أبحاث

تحديات الأمة في فكر أعلام معاصرين

العدد 133- 134

مقدمة:

بالنظر في الخرائط الإدراكية لمفكري الإسلام ضمن فكرة الكيان الإسلامي الرابط، والتحديات التي تواجه هذا الكيان والطرائق المختلفة لمواجهتها أو اقتراح الإصلاح، نجد أنفسنا أمام نماذج عدة نتخير منها أربعة تتراكم زمنيًّا وتعبر عن تنوعات إدراكية مهمة، تمثل أوضح النماذج في هذا المقام:

1- نموذج الكواكبي وأم القرى.

2- نموذج السنهوري وعصبة أمم شرقية.

3- نموذج مالك بن نبي وفكرة كومنولث إسلامي.

4- نموذج البشريّ.

يعبر نموذج الكواكبي في رؤية الجامعة الإسلامية والتحديات الفكرية السياسية التي تواجهها عن إرهاص مبكر بالشعور بالتحدي السياسي وجملة التحديات التي تواجه عالم المسلمين، وهو يقدم رؤية فكرية ثقافية حضارية, قامت على رؤى استقاها من نموذج محاكاة صاغه في “أم القرى” يعبر فيها عن رؤية الجامعة الإسلامية والتأسيس لها وتحديد نطاق اهتمامها وأهم التحديات التي تجابهها, رؤية تشخّص بعض التحديات المولدة والمشتقة, وتقدم بعض مؤشرات لاستجاباتٍ قائمة وممكنة في هذا المقام. إن مهمة الكواكبي ولدت في ظل ما يمكن تسميته بتحدي الابتداء. بينما النموذج الثاني الذي يمثله السنهوري فهو موقف رأى السنهوري أن يقدم فيه استجابة قانونية لا تفقد فيه معنى الأمة. إن إعلان سقوط الخلافة, كان يعنى ضمن هذا التخريج القانوني أن الدولة يمكن أن تذهب وتجيء وتتبدل وتتحول لكن الأمة لا تموت وأن عناء التأسيس والبناء والتصور لذلك البناء عملية مهمة. إن مهمته تقع بين تحدى البقاء وتحدى البناء. بينما النموذج الثالث فقد مثله مالك بن نبي ليعبر كيف أن فكرته تشكل إعادة صياغة وتشكيل لعالم أفكار يواكب الدعوة لتأسيس “كومنولث إسلامي”؛ لأن الداء والتحدي الأكبر إنما يكمن في عالم أفكارنا وأساسنا المفاهيمي؛ ومن ثم يقدم الشروط الفكرية لعملية البناء باعتبارها من أهم شروط ارتقاء البناء وقدرته على الفاعلية والنماء.

أما النموذج الرابع والأخير فيمثله المستشار طارق البشريّ ضمن دراسة تحليلية رصينة تعبر عن التحدي الأكبر (الصدْع والانقسام) والاستجابة للتحدي على مستواه (بالحوار والجامعية)، ليؤكد أن فهم عمليات الصدع والوعي بمعالم حدوثها ومفاصلها هو الكفيل بتحقيق عناصر الاستجابة الواعية والتي تجعل من القضايا والموضوعات والعلاقات مجالاً لإعمال متطلبات البقاء، ومعوقات وتصدعات البناء، وإقامة البناء على أسس سُننية ضمن معادلات تضمن مستلزمات النماء وشروط الارتقاء على كافة المستويات الفكرية والنظمية والحركية.

(1)          نموذج الكواكبي والخريطة الإدراكية لتحديات العالم الإسلامي والتحديات السياسية الحضارية على وجه الخصوص:

نفرد للكواكبي هذا المقام باعتبار أنه قد ألف تأليفًا مهمًّا ومختصًّا في تحديات الأمة الإسلامية في “أم القرى” وأهم التحديات ذات الطبيعة السياسية وهى “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”. يبدي الكـواكبي اهتمامًا واضحًا بأفكار

وقضايا تقع في قلب مفهوم التحـديات، ويؤكـد على العناصر الإيجابية في ذلك مثل: الأمة، العروبة, الدين, القيم, الحرية, مقاومة الاستبداد, الإصلاح وأدواره، التجديد، التربية خاصة التربية السياسية منها.

وفى إطار الصفة التمثيلية لأطراف من علماء الأمة الإسلامية يشخصون الداء ويصفون الدواء ويعبر الكواكبي عن رؤاهم بالنسبة لحقيقة التحديات وتداخلها، فإنه يمكننا أن نثبت هذا الجدول الممثل للأمة بكل عناصرها :

قائمة بالمندوبين في تصوره للجامعة الإسلامية ونواتها العرب

 

م الاسم المستعار

للمندوب

المدينة التي

جاء منها

الوطن الذي يمثل المسلمين فيه
1 السيد الفراتي حلب حلب
2 الفاضل الشامي دمشق الشام
3 البليغ القدسي القدس فلسطين
4 الكامل الإسكندري الإسكندرية مصر
5 العلامة المصري القاهرة مصر
6 المحدث اليمني صنعاء اليمن
7 الحافظ البصري البصرة العراق
8 العالم النجدي حائل نجد
9 المحقق المدني المدينة المدينة
10 الأستاذ المكي مكة مكة
11 الحكيم التونسي تونس تونس
12 المرشد الفاسي فاس مراكش
13 السعيد الإنكليزي ليفربول انجلترا
14 المولى الرومي القسطنطينية تركيا
15 الرياضي الكردي كردستان كردستان
16 المجتهد التبريزي تبريز فارس
17 العارف التاناري بغجة سراى بلاد التانار الشمالية
18 الخطيب القازاني قازان كازاكستان
19 المدقق التركي كشغر للأتراك بوسط آسيا
20 الفقيه الأفغاني كابل أفغانستان
21 الصاحب الهندي دلهى الهند
22 الشيخ السندي كلكتا الهند
23 الإمام الصيني بكين الصين

 

وإذ كان ثمة ما يشير إليه كتاب (أم القرى) فإلى موهبة عبد الرحمن الروائية ولنقلْ موهبته في استخدام الخيال في خطابه الفكري/السياسي؛ فالكتاب كما يمكن أن ننظر إليه نوع من (سيناريو) وضعه الكواكبي، ورمى من ورائه إلى تكوين أفكار وبلورة مقترحات سعيًا إلى نهضة العرب والمسلمين. ففي (أم القرى) (هذه التسمية تطلق عادة على مكة المكرمة) صور لنا عبد الرحمن اجتماعًا أو عددا من الاجتماعات (عقدت) عند طرف من أطراف مكة وذلك ابتداءً من 15 ذي القعدة عام 1316هـ.

وبأسلوب قصصي شائق يحدثنا الكواكبي عما (دار) في هذه الاجتماعات وعما (طُرح) فيها من أفكار ومقترحات، ولئن كنا نعتبر بأن فكرة هذه الاجتماعات هي من بنات أفكار الكواكبي، غير أنه يقول (بأن لها أصلاً من الحقيقة وأن الخيال تممها). وإذا كانت الخطة من وراء هذه الاجتماعات هي التوصل إلى حلول تنقذ المسلمين والعرب من انحطاطهم وتقيلهم من عثرتهم، فإن ثمة شعارات ثلاثة رفعت فيها وهي:

أولاً- الكتمان (لأنه أدْعى إلى إفضاء كلٍّ بما في نفسه في صراحة).

ثانيًا- رفض أي خلاف مذهبي انطلاقًا من أن الجميع مسلمون.

ثالثًا- رفض منطق اليأس بسبب ما هو سائد من تخلف وانحطاط.

فالإصلاح لا يزال شيئًا ممكنًا إذا ما صفت النيات وتضافرت الجهود وإذا -هو الأهم- ما عاد المسلمون إلى الدين الحق، الإصلاح إذن ممكن, والدليل هو (انعقاد مثل هذه الجمعية)، ثم إن هناك أممًا وشعوبًا عدة عاشت أوضاعًا شبيهة بما يعيشه العرب والمسلمون, ولكنها استطاعت أن تستعيد مجدها وتبنى قوتها من جديد لا لشيء إلا لأنها صممت على ذلك بإرادة وعزيمة لا تلين، فالرومان واليونان واليابان استرجعت مجدها بعد تمام ضعفها خصوصًا أن الظواهر كلها تدل على أن الزمان قد استدار وبدأت تظهر أعراض الصحة على المسلمين، ومن أعظم هذه الظواهر انعقاد مثل هذه الجمعية, ووضع برنامج المؤتمر وهو يتلخص في بحث موضع الداء في المسلمين وأعراضه وجراثيمه ودوائه وكيفية استعماله.

عقدت الجمعية أو المؤتمر اثني عشر اجتماعًا كما يخيرنا الكواكبي في كتابه (أم القرى) وقد تمحورت بجملتها حول اقتراح ما يمكن من حلول تنهض بالعرب والمسلمين من كبوتهم، وفى الاجتماع الأخير دعا السيد الفراتي (وهو -هنا- الكواكبي نفسه) إلى أن يتلو بوصفه سكرتيرًا للمؤتمر محاضر الجلسات السابقة, وأن يعدد فيها الأسباب التي أفضت إلى تخلف العرب والمسلمين.

وقد لخص السكرتير هذه الأسباب بثلاثة: فهناك الأسباب السياسية, ثم الدينية, وأخيرًا الخُلقية, أما بالنسبة إلى الأسباب الأولى: السياسية, فذهب إلى أنها تتمثل في افتقاد الحاكم لأي حسّ بالمسئولية تجاه الرعية, وأن الاستبداد هو سيد الموقف في الفعل السياسي لدى العرب والمسلمين. وإن هؤلاء يفتقدون في حياتهم السياسية إلى حقهم في التعبير وفى العمل وفي الممارسة السياسية الواعية والديمقراطية، وقد أدى كل ذلك إلى انتفاء ميزتي العدل والمساواة من المجتمعات الإسلامية؛ وبالتالي إلى انتفاء ميزة الأمن على الأرواح والأرزاق. ومما زاد في تقهقر العرب المسلمين أن الحكام فيهم اعتبروا العلم مِنّة يمنون بها على من يريدون من أهل بطانتهم. وهم إلى ذلك, قربوا إليهم العلماء المتملقين, المتاجرين بالدين, على حين أبعدوا عنهم العلماء المستنيرين الذين لا غاية لهم سوى النطق بالحق وتقويم الاعوجاج حتى لو أدى ذلك إلى غضب الحاكم.

أما فيما يتعلق بالأسباب الدينية (المرتبطة بتخلف المسلمين): فاعتبر السيد الفراتي أن العقيدة الجبرية تأتي في طليعتها. فالمفهوم المغلوط للقضاء والقدر فشا بين المسلمين بحيث شاعت بينهم ميول خاطئة إلى الزهد والتصوف، وانعدام السعي واعتبار العلم والعمل شيئين يمكن الاستغناء عنهما. إضافة إلى ذلك فإن ثمة خرافاتٍ وأوهامًا وخزعبلات داخلت الدينَ, وهي ليست منه، فحصل ما ليس من الدين. أيضًا لم يعد ثمة تطابق بين القول والعمل, أو بين النظرية والممارسة. بل إن ذلك جرّ إلى أن يكون الدين نوعًا من اللهو أو الترف فذهبت الأكثرية, وهذا ما فعله الفقهاء أيضًا بالتوسع في تأويل النصوص بحيث تخدم تحاملهم وتحللهم من الواجبات الدينية. وفى ظل هذا الوضع المتردي استطاع الدجالون إيهام الناس أمورًا غامضة وسرية لا يستطيع العقل إدراكها؛ وأكثر من ذلك نبذ العقل إذ لا حاجة بنا إلى العقل كأداة إلى إدراك هذه الأمور. وعلى أساس من هذا تراجعت العلوم العقلية التي تعتبر المجتمعات العربية الإسلامية بأمسّ الحاجة إليها لكونها العمل الرئيس في النهضة والتقدم.

أما الأسباب الخُلقية فنجدها في تفشى الجهل والخمول واليأس من الإصلاح, وانتشار الفساد على الصعيد كافة من النظام التعليمي إلى النظام المالي والإداري وإلى البنية الاجتماعية حيث يسود التواكل والجبن في الجهر بالحق إزاء السلطة الحاكمة. بين هذه الأسباب أيضًا عدم السماح بتعليم المرأة المرغمة على البقاء في منزلها، وعلى هذا فهي تحولت, بالرغم من أنها نصف المجتمع، إلى طاقة مهدرة ولا فائدة منها. وإذ اتفق المجتمعون في مكة، على أن تكون مصر مركزًا للمؤتمر لكونها تتمتع بقسط من التقدم والحرية, خلصوا إلى النتائج التالية:

أولاً- المسلمون في حالة فتور عام.

ثانيًا- يجب تدارك هذا الفتور.

ثالثًا- جرثومة داء الجهل.

رابعًا- الدواء هو تنوير الأفكار بالتعليم وإيقاظ الشوق للترقي وخصوصًا في الناشئة، وتأسيس الجمعيات التي تقوم بهذا العلاج، المكلفون بذلك كل قادر على عمل، وخاصة نجباء الأمة من السّراة والعلماء.

ومن التوصيات التي خرج بها المؤتمرون – ونحن لا زلنا مع كتاب (أم القرى)- أن يصار إلى تشكيل جمعية من مائة عضو (عشر أعضاء عاملين, وعشر أعضاء مستشارين، وثمانون عضوًا فخريًّا) ترسم الخطط الرامية إلى الإصلاح، وعلى أن تشرف بنفسها على تنفيذ هذه الخطط. إن أعضاء هذه الجمعية التي يجب أن يكون مركزها الرئيسي “مكة” وأن تكون لها فروع في غير قطر عربي وإسلامي يشترط أن يكونوا على سعة من العلم، وعلى درجة من العفة والأمانة والإخلاص. ولئن كان الشعار الذي اقترحه المؤتمرون هو (لا نعبد إلا الله) الأمر الذي يشير إلى أن غايتها الرئيسة هي السعي لنبذ التفرقة المذهبية, وغير أن ثمة غايات أخرى لها, لا تقل أهمية بينها (الترغيب في العلوم والفنون النافعة)، وبينها تعزيز التعليم العالي وابتكار مناهج حديثة تهذب الأخلاق وترقيها. إضافة إلى إصدار مجلةٍ الغايةُ منها الترويج لمبادئ الجمعية وأهدافها.

عوامل فتور المسلمين في نموذج محاكاة الكواكبي:

وغير القضايا الكبرى التي تحدَّث عنها الكواكبي كعوامل (فتور) للعرب والمسلمين، وكمعوقات للتطور من قبل المستبدين, نجد الكثير من الأسباب والعلل التي يسوقها على ألسنة المندوبين الذين حضروا مؤتمر (أم القرى) فى خلال محاوراتهم في الاجتماعات، الأسباب والعلل التي يراها تلعب, بشكل أو بآخر، دورًا في بقاء (الفتور) في هذه الأمة, وتحول بينها وبين النهوض والانطلاق. إن إيمان الكواكبي، الذي لا يحد، بضرورة بل حتمية نهوض هذه الأمة قد جعله يفضل تعبير (الفتور العام) كوصف لمشاكل هذه الأمة ونواقصها وسلبيات حياتها, رافضًا تعبيرات (الداء الدفين) أو (المزمن) أو (العضال)، ولذلك دلالته الأكيدة على تفاؤل الرجل وإيمانه بالمستقبل لهذه الأمة.

أما أسباب هذا الفتور العام, التي تتم بإيرادها الصورة التي رسمها الكواكبي للعرب والمسلمين ومستقبلهم, فإن أهمها ينحصر في:

1- عقيدة الجبر والزهد المفضية إلى التصوف:

فسواء أكان الموقف بإزاء التصوف عمومًا كحركة فكرية ونشاط روحي أو بصدد تكوين النشاط الصوفي المعاصر للكواكبي, نجده يتخذ الموقف الموضوعي الذي يميز بين ما هو ضارّ وما هو مفيد, بين ما هو سبب من أسباب الفتور في هذه الأمة وما هو عامل من عوامل الثورة والبعث والنهوض.

2- انعدام التنظيمات وفقدان الاجتماعات والمفاوضات:

وهو سبب من أسباب فتور الأمة وسلبيتها عالجه الكواكبي على المستويين النظري والعملي، بشكل يدعو إلى التقدير والإعجاب. فهو يشير إلى أن الدين الإسلامي قد أتاح للمؤمنين به فرصًا للقاء والتشاور وتبادل وجهات النظر واتخاذ القرارات، وذلك عن طريق اجتماع المسلمين لصلاة الجماعة والجمعة, ومواسم الحج السنوية, وأن في ذلك رمزًا للسبيل الوحيد لإيقاظ الأمة من رقدتها: سبيل العمل الجماعي والاهتمام باللقاء والتشاور والتنظيم. ويعتبر (أن سبب هذا الفتور.. هو فقدان الاجتماعات والمفاوضات؛ وذلك أن المسلمين في القرون الأخيرة قد نسوا بالكلية حكمة تشريع الجماعة, والجمعة وجمعية الحج)! إنها دليل مبشر بنهضة الأمة فإنه يرى (أن محض اجتماع جمعيتنا هذه لَمِن أعظم تلك المبشِّرات, خصوصًا إذا وفقها الله تعالى بعنايته لتأسيس جمعية قانونية منتظمة؛ لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمرًا طويلاً يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد، وتأتي بأعمالها كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد. وهذا هو سر ما ورد في الأثر من أن (يد الله مع الجماعة).

فالكواكبي هنا, كما في كل مرة يقف فيها إزاء سبب من أسباب فتور هذه الأمة وتخلفها, يستخدم (حجج السلب) و(معاول الهدم) وبراهين التفنيد, ثم يقدم الإيجابي من الحلول ويرسم للناس طرق تخطي أسباب الفتور والمعوقات.

3- الإغراق في الشهوات الحسّية وكثرة النسل.

4- اختلال التوازن بين الدنيا والآخرة.

كما أبصر الكواكبي سببًا من أسباب فتور هذه الأمة يتجلى فيما يمكن أن نسميه باختلال التوازن بين صورة الدنيا وآمال الإنسان فيها, القدر الذي يعطيه من جهده وطاقاته وإمكانياته لهذه الآمال, وبين الحياة الآخرة, وما يمنح صورتها من ثقة وأمل وجهد ورجاء.

*أسباب الفتور عند المسلمين  كما حددها الكواكبي في أم القرى وإسهامها في رؤية التحديات :

الأسباب السياسية:

– السياسة المطلقة من السيطرة والمسئولية.

– تفرق الأمة الإسلامية إلى عصبيات وأحزاب سياسية.

– حرمان الأمة من حرية القول والعمل وفقدانها الأمن والأمل.

– فقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة.

– ميل الأمراء للعلماء المدلسين وجهلة المتصوفين.

– حرمان العلماء العاملين وطلاب العلم من الرزق والتكريم.

– اعتبار العلم عطية يُحسن بها الأمراء على الأخصاء وتفويض خدم الدين للجهلاء.

– قلب موضوع أخذ الأموال من الأغنياء وإعطائها للفقراء.

– تكليف الأمراء القضاة والمفتين أمورًا تهدم دينهم.

– إبعاد الأمراء النبلاء والأحرار وتقريبهم المتملقين والأشرار.

– مراغمة الأمراء السّراة والهداة التنكيل بهم.

–    فقد قوة الرأي العام بالحجْر والتفريق.

– حماقة أكثر الأمراء وتمسكهم بالسياسات الخرقاء.

– إصرار أكثر الأمراء على الاستبداد عنادًا واستكبارًا.

– انغماس الأمراء في الترف ودواعي الشهوات وبعدهم عن المفاخرة بغير (الفخفخة) والمال.

– حصر الاهتمام السياسي بالجباية والجندية فقط.

الأسباب الإدارية:

– توحيد قوانين الإدارة والعقوبات مع اختلاف طبائع أطراف المملكة واختلاف الأهالي في الأجناس والعادات.

– تنويع القوانين الحقوقية وتشويش القضاء في الأحوال المتماثلة.

– التمسك بأصول الإدارة المركزية مع بعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها.

– التزام أصول عدم توجيه المسئولية على رؤساء الإدارة والولاة عن أعمالهم مطلقًا.

– تشويش الإدارة بعدم الالتفات لتوحيد الأخلاق.

– والمسالك في اختيار الوزراء والولاة والقواد مع اضطرار الدولة لاتخاذهم من جميع الأجناس والأقوام الموجودين في المملكة بقصد استرضاء الكل.

– التزام المخالفة الجنسية في استخدام العمال؛ بقصد تعسر التفاهم بين العمال والأهالي وتعذر الامتزاج بينهم لتأمن الإدارة غائلة الإنفاق عليها.

– التزام تفويض الإمارات المختصة عادة ببعض البيوت كأمارة مكة والعشائر الضخمة في الحجاز والعراق والفرات لمن لا يحسن إدارتها لأجل أن يكون الأمير منفورًا ممن عليهم مكروها عندهم فلا يتفقون معه ضد الدولة.

– التزام تولية بعض المناصب المختصة ببعض الأصناف كالمشيخة الإسلامية والسرعسكرية لمن يكون منفورًا في صنف العلماء أو الجند لأجل أن لا يتفق الرئيس والمرءوس على أمر مهم.

– التمييز الفاحش بين أجناس الرعية في الغُنم والغُرم.

– التساهل في انتخاب العمال والمأمورين والإكثار منهم بغير لزوم، وإنما يقصد إعاشة العشيرة والمحاسيب والمتملقين الملحين.

– التسامح في المكافأة والمجازة تهاونًا بشئون الإدارة؛ حسنت أم ساءت، كأن ليس للملك صاحب.

– عدم الالتفات لرعاية المقتضيات الدينية: كوضع نظامات مصادمة للشرع بدون لزوم سياسي مهم، أو مع اللزوم ولكن بدون اعتناء بتفهمه للأمة والاعتذار لها جلبًا للقناعة والرضاء.

– تضييع حرمة الشرع وقوة القوانين بالتزام عدم اتباعها وتنفيذها والإصرار على أن تكون الإدارة: نظاميةً اسمًا، إداريةً فعلاً.

– التهاون في مجاراة عادات الأهالي وأخلاقهم ومصالحهم استجلابًا لمحبتهم القلبية فوق طاعتهم الظاهرية.

– الغفلة أو التغافل عن مقتضيات الزمان ومباراة الجيران وترفيه السكان بسبب عدم الاهتمام بالمستقبل.

– الضغط على الأفكار المتنبهة بقصد منع نموها وسموها واطلاعها على مجاري الإدارة: محاسنها ومعايبها، وإن كان الضغط على النمو الطبيعي عبئًا محضًا، ويتأتى منه الإغراء والتحفز، وينتج عنه الحقد على الإدارة.

– تمييز الأسافل فضلاً وأخلاقًا وعلمًا وتحكيمهم في الرقاب الحرة وتسليطهم على أصحاب المزايا، وهذا التهاون بشأن ذوي الشئون يستلزم تسفّل الإدارة.

– إدارة بيت المال إدارة إطلاق بدون رقابة، وجزاف بدون موازنة، وإسراف بدون عتاب، وإتلاف بدون حساب، حتى صارت المملكة مديونة للأجانب بديون ثقيلة توفى بلادًا ورقابًا ودماءً وحقوقًا.

– إدارة المصالح المهمة السياسية والملكية بدون استشارة الرعية ولا قبول مناقشة فيها، وإن كانت إدارة مشهودة المضرة في كل حركة وسكون.

– إدارة الملك إدارة مداراة وإسكات للمطلعين على معايبها؛ حذرًا من أن ينفثوا ما في الصدور فتعلم العامة حقائق الأمور، والعامة من إذا علموا قالوا وإذا قالوا فعلوا وهناك الطامة الكبرى.

– إدارة السياسة الخارجية بالتزلف والإرضاء والمحاباة بالحقوق والرشوة بالامتيازات والنقود، تبذل الإدارة ذلك للجيران بمقابلة تعاميهم عن المشاهد المؤلمة التخريبية وصبرهم والروائح المنتنة الإدارية، ولولا تلك المشاهد والروائح لما وجد الجيران وسيلة للضغط، مع ما ألقاه الله بينهم من العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

ثمة سؤال يتمحور حوله فكر عبد الرحمن الكواكبي نستطيع أن نطرحه على الوجه التالي: ما سبب الانحطاط الذي يرزح تحته العرب والمسلمون؟ وما السبيل إلى النهضة(24)؟

الكتابان التوأمان اللذان تركهما لنا, وهما (أم القرى) و(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، لم يخرجا عن كونهما مشروعًا واحدًا ومتكاملاً يرمى إلى الرد على السؤال المطروح بشقيه: أولاً- تشخيص المرض الذي يفتك بالجسد العربي/الإسلامي جاعلاً منه جسدًا رخوًا هشًّا وأشبه ما يكون إلى الجثة, وثانيًا- محاولة ابتكار الدواء الناجح الذي – إذا ما تناوله العرب والمسلمون- سوف يحمل إليهم الشفاء والصحة والمجد.

إذًا ثمة داء خبيث، وقد أنشب أظافره في الجسد العربي/الإسلامي، أما التسمية التي يمكننا أن نطلقها عليه فهي (الاستبداد) باتجاهيه الديني والسياسي، ولهو الداء الذي ينبغي استئصاله. وليس ذلك مما يستحيل علينا فعله طالما أنه ليس أكثر من (خلل طارئ)، وهو ليس متأصلاً وراسخ الجذور في التاريخ السياسي والديني والاجتماعي للعرب والمسلمين. من هنا يأتي تفاؤل الكواكبي بأن محنة الاستبداد يمكن الخلاص منها؛ والخلاص تاليًا من محنة الانحطاط والتخلف. فالأساس مكين ومتين وهو الذي حفظ (عز هذا الدين المبين كل هذه القرون المتوالية).

إن الكواكبي إذ يعول على المنهج النقدي في تناوله “الاستبداد” وما ينتج عنه من تخلف, يرى أن ثمة مراحلَ ثلاثًا لابد أن نجوزها في السبيل إلى تحديد مواطن (الخلل الطارئ). المرحلة الأولى هي التي ينبغي أن نركز فيها على (بيان الحالة الحاضرة ووصف أعراضها) وبالأحرى (تشخيص المرض تشخيصًا مدققًا)، والمرحلة الثانية تفضي بنا إلى تحديد وتوصيف السبب الأساس لهذا الخلل أو هذا المرض؛ وهو (الجهل الشامل)، أما المرحلة الثالثة فتقودنا إلى أن نشير بالبنان نحو أولئك الذين يمارسون الاستبداد ويسكتون عنه مسببين انحطاطًا لا مثيل له في الأمة؛ وهم (الأمراء والعلماء والكافة) الذين يتقاعسون في استخدام (قوة الاتفاق على النهضة).

وبتحديد هذه المراحل الثلاث التي يجب أن نقطعها بلوغًا إلى فعل النهضة, ينطلق الكواكبي, من بعد, نحو (تسمية) أسباب الانحطاط في الأمة. فقد حدث, على رأي الكواكبي, تحول جذري في الفعل السياسي ضمن البقعة العربية الإسلامية, فبعد أن كان هذا الفعل فعلاً نيابيًّا اشتراكيًّا ديمقراطيًّا !… أصبح فعلاً يمارس الحكم المطلق والملكية المطلقة بحيث إن أي قانون أو دستور لم يعد يقيد الحاكم ويجعله خاضعًا لإرادة الأمة. وعلى أساس من هذا أصبحت الأمة رهينة الحاكم يتصرف بمقدرتها ومصيرها ساعة يشاء وكيفما يشاء. إن سبب الانحطاط الأهم، بين أسباب عدة يجردها لنا الكواكبي، يتمثل في النزعة الاستبدادية التي طغت على ممارسة الفعل السياسي للحاكم لدرجة أن الممارسة (النيابية, الاشتراكية, الديمقراطية) انتفت وغابت, وحلت محلها ممارسة (الملكية شبه المطلقة).

مهما يكن فإن عبد الرحمن الكواكبي يعدد أسبابًا خمسة تقف وراء الانحطاط، وإذا كنا تحدثنا عن السبب الأول المتمثل في شيوع الحكم المطلق والمستبد، فإن السبب الثاني يكمن في أن الطابع الغالب في الدولة هو الطابع العسكري، فقد تغلبت (الجندية) على الأمة, ففرضت خطابها ومقاييسها، بل إنها حوّلت العرب والمسلمين إلى (أمة جندية, صنعة وأخلاقًا, بعيدة عن الفنون والصنائع, والكسب بالوجوه الطبيعية). فأكثر ما كان يسوء الكواكبي في ذلك الوقت, هو رؤيته للعسكريين وهم يمسكون بزمام الدولة. وقد أدى ذلك إلى حكم ديكتاتوري وإلى فرض مقاييس وأنماط عيش وتفكير كبلت الناس ومنعتهم من الحركة والاطمئنان، بل أصبحت أخلاقهم قريبة الشبه بأخلاق الجنود؛ الأمر الذي نأى بهم عن تعلم الفنون والمهارات، وعن تحصيل الرزق بالطرق المشروعة.

ثم إن شيئًا أساسيًّا آخر سبب تخلفًا وانحطاطًا للمسلمين؛ وهو أن سلاحهم لم يعد يستخدم ضد أعدائهم وإنما ضد بعضهم البعض. فالمسلمون الذين شُهر عنهم البأس وقوة الشكيمة لم يستخدموا بأسهم ولا قوة شكيمتهم في سبيل تحرير بلدانهم من الغاصبين, وإنما وجهوه ضد بعضهم البعض؛ الشيء الذي أفضى إلى أن يعيشوا (بالتغالب والتحايل,لا بالتعاون والتبادل).

وإذا كان لنا أن نضيف سببًا آخر إلى أسباب انحطاطهم, فليس أمامنا غير الجهل, فقد عمّ الجهل و(تأصل)، وأصبح من الثوابت بدل أن يكون شيئًا طارئًا. ولئن كان الجهل في الناس وفى العامة مصيبة, فكيف إذا طاول الأمراء والحكام وأصحاب القرار. فعبد الرحمن يرى في (تأصل الجهل في غالب أمرائنا المترفين) سببًا آخر من أسباب الانحطاط. ونتيجة لذلك فإنهم (يخربون بيوتهم = دولهم) بأيديهم.

ويذهب عبد الرحمن الكواكبي بعيدًا في تشخيصه لمجموعة الآفات التي تضرب في نسيج المجتمعات العربية الإسلامية. ومن أبرز هذه الآفات, إضافة إلى ما تقدم ذكره, افتقاد العرب والمسلمين إلى الحرية؛ فالمرء لا يستطيع أن يمارس الحرية, في قول أو في فعل, دون أن (يعترضه مانع ظالم)، وهذا (المانع الظالم) يكبل الفرد والجماعة ويجعلها في شلل دائم. أما الحرية التي يطالب بها الكواكبي فهي المرتبطة بمعايش الناس وحياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية. فلن يتحقق رقي سواء على صعيد الفرد أو المجتمع ما لم تتحقق أولاً الحرية في (تساوي الحقوق) وفى (محاسبة الحكام) وفى التعليم والخطابة (التعبير والنشر)، وأيضا في (المباحثات (=الأبحاث) العلمية) و(العدالة والأمن على الدين والأرواح) وعلى (الشرف والأعراض).

يتهيأ لنا مما تقدم أن السلطة, مثلما كانت ممارسة في ذلك الوقت، هي بيت الداء؛ إنها سبب الانحطاط لكونها (المانع الظالم) لأي رقي وتقدم, وذلك من خلال الآفات الخمس المرتبطة بها وهي باختصار: تحول الخطاب السياسي من خطاب (نيابي, اشتراكي, ديمقراطي) إلى خطاب (ملكي وشبه مطلق)؛ تحول الأمة إلى (أمة جندية)؛ التغالب والتناحر السائدان بين العرب والمسلمين؛ (تأصل الجهل) على الصعد كافة وخاصة بين (أمرائنا المترفين)؛ وأخيرًا في (فقدنا للحرية) بحيث إن المكبلات والعوائق تشل الأدمغة وتحول بينها وبين التفكير بمستقبل أفضل.

وعلى هذا الأساس يتوجه إلى نقد طبيعة الدولة القائمة والتي لا تتميز بشيء مثلما تتميز بالاستبداد. إن هذه الدولة يمسك بزمامها شخص فرد أو أفراد معدودون يسيرونها بحسب ميولهم وأمزجتهم أو وفق (نزعاتهم الوثنية) بتعبير عبد الرحمن. ومن هنا الرفض الذي تبديه مثل هذه الدولة لأن يتحكم القانون في العلاقة بينها وبين المجتمع. وبسبب غياب القانون, إذ يربط بين الفرد والمجتمع من جهة وبينهما وبين الدولة من جهة أخرى، فإنها تحولت إلى دولة عاتية, استبدادية, بل تحولت إلى مصدر لشقاء الناس وعذابهم فقد انتفت – على هذا الأساس- أي رابطة, ومن أي نوع, بين الدولة والأمة. ومن نتائج ذلك أن الدولة شَخَصت نحو الاستبداد إلى جعل الأمة, بقضها وقضيضها, خاضعة لمشيئتها؛ وهى المشيئة المبنية على الجهل وعلى الشراسة والاتكال والطاعة العمياء؛ وكل ذلك بسبب سيادة ما يسميه الكواكبي (الجندية المنظمة)؛ أي الديكتاتورية العسكرية المطلقة, بحسب مصطلحنا المعاصر. ومن مآثر هذه (الجندية المنظمة) أنها (تفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة, والطاعة العمياء, والاتكال, وتميت النشاط وفكرة الاستقلال وتكليف الأمة)، والإنفاق الذي لا يطاق وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشئوم؛ استبداد الحكومات القائدة لتلك القوة من جهة (أي قوة الجندية المنظمة) و(استبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى).

وإذ يدعو إلى الحكم الدستوري, المقيد بقوانين وأنظمة, يندد بحكم الفرد المطلق الذي يتسلم  العرش بالوراثة, وسرعان ما يمسك بالسلطتين الأساسيتين في الدولة: السلطة السياسية (حيث تتم عسكرتها على يديه)، والسلطة الدينية. وعلى هذا يصبح الاستبداد السياسي نظيرًا أو (أخًا) – بتعبير عبد الرحمن- للاستبداد الديني. وانطلاقًا من هذه العلاقة الجدلية التي أوجدها بين الاستبداديْن السياسي والديني, يشن حملة شعواء على رجال الدين الذين يسكتون عن استبداد المستبدين، فينعتهم بالجبناء حينًا، والمرائين حينًا ثانيًا, والمداحين في حين ثالث, وهم برأيه (أضر على الدين من الشياطين).

ولكن كيف الخلاص؟ وما السبيل إلى خروج العرب والمسلمين من المأزق الذي وجدوه فيه؟ بل ما هي الشروط الفكرية التي تعتقهم وتحررهم وتخرج بهم من حال (السقوط) إلى حال (النهضة)؟ أو بمعنى أدق: ما هي الاستجابات المطلوبة في هذا المقام؟

لقد حدد الكواكبي خيار الأمة الأوحد. فالإنقاذ يتطلب الأخذ بشيء واحد: إنه الشيء الذي يرتبط به المصير السياسي والثقافي والاجتماعي والحضاري للعرب والمسلمين، وإذا كان علينا أن نسمي هذا الشىء باسمه فليس غير “الإسلام”؛ فهذا الدين القيم، الملائم لكل زمن وعصر هو ما يرشد المسلمين إلى النهضة والظفر. ليس بغير الإسلام يستطيع هؤلاء أن يحققوا خلاصهم ونجاتهم.

وانطلاقًا من فهمه للمأزق الحضاري الذي كان يعيشه المسلمون إبان القرن التاسع عشر, فقد طرح عبد الرحمن الأيديولوجيا الإسلاموية أو (الإسلامية) مثلما يطلق عليها؛ فهذه الأيديولوجيا ولكونها (مؤسسة على أصول الحرية)، وأيضًا (برفعها كل سيطرة) سياسية ودينية عن كواهل البشر, تصلح سبيلاً لتحقيق ما لم يتحقق بالسبل الأخرى المعتمدة حتى ذلك الوقت, وأخصها الحكم المطلق المستبد. فالإسلامية, كما يقول, (تحكم بأمرها) وليس بأمر أي سلطة أخرى لا سياسية ولا دينية. أما طبيعة هذا الحكم فهي (العدل والمساواة والقسط والإخاء, بحضّها على الإحسان والتحابب). وعلى الرغم من أن هذه الأيديولوجيا (تحكم بأمرها) لكن لا يتخيلن أحد بأن هذا (الحكم بالأمر) هو نمط استبدادي آخر من أنماط الحكم، إنه عكس ذلك تمامًا حيث إن (الحكم بالأمر) لا يتم بل لا يصبح شرعيًّا, ما لم يتأسس على الشورى. فالحكم, مؤسسًا على الأيديولوجيا الإسلاموية, إنما هو نوع من الممارسة السياسية الشورية الديمقراطية التي ترسمها وتنفذها نخبة أرستقراطية نطلق عليها اصطلاح “أهل الحل والعقد”؛ أي أولئك الذين يتميزون بعقولهم لا بسيوفهم ولا بثرائهم. فالارستقراطية وفق هذه الأيديولوجيا، لم تعد مصطلحًا يشير إلى طبقة اجتماعية محددة, إنما إلى أناس تفوقوا على غيرهم بعفتهم وإيمانهم, وعلمهم, ونزاهتهم, وفهمهم الحقيقي والعميق لأصول الإسلام.

ولعلنا نستطيع أن نفهم مضمون المصطلح؛ أي الارستقراطية من خلال المعنى الذي يضعه هو نفسه بين أيدينا؛ فهو لا يعنى (التمجد) ولا أولئك الممتلئين فخرًا بانتسابهم إلى (بيوت الإمارة)؛ فهؤلاء على رأي الكواكبي (جرثومة البلاء) الذين عليهم أن يفسحوا المجال أمام غيرهم وبخاصة أصحاب الفضل والعلم والتقوى للإمساك بدفة الأمور.

لكن الكواكبي, وإبان بحثه في (الإسلامية) يفرق بين (الدين الأصلي) وهو الذي ينبغي أن يكون الأساس المكين للنهضة والتقدم وبين (الدين الحاضر) أو السائد. فالإسلام مثلما كان يمارس في أواخر القرن التاسع عشر, ليس بالدين المطلوب منه أن يحقق نهضة ومدنية؛ فقد داخَلَ (الدين الحاضرَ) مثلما يذهب عبد الرحمن (طوارئُ) غيرت من نظام الدين، وهذه الطوارئ، برأيه، إما أن تكون (تغييرات أو متروكات أو مزايدات)؛ وعلى هذا الأساس فإن الإسلامية التي ينادى بها إنما تقوم على (الدين الأصلي) مثلما نعرفه في بدايته الأولى، وقبل أن يطرأ عليه شيء.

هذا هو الدين الذي يجب أن تنطلق منه شرارة النهضة. إنه الإسلام وليس شيئًا آخر غيره. إنه بمعنى آخر إسلام النبى e وخلفائه الراشدين وعصره الذهبي، لا إسلام العثمانيين أو المماليك أو غيرهم. وعلى أي حال فإن الأساس الأول الذي يفترض أن تنهض عليه الأيديولوجيا الإسلاموية هو الشورى. إنه طراز فريد من الحكم العادل والمستنير. وتصيب عبد الرحمن الدهشة وهو يرى أمم الغرب كيف أفادت من هذا الطراز وطورت, من خلاله، دولها ومجتمعاتها, في وقت كان العرب والمسلمون أولى أن يكونوا السباقين إلى الإفادة منه كعامل أساس في تقدمهم. فأمم الغرب, كما يقول الكواكبي, (استفادت من الإسلام أكثر مما استفاد المسلمون)؛ وبذا أمكن للآخرين بأنظمتهم الديمقراطية المنافية للاستبداد, أن يبلغوا شوطًا بعيدًا في تقدمهم الحضاري.

لكن المسلمين, وعلى الرغم من عدم استثمارهم وتوظيفهم لمبدأ مهم توفر عليه دينهم؛ وهو الشورى قد أصبحوا أمام خيارَيْن: فإما التمسك بمبدأ الشورى في حياتهم السياسية حيث عندئذ, يمكنهم أن يحققوا خطوات هائلة على صعيد التقدم؛ خاصة إذا علمنا أن الشورى (وهي تعني الديمقراطية عند الكواكبي) من أبرز شروطها الحرية التي تعني بدورها إطلاق مواهب البشر وتفكيك طاقاتهم من القيود والمكبلات، والإفساح في المجال أمامهم للقيام بكل ما من شأنه أن ينهض بالمجتمع والدولة، وهى أي الديمقراطية, تقف ضدًا للحكم المطلق الفردي الاستبدادي, الذي يعني مزيدًا من تشديد الخناق على البشر بما هم طاقات وإمكانات وقدرات ومواهب, وإما أن يضاعفوا من انحطاطهم وتخلفهم واستبداد حكامهم بتخليهم عن هذا المبدإ. التخلي عن مبدأ الشورى يعني, بنظر الكواكبي, أن المسلمين قضوا على أنفسهم بأيديهم وليس بأيدي الأعداء الكثر المحيطين بهم. والأيديولوجيا الإسلاموية تشترط شرطين اثنين:

1)  قيام حكم ديمقراطي شوري يقضي بالعدل والمساواة والإخاء بحيث يصبح الرابط وطيدًا والعلاقة أكيدة بين الحاكم والمحكوم.

2)  أن تُبنَى العلاقة فيما بين المسلمين كافة على أساس من (عواطف الأخوة) الأمر الذي يفضي ولا بد إلى نشوء (الهيئة الاجتماعية الاشتراكية).

وإذ يشدد على أهمية (الثروة العمومية) أو الثروة القومية بمصطلحنا الحديث, يذهب إلى المطالبة بتوزيعها على أسس من المساواة، وهو يرمي, من وراء ذلك، إلى الحؤول دون احتشاد الثروات بيد أفراد؛ إذ إن الأمم التي يكثر أغنياؤها (يرسخ الذل) فيهم. هذا أولاً, وثانيًا لأن (المعيشة الاشتراكية من أبدع ما يتصوره العقل)!!

إذن فالإسلامية التي يتحدث عنهما الكواكبي تحقق طرازًا من (الاشتراكية البديعة) التي تقوم على الأسس التالية:

أولاً-   منع (تراكم الثروات المفرطة المولدة للاستبداد, المضرة بأخلاق الأفراد).

ثانيًا-   منع (التواكل في الارتزاق, وإلزام كل فرد من الأمة أن يسعى لرزقه بنفسه).

ثالثًا- (ترك الأراضي الزراعية ملكًا لعامة الأمة يستنبتها ويستمتع بخيراتها العاملون فيها بأنفسهم فقط).

رابعًا- وضع (قواعد شرعية كلية تصلح للإحاطة بأحكام كافة الشئون حتى الجزئية الشخصية, بحيث يعود أمر تنفيذها إلى الحكومة).

ومن شروط الإسلامية أن يكون العقل سيد الأحكام في حياة المسلمين؛ فالعقل -أو ما يطلق عليه عبد الرحمن (الحكمة العقلية)- هو الطاقة القادرة وحدها على الانتقال بالمسلمين من طور إلى طور. إن حضور العقل الكثيف لدى الغربيين أدى إلى ما نراه اليوم من رقي وتقدم؛ فقد استطاع الغربيون, بتحكيمهم العقل في كل شاردة وواردة, أن يحولوا حضارتهم إلى حضارة ظافرة وغالبة. وغياب العقل, أو التحكيم العقلي, عن البقعة العربية الإسلامية أدى إلى نتيجة معاكسة؛ إذ انتهت الحضارة العربية الإسلامية إلى أن تكون حضارة مغلوبة. من هنا فلا أمل يرجى بنهوض ما أو بخروج من المأزق الحضاري ما لم يتحول العقل عندنا إلى (الميزان القسط) الذي نزن فيه أمورنا سواء ما تعلق منها بديننا أو بدنيانا.

ولاحظ عبد الرحمن الكواكبي أن الاستبداد استبعد نهائيًّا (الحكمة العقلية) لدرجة أن الثقافة الإسلامية أصبحت وكأنها لا تمُتّ إلى الحياة بصلة, وأن لا علاقة لها بالعالم الذي نعيش بين ظهرانيه وإنما بعالم آخر, بعيد وغير موجود. واقتصرت هذه الثقافة على العلوم الدينية، مستبعدة كل حديث عن العلوم الطبيعية والرياضية. وسبب ذلك أن المستبد ترتعد فرائصه من علوم الحياة (مثل الحكمة النظرية, والفلسفة العقلية, وحقوق الأمم, وطبائع الاجتماع, والسياسة المدنية, والتاريخ المفصل, والخطابة الأدبية, ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس, وتوسع العقول, وتعرف الإنسان ما هي حقوقه) كما يقول.

ويربط الكواكبي, الربط المتين والمحكم, بين العلم المستند إلى (الحكمة العقلية) والتحرر؛ فالعلم يكسر قيود الأسر, ويهدد مصير المستبدين في الدنيا والدين، ويقول: (ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين).

ولئن كان الكواكبي قد وجه نقده -وبطريقة موجعة ولاذعة- إلى الاستبداد فلأنه اعتبر أن هذا الأخير إنما هو الداء الخطير, السرطان الذي تفشى في سائر أنحاء الجسد الإسلامي فأتلفه. والحق أن عبد الرحمن لم يصدر في نقده للاستبداد عن موقف ذاتي. فهو أسس نظريته حول الاستبداد انطلاقًا من معاينة واعية وعقلانية للحالة المؤسفة التي تنوء تحتها المجتمعات العربية الإسلامية. وقد وضع نفسه في موضع الطبيب الذي يلجأ إلى تشخيص المرض برؤية وهدوء قبل أن يستخدم مبضعه.

إذن فإن الكواكبي لم (يشخص) الاستبداد انطلاقًا من عوامل ذاتية، بل من شعور عميق بالخطر الذي يتهدد العرب والمسلمين فيما لو بقيت هذه الآفة تضرب في مفاصلهم وتمشي مع الدم في عروقهم. فالخطر كبير, وهو يتمثل هنا في مقدرة الاستبداد على (صنع ) طبائع البشر وأخلاقهم وتصرفاتهم و(الإنجازات) المخيفة التي حققها الاستبداد الشرقي على هذا الصعيد لا تعد ولا تحصى. يكفى أن نقول بأنه استطاع أن يجعل من طبائع وأخلاق الشرقيين -والمسلمين على وجه التحديد- طبائع وأخلاقًا منحطة. فقد أصبحت لذتهم محصورة في (الأكل والتناسل) وما عاد يلذ لهم العلم والمجد والبذل ونفوذ الرأي وكبر النفس. على حين أن الآخرين -وهم هنا الغربيون- (لا يسكرهم انتصار، ولا يخملهم انكسار, ولا يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم).

وفى هذا الإطار ينهض عبد الرحمن بمقارنة بين الشرقيين (الخاضعين للاستبداد) والغربيين (المتشبثين بالحرية)، مبرزًا الفروق الرئيسة بين الجانبين. وإذا كانت ثمة وظيفة ما لهذه المقارنة ففي منحاها التحريضي؛ فهو يريد لهذا الشرقي المسلم أن يسعى, وأن يمارس التضحية بالنفس كيما يعتق نفسه ويبلغ شاطئ الحرية؛ وذلك تمثلاً بما تأتَّى لندِّه الغربي.

في التجديد الديني: إن نظرة عبد الرحمن الكواكبي إلى التقدم والنهضة تحملنا على الاعتقاد بأن الرجل كان يصدر في كل ما كتب عن خطة واعية ترمي إلى تجديد ديني يشكل الأساس المكين لأي نهوض محتمل. وتأسيسًا على هذه الخطة الواعية ذهب الكواكبي إلى رفض أي رأي مسبق وأي قناعة مسبقة والتوصل -من خلال الفحص العقلي- لآراء وقناعات ومواقف تؤدى إلى (توفيق شئون المسلمين على مقتضيات الزمان). وانطلاقًا من هذه الرؤية بات على المسلم المتشوق إلى النهضة أن يرفع شعارًا يقول: (أنا إنسان الجد والاستقبال [=المستقبل] لا إنسان الماضي والحكايات [=الخرافات]).

فمن الآن وصاعدًا بات مرفوضًا الإذعان والركون للتفسيرات والآراء والقناعات المسبقة (التي تنافي العقل إجمالاً)، ويلزم تكوين أخرى بدلاً منها ينتجها العقل ولا شيء غير العقل. ولعل من أبرز الأثقال التي ألقيت على كواهل المسلمين, عبر الزمن, تمثل في تقليدهم للسلف واتباعهم رأي الغير, وهما شيئان -أي التقليد والاتباع الأعمى- ينهى عنهما القرآن الكريم الذي لا يرغم أحدًا على أن يذعن لأمر غير مقبول من العقل. وفى هذا يقول عبد الرحمن: (أن الناظر في القرآن حق النظر يرى أنه لا يكلف الإنسان قط بالإذعان لشيء فوق العقل, بل يحذره وينهاه من الإيمان … اتباعًا لرأى الغير أو تقليدًا للآباء). فالإسلام على هذا الأساس, يحرر البشر من المكبلات والقيود الوافدة إليهم من عصور سابقة، وهو يطلب منهم عدم التقيد بشيء من هذا؛ لأنه عائق أساسي في وجه تقدمهم. فالآباء لهم زمنهم ولهم تاليًا آراء وقناعات تتوافق مع مقتضيات ذلك الزمان. ونحن لنا زمننا ولنا تاليًا آراء وقناعات تتوافق مع مقتضياته وحاجاته. ومن هنا فإن القرآن يحضنا على إعمال عقولنا وإنتاج ما يناسب العصر الذي نحياه والمجتمع الذي نعيش بين ظهرانيه.

إن عبد الرحمن ينطلق في إسلاميته من رؤية إنسانية لها مضمون سياسي اجتماعي ثقافي. غير أن ثمة أصلاً وأساسًا دينيًّا لهذه الرؤية متمثلاً في القرآن. من هنا يأتي الإلحاح الذي يبديه الكواكبي في كتاباته على العودة إلى النص القرآني لأجل استلهامه والاهتداء به، وعلى أساس من هذا يمكن القول إن الأرضية التي انطلق منها الكواكبي في أفكاره الإصلاحية هي أرضية دينية، وهي بالأحرى أرضية الإسلام الأول النقي الذي يريد له أن يكون خلوًا من كل ما علق به وأضيف إليه. وفى هذا الموقف يلتقي الكواكبي مع مجدد ديني آخر في القرن التاسع عشر؛ وأعنى الشيخ محمد عبده، فكلاهما رأى الإسلام أساسًا صالحًا للتقدم والنهضة، وكلاهما أكد أن الإسلام إذا أُريد له أن يلعب مثل هذا الدور البارز في حياة المسلمين فلا بد من أن يكون إسلامًا بلا مذاهب متنازعة وخلوًا من البدع, إسلام الدعوة الأولى حيث كان ثورة على الجمود والتقليد والاتباع. وفى هذا نستطيع أن نعتبر عبد الرحمن الكواكبي المجدد الآخر بعد محمد عبده، والذي كانت تنتظره الحياة الإسلامية. ودارسو الكواكبي, والمنقبون عن وجهات نظره في الدين الإسلامي لابد أن يضعوه في سلسلة هؤلاء الأعلام المجددين لهذا الدين، وعلى رأس هؤلاء، كما يذهب الدكتور محمد عمارة، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

إن وقفة متمهلة عند ما كتبه عبد الرحمن في (طبائع الاستبداد) و(أم القرى) تمحضنا برهانًا قاطعًا على باعه الطولى في مسألة التجديد الديني. لكن الشيء الذي ميز الرجل من غيره من المفكرين الإسلاميين في القرن التاسع عشر هو ذلك التنظير الذي اشتغل عليه طويلاً، وميز بواسطته بين الإسلام بوصفه دينًا وبين الإسلام بوصفه أيديولوجيا تصلح لأن تكون أساسًا لأنظمة الحكم ومؤسسات المجتمع في البلدان العربية-الإسلامية. إذن فقد فرق الكواكبي بين ” “الإسلام” و”الإسلامية”، ولئن رأى أن الإسلامية تعتبر أساسًا لا غنى عنه في النهضة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فقد اعتبرها من جانب آخر الأيديولوجيا التي يتسع صدرها لكل تطور ولكل عصر. وطالما أن العصر الذي نعيشه – ونحن في منتصف وأواخر التاسع عشر- إنما عصر المؤسسات والتنظيمات؛ أي إنه العصر الذي يحتاج إلى تنظيم، فإن الإسلامية كفيلة بالاضطلاع بهذه المهمة. وإذا كان عبد الرحمن قد اعتبر أن (ليس في الكون شيء غير تابع للنظام, حتى فلتات الطبيعة والصدف التي هي مسببات لأسباب نادرة)، فإنه ذهب إلى اعتبار أن الأيديولوجيا التي تحدث عنها تستطيع أن تعبر عن هذا النظام وتتواءم معه في كل زمن وعصر.. وكيف لا وهي نفسها أي الأيديولوجيا الإسلاموية, ليست أقل من تنظيم شامل للكون بقضاياه وأحداثه ومتطلباته! لكن على الإسلامية أن تحافظ على طبيعتها المتحركة, وخواصها, وأن تبقى -بمعنى آخر- على أتم الاستعداد لتتلاءم مع كل تطور، فالكون حركة مستمرة لا تتوقف, ولعل إحدى أبرز الخاصيات التي تتميز بها “الإسلامية” هي حركيتها.

أما في حال فقدت هذه الخاصية فإن مفعولها يبطل، بل يبطل ذلك الانسجام القائم بينها وبين الحياة والكون، فعلى الإسلامية وكيما تحافظ على فعاليتها وتأثيرها أن تمضى مع المجتمع إلى حيث يمضى, وأن تتطور بتطوره (فالحركة سنة عامة في الخليقة دائبة بين شخوص [= صعود] وهبوط، فالترقي هو الحركة الحيوية؛ أي حركة الشخوص (= الصعود) ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت أو الاستحالة أو الانقلاب. وهذه السنة كما هي عاملة في المادة وأعراضها, عاملة أيضا في الكيفيات ومركبتها).

وتأسيسًا على ما سبق ذكره نستطيع القول إن فكر النهوض الذي أنتجه عبد الرحمن الكواكبي قام على أساسين رئيسيين: الإسلام دينًا, والإسلامية أيديولوجيةً، ولئن كان الأساس الأول ذا طبيعة إيمانية محضة وهو أساس جوهري بالنسبة إلى المسلمين لجهة تهذيب أخلاقهم وترقيتها وتثويرها بحيث تصبح قادرة -بإسلامها- أن تواجه استبداد المستبدين, وأن تواجه أيضًا مدعيي السلطة الدينية، فإن الأساس الثاني (أي الإسلامية) شيء آخر ومختلف فهو-انطلاقًا من كونه أيديولوجيا- وُجد ليكون الملهم الوحيد للمسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. هذه الرؤية الإدراكية للكواكبي حول التحديات تعتبر من الرؤى العميقة في هذا المقام، والتي جعل فيها من رؤية الداخل -من دون إهمال الخارجي- قاعدة لفهم التحديات وتصورها.

ولا شك أن هذا التصور العميق في وزن الداخلي ترك آثاره على تصور الاستجابات، وضرورة أن يحفزها فعلٌ وتفعيلٌ وفاعليةٌ من الداخل وإليه، ضمن علاقة تتعرف على معنى “الجامعة الإسلامية” وتسهم في الأدب الذي برز بمناسبة التأكيد على أهميتها؛ مثل ما قدمه الأفغاني ورشيد رضا وغير هؤلاء ممن أكدوا على الفكرة وضرورتها.

كما أن الحس السياسي لدى الكـواكبي كان عميقًـا عبر به قمة التحديات التي تواجه عالم المسلمين حينما أفرز نظريته حول الاستبداد, والذي جعله أس الداء وأصل البلاء, وهى رؤية عميقة نظن أهميتها عند صياغة الإدراك ومناهج التفكير والنظر بالنسبة للتحديات؛ لشمولها وعمقها, ويمكن رصد أهم عناصرها في الشكل التالي:

كما أنه استعرض أجندة التحديات السياسية والتي نظن عند تصنيفها أنها تستوعب كثيرًا مما نحن بصدده عند الحديث عن الفصل الخاص بخرائط التحديات السياسية، وهى أجندة جديرة بالتأمل في هذا المقام (التشريع, والإدارة, والسياسة المطلقة, تفرق الأمة إلى عصبيات, عناصر العدل الاجتماعي, والعلاقة بين العلماء والأمراء، دور العلماء والفقهاء ووظيفتهم السياسية في الأمة، وخصائص النخبة السياسية، الاهتمام بعناصر القوة (الجندية – الجباية), أصول الشرعية, والهوية, السياسات وعمليات التسيير وضع القرار….الخ ). لا شك أن هذه أجندة مهمة من جراء البحث في الشأن السياسي العام وتمثل معنى السياسة الإسلامية في القيام على الأمر بما يصلحه.

أضف إلى ذلك، فإن الكواكبي كان واعيًا بالربط بين التحديات بصنوفها ضمن خريطة كلية تستطرق فيها التحدياتُ والاستجابات لها: تأثيرًا أو تأثرًا. فهو حينما يتحدث عن التحديات يتحدث عن الجانب الفكري منها, والاجتماعي والأخلاقي, والثقافي والحضاري, بل والاقتصادي؛ وذلك ضمن رؤية شاملة تؤكد عمق الإدراك ووعيه والقدرة على صياغته والوقوف على بعض مؤشرات الاستجابة في هذا المقام، في إطار رؤية إصلاحية وإحيائية وتجديدية شاملة.

كما أنه من الواضح – وبعمق- رؤيته للأمة واختلاف رؤاها ضمن حركة تنوع فكرية، وكأن كل تيار منها ينبه إلى صنف من تحدياتها ويؤكد عليه؛ بحيث تكون التحديات في مجموعها منظومة مهمة يجب التعامل معها على هذا النحو. وهذا التفكير المنظومي كان واضحًا أشد الوضوح ضمن صياغته العميقة في “أم القرى”, و”طبائع الاستبداد”، وكان عمقه واضحًا حينما أكد على صناعة الاستبداد وشبكته الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ بحيث تشكل له بنية تحتية، وتمثل الشروط لبقائه واستمراره. ويؤكد أن الاستجابة الشاملة لا بد أن تكون من نفس جنس شمول العملية الاستبدادية وركائزها المتعددة في المجالات المختلفة.

غاية الأمر: إننا بصدد رؤية صافية وعميقة لمفهوم التحدي, ومفهوم العالم الإسلامي, وأوزان التحديات ووزن الداخلي فيها ومنها، وتأثير الخارجي عليها وضرورات الاستجابة الشاملة للتعامل معها ومواجهتها.

2) نموذج السنهوري والتنظيم الدولي بين الدول الإسلامية :

اقتراح عصبة أمم شرقية: يشكل نموذج السنهوري بعدًا إضافيًّا ضمن منظومة التفكير بالأمة وتحدياتها. تعرض السنهوري لموضوع إنشاء منظمة دولية بين الدول الإسلامية في رسالته (فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية)(33)، وقد كانت مناسبة هذه الرسالة في أعقاب إلغاء تركيا للخلافة الإسلامية عام 1342هـ (1924م)؛ حيث أثار هذا الأمر حفيظة الكثير من شباب الأمة الإسلامية الذين كان أحدهم عبد الرزاق السنهوري، فألف عام 1344هـ (1926م) رسالة حول موضوع الخلافة محاولاً وضع تصور لكيفية تنظيم العلاقات بين الدول الإسلامية بعد إلغاء الخلافة.

ينطلق السنهوري في فكره نحو إنشاء منظمة الدول الإسلامية من الفروض الآتية:

(1) وجوب إقامة (الخلافة).

(2) صعوبة إقامة (الخلافة) في الظروف المعاصرة.

(3) إنشاء نوع من التنظيم بين الدول الإسلامية.

(4) هذا التنظيم لا يغني عن العودة إلى الخلافة.

(1) وجوب إقامة (الخلافة):

يرى السنهوري أن إقامة حكومة الخلافة أمر لا بد وأن يسعى كل مسلم لإقامته (وتتميز حكومة الخلافة عن الحكومات الأخرى بثلاث خصائص:

1)  أن اختصاصات حكومة الخلافة عامة: أي تقوم على التكامل بين الشئون الدنيوية والدينية.

2) أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية.

3) أن الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلامي.

ويؤكد السنهوري على حقيقة أن الشريعة الإسلامية توجب وجود الخلافة الإسلامية ويأخذ في استشهاده على هذا الوجوب بدليليْن:

1) الدليل الشرعي الذي استند إليه أهل السنة: هذا الدليل الذي (يجعل الإجماع سندًا لوجوب إقامة الخلافة ويعتمد على سوابق تاريخية مؤكدة، فبعد وفاة النبي e أجمع الصحابة على ضرورة اختيار واحد منهم رئيسًا يقوم مقامه وشرعوا في انتخاب الخليفة قبل أن يدفن النبي مما يؤكد صفة الاستعجال والخطورة لهذه المسألة في نظرهم).

2)  الدليل العقلي الذي يستوجب وجود سلطة عامة: أيًّا كان شكلها للمجتمع المسلم؛ هذه السلطة هي الخلافة، (وأهمية هذا السند العقلي أنه يمكِّن نظام الخلافة من النمو والتطور طبقًا لما يرجيه النظر العقلي). وخلاصة الأمر أن السنهوري يؤكد على مبدأ وجوب إقامة الخلافة؛ هذا المبدأ الذي ينتج عنه هناك واجبًا على المسلمين يلزمهم بالسهر على إقامة نظام الخلافة واستمراره دائمًا. ووجوب الخلافة عند السنهوري يقوم على سند شرعي مستمد من إجماع أهل السُّنة, وسند عقلي يكسب نظام الخلافة نوعًا من النمو والتطور.

(2) صعوبة إقامة (الخلافة) في الظروف المعاصرة:

يرى السنهوري صعوبة إقامة الخلافة بعد أن تخلت عنها تركيا، ويرجع ذلك إلى الظروف التي كان يمر بها العالم الإسلامي حينذاك: حيث كانت أغلب أقطار العالم الإسلامي تخضع للاحتلال الأجنبي, كما أن الدول المستقلة حديثًا -كانت في ذلك الوقت- مازالت تؤكد على استقلالها على نحو قومي وعلى أساس قطري، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العالم لم يكن مهيَّئًا لقبول فكرة عودة الخلافة.

(3) إنشاء نوع من التنظيم بين الدول الإسلامية:

يرى السنهوري أنه إزاء صعوبة إقامة الخلافة الإسلامية (وبما أنه يستحيل اليوم تصور إقامة نظام الخلافة الراشدة أو الكاملة فلا مناص من إقامة حكومة إسلامية ناقصة (غير كاملة) وذلك على أساس حالة الضرورة للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي في ذلك الوقت).

فنظرًا لأن العودة إلى إقامة خلافة إسلامية تضم الدول الإسلامية قد يأخذ فترة طويلة؛ لذلك يرى السنهوري ضرورة الاهتمام بوضع قانون دولي يحكم العلاقات بين الدول الإسلامية المختلفة، طالما أن تعدد الدول الإسلامية أصبح حقيقة واقعة، كما دعا السنهوري إلى ضرورة إيجاد نوع من التنظيم الدولي بين الدول الإسلامية، الهدف منه المحافظة على كيان الأمة الإسلامية وإيجاد تقارب بين شعوبها.

واقترح السنهوري أن يأخذ التنظيم في بداية الأمر شكل هيئة للشئون الدينية تعمل على تنمية الوحدة العقيدية والنهضة الثقافية وتحافظ على تراث الأمة, هذه المقومات التي تربط بين شعوب الدول الإسلامية المستقلة وغير المستقلة. ثم يلي إنشاء هذه الهيئة إقامة تنظيم سياسي بين الدول الإسلامية يتمثل في إنشاء جامعة شعوب شرقية.

(4) هذا التنظيم لا يغنى عن العودة إلى الخلافة:

إن ضرورة وجود نوع -غير كامل- من التنظيم بين الدول الإسلامية هو أمر مؤقت وليس بديلاً عن الخلافة؛ ومن ثم فإنه يجب السعي للعودة مستقبلاً للخلافة الراشدة (أي الحكم الإسلامي الكامل الراشد).

التنظيم الدولي بين الدول الإسلامية:

في بداية الأمر يجب التمييز بين نوعين من العلاقات بين الدول الإسلامية؛ وهما العلاقات المتعلقة بالأمور الدينية، والعلاقات المتعلقة بالأمور السياسية؛ وبناء على ما سبق يرى السنهوري أن نقطة البداية هي إنشاء هيئة للشئون الدينية، ثم يضاف إليها فيما بعد – عندما يكون ذلك مناسبًا- منظمة سياسية (جامعة الشعوب الشرقية) تجمع الدول الإسلامية.

أولاً- هيئة الشئون الدينية:

الهدف من إنشاء الهيئة هو حماية المصالح الدينية للمسلمين؛ سواء كانوا يعيشون في دول إسلامية – مستقلة أو غير مستقلة- أم كانوا يعيشون في دول غير إسلامية. وتتكون الهيئة من:

(أ) الرئيس: ويمثل العالم الإسلامي؛ إذ إنه الرئيس الأعلى للهيئة ويتم انتخابه بمعرفة الجمعية العامة للهيئة بناء على ترشيح المجلس الأعلى.

(ب) الجمعية العامة: وهى بمثابة برلمان الهيئة؛ حيث يتم فيها التعبير عن اتجاهات الرأي العام للعالم الإسلامي، وتتكون من مندوبين حيث تقوم كل دولة وكل جماعة إسلامية – كل عام- بإرسال عدد من المندوبين. ويعتبر من الجماعات الإسلامية كل أقلية إسلامية في بلد غير مسلم (كالهند, والصين, وبولندا, وغيرهم)، كذلك يحق للبلاد الإسلامية غير المستقلة إرسال مندوبين عنها للجمعية, ويتحدد عدد المندوبين على أساس أهمية الدولة أو الجماعة الإسلامية أي إن الدول لن تكون متساوية في عدد المندوبين بالجمعية العامة. وتجتمع الجمعية مرة كل عام ويرأسها الرئيس أو مندوب من قِبله. وعمل الجمعية الأساسي هو مناقشة التقرير السنوي الذي يقدمه المجلس الأعلى عن أعماله.

(ج) المجلس الأعلى: وهو بمثابة الجهاز التنفيذي للهيئة، ويتكون من مندوبين حيث يكون لكل دولة أو جماعة إسلامية مندوب أو أكثر في المجلس الذي يكون عدد أعضائه أقل بكثير من عدد الأعضاء في الجمعية العامة, ويجتمع المجلس عدة مرات في العام في مقر الهيئة تحت رئاسة الرئيس. ويشكل المجلس الأعلى من بين أعضائه خمس لجان وهي:

1- لجنة لشئون العبادات والتنظيم الداخلي.

2- اللجنة المالية.

3- لجنة الحج.

4- لجنة التعليم والدعوة.

5- لجنة العلاقات الخارجية.

ويحسن -كما يرى السنهوري- أن يوجد مجلس للمجتهدين، يضم ممثلين لكبار علماء الفقه الإسلامي تحت رعاية الهيئة، وتكون مهمة المجلس إصدار الفتاوى في موضوعات الفقه الإسلامي.

ويقوم المجلس الأعلى باتخاذ قرارات بشأن كل مسألة بعد أن تتم دراستها بمعرفة اللجنة المختصة.

ويرى السنهوري أن الهيئة تعد تنظيمًا عمليًا مفيدًا، وتستطيع الجماعات الإسلامية المبعثرة في البلاد الأجنبية أن تندمج بذلك مع شعوب الأقطار المستقلة في وحدة دينية تباشر نشاطها باعتبارها جماعة أو أمة واحدة بموجب قرارات نهائية. ولكي تؤدى الهيئة عملها في يسر وسهولة فإنه يجب أن يكون لها وجود شرعي في جميع البلاد وأن تكون لها شخصية دولية.

ثانيًا- جامعة الشعوب الشرقية:

يرى السنهوري أن وحدة الدول الإسلامية في دولة مركزية واحدة غير ممكنة -في ذلك الوقت- وأنه يجب علينا أن نجد حلاًّ يمكن أن يضمن صورة من الوحدة بين الشعوب الإسلامية، مع إعطاء كل بلد نوعًا من الحكم الذاتي الكامل، وهذا يمكن تحقيقه في إطار (جامعة الشعوب الشرقية).

وجامعة الشعوب الشرقية ستضم أساسًا دول العالم الإسلامي. فالسنهوري يحدد العلاقة بين الإسلام والشرق بقوله: (إن الإسلام بهذا المعنى يعنى الشرق، وعندما أتكلم عن الأول فإنى أعنى الآخر كذلك، إن نهضة الشرق تعني في ذهني نهضة الإسلام دون شك). واقترح السنهوري قبول انضمام الدول التالية للمنظمة: تركيا, إيران, جزيرة العرب, مصر (بعد جلاء بريطانيا)، العراق (بعد انتهاء الانتداب البريطاني).

وظيفة جامعة الشعوب الشرقية :

هذه الجامعة ستكون مهمتها هي جمع شمل الدول الشرقية، وهدفها هو تدعيم السلام والتعاون بين الدول الأعضاء، وأن توفر لهذه الدول الاستقرار الداخلي والأمن الخارجي.

كيفية قيام جامعة الشعوب الشرقية:

يرى السنهوري ضرورة التمهيد لذلك بأمرين:

الأول- هو القيام بحركة نهضة شرقية شاملة لا تقتصر على المجال القانوني فحسب، بل تشمل أيضًا جميع الميادين الثقافية والعلمية. وقد رشح السنهوري الأزهر الشريف لكي يكون منبعًا لهذه الحركة الثقافية الشرقية.

والثاني- هو القيام بحركة توعية سياسية تبدأ بإنشاء حزب سياسي في كل دولة شرقية يكون له برنامج؛ هذا البرنامج يهدف أساسًا إلى إنشاء جامعة شعوب شرقية. ويجب أن تجتمع مؤتمرات سياسية, في بداية الأمر ستكون غير رسمية ثم تصبح مؤتمرات برلمانية ورسمية. وتعقد هذه المؤتمرات من حين إلى آخر للبحث عن مجالات اتفاق بين الشعوب. ومن الأفضل البدء بالتعاون في المجال الاقتصادي قبل المجالات السياسية. ويتحقق الهدف النهائي حين تصل هذه الأحزاب السياسية الوطنية إلى الحكم في بلادها وتحصل بذلك على إمكانية لتحقيق أهدافها السياسية السلمية العالمية.

فإذا تكونت جامعة شعوب شرقية فلن تتبقى سوى خطوة واحدة لإقامة الخلافة؛ وهي أن رئيس الهيئة الدينية يمكن أن يصبح رئيسًا شرعيًّا للجمعية العامة للمنظمة الشرقية، وسوف يضم بذلك إلى اختصاصاته الدينية السلطة السياسية، وبذلك تجتمع السلطتان الدينية والدنيوية في يد عليا واحدة.

ويلاحظ أن السنهوري لم يعرض لتشكيل جامعة الشعوب الشرقية ولا لكيفية تنظيم العمل؛ وذلك على أساس أنه كان يسعى أولاً لإقامة هذه الجامعة؛ لذلك حرص على توضيح العلاقة بين جامعة الشعوب الشرقية ومنظمة عصبة الأمم, كما حرص على تأكيد أن جامعة الشعوب الشرقية تقوم على احترام مبادئ القانون الدولي وتحافظ على السلم والأمن. وقد كان هدفه من وراء ذلك ألا تكتسب دعوته لإنشاء هذه المنظمة السياسية (جامعة الشعوب الشرقية) أية عداوة من جانب الدول الغربية.

السنهوري والتنظيم الدولي بين الدول الإسلامية :

يتميز فكر السنهوري عن الوحدة الإسلامية في أنه ألقى الضوء على أن سعى الشعوب الإسلامية نحو تحقيق وحدتها السياسية من خلال إقامة الخلافة قد يأخذ وقتًا طويلاً، وخلال ذلك يجب أن يوجد بين الدول الإسلامية نوع من التعاون والتنسيق فيما بينها, ومن هنا فقد اقترح السنهوري إنشاء منظمة دولية متخصصة في الأمور الدينية والفقهية (وهى هيئة الشئون الدينية) تحافظ على الخلفية العقائدية والثقافية للمسلمين أيًّا كان مكانهم. فاختصاص هذه الهيئة يمتد ليشمل المسلمين في الدول الإسلامية وغير الإسلامية. واقترح أيضًا عندما تتطور العلاقات بين الدول الإسلامية إلى ما هو أفضل فإنه يمكن إنشاء منظمة دولية عامة (وهي جامعة الشعوب الشرقية) تعمل على تقوية الروابط بين الدول الأعضاء وتحافظ على استقرار وأمن هذه الدول.

ولا شك أن فكر السنهوري ودعوته لإنشاء منظمة دولية إسلامية كان فكرًا ودعوة متميزين في ذلك الوقت؛ وقد كتب الدكتور حامد الغابد –الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي– مقدمة للطبعة الثانية من كتاب السنهوري عن الخلافة، وقال الأمين العام فيها: (إنه حرص على إعادة نشر كتاب السنهوري ليؤكد أن هذه المنظمة لم تنشأ لظروف سياسية أو أهداف انتهازية كما ادعى البعض, بل إنها كانت ثمرة تيار فكري إسلامي شعبي أصيل كانت له بوادر عديدة في العالم الإسلامي وكان من أهم مظاهرها هذا الكتاب الذي دعا إلى إنشاء منظمة دولية إسلامية تحل محل الخلافة بعد إلغائها عقب الحرب العالمية الأولى (في مارس 1924م).

ومن الواضح أنه وفق الإطار التخصصي للدكتور السنهوري والذي أراد البحث عن المخرج القانوني لوضع إلغاء الخلافة, والتأكيد على عناصر رمزية الخلافة بالنسبة للأمـة, إلا أن الأمة لا تسقط بانقضاء الخلافة؛ ومن ثم كانت فكرته حول “عصبة أمم شرقية”, وشكَّل هذا الاجتهاد في أوانه توضيحًا مهمًّا في مسارات التيارات الفكرية المختلفة، وذلك في إطار حس عالٍ بالأمة؛ ومن ثم شكلت رؤية بهذا الاقتراح باعتباره استجابة (قانونية) و(تنظيمية) لتحدي إلغاء الخلافة.

3- نموذج مالك بن نبي وفكرة كومنولث إسلامي:

نموذج مالك بن نبي ضمَّن خريطة إدراكية للتحديات في الأمة تحددها مجموعة كتاباته الأساسية والتي أكد عليها في مشروعه الحضاري “في مشكلات الحضارة”، وقدم فيها عناصر في شبكة إدراكية للتحديات مثل: شروط النهضة والثقافة, والصراع الفكري في البلاد المستعمرة, وميلاد مجتمع, ومستقبل العالم الإسلامي، وغير ذلك من أمور استلهم فيها كل عناصر “تحديات البقاء، وتحديات البناء، وتحديات النماء والارتقاء”، وأبدى ضمن منظور حضاري وتحليل ثقافي رؤية متميزة في إدراك التحديات وجوهرها, ورؤية تجلياتها وقضاياها, ومحاولة اقتراح تأسيس بنائي كأحد عناصر الاستجابات الفاعلة للتعامل معها ومواجهتها. ويتمثل اجتهاد مالك بن بنى المباشر في كتابه “فكرة كومنولث إسلامي” حيث أشار فيه إلى الأمة وتحدياتها. وهو يقدم الاستجابة الواجبة “كومنولث إسلامي” كتحدٍّ في حد ذاتها, أو هي على الأقل كاشفة لاستجابات من أنماط متشابكة. إنه يعبر عن حقيقة هذه الاستجابة والتحديات المرتبطة بها: “وينبغي علينا منذ الآن, أن نحدد الحدود المفروضة التي تستطيع تناول الموضوع في نظامها, فالعالم الإسلامي, وهو في المرحلة الراهنة من تطوره ليس مجهزًا لهذا النوع من العمل. فتجهيزه في هذا النطاق ليس كافيًا لأسباب عديدة؛ منها ما هو ذو صبغة نفسية, ومنها ما هو ذو صبغة مادية. هذه المسألة التي تمثل مظهرًا من المظاهر الأساسية فيما ندعوه “باللافعالية”.

وهو يحرك عناصر تحدٍّ في هذا المقام؛ ألا وهو تحدي الفكرة… إن “الفكرة ” ليست لها فعاليتها الكافية في العالم الإسلامي أو هي لا تلعب دورها فيه. ولا ريب أن فحص كل العوامل التي كان لها مفعولٌ ما في هذا القصور, سيكون ذا أهمية بالغة, ولكن المؤكد أن أحد مظاهر هذا القصور هو ما نلاحظه في التطور الراهن للعالم الإسلامي, من تخلف بالنسبة إلى التطور العام، وأن هذا المظهر بالذات يتصل بكل العوامل النفسية-الزمنية التي تبرر فكرة “الكومنولث”. إن تحدي الفكرة يكمن في الوعي الإسلامي الذي “.. قد أصبح ممزقًا منذئذ بين الرغبة في استدراك تأخر يعرف شدة وقعه في المجال السياسي ونعني به التأخر الذي حاق به على الصعيد الاجتماعي, بين الرغبة في إنقاذ تراث أخلاقي يعرف مدى قيمته…”، وقد ترتب على ذلك في الفكر الإسلامي تقاطب مزدوج شطر حياته النفسية إلى عالمين منفصلين, فالمسلم يعيش في عالم غريب له، منه “أشياؤه” وليس “أفكاره”… وهو يحدث مقارنة: “فاليابان قد تمثلت الأفكار بينما المجتمع الإسلامي لا يزال يشترى الأشياء”. وهو يحدد وزن الداخلي والخارجي في فهم التحدي: “إن مشاكل المجتمع الإسلامي في طبقتها وعددها ليست الدافع إلى عدم الأمن والقرار، ولكن واقع عدم العثور على حلول تلك المشاكل والطرق المؤدية إلى تلك الحلول…إن العالم الداخلي هو الذي يتضمن العلة أكثر منها في العالم الخارجي…”.

وهو هنا يسوغ لماذا من الضروري البحث في استجابة فكرة كومنولث إسلامي؛ فيؤكد أننا لا بد أن نكون على وعي بما أسماه “اعتبار المسافة الجغرافية للمشاكل التي نريد دراستها، فهناك مشاكل ذات صبغة قومية فحسب ينبغي أن تجد حلولها في نفس البلاد التي تثار فيها..، ولكن هناك مشاكل أخرى توضع في الرباط مثلاً إلا أنها لا يمكن أن تجد حلها في نطاق مراكش وحدها؛ لأن التاريخ قد حدد طبيعتها والتطور العام وقد حدد مستواها بطريقة لا يمكن معها أن تحسم تلك المشاكل إلا بحل عام يمكن تطبيقه في الرباط وجاكرتا معًا؛ أعني في مساحة معينة..

إن البحث في جغرافية التحديات لهي عملية في غاية الأهمية, وهى ترتب آثارًا فكرية ومنهاجية لتناول مثل هذه التحديات سعيًا ووعيًا “كطبيعة الشبكة ومستواها، والتي هي مشكلة العالم الإسلامي..أي مشكلة مساحة منحصرة بطريقة متحدة بين خطي طول طنجة وجاكرتا وبين خطى عرض مدينة الجزائر ودار السلام.. وهذه البيانات ليست في حد ذاتها إلا المعطيات الأولية، ولكننا بمجرد ما نتناول المشكلة في مظهرها الذي هو مظهر التنفيذ تتبدى لنا معطيات أكثر تعقيدًا، فالواقع أننا نوجد ليس بإزاء عالم إسلامي واحد ولكن بإزاء عوالم إسلامية عديدة… ومن ناحية أخرى يؤخذ بعين الاعتبار ذلك التعدد والذي يتعين أن يترجم عن تعقيدها, وعلى هذا فتخطيط العالم الإسلامي يجب أن يبدأ بالضرورة من عملية متكاملة من ناحية ومن عملية تبويب من ناحية أخرى….

إن إحالة مالك هنا تعني وفق جغرافية التحدي لإمكانات الربط بين الإطار العام للتحدي, والإطار النوعي أو الإقليمي والإطار القومي المحلي، وفي كل الأحوال فإن حجم الوعي بالمعلومات المتوفر عن هذه الأطر هو الذي يجعل التفكير في كومنولث إسلامي على هذه المستويات، بغية وضع تصميم لهذا العالم “يتعين علينا -بتعبير مالك- أن تأخذ بعين الاعتبار عددًا معينًا من المعطيات العضوية والضرورات المنطقية..”.

فالمبدأ التكاملي – في الاعتبار الأول- يعني ضمن ما يعني أنه “..لا جدال في أن العالم الإسلامي قد احتفظ بالرغم من تقلبات تاريخية، بوحدة روحية تكون عاملاً أساسيًّا من الوجهة النفسية في تماسك المشروع, ومن الوجهة الفنية في التوفيق بين عناصره”, علاوة على ذلك فإن هذه الوحدة لا تستطيع أن تقوم فعليًّا بدورها التكاملي “إلا إذا تجسمت في صورة موائمة  تمثل بشكل إنشائي إرادة العالم الإسلامي الجماعي, منذئذ تتعين مراجعة النظر في مشكلة الخلافة”، على ضوء المعطيات الراهنة للعالم الإسلامي.. نظر لا يغفل فيه ما يحمله اليوم المفهوم الإسلامي “أمة” من تنوع من حيث السياسة والجغرافيا والجِنس.. وأخيرًا فهناك مجال لاعتبار بعض الضروريات المنطقية المعينة، فالكومنولث الإسلامي لكي ينظم نفسه في علاقة وظيفية بمعطيات تطوره الخاص وبضرورات تكيفه مع تطور عالم مخطط, يمكن أن يعرف “كاتحاد فيدرالي بين العوالم الإسلامية” يترأسه مؤتمر إسلامي يقوم بدور الهيئة المنفذة لهذا الاتحاد، وعلاوة على ذلك فإن التقسيمات الفيدرالية يجب أن تتلاقى مع الاتجاهات الطبيعية للتطور التاريخي والاقتصادي والسياسي.

ويقوم مالك في إطار الربط بين عالم أفكار الكومنولث وخريطته التصميمية والبداية ببذرة الحياة له، بتخير نقطة مركزية كقاعدة مجمعة للعوالم الإسلامية باعتبارها “جهاز بوصلة” ترشد وجهة العالم الإسلامي لا نقطة مركزية تتجه إليها العوالم، خشية أن تُأول بمحاولة فرض إرادة خاصة على غيرها.

وفى هذا المقام فإن “مالك” يحرك هذه العناصر التصحيحية في إطار معنى البنية التأسيسية المادية, ومعنى البنى التأسيسية الفكرية, وأن الكثير من الأشياء الضرورية لمّا يولد بعد, ومن أهم ذلك الضعف الذي عليه الأساس المفاهيمي في عالم المسلمين, فنحن إذا قمنا -على حد تعبير مالك- بالمقارنة بين تطور اليابان الحديثة وتطور الشعوب الإسلامية منذ قرن من الزمان قلنا إن هذه الشعوب قد دخلت عالم الأشياء “وأنها لما تدخل بعد في عالم الأفكار كلية…”، ويمكننا أن نسقط هذا الاعتبار على المظاهر المختلفة للحياة الإسلامية لنستخلص منها النتيجة المطابقة لها، فنحن لو أسقطنا ذلك الاعتبار مثلا على التطور الاقتصادي للعالم الإسلامي منذ ما يزيد على قرن من الزمان نلاحظ أن هذا التطور في اتجاه “الأشياء” قد أنتج إعوازًا زاد من حاجات هذا العالم من غير أن يزيد في وسائله. وإذا ما أسقطناه على التطور الفكري, فهمنا السبب في أن هذا التطور عندما يتحول لدى المثقف المسلم إلى شكل من أشكال المادية, يكون قد اتجه نحو الشكل المحدد “بالأشياء” لا نحو الشكل المحدد “بالأفكار”، وكذلك الأمر فيما لو أسقطناه على التطور الاجتماعي بصبغة عامة فإننا نفهم أن هذا التطور يتجه صوب ذلك الشكل من أشكال “الحضارة الشيئية”، ويمكننا أن نسقط ذلك الاعتبار أيضًا على الاتجاه السياسي ونستخلص نتائج بالغة الأهمية. إن هذا التحدي الفكري يعني مدى ما عليه الفكرة في المجتمع الإسلامي من الفعالية وكأنها العزلى من سلاحها.. ولكن المجتمع -وهذا هو الأهم- يعانى حينئذ من نقيض مفعول موقفه فهو مجتمع متغير الأفكار في الساعة التي تمثل فيها الأفكار الثروة الوحيدة التي يعول عليها، وهو مجتمع أعزل مفاهيميًّا.. والمعضلة في هذا المقام هي أن أساسنا المفاهيمي ضعيف للغاية، وعالم أشيائنا لا يرتكز على كبير شيء. مضافًا إلى ذلك أنه حتى الأشياء الموجودة في هذا العالم “كنا قد اشتريناها من مجتمعات تملك أفكارًا”.

ومالك في سياق مقولته الشهيرة في التحكم في نمط الوعي والسعي, والظاهرة والقابلية لها (الاستعمار والقابلية للاستعمار)، يؤكد على معنى التحدي والتحدي المضاف؛ أي التحدي الداخلي الذي يشير إلى ضعف جهازنا المفاهيمي وفساده الداخلي، ومفعول إضعاف آخر يتأتى من الخارج. فنحن عندما نجهل قيمة شيء معين, لا يعني هذا مطلقًا أن كل العالم يجهلها مثلنا.. فالقيمة الاجتماعية للفكرة والجهل بقيمتها لا يعني أن “الاستعمار” يجهلها مثلنا، فقد مكن الاستعمار في العالم لجهاز من المراتب (المراصد) التي تقتصر مهمتها على ترصد حركة الأفكار, ومنها نفهم أن كل ما يمر في العالم الإسلامي من أفكار يهمه بصفة خاصة بقدر ما يهمه البترول بل أكثر من ذلك بكثير.

وبطبيعة الحال فهذا الاهتمام لمصلحة فكرية محضة, فالاستعمار ليس من هواة الرقائق الفكرية أو المولعين بها؛ ولا هو من مستهلكي الأفكار أو مكتسبيها: فله أفكاره الخاصة به, وهو يحتفظ بها لنفسه، مفضلا بيع أشيائه لنا، ولكنه لكي يحافظ على احتكاره للأفكار, قد مكن, على وجه الدقة, في العالم، لجهاز كامل من المراقب التي تستكشف الأفكار, وتتتبع تحركاتها باهتمام بالغ. واهتمامه بها اهتمام عملي محض؛ لأن الأمر ينحصر بالنسبة إليه في حماية ذلك الاحتكار لنفسه. وهذا يؤول عمليًّا إلى صياغة استراتيجية خاصة, ليس لدى العالم الإسلامي أيُّ فكرة عنها. والاستعمار لا يقنع بمجرد الاستعلام عن حركة الأفكار: فهذا شأن “الفيلسوف” إلا أن للاستعمار فلسفته الخاصة التي تتمثل في التخلص من الأفكار التي تضايقه, وفي الانحراف بها عن مراميها؛ بتوجهها خارج المدار الذي أراد أصحابها استبقاءها فيه. كيف يتخلص من فكرة معينة ؟.. كيف ينحرف بها ويوجهها خارج مدارها؟ وأقل من ذلك يقينًا كيف يمكن أن ينقص تمامًا من قيمة الفكرة ولا يزيد فيها كفكرة.. ؟

لكي نفهم ذلك نأخذ حالة محسوسة وجدّ بسيطة, إن كانت قد تكون غير معبرة بطريقة كافية : (فكرة = ماء) لنضيف إلى هذه المعادلة حدًّا إيجابيًّا :فنقول: [فكرة جديدة = ماء عذب] والمعلوم أن قيمة الماء باعتبارها تعبيرًا رياضيًّا عن فكرة معينة, أهم من الماء العذب، ولأنها أكثر عمومًا. وحتى لو أن المثال مفرط في التبسيط, فإنه يوضح مع ذلك أن قيمة فكرة معينة, يمكن أن تنقص حتى بإضافة حدٍّ إيجابي لها، إذا كان التدليل صحيحًا بالنسبة إلى الحد الإيجابي, فحرى به أن يكون كذلك بالنسبة إلى حد سلبي في إطار تعميم المعركة المفاهيمية. فالاستعمار يمتلك – كما قلنا- جهازًا من المراقب التي تستكشف الأفكار، كما يمتلك منهجًا يتيح له تبديل قيمة فكرة ما بالإضافة أو الحذف لحدٍّ من حدودها.

ويتعين علينا أن ندع للقارئ التمرن على زيادة تحليل آليتها إذا أراد.. إنه يضاف, إلى الضعف الداخلي في تجهيزنا المفاهيمي, إضعاف ناتج عن مجهود منهجي من المعاكسة الموجّهة من الخارج؛ وباجتماع ذينك المفعولين تصبح حياة “الأفكار” صعبة في المجتمع الإسلامي؛ المجتمع الذي لم يصل بعد (في طوره الماقبل اجتماعي) عالمَ الأشياء بعالم الأفكار. وبطبيعة الحال فإن لهذا التخلف الذي يسم طوره الماقبل – اجتماعي  دويه وتأثيره على كل الحياة في الأشكال المختلفة: هو اللافعالية التي قد تكون – من الوجهة الاجتماعية- أهم مشكلات العالم الإسلامي.

اللافعالية في المجتمع الإسلامي ومظاهرها المختلفة:

هكذا يرى مالك ويقول: “من البين أنه لا تلزمنا ملاحظة طويلة, لكي نأخذ في اعتبارنا أن “المنطق العملي” ينقص البلاد الإسلامية عمومًا؛ فهذا أمر متوقع لأن “العجز في الأفكار”, يخلق أو ينتج في المجال النفسي عجزا في “المراقبة الذاتية” وفى “مراجعة النتائج”. ففكرنا لا يقيم علاقات بين النشاطات والجهود والوسائل من ناحية, و”نتائجها” من ناحية أخرى. ومفهوم “المحصول” لا وجود له في تربيتها الأولى؛ وإذ هو لا يكون جزاءً من عالم أفكارنا بينما المجتمع هو جهاز التحويل, الذي يحول الطاقات الاجتماعية إلى نتائج, مختلفة. “فالمحصول”، و”التبديد” قيمتان متعاكستان، أعني إذا زاد واحد قل الآخر”.

“والواقع أننا عندما نحلل بعض النشاطات النموذجية في المجتمع الإسلامي, نلاحظ أن “التبديد” هو الغالب بكثير في معظم الأحيان على “المحصول”. تمكنت في دراسة ظهرت لي منذ بضع سنين, من الإشارة بالأرقام إلى تبديد مفرط لطاقاتنا الاجتماعية, وتبذير مسرف وغير محسوس في وسائلنا، وهذا مظهر من مظاهر اللافعالية التي تعزى إلى العجز في “أفكارنا”.

“… نلاحظ أن هذا العجز يخلق مفعولاً اجتماعيًّا معينًا وسببًا نفسيًّا مصطنعًا يمدد في هذا المفعول ويمنحه تبريرًا ومغالطة؛ لأننا نلاحظ على نفس الصعيد “التبديد” في الوسائل, وبما يؤول إلى “نتائج” محدودة من ناحية, ثم نجد أن الأشخاص يفسرون هذه المحدودية في النتائج لا بسببها الحقيقي المتمثل في التبديد لكن بسبب ثانوي هو: الفقر! وبما أن هذا السبب الثاني, ليس هو السبب الحقيقي, نجدنا على نحو من الأنحاء منحبسين في مناقضة أضعنا مفتاح مغاليقها: فنحن لا نعاني اللافعالية فحسب ولكننا نخترع شيئًا ما: “ترهة” معينة لاستبقائها! ونحن عندما نتفحص عن كثب حياتنا الاجتماعية نجد فيها ما لا يستهان به من الترهات من هذا القبيل، بغية تبرير لافعاليتنا”(50).

“وبالإضافة إلى ترهة “الفقر”, يمكننا أن نذكر ترهة “الجهل” التي تبرر لافعاليتنا في مجال آخر؛ بل وهنالك حتى ترهة “المسافة”! فقد سألت أخيرًا اثنين من الطلاب الإندونيسيين السؤال التالي كمعيار: لماذا لا يوجد في العالم الإسلامي تيار فكري نوعي كما هو الشأن في العالم الشيوعي, والعالم الغربي؟ وقد فكر الشابان ثانية من الزمان ثم أجاباني: إن المسافة بين أجزاء العالم الإسلامي تفصلها الواحد عن الآخر وتفصل بين أفكارها كما تفصل بين أجسامها، فسألت سؤالاً آخر: هل تريان أن أجزاء العالم الإسلامي هذه كانت تتصرف بطريقة أخرى, لو انعدمت هذه المسافة التي تفصل بينها؟

– فأجابا: أن نعم وبالتأكيد. وحينئذ سألت السؤال الثالث:

– ها أنتما تريان أن هذه الأجزاء قد تخلصت من تلك المسافة الفاصلة في القاهرة, حيث تتمثل هذه الأجزاء في صورة بعوث طلابية، فهلاً رأيتما هؤلاء الطلاب يقيمون فيما بينهم تيارًا فكريًّا؟ ولقد بدد سؤالي هذا ولا ريب في ذهنهما “ترهة المسافة”؛ لأنني رأيتهما يبتسمان كما يبتسم الطيبون من أولي العقيدة عندما يكتشفون غلطتهم بأنفسهم”.

“وهناك أشكال أخرى من “اللافعالية” غير الترهات, أو هي على الأقل تبرر بترهات من نوع آخر وتفسر في النهاية بنفس الداء المتمثل في: العجز في الأفكار, وانعدام الاتصال بين عالم أفكارنا وعالم أشيائنا. إننا في كل مرة نقف فيها أمام مظهر من مظاهر اللافعالية في المجتمع الإسلامي، نرى أنفسنا مجبرين على ربطه “بعالم أفكارنا”؛ لأنه في هذا العالم تكمن أدوارنا”.

الوظيفة والمكانة وكومنولث إسلامي:

(1) الحضور

وهكذا يربط مالك بين تطور شخصية الإنسان المسلم الفرد (الإنسان العقيدي) واكتمال نموه وبين تحديات هويته وانتمائه وانتقاله من المضيق إلى الموسع شعورًا وفكرًا وواقعًا:

“إن الإنسان بتطوره في الاتجاه الانبساطي, يستدرك تقدميًّا من تأخره, ويملأ فراغ تخلفه كذلك, وإذن فانتقاله من دائرة موطنه إلى “دائرة العالم الإسلامي” حيث تحتل فكرة الكومنولث الإسلامي مكانها, يمثل اتجاه اكتماله الطبيعي في عصر المساحات الكبيرة المخططة! إن كل انتقال من دائرة داخلية إلى دائرة خارجية يسجل تقدمًا في التطور النفسي للفرد وتمددًا في مستواه الشخصي يمنحه سعة أكبر على نحو من الأنحاء. وعلى ذلك فمن الحق القول بأننا إذ نسلم للمسلم بمهمة تشمل سعة العالم الإسلامي, نكون قد زدنا في مستواه الشخصي أولاً، ولكن أليس هذا التقدم للإنسان العقيدي في نهاية الحساب تقدمًا للوطن؟ المؤكد أنه قيد مشترك بين الطرفين القول بأن “العقيدي الحق” يكون دائمًا مواطنًا حقيقيًّا حتى بالنسبة إلى مساكنيه من ذوي المعتقدات المغايرة لمعتقده. فثلاثة عشر قرنًا قد فصلت نموذجًا اجتماعيًّا مسلمًا يتصرف ويفكر حسب كيفيات لا تغيب عنا ملاحظة سماتها المشتركة من “طنجة” إلى “جاكرتا”. والمترتب على ذلك أننا بملاحظتنا لمشكلة “الإنسان العقيدي” نكون قد لاحظنا مشكلة المواطن في عمقها: إذ إن مشاكل هذا أو ذاك ذات تبعية متلازمة.

وإذن فنحن إذ نتناول مشكلة الإنسان المسلم نكون قد التقينا بمشكلة “المواطن” في أي بلاد ربطها التاريخ بصلات تقليدية مع المجتمع الإسلامي. بل نحن نتناول هذه المشكلة الأخيرة بطريقة أفضل، فنحن بهذه الطريقة سنتفهم بالخصوص, وبأفضل من ذلك, البدعة المتبدية فيما هو واقع من أن مواطن “جاوة” ومواطن “مراكش” يعيشان اليوم في نفس المحور الجغرافي- السياسي الذي يبدأ من طنجة إلى جاكرتا, وهما مع ذلك جدُّ مختلفين بالنظر إلى النموذج المجتمعي الذي يحيا على محور واشنطن- موسكو.

وذلك يرجع لما بينهما من قاسم مشترك, ليس متأتيًا من الطقس ولا من التراب في بلادهما، ولكن من وراثة معينة يدينان بها إلى مجتمع “ما بعد الموحدين” الذي خصهما في الواقع بالكثير من العناصر السلبية التي سبق لي أن حاولت إدراجها … تحت عنوان: “القابلية للاستعمار”. إذن ففي يومنا هذا توضع مشكلة “المواطن” في أي بلادٍ على نفس المضمون الاجتماعي لمشكلة أيٍ كان من إخوانه في الدين في البلاد الأخرى. وهذا يؤدي إلى القول بأن مشكلة الإنسان العقيدي هي التي توضع في حقيقة الأمر أعنى مشكلة الإنسان المسلم الذي لا يعرف ألبتة كيف يستعمل عقيدته باعتبارها أداة اجتماعية. إن إحدى الفضائل التي يتعين ربطها بفكرة الكومنولث الإسلامي لهي إرجاع هذا الاستعمال للإنسان المسلم ومن ثم إرجاع ما للإسلام ذاته في النهاية من فعالية اجتماعية ومن إشعاع في العالم”.

(2) الشهادة:

إن الاعتبارات التي أجريت على مخطط الدوائر (أي مناطق الحضور) قد تناولت بالخصوص موضوع المظهر النفسي- الاجتماعي في مشكلة الإنسان المسلم باعتباره “متمثلاً” لأفعاله أو مؤلفًا لها، ولكن القرآن يعينه لدور آخر هو دور “الشاهد” أو المشاهد الأمين لأعمال الآخرين: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

… فالواقع أن الشاهد في أساسه هو الحاضر في عالم الآخرين. والصفة الأولى المكتسبة لإثبات قيمة أي شهادة هي “حضور” الشاهد. ومنذئذ, إذا كان متعينًا على المسلم أن يقوم بالدور الملقى على عاتقه في الآية السالفة فهو مجبر على الحياة في اتصال وثيق بأكبر عدد من الذوات البشرية ومشاكلها كذلك؛ ومن ثم يتعين على حضوره أن يعانق أقصى حد ممكن في المكان, لكي تعانق “شهادته” أقصى ما يمكن من الوقائع. وعلاوة على ذلك فإن المسلم في هذه الحالة ليس صاحب دور سلبي محض؛ إذ إن حضوره نفسه يؤثر على الأشياء وعلى أعمال الآخرين.. فعندما يكون الشاهد حاضرًا, يمكن لحضوره فحسب أن يغير من سير الأحداث, وأن يجنب الوقوع في المحظور. وعلى هذا فإن رسالة المسلم في عالم الآخرين لا تتمثل في ملاحظة الوقائع, لكن في تبديل مجرى الأحداث بردّها إلى اتجاه “الخير” ما استطاع إلى ذلك سبيلاً: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”. فهذا الحديث يثبت درجات الشهادة الثلاث، والدرجة الثالثة تمثل في الحضور المحض من غير تأثير مشاهَد على الأحداث. وحتى في هذه الدرجة التي يصفها الحديث “بأضعف الإيمان” ليس حضور المسلم بالسلبية المحضة. ففي تثبت الواقع الباطني, يوجد الدليل الكافي على حضور المسلم في عالم الآخرين ليس فحسب في دائرة مصالحه ومشاكله الذاتية بصفته “مواطنًا عقيديًا” ولكن في الدوائر الأخرى كمجرد “إنسان”. إلا أنه يجب أن تربط مفهوم الشهادة هذا, بكل الأهمية المتطابقة مع الدلالة التي يمنحه إياها القرآن لكي نجعل منه رسالة المسلم الأساسية.

(3) الرسالة:

وهناك مفهوم آخر … كذلك فيما يتعلق بالإنسان المسلم الذي يجب عليه أن يقوم بدور الشاهد, كما سلف القول. فهذا المفهوم قد تبين لنا أنه يتعين عليه الحضور في مجال الآخرين… . وفى ذلك الوقت الذي يكون فيه شاهدًا, يتعين عليه أن يصبح “رسولاً” كذلك (أعنى صاحب رسالة يبلغها إلى الآخرين). لقد ختم النبي “حجة الوداع” كما نعلم جميعا- بإشهادٍ ذي أهمية خاصة من وجهة النظر الأخلاقية, إذ توجه بخطابه إلى جموع المؤمنين التي كانت تستمع إليه في صمت وخشوع بعد أن أدى إليهم آخر وصاياه متخذا السماء شهيدًا فقال لهم: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب). فهذه العبارة تسجل رمزيّا ختام رسالة النبي، ولكنها تسجل في الوقت ذاته اللحظة المشهودة التي تصبح فيها هذه الرسالة بما في محتواها من أساس, الرسالة الخاصة بكل مسلم “حاضر” بإزاء “الغائبين”.

ولكي نعطي هذا المشهد الدلالة المتطابقة مع رمزيته, يجب أن نربط كلماته ذاتها بمعنى رمزي.. فالمسلم “الحاضر” في هذا اليوم بسفح جبل عرفات لا يمثل شخصيته فحسب, ولكنه يمثل الأجيال التي تأتي بعد ذلك؛ … فقد كانت هذه الأجيال جميعها “حاضرة” في شخص السامعين ذلك اليوم. كذلك إذ تستعمل اللغة الرمزية التي تترجم روح المشهد المذكور بطريقة أفضل, تقول: إن “الغائبين” في ذلك اليوم ليسوا فحسب المسلمين الذين أقعدهم الشغل الشاغل, أو المرض بعيدًا عن “مكة” و”عرفات”، ولكن “الغائبين” في تصور كل الأجيال، والغائبين الذين لم تبلغهم بعد رسالة الإسلام. فكل مسلم قد كان “حاضرا, معنويًّا في عرفات واستمع إلى وصايا الرسول الأخيرة. ولذلك يتعين عليه اليوم أن يحمل الرسالة الإسلامية إلى كل الذين غابوا في ذلك اليوم, وإلى كل الذين لا يزالون “غائبين” الآن, وما بعد الآن… فهل يحمل المسلم هذه الرسالة ؟!

(4) المثال البريطاني:

يصرح مالك بحقيقة استقائه عنوان الكومنولث من مثال موجود فعلاً هو “الكومنولث البريطاني”، ويقرر أن كل اختيار لمثالٍ يفرض مَواطن شبهٍ في مظهر الأشياء وفي ماهيتها، لكنه يستدرك فيقول: “ولكننا لو قمنا بصنع تقويم لمواطن الشبه هذه, فإننا نصل بالضرورة إلى نهايتها التي تتبدى فيها حينئذ مواطن الاختلاف. والمشابهات قائمة على نحو من الأنحاء في مستوى المشاكل, والمفارقات كائنة في طبيعتها: فالكومنولث البريطاني “مساحة كبيرة” وفى هذا المستوى تتخذ المشاكل صبغة “جغرافية-سياسية”؛ أعنى سياسية محددة بالمساحة على الخصوص.

والكومنولث الإسلامي, بسبب مسافاته المحورية والكتل البشرية التي تشملها مساحته يضع أمامنا مشكلة ذات طابع جغرافي-سياسي في مستوى الكومنولث البريطانى… وهذه مشابهة مهمة جدًا من شأنها, في مقياس معين، الإيحاء بالحلول والتقريب بينها, خاصة وأن الكومنولث البريطاني ليس دولة ولا فيدرالية دول, ما دامت كل بلد عضوًا فيه تمارس سيادتها في كل المجالات وتملك تمثيلها الدبلوماسي الخاص بها في الخارج. وعلى العكس من ذلك فإن دول “الولايات المتحدة الأمريكية” تكون فيدرالية ذات تمثيل دبلوماسي واحد. والمترتب على هذا أنه لكي نحدد الرابطة العضوية, التي يستطيع الربط بين أجزائها كومنولث إسلامي يمكننا -ما دمنا على علم بالوضع الحقيقي لهذه الأجزاء- أن نستلهم المثال البريطاني أكثر من استلهامنا للمثال الأمريكي أو السوفياتي.

وعلى أن لهذه المشابهة نفسها حدها الذي لا تتعداه, فالرابطة العضوية بالنسبة إلى الكومنولث البريطاني المجسمة، كما هو الواقع، في شخص “ملك انجلترا”، تدار بواسطة “لائحة وستمنستر” الناجمة عن قانون صوَّت عليه “مجلس العموم البريطاني” فى 11 ديسمبر سنة 1931. ومن ناحية أخرى فهو يدار من وجهة النظر الاقتصادية باتفاقيات أوتاوا التي تعين بعد سنة من التصويت على لائحة وستنسمتر أن تحدد موقف الكومنولث, لمواجهة الوضع الاقتصادي العالمي غداة الحرب العالمية الأولى وبالخصوص مواجهة عامل جديد هو: الانطلاق الصناعي لليابان.

فمن الوجهة السياسية والاقتصادية بالخصوص يمنحنا المثال البريطاني إذن عناصر بالغة الإفادة فيما يتعلق بتصميم أَوّليِّ للمثال الإسلامي، إلا أن التشابه يقف لدى مدى جد مبكر، ولا يتيح لنا مثلاً أن نتصور الرابطة العضوية للكومنولث الإسلامي مشخصة في ملك أو حتى في رئيس جمهورية، ولكن في “فكرة” هي: “الإسلام”؛ ممثلة في مجمع دائم يجسم الإرادة الجماعية للعالم الإسلامي ويمثل مصالحه العامة. والمقر الرسمي, لهذا المجمع, يجب أن يكون في ذات الوقت “الوحدة القاعدية “التي تتصل على أساسها أجزاء الكومنولث المختلفة  لتتبادل فيما يتعلق بشئونها، و”مركز الدراسة” للمشاكل النوعية في العالم الإسلامي، و”مركز الإنجاز والإذاعة” للحلول التي يعثر عليها.

وعلى هذا فإذا كان بإمكان المثال البريطاني أن يوحي بحلول نافعة للمثال الإسلامي فإن لهذا الأخير، علاوة على ذلك, مشاكله النوعية التي تحتم حلولاً خاصة.

فالكومنولث البريطاني في أساسه مجموع دول “ويترتب على هذا أنها ذات مشاكل سياسية بالخصوص، بينما يجب أن يكون الكومنولث الإسلامي “مجموعة شعوب” بالخصوص. ولكي نترجم إلى لغة أكثر تعبيرًا نقول: إنه إذا كان المثال البريطاني قد قصد به الإجابة عن شواغل سياسية، فإن المثال المسلم يجب أن يقصد منه مواجهة المشاكل ذات الصبغة النفسية والاجتماعية التي أشرنا إليها … ولا يجب أن ننسى أن الكومنولث الإسلامي من وجهة النظر الوظيفية يجب أن يمكّن البشرية المسلمة, أساسا, من استدراك تأخرها, واستدراك تخلفها بالنسبة إلى التطور العام, وبالنسبة إلى المساحات الكبيرة المخططة بالخصوص….

(5) نوعية المشاكل:

علاوة على المشاكل ذات الطابع الاجتماعي والأخلاقي الذي سبق لنا تحليلها .. فإن الكومنولث الإسلامي – باعتباره هيئة “ممركزة” ومركز البحوث – يجب أن يدرس أيضا بعض المشاكل المعينة ذات الصبغة الخاصة بالمجتمع الإسلامي. ففى الإمكان تمييز مستوى هذا المجتمع باعتباره .. في حالة “قبل – حضارية”. فالمشكلة التي توضع أمام كل مجتمع بشري يوجد في هذه الحالة, تمتد أساسيًا إلى عناصره “الحيوية- التاريخية” الثلاثة الرئيسية المتمثلة في: الإنسان, والتراب, والوقت.

وإذا كانت مشكلة الإنسان, هي التي توضع بصفة عامة, في المجتمع الإسلامي, فهناك مظهر يجب أن تعتبر فيه بصفة أخص: ونعني به “نزعة الترحل”. فالرحالة: إنسان لم يتكامل مع اطراد الحضارة… والواقع أنه يتمثل في تقويم حياته الاجتماعية لوسط معين: كعنصر “صفر” أو “محايد”؛ لأنه يظل بلا تصرف في هذا الوسط، وليس له من تأثير يذكر على توازنه الاقتصادي ولا على توازنه الثقافي, بل يمكنه إدراك توازنه السياسي عندما تتدخل فيه المؤثرات الأجنبية كما رأينا ذلك مرارًا في بلاد إسلامية كثيرة.

والواقع أن هناك بلادًا إسلامية عديدة تتضمن من بين سكانها نسبة مئوية لأمة من العناصر الرحالة لم تتكامل – بوصفها هذا- مع الحياة الاجتماعية بحيث تكون العلامة الأكثر تأكيدًا للحالة الماقبل-اجتماعية التي توجد فيها هذه البلاد. وبقدر ما تزداد هذه النسبة المئوية في بلادٍ ما بقدر ما تقترب حالتها العقلية من الشروط المحددة بالنفسية الصبيانية. ولو أجريت دراسة منهجية على هذا الموضوع, لأثبت بالتأكيد بتطبيقها للمعايير الموائمة تأثير النسبة المئوية الرحالة على المستوى العقلي للبلاد التي تناولتها الدراسة.

وبطبيعة الحال فما دام المتوقع من هذا “التأثير” أن يصبح “سببًا” – وهو أمر طبيعي في اطراد اجتماعي معين- فإننا نرى أي “نتيجة” يمكن أن يؤثر بها على عنصر “التراب” مثلاً…

“فنـزعة الترحل “تؤثر على التراب, ليس فحسب بطريقة عددية بواقع أن جزءًا معينا من السكان غير مستقر فيه وضعيًا ولكنها تؤثر فيه نفسيًا كذلك: إذ حالة التراب إلى حد ما انعكاس لنفسية اجتماعية معينة…

وإذن ومن وجهة نظر فنية, فإن مشكلة التراب تنطبع بطبيعة الحال على مشكلة الإنسان وإن كان لها علاوة على ذلك نوعيتها الخاصة. والواقع أن لمعظم البلاد الإسلامية جزءًا هامًا في قليل أو كثير من ممتلكاتها الأرضية في حالة صحراوية أو شبة صحراوية, والنسبة المئوية لهذا الوضع جد متباينة …

وحينما يكون الإنسان رحالة والتراب في حالة صحراوية أو شبه صحراوية, فإن قاعدة الحياة الاجتماعية نفسها هي التي تشكو النقص؛ إذ إن “أساس” الحضارة هو المفقود. وتحت هذا المظهر المزدوج, العلمي والتطبيقي, يتعين على دراسة المشاكل أن تتبع “مركزا للبحوث” في مقدوره أن يكون الأداة الأكثر فعالية لخلق روح, الكومنولث الإسلامي, أو أداته.

خلاصة مالك حول المعاني التي تحركها تحديات (الأمة) و(العالم الإسلامي):

النقطة الأخير التي يريد مالك لفت أذهاننا إليها بالخصوص تتعلق ببعض المجهولات التي تتبلور بعد بوضوح في الوعي الإسلامي الموضوع أمام مشهد العالم. “وهذه المجهولات يمكن التعبير عنها بطرق عديدة، ومن الراجح جدًا أن يكون المختصون بمراقبة القضايا الإسلامية في العالم متتبعين لتطورها بانتباه بالغ. ويمكننا نحن أنفسنا أن نتمثل هذا التطور في صورة عملية كيميائية تتم في إناء مغلق، وعندئذ نصبح بإزاء مشكلة ميكانيكية: فإذا توازنت القوى الداخلية والقوى الخارجية على جانبي حواجز الإناء أمكن للعملية أن تستمر في تساوق وأن تؤول إلى نتيجتها الطبيعة. أما إذا حدث أي اختلال في التوازن، فإن حواجز الإناء تتطاير شظايا بديدة في الهواء وتتوقف العملية الكيميائية توقفا لا يمكن تداركه. إن الإناء المغلق يصور العالم الإسلامي في مجرى تطوره الراهن، فهناك قوى داخلية تعمل على تحويله بغية تكييفه مع الحياة العالمية الراهنة. إلا أنه يعاني على دائرة محيطه مفعول قُوى خارجية مريبة. فإذا لم يتح للقوى الداخلية أن توازن مفعول القوى الخارجية فإن الأمر سيؤول لا محالة إلى تطاير حواجز الإناء شظايا بديدة في الهواء.

إلا أنه يجب علينا أن نقول بأن خطورة المشكلة قائمة في داخل ذلك الإناء بوجه خاص وهى متوقفة على أولئك الذين يوجهون العملية الكيميائية التي تعمل على تغيير العالم الإسلامي في هذه المرحلة من تاريخه. إن أي سهو من جانبهم قد يؤدي إلى انفجار الإناء، وإذا حدث الانفجار فلن يكون مجديًا أن نقول لأولئك المتطلعين لهذا اللحظة: لا تلتقطوا شظاياه! ومن ثم ولا ريب في أن الخطر سيظل يتهددنا، ولكن “الإسلام” يظل دائما القوة التي لا تُحَطَم”.

إن هذه الرؤية الفكرية والحضارية بمعادلتها المختلفة التي اشتهر بها مالك بن نبي، إنما تعبر عن مدخل إضافي في هذه الخريطة الإدراكية من الواجب التنبه إليه ونحن بصدد الحديث عن التحديات السياسية -سواء أكانت داخلية أو خارجية- تجعل شرط تعاظم التأثير الخارجي، في قابليات الداخل وتمكينه لذلك التأثير، خاصة أنه غالبا ما يكون سلبيًّا وعلى حساب العالم الإسلامي، من دون الوقوع في التفسير المؤامراتي. كما أنه يحيلنا إلى الشروط الثقافية والحضارية والسُّننية، ويحيلنا أيضًا إلى التعرف على سنن وقوانين العلاقات البينية.

(4) نموذج البشريّ في رؤية التحديات التي تجابه الأمة:

نموذج البشريّ في الخريطة الإدراكية الموصولة، يعبر عن إدراك واعٍ يربط بين التاريخ وعمق التحليل للتحديات, والأبعاد الفكرية والثقافية والحضارية لها. وكذلك فهو معنيٌّ بعناصر الاستجابات المختلفة لتلك التحديات وتفسيرها وتقويمها, ثم هو يكشف عن مفاصل الاستجابة التي تعي التاريخ وتتعرف على الواقع وتستشرف المستقبل. كما أنه يعبر عن نمط متميز في استجابته لموضوع التحدي وصلته بالأمة والعالم الإسلامي. قسمات هذا النموذج طرحت في تناسق وأوزان حققت عنصر “الرؤية المتكاملة”, الجامعة بين النظري والتطبيقي، بين الفكري والحركي, بين التاريخ والحاضر, بين الحاضر والمستقبل. والبشري في نموذجه رغم تعبيره عن بعض إشكالاتٍ لتحديات من طبيعة فكرية: (ماهية المعاصرة، الإسلام والعروبة، الإسلام والعلمانية)، إلا أنه آثر – ضمن مدخله المتميز الجامع- أن يتحرك صوب دراسة هذه الإشكالات في قلب التاريخ, وعلم اجتماع الأفكار، ورؤية الفكرة في سياقاتها وواقعها, ورؤية الواقع وسياقