة المتخصصة (علم الدين كمال ، 1973) . ويكفى أن نذكر مجموعة من الحقائق الهامة التى يتفق عليها علماء البيولوجيا وعلماء النفس فى هذا الصدد ، وهى :

، وهذا يعنى أن الاختلاف بين الآنواع Species – specific (أ) أن بحوث التطور أثبتت وجود ما يسمى الآن الخصائص المميزة للنوع

اختلاف كيفى ، أى اختلاف فى النوع ، وليس فى الدرجة كما كان شائعاً من قبل (هولس وزملاؤه ، 1983) .

(ب) أن علماء التطور لا يقولون بانحدار الإنسان من أصل حيوانى (وخاصة القرد كما يشيع بين عامة الناس) . فإذا كانت لكل نوع حيوانى خصائصه المميزة له كيفيا ، فلا بد أن يكون للإنسان بالضرورة ما يميزه كيفيا عن المستوى الحيوانى مهما بلغ رقيه .

(ج) أن عدم الاتصال بين الإنسان والحيوان فى مظاهر بيولوجية كثيرة يؤكد مرة أخرى استقلال الإنسان وتميزه ؛ فالتعميم الامتدادى فى

.(blackman, 1983)هذه الحالة لا تتوافر فيه قواعد الاستكمال الصحيح ، كما سبق أن أوضحنا

(د) أن بحوث علم النفس الحيوانى لا تعنى بالضرورة أى معنى تطورى ، ففى بعض الأحيان يكون ذلك لدراسة سلوك الحيوان فى ذاته . كما أن اللجوء إلى دراسة الحيوان قد يكون لأسباب ((قيمة)) تتصل باستحالة البحث على الإنسان فى بعض الأحوال . بالإضافة إلى أن بعض الحيوانات تصلح لأنواع معينة من البحوث . ناهيك عن الظروف العملية الميسرة التى تهيؤها دراسة الحيوان

(راجع ديفيد وف ، 1983: 27 – 29 ) .

(ح) أن قبول حقيقية التطور فى العلوم البيولوجية لا يعنى بأى حال من الأحوال أى تشكك فى الإيمان ؛ فكثيرون من علماء هذا العلم يؤمنون بأن جميع العمليات التطورية لم تحدث جزافا بل بإرادة الخالق سبحانه وتعالى (علم الدين كمال ، 1973) .

(و) أن دراسة السلوك الحيوانى قد تفيدنا فى فهم السلوك الإنسانى فى بعض أحواله وخاصة حين ينحط إلى هذا المستوى ، فتغلب عليه الغريزة ، ويفقد العقل قدرته على التحكم فيه ، ويظهر ذلك خاصة فى بعض حالات المرض أو الانحراف .

وهكذا تبدو لنا أن حجة اتهام علم النفس الحديث بأنه يحط من شأن الإنسان ، ويخلع عليه طابعاً ((حيوانياً)) قد تجاوزها هذا العلم منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، وكان النقد داخلياً أكثر منه خارجياً ، وقد ساعد ذلك علمنا على مسايره تيار العصر فى فلسفة العلم على النحو الذى بيناه فى الفقرة السابقة (حول مادية علم النفس) .

(4) الربط بين العلم النفس والتحليل

النفسى (وخاصة عند فرويد) :

لا يكاد يرى النقاد الإسلاميون – باستثناءات قليلة – من علم النفس وعلمائه إلا العالم النمسوى الشهير سيجموند فرويد

( 1856 – 1939) ، حتى إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إنه أكثر الشخصيات – وربما بعد ، أن لم يكن قبل ، كل من Sigmund freud

كارل ماركس وتشارلز داروين – استهدفا للنقد ، وهو على وجه اليقين أكثر الشخصيات السيكولوجية تعرضاً له . وقد أدى ذلك إلى تبسيط

، وبين المهنيين Psychoanalysisوالتحليل النفسى Psychologyالمسألة ، وأشاع بين الناس لونا من التطابق ، والخلط بين علم النفس

الممارسين لكل من هذين المجالين ، وأضيف إلى ذلك خلط جديد ، صنعه أيضاً النقد المتسرع ، بين علم النفس والطب العقلى

.وقبل أن ندخل إلى جوهر الموضوع لا بد من الإشارة هنا بإيجاز إلى ما نذكره لطلابنا المبتدئين فى علم النفس تمييزاً لهم psychiatry

بين المجالات الثلاثة .

– وهو المتخصص فى علم النفس – يمارس مهاماً مختلفة فى مجال الحياة العملية ، ومنها مهمة Psycholgistفالأخصائى النفسى

فى أحد مراكز Psychoanalyistوالمحلل النفسىPsychiatristالأخصائى الكلينيكى ، وعندئذ قد يعمل مع طبيب الأمراض العقلية

الصحة النفسية ، أو إحدى عيادات (أو مستشفيات) العلاج النفسى ؛ وقد يكون فى ذلك مصدر الخلط والغموض إلا أن الاختلافات الجوهرية بين الفئات الثلاثة ترجع إلى نوع الإعداد الذى يتلقاه كل منهم ، ونوع العمل الذى يمارسه فى مهنة العلاج النفسى : فالأخصائى النفسى يتخرج عادة فى أحد أقسام علم النفس (فى كلية الآداب أو التربية أو العلوم)  ؛ ليعمل أساسا فى مجال البحوث وتقديم الخدمات النفسية فى مجالات الحياة اليومية للإنسان (التوجيه والانتقاء المهنى والتعليمى مثلاً) ، فإذا كان عليه أن يتلقى تدريباً منظماً (بمواصفات معينه) على أساليب التشخيص والعلاج النفسى ؛ وفى ممارسة التشخيص والعلاج لا يلجأ مطلقاً إلى الإجراءات الطبية الفنية ، فهو ينتمى إلى فئة ((المعالجين النفسيين من غير الأطباء)) ، وفى جميع الحالات عليه أن يحصل من الجهات المسئولة (عادة وزارات الصحة) ترخيصاً بممارسة هذا اللون من العلاج النفسى .

أما طبيب الأمراض العقلية (أو الأمرض النفسية كما أشاعها الأطباء أنفسهم تخفيفاً لوقع المصطلح الأصلى) فهو طبيب يتخرج فى كلية الطب ويخضع لبرنامج الإعداد الخاص بالأطباء ، وهو بالطبع مدرب على استخدام الإجراءات الطبية المختلفة مثل العقاقير والجراحة وغيرها .

أما الخلل النفسى فيتم إعداده أيضاً فى كلية الطب وعادة ما ينتسب إلى فئة الطب العقلى وليس إلى علم النفس ، إلا أن الفرق الجوهرى بين المحلل النفسى وطبيب الأمراض العقلية المعتاد أن التحليل النفسى يتطلب من صاحبه التعمق فى نظريات فرويد للشخصية ، وطرق العلاج المستندة إليها ، وذلك فى معهد متخصص فى هذا اللون من التدريب حيث يخضع هو نفسه (أى المعالج) لهذا التحليل النفسى . وعلى الرغم من أنه من الوجهة النظرية يمكن لأى سيكولوجى أن يصبح محللاً نفسياً (مادام التحليل النفسى لا يستخدم الفنيات الطبية الخاصة) ، إلا أن معظم معاهد التدريب على التحليل النفسى لا تقبل سوى الأطباء ؛ ولهذا يعتبر التحليل النفسى فى الوقت الحاضر فرعاً من الطب العقلى .

وكان يمكن لعلم النفس أن يتجنب الكثير من المشكلات لو ظل التحليل النفسى فى حدوده الأصلية ، أى ممارسة طبية مهنية خالصة إلا أنه سرعان ما دخل التيار السيكولوجى الأساسى ، وظهر له قليل من الأشياع بين علماء النفس أنفسهم ، وداخل أقسامهم التخصصية التى تقع بالطبع خارج نطاق كليات الطب .

وكان يمكن لمعرفة هذه الحقائق التى تؤكد أن أصحاب التحليل النفسى من السيكولوجيين ليسوا إلا شريحة قليلة العدد ، محدودة الأثر فى علم النفس – :

أن تجنب النقاد الإسلاميين شن تلك المعارك الضاربة على علم النفس ، وكأن فرويد وتياره هما وحدهما هذا العلم .

بعد ذلك ننتقل إلى الصورة التى يقدمها النقاد الإسلاميون لفرويد وللتحليل النفسى فنجدها صورة مختصرة نمطية قد يمثلها هذا الوصف الذى يكرره مصطفى محمود فى معظم كتاباته ، لعل آخرها مقال عام  1988(مصطفى محمود،1988) والتى نعرضها – بلغته هو – قدر الإمكان :

(أ) النفس فى تصور فرويد غرائز تطلب الإشباع فى طرف ، ثم بيئة مادية هى مجال لهذه النفس ومحل لفعلها وانفعالها فى طرف آخر ، ثم لا شئ وراء ذلك : لاروح ، ولا إله ، ولاغيب ، ولاشئ من وراء هذه الدنيا المادية الكثيفة الغليظة : الغرائز ، واللاشعور ، والطاقة الجنسية هى الإله الحاكم ، والكل فى خدمته .

(ب) السنوات الخمس الأولى فى حياة الطفل هى التى تحدد سلوكه ونفسيته إلى ما تبقى من سنوات عمره .

(ج) ما نفعله ، وما نفكر فيه ، وما نحلم به يتم فى جبرية وحتمية تبعا لما ينفثه فينا اللاشعور والعقل الباطن .

(د) الإنسان مدفوع دائماً بقوى لا معقولة وملقى به نحو أفعال قهرية لا تبصر فيها ولا روية ، وهو مغلوب على أمره لا حيلة ولا مخرج ، وكل ما يملكه العقل هو أن يحاول تبرير هذه الرغبات البهيمية ، والبحث عن وسائل مقبولة لإشباعها ، أو التسامى بها ليزاولها بصورة أجمل ، أو الانتكاس بها إلى حالات هستيرية تنفس عن غليانها .

(ح) الإحساس بالذنب ، والتوبة ، والندم هى بهذا المعنى عقد نفسية وأمراض يلزم التخلص منها .

(و) استخرج فرويد وأتباعه تلك النظريات من دفتر مرضى الهستيريا والنوررستانيا والملانخوليا ، ثم عمموها على الأصحاء والأسوياء ، وجعلوا منها قانوناً لا يختلف .

وتعقيباً على هذه الصورة ((النمطية)) الشائعة عن فرويد وأفكاره نقول : إن نظريته فى التحليل النفسى أكثر تفصيلاً وتعقيداً من ذلك ، فهى

تتأف من الهو والأنا Structreكبينة (hall&lindzey,1978)أولاً نظرية فى الشخصية ، وقد عرضها بحياد وموضوعية شديدتين

تشمل الغريزة والطاقة النفسية ، والميكانزمات الغريزة والطاقة النفسية ، والميكانزمات (الحيل) الأساسيةDynamicsالأعلى ، وديناميات

للأنا ، والتى شملت عنده : التقمص ، والإزاحة ، والنقوص ، والإسقاط ، والتكوين الضدى . وهى ثانيا نظرية فى العصاب

(المرض النفسى) ، والتى تناولها بالتفصيل ؛ وهى ثالثا نظرية فى النمو الإنسانى عرضها أيضاً بالتفصيل

(1979؛ وهر رابعا مجموعة من الفنيات العلاجية والمنهجية (التداعى الحر ، تحليل الأحلام ، ودراسة الحالة ، التحليل الذاتى، ..)) ؛ ثم هى خامسا تطبيقات ((جزافية))- على حد تعبير هول ولندزى – فى العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى ، وفى مجال الفنون والآداب والإنسانيات والدين ؛ ثم هى أخيراً تنتمى إلى فلسفة معينة للعلم .

وقد تعرضت هذه الجوانب جميعاً للنقد طوال تاريخ علم النفس ذاته ، ولن نكرر هنا ما هو شائع ومألوف فى المؤلفات الأولية فى علم النفس وسوف نكتفى بتناول ما يتصل بفلسفة العلم التى تنتمى إليها هذه النظرية لارتباطها بموضوع بحثنا .

وبإيجاز نقول : إن نظرية فرويد خاصة – والتحليل النفسى عامة – ينتميان إلى ((النظرية القديمة)) للعلم بالمعنى الذى أشرنا إليه عدة مرات من قبل . فالحتمية والميكانيكية الصارمة والتى كانت من خصائص العلم حتى نهاية القرن التاسع عشر ، انتقلت إلى التحليل النفسى كما انتقلت إلى التحليل النفسى كما انتقلت إلى التحليل النفسى كما انتقلت من بعده إلى السلوكية ، وهى جميعاً تتفق مع التصور المادى للطبيعة البشرية ، الذى عرضناه ناقدين من قبل ، ويعرض أغروس وستانسيو (1989) هذا الموقف بصورة بليغة فى العبارات الآتية :

((لو كان الإنسان مجرد كائن مادى – كما تزعم النظرة القديمة – لكان من المعقول أن نتخذ أشياء مادية أبسط – كالآلات – نماذج للسلوك البشرى ، فلكل آلة قوة دافعة تشغلها ، كالبخار أو الكهرباء أو الاحتراق الداخلى . وعلى ذلك كان أهم عنصر فى الإنسان ، وفقا لعلم النفس فى النظرة القديمة هو قوته الدافعة . والقوى المادية فى الآلة الإنسانية تتخذ شكل غرائز وانفعالات ، وهى مصدر جميع الأعمال التى يقوم بها الإنسان . أما العقل فلا يملك زمام الأمر ؛ لأنه نتاج ثانوى للمادة . إذا فمفتاح سر النفس البشرية يمكن فى اكتشاف أقوى غريزة أو عاطفة تدفع الإنسان وتطغى على كل ما عداها )) .

وإذا كان توماس هوبز أول الماديين الاجتماعيين قد اختار الخوف من الموت باعتباره الغريزة السائدة ، وركز مالتوس على غريزة الجوع

فقد كان تركيز فرويد روح ((العلم القديم)) فى عصره فكان ماديا اختزاليا أيضاً – كما حدث للسلوكية من بعده . وعلى الرغم من أن هناك

فإن كتابات فرويد نفسه تؤكدها ، وخاصة تلك الرسالة المعنوية ب ((مشروع لسيكولوجيا (wolman . 1984)من ينفى عنه هذه الصفة علمية )) ، والتى يصفها مصطفى زوير (1981) ، بأنها محاولة ((حاول أن يضم فيها بنظرة واحدة شاملة علم النفس المرضى وعلم النفس العام وتشريح المخ وفسيولوجيته )) ، والتى فسر فيها الظواهر النفسية على أنها ترد إلى أصول فيزيائية كميائية . وهذه وغيرها من مكونات ((العلم القويم)) قد سقطت – كما بينا من قبل – بظهور معالم ((العلم الجديد )) ، منذ مطلع القرن العشرين ، والتى اندمجت خصائصه فى علم النفس منذ خمسينات هذا القرن لتحول وجهته إلى الاتجاهين المعرفى والإنسانى اللذين لهما السيادة عليه فى عصرنا . إلا أن هذا لا يعنى بالطبع استبعاد كل مكونات ((العلم القديم)) . فبعض عناصر النسق الفرويدى تواترت أدلة على صحتها ، ولعل أهمها دور خبرات الطفولة المبكرة فى تكوين شخصية الإنسان ، ودور اللاشعور والدوافع اللاشعورية فى سلوك الفرد ، وأهمية مفهوم دفاع الأنا ضد القلق ، ودور الميكانيزمات (أو حيل) الدفاعية فى حل مشكلات الصراع النفسى (محمد عثمان نجاتى ، 1980) ، وهذه جميعاً يمكن استثمارها بفعالية

فى بناء ((العلم الجديد)) .

وخلاصة القول أن الهجوم على علم النفس من خلال فرويد والتحليل النفسى يمكن وصفه بأنه من نوع حرب ((طواحين الهواء)) . وبالطبع فإن لشهرة فرويد وانتشاره الهائل ثقافية وحضارية ، بل وأيدولوجية لا يتسع المقام لتناولها . إلا أن هذا لا يعنى أن يصمت علماء النفس من العرب والمسلمين على التشويه شبه المتعمد لميدانهم ، وتحويلة إلى بؤرة للدعاية الرخيصة ، لا هم إلا التركيز على فكرة الجنس عند فرويد ، وتفسيراته الأسطورية (عقدة أوديب وعقدة الكترا ، وغيرها مما تجاوز العصر) ويهوديته بل صهيونته .

ولعل هذا الصمت – والأخطر منه المشاركة فى نفس الحملة من جانب بعض علماء النفس – يصل بهم إلى حد الشلل الكامل أو العجز المطلق عن مسايرة روح ((العلم الجديد)) التى تفتح لهم آفاق أرحب لهم قبل غيرهم .

(5) رفض التجريب فى علم النفس :

من الحجج الأخرى التى يشعرها النقاد الإسلاميون لعلم النفس ضده – : رفضهم لا ستخدام المنهج التجريبى فيه . وفى ذلك يقول مصطفى محمود (1976) : إن ((علم النفس التجريبى – أيضاً – هو كذبة كبرى ؛ لأن النفس ذات كلية ، ولا يمكن تحويلها إلى موضوع أو تشريحها تحت المجهر ، وهى بالتحليل والتشريح شيئاً آخر غير النفس الحية المطلوب فهمها . والنفس بطبيعتها تتغلب وتستعصى على التجريب ،

وإذا اقتطعت من النفس جانباً فى عملية التحليل فإن ما تراه لا يكون هو النفس ؛ لأن النفس كل لا يقبل التجزئة ، وواحد لا يقبل

((القسمة)) . ويصدر حكما عاماً على علم النفس التجريبى بقوله (مصطفى محمود ، 1988) : ((إن ما فعله علماء النفس المتأخرون – بعد فرويد كان أسوأ ؛ لقد أخرجوا هذا الإنسان من بيئته الطبيعة ، وأدخلوه المعمل ، فيما يعرف الآن بعلم النفس التجريبى )) .

والواقع أن حكمنا العام على هذه الحجة – وغيرها مما تناولناه وسنتناوله – بأنها نوع من خلاصة ((القرءات الخارجية)) من

غير أهل الاختصاص ، وفى مجملها لا تتفق مع كثير مما هو شائع ،وموطد ، ومستحدث فى علم النفس من ناحية ، وفى نظرية المعرفة ((الإبستمولوجيا)) من ناحية أخرى .

فمن حقائق تاريخ علم النفس أولاً أن علم النفس التجريبيى لم يأت بعد فرويد .

فأى قارئ لكتاب مبتذئ فى تاريخ علم النفس يعلم أن أول معمل لعلم النفس التجريبى أنشئ فى جامعة ليبزخ فى ألمانيا على يد ولهم فوندت عام  1879، بينما صدر كتاب ((تفسير الأحلام)) لفرويد – وهو الكتاب الذى عرض فيه أساسيات التحليل النفسى – عام   1900. بل إن ميلاد علم النفس ((العلمى)) الحديث ينسب إلى فوندت ولا يكاد يمتد إلى فرويد بوشيجة نسب .

ومن حقائق علم النفس التجريبى ثانياً أنه لن يقصر بحوثه على ((المعمل)) وتجاهل البيئات الطبيعية للإنسان ، وحسبنا للرد على هذا القول أن نقول : إن كثيراً من الوقائع التى توافرت لعلم النفس الحديث ثم التوصل إليها بالتجريب فى مجالات كثيرة خارج المعمل وفى ((البيئات الطبيعية)) للإنسان ؛ ومن ذلك بحوث علم النفس الاجتماعى ، وعلم النفس التربوى ، وعلم النفس الصناعى ، وعلم النفس التنظيمى والإدارى .

ومن حقائق هذا العلم هذا العلم ثالثاً أن علماء النفس يميزون بين ثلاثة مستويات للبحث العلمى فيه هى المستوى الأساسى

(مستوى الفنون العملية) . ويقوم اتجاه البحوثTechnologicalوالمستوى التكنولوجى  Appliedوالمستوى التطبيقى basic

الأساسية على افتراض أن الميادين التطبيقية ، والفنون العملية التكنولوجية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتقدم الذى تحرزه البحوث الأساسية التى تعتمد عليها . وفى نفس الوقت يعى علماء النفس أن البحث فى العلوم الأساسية يهتم باكتشاف القوانين العامة ، وبالطبع لا يعترض الباحثون فى العلوم الأساسيى للنفس على تطبيق نتائج بحوثهم على المشكلات التطبيقية والعملية ، إلا أن تصميم البحوث الأساسية – كغيرها من البحوث الأساسية فى المجالات الأخرى – لا يتضمن فى العادة أى اهتمام بمشكلات التطبيق والمواقف العملية .

فالبحوث الأساسية تهدف فى جوهرها إلى تقدم المعرفة ؛ ولذلك عادة ما تكون نتائجها على درجة كبيرة من العمومية تتعدى حدود التطبيق المباشر ، كما أن صياغة القانون العلمى العام أو المبدأ العلمى العام لا تتضمن فى ذاتها طرق التطبيق أو وسائل الاستخدام . ويتطلب الأمر بالطبع من أصحاب الاهتمامات التطبيقية العملية تحديد الغايات ، وتوصيف الشروط على هذا المستوى مما يتطلب إجراء بحوث جديدة (قد تستخدم هى ذاتها المنهج التجريبى بالطبع) . ويؤدى ذلك بنا إلى فهم الطريقة التى يعمل بها القانون العام فى الحالة الخاصة أو الموقف الخاص . وهذا أشبه بأن معرفتنا بقوانين الانشطار النووى لا تدلنا فى ذاتها على طريقة صناعة القنبلة الذرية أو النظائر المشعة .

وبالطبع فإن مشكلة عمومية القوانين الأساسية فى علم النفس أكثر تعقيداً وتركيباً منها فى الميادين الأخرى ؛ لأنها تتطلب – عند التطبيق أو الاستخدام – ((إضافة)) عوامل جديدة قد تغير كيفيا فى المبادئ أو القوانين العامة المشتقة من البحوث الأساسية . فمثلاً قد نجد أن طرق التعلم التى يستخدمها الأطفال فى حفظ المقاطع عديمة المعنى أثناء تجربة معملية فى بحث أساسى تختلف عن تلك التى يستخدمونها فى تعلم مادة دراسية لها معنى فى حجرة الدراسة ؛ ولهذا نبه علماء النفس كثيراً إلى أن الانتقال من البحوث الأساسية – والتى قد يجرى بعضها على الحيوان – إلى البحوث التطبيقية ، وفنون الممارسة العملية يحتاج إلى خطوة انتقالية متتابعة ،عرضها – بالتفصيل فى مجال التربية – فؤاد أبو حطب وآمال صادق ( 1984: 34 – 42) . ويمكننا أن نصف انتقال القانون العلمى من معمل البحث الأساسى ميدن التطبيق ، والاستخدام مباشرة – دون أن يمر بالخطوات الوسيطة – بأنه نوع من ((الانتحار العلمى)) ، وبالطبع فإن نقله ، على نفس القياس ، هو نوع من ((القتل العلمى)) لهذا القانون .

ويمكن أن تتضح خطورة ذلك إذا تصورنا حدوث ما يشبه فى ميدان الطلب ، أى حين يستخدم الأطباء فى علاجهم للإنسان الأساليب الجراحية والعقاقير الطبية وغيرها من الأساليب العلاجية التى تثبت صحتها فى أنابيب الاختيار وحدها أو من خلال التجربة على الحيوانات فقط (فؤاد أبو حطب ، آمال صادق ، 1984) .

وبالطبع فإننا فى جميع مستويات البحث التى أشرنا إليها مجملة فيما سبق يمكن أن نستخدم المنهج التجرييبى كما يستخدم غيره من طرق ((الملاحظة)) التى يعتمد عليها علم النفس – باعتباره ينتمى إلى العلوم التجريبية الإمبريقية

. وبالطبع فإن هذه ((الملاحظة العلمية)) لا تقع بالضرورة فى السياق التجرييبى وحده ؛ Experiential أو الخبرةempirical

فبعض مشكلات علم النفس وقضاياه تعتمد على طرق أخرى كالملاحظة فى المواقف الطبيعية ، ودراسة الحالة فى المواقف الكلينكية ، وغيرها من الطرق التى تتسع لها المؤلفات المتخصصة فى مناهج البحث فى علم النفس ، ولا يتسع المقام لأى تفصيل فيها ، وحسبنا أن نشير إلى المنهج التجريبى باعتباره ، موضوع هجوم النقاد الإسلاميين .

يمكن أن تتحدد الخصائص العامة للمنهج التجريبى كما يستخدم فى مختلف المجالات المعرفة ومنها علم النفس فيما يلى

(kling:&riggs,1972)

(أ) يبدأ الباحث فى التجربة – كما يبدأ فى حالة أستخدام الطرق الأخرى للبحث – بغرض محدد فى ذهنه ، وقد يكون ذلك فى صورة سؤال عام يسعى للإجابة عليه أو فرض خاص ينشد اختباره والتحقق منه .

وحينئذ عليه أن يحدد جانب – أو جوانب – السلوك موضوع ملاحظته :

(الإدراك – الانفعال – الانبساط ، ..الخ ) وكيف تلاحظ .

(ب) يهيئ المجرب بنفسه الفرص والظروف التى تتم فيها ملاحظة السلوك موضه الاهتمام ، كما يعد طرق الملاحظة وإجراءاتها حين يكون مستعداً تماماً لقياس وتسجيل هذا السلوك ، وبهذا يكون مهيئاً للملاحظة تحت أفضل الظروف الممكنة .

وعن طريق تحكمه وضبطه للوقائه التجريبية يمكنه أن يعيد إجراء هذه الوقائع تحت شروط مضبوطة ، وبالتالى يمكن التوصل لتحديد درجة اتساق واطراد حدوث الظاهرة موضع البحث .

(ج)مع ضبط المجرب شروط الملاحظة فى الموقف التجريبي – : يمكنه معالجة هذه الشروط بطريقة منتظمة ، ويسمح له ذلك بتحديد تأثير التغيرات التى يحدثها فى بعض هذه الشروط (ما يسمى المتغيرات المستقلة) فى السلوك موضه الاهتمام (ما يسمى بالتغيرات التابعة) .

(د) يقوم الباحث بالوصف التفصيلى لشروط الملاحظة التى قام بها كما يوصف الإجراءات التى استخدمها ؛ وبذلك يهيئ الفرصة لغيره من الباحثين أن يعيدوا إجراء التجربة تحقيقاً لشروط قابلية النتائج للاستعادة أو التكرار .

وقد نجح علم النفس التجريبى طوال قرن من الزمان – هى عمره الحديث – أن يجرى تجاربه الناجحة داخل المعمل وخارجه ، إننا نستطيع القول إن جميع موضوعات علم النفس التى يستخدم فى دراستها المنهج التجريبى مثل : الإحساس ، والإدراك ، والتعلم ، والعمليات المعرفية ، والظواهر الفسيولوجية تدخل فى باب علم النفس التجريبى ، كما يشمل الميادين والاهتمامات التجريبية فى فروع علم النفس الأخرى مثل : سيكولوجية النمو ، وعلم النفس التربوى ، وعلم النفس الصناعى ، وعلم النفس الإدارى والتنظيمى ، وعلم النفس الكلينيكى سواء أكانت هذه الفروع أساسية أم تطبيقية ، وسواء كانت تتناول سلوك الكائنات العضوية (الإنسان والحيوان) السوية أو غير السوية . ولكى يدرك القارئ حجم الإنجاز العظيم الذى الذى حققه علم النفس التجريبى فى مجالاته الأساسية فقط (دون التطبيقية) خلال السنوات الأربعين الماضية (ابتداء من عام 1951) – : يمكنه أن يطالع المرجع الضخم الذى صدر مؤخراً تطويراً لكتاب ستيفنس الشهير حول علم النفس التجريبى

.(arkinson, et al.1988)

وهذا المنهج التجريبى الذى يؤكد لعلم النفس ((علميته)) لا يتعارض مع قيم ومبادئ وتعاليم الإسلام ؛ فالإسلام قد دعا إلى البصر فى النفوس ودراستها ، وفى كثير من المواضع التى أشار فيها القرآن الكريم إلى التفكر فى آيات الله فى الكون أشار أيضاً إلى التفكر فى آيات الله فى النفس ؛ وهذا فى رأينا – والله أعلم – دعوة صريحة فى كتاب الله تعالى إلى استخدام نفس مناهج دراسة الكون – ومنها المنهج التجريبى – فى دراسة النفس ؛ لأن دراسة الكون والإنسان واكتشاف سنن الله وتأمل آياته فيهما من أعظم الأدلى على إيداعه سبحانه وتعالى وقدرته فى خلقه ، ناهيك عن أن ((المنهج التجريبى)) هو فى جوهره من ابتكار الحضارة الإسلامية ، وليس نتاجاً فريداً للحضارة الغربية الحديثة . وإذا كنا نعتز بجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء التجريبى ، وأبى بكر الرازى مؤسس علم البصريات ، وأبى الهيثم مؤسس علم البصريات ، وأبى القاسم الزهراوى مؤسس علم الجراحة ، والشريف الإدريسى مؤسس الجغرافيا الإمبريقية ، وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى علم أسس تجريبية ، وابن خلدون مؤسس علم الاجتماع – : فلماذا ننكر على علم النفس استخدام المنهج التجريبى .

وبالطبع فإن المنهج التجريبى يتضمن تركيزاً على بعض سلوك الإنسان ، وفى هذا نوع من التحليل الذى يرفضه نقاد علم النفس وهذا الرفض ليس جديداَ فى السياق السيكولوجى ذاته ، فتاريخ الصراع بين المدرسة التحليلية والمدرسة التركيبية الكلية

(والتى سميت أحياناً بمدرسة الجشطالت وأحياناً بمدرسة المجال) تاريخ معروف مألوف للمبتدئ فى علم النفس .

وليست الحجج التى سيقت – وأشرنا إليها آنفا – بجديدة على الميدان . إلا أن الخطأ الذى وقع فيه أصحاب هذا الجدل بأطرافه جميعاً هو التزامهم الصارم بأحد أطراف ثنائية التحليل – التركيب دون محاولة التأليف الابتكارى بينهما ، وهو منهج إسلامى فى جوهره . وقد سبق للمؤلف (فؤاد أبو حطب ، 1983) أن ناقش هذه المسألة بشئ من التفصيل . وحسبنا هنا أن نقول : إن الملاحظة باعتبارها جوهر ((العلم التجريبى)) الذى يحض عليه الإسلام – : هى عملية تحليلية ، والتحليل هنا لايكون إلا للخصائص أوالأفعال ، فالأشخاص كالأشياء بخصائصها وسماتها ، كما أنها أى الأشخاص لا تتميز إلا بأفعالها . فنحن نصف الشئ بأنه مستدير أو حاد أو ثقيل أو بهذه الصفات جميعا ، وبالمثل فإننا نصف الشخص بأنه يستجيب بسرعة أو بعنف أو بدقة أو بغير ذلك من الطرق ؛ ولذلك فمن العبث القول : إننا نحلل ((الأشياء)) أو ((الأشخاص)) وإنما نحن نحلل صفات هذه الأشياء وخصائص وأفعال هؤلاء الأشخاص .

والخصائص والأفعال هى تجريدات نصل إليها بتحليل الكليات . وتجريد إحدى السمات من كلية معينة لا يؤثر فيها ؛ لأنها تظل ثابتة محتفظة بكيانها الكلى الذى هو عليه قبل التحليل ؛ فوصف البرتقالة بأنها صفراء اللون ، سكرية الطعم ، كروية الشكل لا يقضى على ((كيان)) البرتقالة ككل ، أو على ((وجودها)) المتميز بذاته .

وكذلك فإن وصف الشخص بأنه عدوانى فى انفعالاته ، متوسط فى ذكائه ، عملى فى ميوله ، محافظ فى اتجاهاته ، لا يؤدى إلى ((تجزئه)) الشخص أو القضاء على ((وجوده)) ككل .

ولا يستطيع أحد (حتى أكفأ العلماء) أن يزعم أن تجريداته مهما تعددت وتنوعت تستغرق الشئ ، أو الشخص الذى يلاحظه أو تصفه وصفاً كاملاً ، ومع هذا فإن ذلك ليس سبباً كافياً لرفض المنهج التحليلى ؛ لأن ملاحظاتها يمكن أن تكون ((عينة)) على قدر كاف من الشمول إذا توافر لدينا الجهد والوقت .

وفى جميع الحالات يجب أن يتبع الباحث منهجه التحليلى بنظرة تركيبية بنائية تكاملية ترسم ((البروفيل)) النفسى الذى يربط بين مختلف الخصائص والسمات حتى يحدد ((النمط الكلى الفريد لهذه السمات)) والذى يميز الشخص أو الشخصية ، والباحث النفسى هنا يشبه الفنان الذى يرسم صورة مجمعة ، وهى عادة ما تكون صورة لشخص غير محدد مقدما ، يرسمها الفنان اعتماداً على السمات أو الصفات التى يشهد الشهود أنه تشبهه . ويتطلب هذا بالطبع دقة فى استخدام منهج التحليل أولاً ليزود الفنان بمجموعة كافية من التفاصيل والأجزاء . وتتوقف درجة اقتراب الصورة المجمعة من الحقيقة الموضوعية الخارجية على مقدار هذه الأجزاء والتفاصيل ودرجة الدقة فى وصفها . وبالمثل فإن دقو وصفنا (( للنمط الكلى الفريد للخصائص الإنسانية )) – وهو تعريف الشخصية كما يستخدمه المؤلف (فؤاد أبو حطب 1983) يتوقف على كفاية منهجنا التحليلى فى تحديد هذه السمات .

(6) التهوين من شأن الاكتشاف فى علم النفس :

من الانتقادات التى وجهت إلى علم النفس أن ما يزعمه ((اكتشافاً علمياً)) ليس فى حقيقة الأمر كذلك ، ويضرب محمد رشاد خليل (1987) على ذلك بمثال الاشتراط ، ويرى أن هذه الظاهرة معروفة تماماً للإنسان منذ أقدم العصور ، وبها استطاع أن يستأنس ويدرب الطيور والحيوانات .

ويتفق علماء النفس مع نقادهم على ذلك ، بل يتفق معهم كل متخصص فى أى مجال معرفى ؛ فالعلم ليس من مهامه ((اختراع)) ظواهره . فعلماء الفيزياء لم يخترعوا الصوت أو الضوء أو الكهرباء أو المغناطسية ، وعلماء البيولوجيا لم يخترعوا الخلايا والأنسجة ، وكذلك لم يخترع علماء النفس ظواهر التعلم الشرطى أو الإدراك أو الانتباه ، فهذه الظواهر جميعاً موجودة منذ خلق الله الأرض ومن عليها .

وعلى ذكر الاشتراط خاصة نذكر أن مؤرخى علم النفس أنفسهم هم أول من أشار إلى أنه مفهوم قديم ؛ فقد أشار فيرنج

إلى أنه كان معروفاً قبل بافلوف بقرنين على الأقل ، ويمكن أن يمتد النطاق الزمنى إلى ما قبل ذلك على (Fearing ,1930)

النحو الذى أشار إليه محمد رشاد خليل (1987) ، أى إلى ما كان يفعله العرب القدماء من تدريب الصقور والكلاب على الصيد وتدريب الإبل على اختزان الماء فى جسمها بكميات أكبر من حاجتها للاستعانة بها فى السفر الطويل .

وبالطبع فإن الإنسان صاغ خبرته الطويلة حول الظواهر الكونية والبيولوجية والإنسانية من حوله فى الصورة التى تسمى الفهم  . إلا أن مهمة العلم أن يجعل وصفنا للظواهر موضع البحث أكثر دقة ، وتفسيرنا لها أكثر معقولية ،common senseالعام

وضبطنا لها ، وتبؤها بها أكثر إحكاماً . وبالطبع فإن بعض نتائج البحث العلمى قد تتفق مع الفهم العام ، إلا أن الفهم العام لا يتفق دائماً مع الحقائق العلمية . وكثير من قضايا ((الفهم العام)) قد يكون مقبولاً فى ظاهره ، إلا أن صحة هذه القضايا المعتمدة فى جوهرها على الخبرة الشخصية والأحكام الذاتية ليست مؤكدة بالضرورة ، بل قد توجد فى الفهم العام آراء مختلفة حول الظاهرة الواحدة .

والرأى الذى يعد من قبيل الفهم العام لم يكن فى الأصل إلا أحد البدائل التىتفسر ظاهرة ما ، ويسود على غيره من البدائل – بالرغم من أنه قد لا يكون هو البديل الصحيح – بتأثير عوامل كثيرة من أهمها السلطة أو التقاليد الاجتماعية أو الإقناع الظاهرى ثم يتحول ليصبح من ((الحقائق البديهية)) للفهم العام . وقد يكون أكثر الأمثلة وضوحاً فى تاريخ علم النفس التربوى

((نظرية التدريب الشكلى أو الصورى)) التى دحضها تطور المعرفة السيكولوجية فيما بعد ، كما توجد أمثلة أخرى أقل شهرة (فؤاد أبو حطب ، آمال صادق ، 1984) .

ويوجد فى الفولكلور الإنسانى كثير من هذه ((الحقائق البديهية)) التى لا يتوافر برهان كاف على صحتها ، أغلبها نشأ فى صورة ممارسة عادية ثم تحول إلى عالم ((الحقائق الثابتة)) ، أو ((الحقائق البديهية)) بسبب شيوعها وانتشارها ، والألفة الزائدة بها ، على الرغم من أنها لم تكن فى الأصل سوى نواتج خاصة لظروف وأهداف وممارسات سادت فى بعض العصور .

وهكذا يمكن القول : إن مبادئ الفهم العام ليست بالضرورة خاطئة كما أنها ليست بالضرورة الصحيحة . وتقبل هذه المبادئ أو رفضها لا يحسمه إلا البحث العلمى النظم ، وهذه إحدى المهام الجوهرية للعلم ، ومنه علم النفس ، بشرط ألا تقف هذه الأفكار ((السابقة على العلم)) حجر عثرة لدى الباحث العلمى فى سبيل تعديل مناهجه وآرائه بحيث تتواءم مع حقائق العلم ونتائجه .

وهذا ما حدث مع مفهوم الاشتراط – كما حدث مع غيره من مفاهيم العلم ، فإلى بافلوف يعود الفضل فى تناول هذه الظاهرة فى ظروف التحكم المعملى الدقيق ، وتزويدنا بكثير من جوانب الفهم الصحيح والتفسير الدقيق لها ، وهى بضعة من أهداف العلم الأساسية .

(7) تركيز علم النفس على السلوك

المرضى :

يرى مصطفى محمود (1988) أن علم النفس الحالى هو علم نفس مرضى ؛ لأنه ((يركز على العيوب والأمراض والآفات والعلل ، ويفتش فى الانحرافات والتشوهات ، ولا يقدم لنا شيئاً إيجابياً عن النفس السوية الصحيحة)) .

ويبدو أننا مضطرون أحياناً إلى اللجوء إلى المسائل المبدئية لمناقشة مثل هذه الحجة كما فعلنا مع غيرها . ومن المسائل الشائعة التى يتناولها أى مقرر مبتدئ فى علم النفس الإشارة إلى تنوع مجالات السلوك الإنسانى (والحيوانى) التى يتناولها هذا العلم بالدراسة ، مما ترتب عليه اتساع نطاق اهتماماته وأبحاثه وتطبيقاته على نحو يكا يشمل كل ميادين هذا السلوك ، مما أدى إلى تفرعه وتشبعه إلى فروع عديدة ، ويوضح هذه الحقيقة الجدول رقم (2) وفيه عدد أقسام هذا العلم بالجمعية الأمريكية لعلم النفس أكثر الجمعيات فى هذا الميدان قوة فى عالمنا المعاصر

جدول رقم (2) الأقسام التى تتألف منها الجمعية الأمريكية لعلم النفس

 
اسم القسم رقم القسم اسم القسم رقم القسم
علم النفس النظرى والفلسفى

التحليل التجريبى للسلوك

تاريخ علم النفس

علم نفس المجتمع

الصيدلانيات النفسية

العلاج النفسى

التنويم النفسى

علم النفس كمهنة

علم النفس الإنسانى

سيكولوجية التخلف العقلى

سيكولوجية السكان والبيئة

سيكولوجية المرآة

الأخصائيون النفسيون

خدمات الطفل والشباب والأسرة

سيكولوجية الصحة

التحليل النفسى

 

علم النفس العصبى الكلينيكى

علم النفس القانونى

الممارسة المهنية لعلم النفس

سيكولوجية الأسرة

سيكولوجية الشذوذ الجنسى

سيكولوجية الأقليات

سيكولوجية وسائل التواصل

سيكولوجية الرياضىة

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

 

44

45

علم النفس العام

تدريس علم النفس

علم النفس التجريبى

القياس والتقويم

علم النفس الفسيولوجى والمقارن

علم نفس النمو

جمعية بحوث الشخصية وعلم النفس الاجتماعى

جمعية الدراسة السيكولوجية للمسائل الاجتماعية

سيكولوجية الفنون

علم النفس الكلينيكى

علم النفس الاستشارى

جمعية علم النفس الصناعى والتنظيمى

علم النفس التربوى

علم النفس المدرسى

علم النفس الإرشادى

علم النفس فى مجال الخدمة العامة

علم النفس العسكرى

سيكولوجية الراشدين والمسنين

علم النفس التجريبى التطبيقى والهندسى .

سيكولوجية التأهيل

سيكولوجية المستهلك

1

2

3

4

5

6

7

 

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

 

ولعل القارئ المتفحص للقائمة السابقة يكتشف من هذا المثال الذى ضربناه من الولايات المتحدة الأمريكية أن اهتمام علم النفس الحديث بالسواء النفسى ، ولو أن الاهتمام بالمرض النفسى وطرق علاجه ليس فى ذاته عيباً يضير العلم .

(8) سوء استخدام علم النفس :

يشير محمد رشاد خليل (1987) إلى أن بعض نتائج علم النفس استخدمت بطريقة سيئة أو ضارة أو خطرة . ويذكر من أمثلة ذلك تطبيق نظريات المثير والاستجابة والتعلم الشرطى على الشعوب للسيطرة عليها ، وعمليات غسيل المخ التى تستخدمها أجهزة المخبارات ، وتسخير هذا العلم لصالح الرأسمالية الصناعية فى الغرب .

وهذا النقد الموجه لعلم النفس ، وجه من قبل إلى العلم والتكنولوجيا العامة ، ومن ذلك ما يذكره ديكنسون (1987) من النظر إليهما فى بريطانيا (مهد الثورة الصناعية الحديثة) على أنهما مسئولان عن ((كل الأمراض الاجتماعية)) التى نتجت عن هذه الثورة . وقد دفع ذلك العالم والأديب البريطانى سنو إلى اختراع مصطلح ((الثقافتين)) فى مطلع الستينات من القرن العشرين كدعوة إلى رد ((الاعتبار الاجتماعى)) للعلم فى ظروف ثقافية واجتماعية وتاريخية نسبية معينة وليس كتحليل مطلق للعلامة بين ((العلم والمجتمع)) . والدليل على ذلك ما يذكره (ديكنسون  1987،  19) من أنه ((وجد فى كل الأزمان ، وفى جميع مناطق العالم ، علماء على جانب كبير من الإنسانية ، والحساسية المرهفة ، والحس الروحى ، وكانوا قادرين على حفظ الروابط بين الأوساط العلمية ، والأوساط المهتمة بالفنون ، وعلى وجه أعم بين العلم والمجتمع ككل)) .

وبصفة عامة يمكن القول : إن إثارة هذه المسألة تتضمن ضرورة التنبه فى وقت واحد إلى الدور الاجتماعى للعلم والمسئولية الاجتماعية للبحث العلمى ، والالتزامات الأخلاقية لمهنة العلم . وقد أدركت الإنسانية أهمية هذه القضايا منذ زمن بعيد ، وأقدم الأمثلة على ذلك قسم أبوقراط التقليدى الشهير فى مجال الطب . وقد توالت على مدار العصور محاولات إعداد مواثيق أخلاقية للممارسة المهنية فى مختلف المجالات ، وخاصة مع ظهور المنظمات والاتحادات والنقابات المهنية فى مجال العلم منذ القرن السابع عشر . وازداد الاهتمام بهذه المواثيق خاصة فى القرن العشرين بعد حربين عالميتين مدمرتين ، ولم تكن الجمعيات السيكولوجية استثناء من ذلك .

وسرعان ما ازداد الاهتمام فى الوقت الحاضر بلإعداد الأخلاقى والاجتماعى للباحث العلمى ، وخاصة بعد التنبه إلى أن هذا الباحث يمارس بالفعل أحكاماً أخلاقية فى جميع مراحل بحثه ؛ فلم يعد الأمر مقتصراً على تطبيق نتائج البحث فحسب على النحو الذى تنبهت إليه المنظمات والاتحادات والنقابات المهنية كما بيننا ، وإنما أصبح القرار الأخلاقى ممتداً على متصل عملية البحث العلمى كله ، وسوف نتناول هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد .

إلا أن أخطر ما فى مسألة نقد العلم – ومنه علم النفس – بسبب سوء استخدامه ما يسميه ديكنسون ( 1987: 212)

((معاملة الباحث العلمى ككبش فداء )) حين يستخدم المجتمع أى معرفة جديدة فى تحقيق غايات شريرة . ومن الأمثلة الكلاسكية فى هذا الصدد موضوع الهندسة النووية ، ومن الأمثلة الحديثة موضوع الهندسة الوراثية . والسؤال الآن :

هل لأن رئيسا أمريكيا (هو هارى ترومان) لم يستمع إلى تقارير علمائه بعدم استخدام ((السلاح الجديد)) – أى القنبلة الذرية – يلام العلم ؟ . إن حقائق تاريخ الحرب العالمية الثانية تذكر لنا أن العالم الأمريكى فرانك طلب من رئيس بلاده عدم استخدام السلاح قبل (( إجراء تجربة مسبقة له فى صحراء ما ، أو أى جزيرة قاحلة وفى حضور ممثلين لكل الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة )) ، كما طلب منه عدم استخدامه ضد اليابان خاصة قبل توجيه إنذار إليها إما ((بالتسليم)) أو ((بإخلاص بعض المناطق))  أضف إلى ذلك الالتماس – بل الاستعطاف – الذى كتبه تسيلارد ووقعه معه زهاء ستين عالماً فذا ووجهه إلى الرئيس ؛ ومع ذلك لم يستمع تورمان إلى أحد وضرب مدينتى هيروشيما ونجازاكى يومى السادس والتاسع من أغسطس 1945 منهياً بذلك أبشع حروب التاريخ الإنسانى ، ومفتتحاً أيضاً عصر الحروب النووية (ديكنسون ،1987 : 213- 214) .

هل يلام على هذه الجريمة البشعة جوليو كورى وأتوهان وفريتس شتراسمان لاكتشافاتهم ((العلمية)) الخاصة بالانشطار النووى؟ أم يقرع بور الذى وضع النموذج الأساسى لتركيب الذرة ؟ أم يعلن أينشتين الذى أتت نظريته النسبية الخاصة إلى استنتاج ((أخطر)) معادلة فى الفيزياء ((النظرية الحديثة)) وهى ط= ك ع2 ، أى أن الطاقة تساوى الكتلة مضروبة فى مربع سرعة الضوء ولم تكتشف أهميتها إلا بعد انقضاء ثلاثين عاماً على صياغتها ؟ أم توجه كل ألوان السباب إلى تشادويك الذى اكتشف النيوتورن؟ .

يبدو أننا دائماً إلى من نوجه اللوم ، ويستبدلونهم بأولئك الذين يهبون إبداعاتهم للإنسانية لتستثمرها فى كل ما هو خير ، فهذه هى القيمة الأخلاقية النهائية للعلم . وتسخير الطاقة النووية ذاتها فى الأغراض المدنية والسليمة فى عصرنا أوضح  الأمثلة على ذلك أيضاً ، ويصدق نفس القول على الهندسة الوراثية فى البيولوجيا وعلى نتائج البحوث السيكولوجية . وبدلاً من أن نلعن أولئك الذين أساءوا استخدام العلم من الساسة ورجال الصناعة والاقتصاد والحرب والمخابرات وغيرهم – :

نتوجه بسبابنا إلى العلم ذاته ، وإلى العلماء أنفسهم ، وفى هذا تشويه لصورة العلم بقدر ما فيه من تجنب لمواجهة الخطر الحقيقى وتصويب السهام إلى الأهداف الخاطئة .

(9 ) علم النفس الحديث هو علم نفس الإنسان الإبيض :

النقد الأخير فى هذه السلسلة من الانتقادات التى يوجهها الكتاب الإسلاميون إلى علم النفس هو أنه يختص بالإنسان ((الأبيض)) أكثر من غيره من الشعوب ، وأشد من نبه ذلك محمد رشاد خليل (1987) ، وفى ذلك يقول :

(( إن علم النفس الحديث فى الغرب هو نفس الرجل الأبيض ، وليس صحيحاً أنه كان كذلك فى أول الأمر بل إنه مازال كذلك . وهو علم نفس الرجل الأبيض ليس فقط لأن مجال دراسته كان مقتصراً على دراسة الإنسان الراشد ذى البشرة البيضاء ؛ بل لأن أهداف دراسته خدمة الرجل الأبيض )) .

ومن الطريف أن أول من تنبه إلى هذه الحالة كان علماء النفس أنفسهم . وبدأت تظهر فى السنوات الأخيرة ما يمكن أن يسمى ((الاهتمامات القومية)) فى علم النفس كما ظهرت فى غيره من العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع

(محمد عزت حجازى وآخرون ،1986 ) ، ولعل أشد النقاد للنموذج ((الغربى)) لهذه العلوم هم علماؤنا الذين ينتمون إلى

((العالم الثالث)) ، فقد كان السائد من قبل أن هذه العلوم جزء من عملية ((التنمية)) ، مع شيوع الاعتقاد بأن المسار الرئيسى لهذه العلملية هو ((التحديث على النسق بنقد هذا الرأى بالنسبة لعلم النفس)) وبإيجاز نقول : إن أقوى يمثل هذا الاتجاه هو ليرنر

حين أقام هذه الاستراتيجية فى التنمية على أساس افتراضين أساسيين هما :(learner,1969)

(أ) دول العالم الثالث (أو الدول النامية كما تسمى أحياناً) سوف تتبع فى التنمية نفس خطوات التحديث التى تعرض لها الغرب منذ القرن السادس عشر .

(ب) أن دول العلم الثالث سوف تمر بتغيرات اجتماعية ، يترتب عليه اكتساب الخصائص العامة للدولة المتقدمة (وهى بالطبع الدول الغربية ).

وقد تطلب ذلك عنده توافر شرطين رئيسين هما :

(أ) بناء مؤسسات على النسق الغربى فى جميع جوانب الحياة فى دول العالم الثالث ، سواء كانت مؤسسات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو تربوية ، بحيث تعد هذه المؤسسات المسيطرة – : هو الوسائل الجوهرية للتعلم من الغرب ، واقتفاء آثاره ؛ أما المؤسسات التقليدية فعليها أن تتلاشى أو تتعدل .

(ب) إعداد ((صفوة مستغربة)) تكون لها من القوة بحيث تتحكم فى المؤسسات المسيطرة فى دول العالم الثالث ، وخاصة فى السياسة والاقتصاد والعسكرية والتعليم .

ويمكن تدعيمها بالخبراء والمستشارين الأجانب .

وقد تعرضت – ولا تزال تتعرض – جميع دول العالم الثالث – ومنها الدول الإسلامية  – لهذا النمط من ((التنمية)) بصورة أو أخرى ، وكانت الحالة المتطرفة هى تركيا . ويصف لنا عالم النفس التركى فاساف ما حدث فى بلده بعد حوالى خمسين عاماً من ((التغريب)) بأنه لم يكون سوى تجربة فشل كاملة ، وكأن الأمر كله كان حلقة مفرغة ، وفى ذلك يقول :

((مع عزو مزيد من الأهمية للتغريب من أجل التنمية ، لم يحدث إلا أن كان زيادة فى التغريب أدت إلى مزيد من الاعتماد والتخلف )) .

وهذا التاريخ من الفشل شائع بدرجات مختلفة فى مختلف دول العالم الثالث ، وامتدت آثارة إلى العلم عامة ، وإلى العلوم الاجتماعية والإنسانية خاصة ، وإلى علم النفس على وجه أخص . وقد شخص المؤلف أعراض هذه الأزمة كما ظهرت على علم النفس فى مصر فى مواضع سابقة ووجدنا بينها وبين كثير من أحوال هذا العلم فى معظم دول العالم الثالث كثيراً المشابهات (فؤاد أبو حطب ، 1975) ، ويمكن أن نلخص هذه الأعراض فيما يلى :

(أ) علاقة الاستيراد – التصدير مع علم النفس فى الغرب : هى علاقة من جانب واحد ، فالغرب دائماً هو المصدر ، والعالم الثالث (ومنه العالم الإسلامى) هو دائماً المستورد .

(ب) الاعتماد المعرفى على الغرب : فمعظم ما ظهر فى الغرب فى مجال علم النفس من نظريات ونماذج وافتراضات ومناهج بحث وأدوات جمع معلومات (كالاختبا رات النفسية) ونتائج بحوث – : تم استيرادها حتى ولو كانت موضع شك فى موطنها الأصلى .

(ج) قطع الروابط بالتراث الثقافى للأمة بافتراض أن القديم هو من عوائق التقدم والتحديث .

(د) انتشار البدع الثقافية فى العلم :

فمعظم التراث الغربى المستورد لم يتم اختباره فى ضوء محك الصلة بالثقافة والحاجات القوية ؛ بل إن بعض ما تم استيراده لم يكن إلا محض بدع ثقافية عرضة .

(ع)  كف التفكير الإبداعى فى علم النفس : فالمطلع على معظم ما صدر من مؤلفات ، وما أجرى من بحوث فى علم النفس فى دول العالم الثالث – : لا يجد أثراً يذكر للإبداع العلمى فيها ؛ فمعظم بحوث الماجستير والدكتوراه ليست إلا محض تكرار لما أجراه علماء الغرب ، أو محض تطبيق لاختبارات نفسية ترجمت ترجمة ، وصفناها من قبل بأنها فى الأغلب ((حرفية أو محرفة)) عن أصولها الغربية (فؤاد أبو حطب ، وآخرون ، 1987) ، وتم ذلك كله على حساب المشكلات الجوهرية واللمحة التى تعانى منها المجتمعات النامية .

ناهيك عن ظواهر الادعاء والتزوير والتزييف والسرقة وغيرها من الأعراض المرضية التى ظهرت فى بعض ما أجرى من بحوث .

(و) فقدان الهوية الثقافية : يعانى معظم علماء النفس فى العالم الثالث – ومنه العالم الإسلامى – من ((الاغتراب)) عن بيئتهم وثقافتهم ، ودعم ذلك شعورهم بفقدان الهوية الثقافية .

(ز) فقدان الهوية المهنية : يعانى المتخصصون فى علم النفس فى العالم الثالث من فقدان الهوية المهنية ؛ فكثيراً ما يتم الخلط بينهم وبين الأخصائيين الاجتماعيين من ناحية ، وأطباء الأمراض العقلية من ناحية أخرى وكلاهما – مع خبرة أكاديمية محدودة للغاية فى علم النفس لا تتجاوز دراسة مقرر أو مقررين فيه – يمارسون مهام الأخصائى النفسى ، بل يصفون أنفسهم أحياناً – وخاصة الأطباء – بهذا الوصف . ناهيك عن عجز برنامج الإعداد الاحالى للأخصائى النفسى بالفعل .

وبهذا تتحدد ((الأزمة)) الحقيقية لعلم النفس فى العالمين العربى والإسلامى ،وهى أزمة صنعهاء علماء النفس العرب والمسلمون لأنفسهم بأنفسهم . وبالطبع لا يلام الغرب أن وجه علم النفس فيه لتحقيق مصالحه وإحراز أهدافه ؛ وإنما من يلام حقاً هم أبناء الأمة العربية والإسلامية من علماء النفس الذين وقعوا فى شرك ((التبعية العلمية)) عن وعى أو غير وعى ، وهيأوا بذلك كل الفرص للطعن فى العلم الذى ينتسبون إليه .

ردود الفعل ((الدفاعية)) لدى بعض

 علماء المسلمين

أشرنا فى مطلع هذا البحث إلى أن الانتقادات الإسلامية لعلم النفس الحديث أحدثت لدى فريق من علماء النفس المسلمين ردود فعل متفاوتة ، لعل أكثرها وضوحاً ما أسميناه ((الاستجابات الدفاعية)) ،والتى كانت فى معظمها أقرب إلى ((الحيل)) أو ((الميكانيزمات)) السيكولوجية  لحل مشكلة التنافر المعرفى لدى أصحابها . ونعرض فيما يلى للاتجاهات الرئيسية التى يمكن تجميعها تحت هذا العنوان مصنفة حسب الحيلة الدفاعية السائدة عند أصحابها .

(1) اتجاه الفصل :

وهو اتجاه لدى أغلبية علماء النفس المسلمين الذين يرفضون الانتقادات التى توجه إلى علم النفس من منطلق الفصل بين علم النفس باعتباره علما ، والإسلام باعتباره دينا مع احترام وتقدير شديد لكل منهما ، وعندهم أن العلم علم ، والدين دين ، فهما نسقان مستقلان لكل منظوره ونظرته ومنحاه .

ولهل هذه الفئة هى تلك التى أشار إليها مالك بدرى (1987) بأنها فئة الرافضين لأسلمة علم النفس ، وفى نفس الوقت هم ((من المؤمنين الملتزمين بالإسلام .. يؤدى الكثيرون منهم فرائض الإسلام ويجتنبون كبائر ما ينهون عنه ، بل إن بعضهم ربما كان أكثر عبادة وإخلاصا من بعض أولئك الداعين للأسلمة والتأصيل الإسلامى لعلم النفس )) (3) .

 

ويلجأ إليها المرء الذى يواجه التنافر المعرفى بالإبقاءCompartmentalizationالحيلة المستخدمة هنا ما يسمى ((الفصل))

على الجوانب المتنافرة منفصلة ، ومستقلة بعضها عن بعض تجنباً للصراع بينهما . ويمكن أن نفسر استخدام هذا

((الميكانيزم الدفاعى)) لدى هذا الفريق من علماء النفس المسلمين (وهم الأغلبية الساحقة) بالأسباب الآتية  :

(أ) بناء الهوية العلمية والمهنية على أساس دراسة وتدريس وبحث وممارسة علم النفس بصورته الراهنة ،كما صنعها وطورها الغرب .

(ب) إدراك علم النفس الحديث على أنه نتاج الغرب المتقدم حضارياً وثقافياً ، والتفوق الحضارى – عند هؤلاء – لابد له أن يكون شاملاً لمختلف جوانب الحياة ومنها العلم .

(ج) الاعتقاد بأن التفوق الحضارى الغربى فى مجال العلوم الطبيعية والبيولوجية ، وفى الاختراعات التكنولوجية صاحبه بالضرورة تقدم فى العلوم الإنسانية والاجتماعية (ومنها علم النفس) .

(د) العلم – سواء أكان علماً طبيعياً أو اجتماعياً إنسانياً – ذو طبيعة محايدة ثقافياً ، وبالتالى يمكن الاستفادة من التقدم الحضارى للغرب باستيراد صفقة العلم كاملة منه .

وهذا الاتجاه الذى يتجاهل ما فى العلم من ((تحيز ثقافى)) لا يتفق مع الصورة التى تقدمها الدراسات والمسوح التى أجراها علماء النفس فى الغرب أنفسهم حول مسيرة هذا العلم ، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية . ويقدم لنا موجزاَ لما حدث كما يلى :

(( إن طبيعة علم النفس وميدانه ونموه وتطوره فى العالم خلال السنوات الأربعين الماضية ( 1945- 1985) تعكس جميعاً الظروف ، والأحداث السياسية ، والاقتصادية العظمى التى وقعت خلال هذه الفترة … دمار أوربا وانهيارها ، وصعود الولايات المتحدة كأمة مسيطرة على العالم اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً ، ثم ثقافياً ، التوتر الذى أحدثته الحرب الباردة ، التهديد بالحرب النووية ، إعادة إحياء أوربا الغربية (بفضل مشروع مارشال) ، إعادة بناء الاتحاد السوفيتى وتماسك الكتلة الشيوعية ، تحرير المستعمرات وخاصة فى أفريقيا والهند ، بناء إسرائيل وما أدى إليه من توتر وصراع فى منطقة الشرق الأوسط ، ظهور الصراعات الإقليمية وخاصة فى كوريا وفيتنام وأفغانستان وأمريكا الوسطى ، زيادة الشعور بحاجات دول العالم الثالث ، ونواحى القوى فيها ، تحول الصين إلى الشيوعية وانتشار الأيديولوجية الماركسية – اللينية فى عدد أقطار العالم ، النمو السكانى زيادة الثروات الاقتصادية لبضعة أقطار محدودة العدد ، ارتفاع وهبوط أسعار النفط ، النمو المذهل للعملاق الصناعى فى اليابان ، الثورة الألكترونية وما جاءت به خاصة التلفيزيون والكمبيوتر ، الانفجار المعرفى والمعلوماتى ، نمو الطيران المدنى كوسيلة انتقال ، شيوع اللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة الأساسية للعلم والثقافة )) .

وقد أدت هذه العوامل التى لخصها هذان المؤلفان باقتدار إلى ظهور مجموعة من التغيرات على المسرح العالمى لعلم النفس المعاصر ، لعل أهمها التنبه إلى ((الطابع الثقافى)) ثم ((الأيديولوجى)) للعلم ، وبخاصة العلوم ذات الطبيعة الاجتماعية والإنسانية ، ومنها علم النفس . فسيطرة علم النفس الأمريكى على المسرح – بعد انهيار أوربا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية – لم يكن بلا عائد ((ثقافى)) وثمن ((أيديولوجى)) وتمثل العائد الثقافى أولاً قبل كل شئ فى سيطرة اللغة الإنجليزية على العالم كلغة للبحث

السيكولوجى ، والتكنولوجيا النفسية (فى مجالات الاختبارات والعلاج والتربية والصناعة والإدارة ) . أما الثمن ((الأيدولوجين)) فكان أغلى بكثير ،ابتداء من سيطرة ((الصيغ)) النظرية الأمريكية ، كالسلوكية ؛ أو المتأمركة ، كالتحليل النفسى والجشطالت بعد هجرتهما إلى الولايات المتحدة ، وحتى سيادة النمط الأمريكى فى البحث والتفكير والسلوك والحياة .

وقد ظهر الوعى بهذه الخاصية ((الثقافية – الأيديولوجية)) للعلم عامة خفيا فى معظم ما يكتبه فلاسفة ومؤرخو العلم المعاصرون ، كما ظهر الوعى بها صريحاً فى علم النفس مع التوجه الأوربى الحديث نحو الوحدة . لقد أصبح علماء النفس الأوربيون يتحدثون كثيراً عن علم النفس الأوربى ، ومن قبلهم ركز علماء النفس فى الكتلة الشيوعية على علم النفس الماركسى ، ومع ظهور اليابان كقوة عظمى بدأ علماء النفس فيها يتوجهون نحو ((التأصيل اليابانى لعلم النفس)) .

ثم انتقلت العدوى إلى العالم الثالث أو الدول النامية . وكانت أكثر دول هذا العالم حماساً للبحث عن الجذور الثقافية والأيديولوجية لعلم النفس فيها هى الهند . فهل تبقى بعد ذلك أية ذريعة للقائلين فى عالمنا الإسلامى بالحياد الثقافى والأيديولوجى لعلم النفس إلا أن يكون ما يصدر عنهم هو نوع من الحيلة الدفاعية التى قد تحقق ((تكيفاً زائفاً)) على المدى القصير بينما أثرها المؤجل على المدى الطويل قد يكون مدمراً للجميع .

(2) اتجاه الرفض :

ظهر هذا الاتجاه الدفاعى (الميكانيزم النفسى) لدى أقلية قليلة من علماء النفس فى العالمين العربى والإسلامى ، ويتمثل فى أولئك الذين يرفضون الانتقادات التى يوجهها الكتاب الإسلاميون إلى علم النفس ولكن من منطلق مختلف . صحيح أن لديهم وجوب الفصل بين العلم والإسلام ، إلا أنهم فى نفس الوقت يقدرون أحدها (وهو العلم) ويحقرون الآخر (وهو الإسلام) ؛ ولذلك فهم يلجأون إلى الرفض الذى هو فى جوهره مزيج من حيلتى الإمكار والخلفة ، واللتان تظهران لدى من يعانون التنافر المرفى ويلجأون إلى حله بالجوء إلى التمسك بأحد طرفى الصراع .

ويقود هذا الفريق فى أغلب الحالات ذوو الاتجاهات الماركسية . ومن الغريب أنهم فى الوقت الذين يرفضون ((الأسلمة)) فإنهم يقبلون ((الأسلمة)) – نسبة إلى الأيدولوجية – من أى مصدر آخر غير الإسلام ، مع محاولة منظمة لتشويه الصورة الحقيقية للإسلام ، وبالطبع فإن الأيديولوجية الأثيرة لديهم هى الماركسية .

ولكى نوضح معالم علم النفس السوفيتى الذى يعتبره أصحاب هذا الاتجاه نموذجهم نعرض مبادئه الأساسية ، كما تناولها أحد

(lomov,1987)قادته المعاصرين وهو بوريس لوموف

(أ) مبدأ الحتمية : فمبدأ الحتمية عندهم هو أساس كل معرفة علمية ، وعلم النفس لم يتخذ هذه الصفة إلا بعد أن تخلى عن التصور الشائع لظواهره بأنها مستقلة عن القوانين ((الموضوعية)) ، أو ليست بذات صلة بالعالم المادى . ولا يقصد بالحتمية هنا معناها الميكانيكى ((الذى يتحدد فى صورة علاقة مباشرة وخطية وبسيطة وصارمة بين السبب والأثر)) ؛فهذه العلاقة – وخاصة فى السلوك الإنسانى – تتضمن مجموعة معقدة من الديناميات ، وحسب المبدأ ((الجدلى)) فإن أطراف هذه العلاقة يمكن أن يحل كل منهما محل الآخر ، فالسبب قد يصبح أثراً ، والأثر سبباً ، كما أن السبب والأثر قد تفصل بينهما مسافات زمنية ، تطول وتقتصر ، ثم إن السبب يتسم بأنه تراكمى ، وعنى ذلك أن الأثر قد يكون نتاج عدد كبير من العوامل والأحداث السابقة التى تؤلف ((تاريخ)) الظاهرة النفسية موضع الاهتمام . ناهيك عن أن السلوك الإنسانى – خاصة – يتسم بأنه ذاتى التحديد

، بمعنى أن الإنسان حين ينشط ذهنياً أو بدنياً فإنه يغير فى البيئة من حوله وبالتالى فى محددات سلوكه . Self- determined

وعلى هذا فعند تناول مبدأ الحتمية يجب مراعاة الكثير من العوامل الداخلية والخارجية ونسق الروابط المعقدة بينها .

(ب) مبدأ الانعكاس : يرى علماء النفس السوفيت أن الظاهرة النفسية عبارة عن مستويات أو أنماط مختلفة من الانعكاس الذاتى للحقيقة الموضوعية . وهم بذلك يرفضون ثلاثة حلول قدمت لمسألة الاعلاقة بين المادة والعقل أشرنا إليها فيما سبق ،

وهى : اعتبار العقل جوهراً مستقلاً ، أو اعتباره حالة خاصة من المادة وهى فى حالة حركة ، أو التوحيد بينه وبين العالم المادى أما موقفهم فهو اعتبار العقل خاصية من خصائص المادة ، وهى فى حالة حركة ، وليس محض جوهر مستقل ، أو محض

، وتظهر فى صور الحياةSubjective reflection  الحركة  . وتظهر هذه الخاصية فى صور مختلفة من ((الانعكاس الذاتى))

فى مرحلة معينة من مراحل ((التطور البيولوجى)) . ويعترف علماء النفس السوفيت بأنهم يجهلون – حتى الآن – الشروط اللازمة لهذا الانعكاس لكى يتطور ، أو لتحول المادة ((غير الحساسة)) إلى مادة ((حساسة)) ، ويعد ذلك من الأمور الجوهرية والمعقدة عند نقطة المنشأ للحياة ذاتها .

وإذا كان الانعكاس فى حد ذاته هو دالة الحركة والتفاعل بين الأجسام المادية ، فإن الانعكاس الذاتى خاصية الكائنات العضوية الحية فقط ؛فهذه الكائنات فى حاجة دائمة لتوجه نفسها على نحو يساعد على التكيف مع المحيط ، ولحدوث ذلك لا يمكن للأمر أن يكون محض انعكاس سلبى لهذه التغيرات البيئية (كما هو الحال فى الأجسام المادية ) ، أى على نحو أشبه بانعكاس الصورة فى المرآة ، وإنما يجب للأنعكاس أن يتجاوز هذه التغيرات ؛ وعلى ذلك فإن الانعكاس الذاتى هو عملية إيجابية يتم فيها انتقاء المعلومات وتحويلها وتخزينها .

وبالإضافة إلى ذلك فإن الانعكاس الذاتى موجه إلى الأمام ، فكل لحظة فيه تتضمن معلومات عن الحاضر والماضى وترتبط – على نحو أو آخر – بالمستقبل .

ويتخذ الانعكاس الذاتى صوراً شتى فى مجال الدراسة النفسية ، فقد يدل أولاً على العلاقة بين عملية الانعكاس والأشياء موضوع الانعكاس ، وهذا هو الجانب السيكوفيزيائى للموضوع . وقد يدل ثانياً على العلاقة بين الانعكاس وحامله (وهو المخ) ، وهذا هو الجانب السيكوفسيولوجى . أما العلاقة بين عملية الانعكاس والسلوك فتدل ثالثاً على الطريقة التى يوجد بها الانعكاس فى سلوك الإنسان وغيره من الكائنات الحية .

(ج) مبدأ المادية التاريخية (النمو) :

يرى علماء النس السوفيت أن أى ظاهرة لا يمكن فهمها إلا فى سياق نمائى .

للعقل فى الجنس البشرى ، والجانب الارتقائى Phylogenetic ويستخدم المنحنى النمائى عندهم فى دراسة كل جانب النشوئى

للنمو العقلى عند الأفراد . ثم إن هذا المنحنى أيضاً يوجه البحوث السيكولوجية التى تجرى عندهم حول أى ontogenetic

ظاهرة نفسية معينة كالإدراك أو التعلم .

والنمو النفسى – عندهم – ليس محض تغيرات كمية – كزيادة سعة الذاكرة مثلاً . وإنما يهتم أيضاً بالتغيرات الكيفية التى تحدث خلاله . ولعل أهم التغيرات الكيفية من الوجهة النشوئية ما حدث عند ((تكوين)) الجنس البشرى ، والمجتمع الإنسانى ؛ فخلال العملية ((التطورية)) تحدد ((تكوين)) العقل الحيوانى بالعوامل البيولوجية ويمكن تفسيره بالقوانين البيولوجية ويمكن تفسيره بالقوانين البيولوجية ، أما تكوين العقل الإنسانى فقد لعبت فيه العوامل والقوانين الاجتماعية الدور الحاسم ؛ لقد قام العمل الإنسانى بتحويل الطبيعة ، ونشأت العلاقة الاجتماعية ، وظهرت اللغة ، وقد تطلب ذلك كله تطور ظواهر نفسية جديدة كالتكفير والتصور ، والتنظيم الإدارى للسلوك وغيرها . وهكذا يتحدد جوهر الإنسان بالعلاقات الاجتماعية المعقدة التى ينسجها البشر أنفسهم ؛ وذلك لا ينفى بالطبع أثر القوانين البيولوجية فى السلوك الإنسانى ، إلا أن التحكم فيها يتم بالقوانين الاجتماعية التاريخية ؛ فالإنسان ابن التاريخ وصناعته .

(د) مبدأ المادية الجدلية : النمو النفسى (المحكوم بالمادية التاريخية) كما بينا هو أيضاً عملية صراع بين المتناقضات والأضداد ففى كل مرحلة للنمو يوجد دائماً الصراع بين الدوافع والأهداف ، وداخل الصور والمستويات المختلفة للانعكاس . وسيادة الموقف التناقضى أو تلك المجموعة من الديناميات فى مرحلة معينة يمثل المفهوم الماركسى للأطروحة ، والذى يؤدى بالضرورة إلى محاولة حل الصراع والوصول إلى نقيض الأطروحة ، والذى يعد مرحلة انتقالية إلى مرحلة جديدة من التركيب

، والذى يكون مختلفاً كيفياً عن المكونين السابقين . وبهذه الطريقة يرى علماء النفس السوفيت أن قوانين النمو  sunthesis

الإنسانى تظهر بطريقة خاصة لكل فرد . ومعنى ذلك أن تكوين الشخصية الإنسانية عندهم هو عملية فريدة لكل شخص على الرغم من أنه يتبع بعض المبادئ العامة .

والسؤال هنا : ما هى العلاقة بين العام والخاص ؟ وتأتى أخرى ، فعندهم أن العام لا يوجد منفصلاً عن الخاص ، وفى نفس الوقت فإنه فى أى حالة خاصة يوجد دائماً ما هو عام ، وما هو مميز لها . وعلى هذا تصبح أهداف علم النفس عندهم ذات شقين:

أولهما : تحديد الخصائص والقوانين العامة التى تستمد من العمليات والظواهر والأفعال الفريدة . وبعبارة أخرى يجب الانتقال دائماً من العيانى والمحسوس إلى المجرد .

  وثانيهما : اختبار التجريدات من خلال محاولة التنبؤ بمواقف خاصة ، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة صعبة إلا أنها جوهرية ، وخاصة عند محاولة استخدام المعرفة ، والقوانين النفسية فى المواقف العلمية التطبيقية .

والمدقق فى خصائص علم النفس السوفيتى يجد أنها مركبة من عناصر شتى :

((العقيدة)) الماركسية اللينة – والتى عرضت لعدة تغيرات على يد ستالين ثم خرشوف ، ثم على يد جورباتشوف فى الوقت الحاضر .

لعلم النفس السوفيتى تختلف عن تلك التى سادت فى الغرب .Papadigmوتمثل الأفكار التى عرضناها ((وجهة))

وتأثير وانبساطية .

(ب) التعامل مع الأشخاص الآخرين على أنهم أشياء أو موضوعات ، لا أشخاص (فقدان التعاطف والمشاركة الوجدانية)

(ج) الميل إلى العيش فى اللحظة الراهنة ، وإشباع الدوافع المباشرة ، والرغبة فى الحصول على اللذة الفورية وتفضيل الأهداف العاجلة .

ولذلك تصدر عن الشخص السيكوباتى أعمال قد تضر بالآخرين ، أو تسئ إليهم ، ومع ذلك لا يشعر بالندم أو الخجل أو الذنب ، بل قد ينسى نتائج فعله .

وحين يضبط متلبساً بالقيام بعمل غير مشروع لا يشعر بالحياء أو الدهشة .

وحين يعاقب على سلوك مضاد للقيم الاجتماعية فإنه لا يخاف العقاب ، ولا يتعلم منه أن يحجم عن هذا السلوك بل إنه يكرره ويعاوده .

هؤلاء السيكوباتيين بأن بعضهم قد ينتهى به الأمر إلى الإيداع( scholling ,1978)وتصف بعض الدراسات الأكثر حداثة

فى مستشفيات الأمراض العقلية ، وبعضهم الآخر يمكنه الاستمرار فى القيام بوظائفه الاجتماعية العادية على الرغم مما يسببه للآخرين من إيذاء وإيلام ، إلا أن أغلبهم قد ينتهى به الأمر إلى السجون والمؤسسات العفابية بسبب جرائمهم . وفى جميع الحالات يحتاج الاضطراب السيكوباتى إلى خبرة كلينكية عميقة للتمييز بينه كمرض عقلى (ذهان) وبين الإجرام العادى .

ونحن نفترض بالطبع أن أصحاب هذه الحيلة الدفاعية يستخدمونها عن غير علم أو غير وعى ؛ لأنها لو كانت تتم بعلم ووعى لكان ما يصدر عنهم نوعاً من الكارثة التى تدخل أصحابها فى باب التلفيق العلمى .

فإذا كانت من غير وعى تكون هذه لحيلة (الشويه) فقد اندمجت مع تلك الحياة النفسية ، التى يسميها فستنجر

وقف(hardyck&kardush,1968) ، أو تلك التى يسميهاSelective forgetting((النسيان الانتقائى))(festinger,1975)

، وفيما ينسى المرء أو يتجاهل – لا شعوريا – العناصر التى قد تزيد عنده حالة التنافر المعرفى Stopping thinkingالتفكير

لديه تبدو أكثر توافقاً وانسجاماً ، ولو ذلك تشويهاً صنعه عالم الوهم .

(4) اتجاه التوحد بالنقاد :

يلجأ بعض علماء النفس فى موافقتهم ((الدفاعية)) إلى حيلة سيكولوجية شائعة أيضاً هى التقميص أو التوحد

، وتتخذ هذه الحيلة هنا صورة خاصة هى التوحد بالمتعدى بافتراض أن الهجوم الموجه إلى علم النفس من indentification

جانب نقاده الإسلاميين فيه من الحدة والشدة ما يجعل معظمه من قبيل ((العدوان)) على هذا العلم وعلى المتخصصين فيه .

وفى حيلة التوحد بالنقاد هذه تبنى هذا الفريق من علماء النفس المسلمين مواقف هؤلاء النقاد وأفكارهم ، بل ولجأوا إلى استخدام نفس منطقهم وطريقتهم فى التفكير ؛ فإذا كان النقاد الإسلاميون لعلم النفس قد رفضوا علم النفس الحديث جملة وتفصيلاً – كما بيننا فى القسم الأول من هذا البحث – :

فإن متقمصيهم والمتوحدين معهم من علماء النفس المسلمين وقفوا هم أنفسهم من علماء نفس الموقف ، وتمثل ذلك خاصة فى مواقف ثلاثة سوف نتناولها بالتحليل والمناقشة فيما يلى :

(أ) السخرية من علم النفس عند الإشارة إليه فى أى سياق ، واعتباره نتاج الحضارة الغربية الحديثة ، وبالتالى يجب رفضه من بين ما نرفضه منها . والرد على هذا الموقف سيأتى تفصيلاً فيما بعد حين نعرض للأسس الأبستمولوجية للعلم فى الإطار الإسلامى . وحسبنا أن نشير هنا إلى أنه إذا كانت أهداف العلم فى الإطار الإسلامى – كما سوف نحددها – هى :

السعى للتعرف على آيات الله سبحانه وتعالى التى هى علامات قدرته فى خلقه ، والكشف عن سننه فى مخلوقاته ؛ فقد حاول الإنسان ذلك فى مختلف العصور مستخدماً ما زوده الله به من نعم ، وخاصة الحواس والعقل ، وقد بذل الإنسان الحديث نفس المحاولة ، مستخدماً الأسلوب العلمى وأدوات البحث الأكثر دقة .

والمهمتان اللتان يحددهما الإسلام للعلم (التعرف على آيات الله والكشف عن سننه ) تشمل العلوم الطبيعية والإنسانية جميعاً ؛ فالقرآن الكريم يجمع آيات النفس والآفاق والأرض فى سياق واحد ، يقول الله تعالى :

{سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق }[فصلت : 35] .

{وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون }[الذاريات :20 ، 21] .

ويتبن لنا من هذا التوجيه القرآنى – والله أعلم – أن أسلوب التعرف والكشف والبصر والتبين فى الحالتين واحد ، وهو بالطبع الأسلوبى العلمى فى عصرنا . وهذا هو المنظور الحقيقى الذى يجب أن ننظر من خلاله إلى نتائج العلم سواء أجريت بحوثه فى الشرق أو الغرب . وبهذا التصور الصحيح لمغزى المنهج العلمى فى علم النفس وغيره من مجالات المعرفة – : يمكن أن تتوقف تلك الصيحات العاتية التى تطالب بالتوقف عن الاهتمام بعلم النفس الحديث ، وقد تمتد إلى غيره من فروع العلم ؛ لأنه من نتاج معامل الغرب وجامعته . وهى دعوة فى رأينا الجهل والتخلف . ناهيك عن أنها ضد روح الإسلام العظيم الذى دعا رسوله الكريم إلى طلب العلم أنى كان ؛ يقول عليه الصلاة والسلام : ((الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها )) ، كما يقول أيضاً : ((اطلبوا العلم ولو فى الصين )) ، وكانت أقصى حدود العالم المعروفة وقتئذ .

(ب) اعتبار كل ما توصل إليه علم النفس الحديث – شأنه فى ذلك فى ذلك شأن غيره من العلوم – سبق إليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة . وقد نبه إلى حدوث ما يشبه هذا فى مجال العلوم الطبيعية والبيولوجية أحد روادنا من العلماء المسلمين المعاصرين (عبد الحافظ حلمى ، 1982) حيث يركز الكثيرون ممن يكتبون حديثاً حول ((الإعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة النبوية)) على أنهما سبقا العلم الحديث بمئات من السنين .

وهذا الحرص الشديد على وضع القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فى سباق مع العلوم الحديثة إنما هو منزلق خطير ، ينبه إليه (عبد الحافظ حلمى ، 1982) بقوله :

((إنه غالباً ما يكون قولاً جزافاً غير مستند إلى أى أساس علمى أو تاريخى فالأمر موضع التأويل لا يعدو فى الغالب أن يكون إشارة لطيفة فى القرآن الكريم لظاهرة كونيى طبيعية – هذا إذا صح تخريج المؤول لمعناها – وليس من الصواب فى شئ الزج بتلك الإشارة الكريمة إلى تحميلها فوق كل ما تحتمله ، ووضعها موضع التسابق مع أى مبحث علمى … فمن العبث أن نعقد سباقاً لا محل له ، ولا معنى بين كتاب الله – تنزهت كلماته – وبين علوم البشر .

فهى حتى وإن بلغت فى هذا الزمان شأوا عظيماً ليست إلا لمحات من علم الله الشامل الكامل )) .

(ج) ((تقديس)) تراث العلماء المسلمين ، واعتبار كل ما صدر عنهم أفضل وأسبق من أى إنجاز سيكولوجى حديث .

فابن الجوزى مثلاً – فى كتابه الأذكياء – أفضل وأسبق – عند أصحاب هذا الاتجاه – من جميع علماء النفس المعاصرين الذين اهتموا بقياس الذكاء والقدرات العقلية .

وهذه المبالغة فى تقدير كل ما صدر عن تراث العلماء المسلمين – : لو أدركها أصحاب هذا التراث العظيم أنفسهم لأنكروها ؛ لقد كان رواد المنهج العقلى منهم علة علم بحدود استدلال العقل ، كما كان أصحاب المنهج التجريبى منهم أيضاً أعلم بحدود الملاحظة والتجربة ؛ ولهذا لا يمكن لأحد منهم أن يدعى – كما زعم من جاء بعدهم من شراحهم – أنه جمع علم الأولين والآخرين ، يصدق هذا على جابر بن حيان ، والخوارزمى ، والجاحظ ، وثابت بن قرة ، والتبانى ، وأبى بكر الرازى ، وأبى الوفاء البوزجانى ، وابن الهيثم ، البيرونى ، والشريف الإدريسى ، وابن النفيس ، وابن البيطار ، وابن خلدون ، وغيرهم ممن استخدموا المنهج التجريبى – : صدقه على الكندى ، والفارابى ، وابن سينا ، وابن حزم الأندلسى ، والغزالى ، وابن باجه ، وابن طفيل ، وابن رشد ، وغيرهم ممن استخدموا المنهج العقلى .

ولهذا فإنه من قبيل العبث بالعقل المسلم الحديث أن يدعى بعض أصحاب اتجاه التوحيد بالنقاد بأن بعض ما قرأوه – قراءة متعجلة أحيانا – من كتب هؤلاء الأعلام سبق نتائج البحوث الحديثة ، وهو قول أقرب إلى الجهل – إذا توافر لديهم سوء المقصد ، ومن سوء الفهم للتراث الذى يشيرون إليه ، والعجز عن فهم طبيعة العلم الذى يدعون الانتساب إليه .

والمنهج العلمى الذى تستخدمه العلوم الإنسانية ومنها علم النفس فى العصر الحديث – والذى لا يتعارض مع طبيعة المعرفة فى الإسلام كما أشرنا إجمالاً من قبل ، وكما سنشير تفصيلاً فيما بعد – لم يكن معروفاً قبل القرن التاسع عشر . وكان الشائع قبل ذلك التوحيد بين آراء الفلاسفة والمفكرين وحقائق السلوك الإنسانى .

وبالطبع لم يكن قد توافر فى ذلك الوقت أسلوب يضع هذه الآراء البشرية موضع الاختبار ، ( ناهيك عن أن بعضها وضع موضع التقديس لقرون عديدة ، ومنها آراء أرسطو ) ، وكانت المواقف إزاءها إما ((القبول)) ، أو ((الرفض)) على أساس الجدل العقلى المحض أو الاندماج الانفعالى والوجدانى الكامل دون مراعاه ((لحقائق)) السلوك الإنسانى بالفعل ، كما يلاحظ عندما يصدر عن البشر كأجنة وأطفال ومراهقين وراشدين وكهول وشيوخ (آمال صادق ، فؤاد أبو حطب ، 1987) .

وهذا القول يجب ألا يفهم على غير وجهه . فهو لا يقلل أبداً من شأن عبقرية العلماء والمفكرين الذين نشأوا فى رحاب الحضارة الإسلامية . فالعلم الحديث يدين لهم ، كما يدين لغيرهم من مفكرى الإنسانية بالفضل العظيم . ومهمتنا كعلماء نفس مسلمين أن نعيد كتابة ((تاريخ علم النفس)) – كما نعيد كتابة تاريخ العلم عامة ، لنضع إسهامات مفكرينا فى سياقها التاريخى الصحيح . إلا أننا يجب أن نكون دائماً على درجة كافية من اليقظة عند النظر إلى هذه الآراء السابقة على ظهور المنهج العلمى الحديث – سواء عندهم أو عند غيرهم من مفكرى الحضارة الإنسانية ، فهى تظل فى أحسن حالاتها ((تخمينات جديدة)) أو ((فروضاً)) تنتظر الاختبار ، وبهذا وحده يمكن فرز ((الجيد)) من ((الردئ))

فيها ، حتى نتجنب مزالق التضمينات النظرية والتطبيقات العلمية للأفكار ((السيئة)) ، أى التى لا يوجد دليل يؤكد صحتها ؛ وبهذا يصبح العلم قيمة فى ذاته يحمى المجتمع العلمى – والمجتمع بصفة عامة – من الاستدلال المعيب والتفكير الملتوى . وعلينا أن نتذكر دائماً أنه لا توجد فى وقتنا الحاضر سلطة بشرية تفوق الدليل العلمى . وعلينا دائماً أن نقبل الأفكار أو نرفضها فى ضوء هذه الأدلة والشواهد وليس على أساس مكانة صاحب الفكرة . بل على الباحث العلمى أن يكون مستعداً هو نفسه للتخلى عن فكرته إذا لم يتوافر لديه دليل يؤكد صحتها .

 

(5) الاتجاه الإسقاطى :

لعل هذا الاتجاه ينطبق عليه كل ما أشار إليه مالك بدرى (1987) من أنه يمثل ((التوفيقية بين الإسلام وعلم النفس )) إلا أننا نرى أن

يتفق مع تناولنا الراهن ، وخاصة أن التوفيقية ، ومنها التلفيقية ، قد تظهر بصورة أو أخرى فى Projectiveوصفه ((بالاتجاه الإسقاطى))

جميع الاتجاهات السابقة .

ويورد مالك بدرى (1987) مثالاً على ذلك الاتجاه من كتابات أحد السيكولوجيين العرب المعاصرين (عزت الطويل ، 1977) التى حاول فيها الربط بين القرآن الكريم ونظرية التحليل النفسى لسيجموند فرويد ، ومن ذلك أن يعتبر أن اللاشعور – وربما يقصد الهو على وجه الخصوص – عند فرويد مقابلاً للمفهوم القرآنى ((النفس الأمارة بالسوء)) ، والشعور – وربما يقصد أيضاً المفهوم الفرويدى الأنا –

فى القرآن  فى القرآن الكريم . أما مفهوم الأنا العليا عند فرويد فهو عنده يقابل مفهوم ((النفس اللوامة))  هو ((النفس المطمئنة))ego

الكريم .

أسلوب إسقاطى – دون شك – لجأ إليه أصحاب هذا الاتجاه يقرأون من خلاله القرآن الكريم على نحو يتفق مع وجهتهم المعرفية ، وبطريقة توفر لهم حلاً لتنافرهم المعرفى . وقد لجأ آخرون إلى قرآة السنة النبوية المطهرة ، وقراءة تراث العلماء والفلاسفة المسلمين بنفس الطريقة إلى الحد الذى دفع مؤلف هذا البحث إلى أن يطلق على هذا الاتجاه ((الترجمة الفورية)) للمفاهيم النفسية فى الإطار الإسلامى (فؤاد أبو حطب ، 1978) .

فها هى مفاهيم الذكاء والصحة النفسية والتوافق وغيرها سبق إليها العلماء والفلاسفة المسلمون قبل أندادهم من علماء النفس المعاصرين بعدة قرون ، وما علينا إلا نعيد قراءتها لنريح ونستريح . ولعل أوضح ما يؤكد هذا الاتجاه ما نقله مالك بدرى (1987) عن المؤلف السابق قوله ((ليس هناك تعارض إذن بين القرآن ،وعلم النفس فى نظرية كل منهما إلى النفس البشرية (عزت الطويل ،1977، ص 10) .

وبهذا تستريح جميع الأطراف .

وقد ناقش مالك بدرى (1987 :35- 37) هذه الحالة الخاصة مناقشة مفصلة أوضح فيها لعل وجه الخصوص الفوارق الجوهرية بين النفس المطمئنة كما وردت فى القرآن الكريم باعتبارها حالة نادرة للنفس عند خاصة المؤمنين ، وبين مفهوم الأنا عند فرويد الذى هو الحالة الشائعة عند معظم الناس فى توافقهم ((المساوم)) مع عالم الواقع ، وكذلك تلك الفوارق بين المفهوم القرآنى للنفس اللوامة ، التى هى حالة للنفس تشعر صاحبها بالتقصير المستمر فى حق الله تعالى ، وبين المفهوم الفرويدى للأنا الأعلى ، الذى هو فى جوهره امتصاص للمعايير الاجتماعية والثقافية السائدة ، والتى قد تكون منحرفة بالطبع . وندرة حالة النفس المطمئنة تأتى من أنها ((حالة الأنبياء والصديقينمن عباد الله ، وهى حالة تكون النفس فيها مطمئنة بالله تؤمن بلقائه ، وترضى بقضائه ، وتقنع بعطائه ، وهذا دعاء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء فى حديث أبى أمامة الذى رواه الحافظ ابن عساكر بسنده )) (محمد رشاد خليل ، 1987: 74) . وهى حالة لا يمكن الوصول إليها إلا بالمجاهدة .

أما حالة النفس اللوامة فيصنفها محمد رشاد خليل (1987 : 73) إلى نوعين :

أولاهما حالة لوم المؤمن التقى ، ويكون اللوم عنده لوم على التقصير فى الطاعة والغفلة عن الذكر والإقدام على المعاصى .

أما الحالة الثانية فهى لوم الفاجر الغافل ويكون على التقصير فى طلب الدنيا وانتهاز الفرص وفوات الحظوظ والأهواء وهى الحالة الشائعة والتى تسبب لأصحابها القلق والكآبة والتوتر .

وقياساً على ذلك نشير إلى أن حالة النفس الأمارة بالسوء أكثر شيوعاً من الحالتين السابقتين . ومن هنا تكمن الفوارق الجوهرية بين المفهوم القرآنى عند النفس الأمارة بالسوء والمفهوم الفرويدى عن الهو . فالوصف القرآنى لهذه الحالة من حالات النفس يتضمن حكماً بالسوء على أن تزينه هذه النفس للإنسان من ((حب للشهوات)) ؛ ومن هنا نشأت ضرورة ((الضوابط)) التى تتحكم فى سلوك الإنسان ، وتوجهه الوجهة المشروعة الصحيحة ، وأهمها فى الإسلام ضوابط الحلال والحرام . ومن تفاعل الشهوات (الدوافع) والضوابط ينشأ السلوك الخلقى (فؤاد أبو حطب ، 1972) . أما الهو عند فرويد مستودع للشهوات ، وخاصة شهوة الجنس التى تعد بما فيها طاقة القوة الدافعة لنمو الشخصية ، ومنها يستمد الأنا والأنا الأعلى الطاقة اللازمة لنشاطهما ، ناهيك عن التركيز الشديد على خطر الكبت الذى قد ينشأ بالطبع عن أثر الضوابط .

والخطأ الفادح الذى يقع فيه أصحاب هذا الاتجاه أنهم لا يدركون الفروق الجوهرية بين مختلف الوجهات

فى علم النفس ، وهى القضية الرئيسية التى يقوم عليها بحثنا الحالى .paradigims

(6) اتجاه المسايرة :

يوجد اتجاه توفيقى آخر إلا أنه أشد خطراً من الاتجاه الإسقاطى السابق ويتمثل فى أولئك الذين يصفهم مالك بدرى (1987) بأنهم

((يكتبون أبحاثهم على أساس مبادئ علم النفس الحديث ونظرياته وممارسته ثم يبحثون بعد ذلك عن الآيات القرآنية والأحاديث التى لهل أدنى صلة سطحية بموضوعاتهم فينثرونها فى البحث هنا وهناك ، ثم يقدمونه على أنه تأصيل إسلامى لعلم النفس)) .

، وهى حيلة نفسية لجأ إليها أصحاب التنافر المعرفىConformityوهذا الاتجاه نرى أن نطلق عليه تسمية مستقلة هى ((اتجاه المسايرة))

من علماء النفس المسلمين حتى يمكنهم التوافق مع التوقعات المتزايدة التى يفرضها النقاد الإسلاميين على علم النفس ، وتتألف هذه الحيلة جزئياً من حيلة التوحيد أو التقمص ؛ فحتى يبدو أصحاب هذا الاتجاه ((على صواب)) من وجهة نظر نقادهم امتصوا المعايير التى حددها هؤلاء النقاد للخطأ والصواب فى علم النفس ، وهم بذلك يسعون لكسب التقبل الاجتماعى فى ظل الظروف الخاص ، والوقت المميز اللذين أشرنا إليهما فى مطلع هذا البحث (أى ظرف ووقت ما اصطلح على تسميته الصحوة الإسلامية) . وفى سبيل تحقيق ذلك لجأ أصحاب هذا الاتجاه إلى عدة أساليب تتسم جميعاً بالفجاجة وعدم النضج ، منها :

(1) استخدام المفاهيم النفسية الشائعة ثم الاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة على نحو مبتسر ، بحيث لو حذفت هذه النصوص الكريمة (التى لاتستخدم فى هذه الحالة إلا فى حدود الديكور الدينى) مما يكتبون لما بقى إلا محض كتابة عادية فى علم النفس متصلاً بها . وينطبق على هذا الأسلوب ما أشرنا إليه بالنسبة للأسلوب السابق . فمرة أخرى لو حذفت العناوين الإسلامية التى لا تتجاوز حدود استخدامها أن تكون لا فتات لجذب الاتنباه : يتحول النص السيكولوجى إلى كتابة عادية فى علم النفس من النوع الدراج أيضاً وكلا الأسلوبين يتسم بالسذاجة ، والبعد عن جوهر المشكلة إلى قشورها ، كما أنه ضار بكل من الإسلام وعلم النفس ؛ لأنه يبسط العلاقة بينها تبسيطاً مخلاً ، يغرى الباحثين عن السهولى واليسر بركوب موجته والبحث عن مكانه ضائعة من خلاله .

وللبحث صلة

الهوامش

(1) هو منهج يستخدم حين يستدل بالسلوك الظاهرى على الحالات الشعورية لدى الآخرين – ومنهم الحيوانات ، وذلك بالقياس إلى الحالات الشعورية التى يختبرها الملاحظ فى نفسه وبشكل مباشر .

ويطلق فى حالة تطبيق هذا المنهج على الحيوان ((الأنسنة)) ، أى خلع الصفات الإنسانية على الحيوان .

(2) من الطريف أن نشير هنا إلى أن قسم علم النفس الوحيد فى مصر المهتم بالتحليل النفسى هو قسم علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس ، ويعود ذلك إلى فضل منشئه أ . د مطفى زيور الذى حصل على درجته العلمية العليا من جامعة ليون بفرنسا فى مجال الطب ، وتدرب فيها على التحليل النفسى ، على الرغم من أنه تخرج (عام 1929) من قسم الفلسفة بكلية الآداب بالجامعة المصرية ، فجمع بذلك بين ((الثقافتين)) . ومع ذلك فإن فإن أ . د زيور أن استخدام التحليل النفسى فى العلاج النفسى مهمة طبية قبل أن تكون سيكولوجية .

(3) توجد بعض الأمثلة على الساحة السيكولوجية المعاصرة ، إلا أننا نعف عن الإشارة إليها بالاسم حتى لايخرج بحثنا من باب العلم ويدخل فى باب الجدل الشخصى ، ناهيك عن أنها تكاد معروفة للجميع .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر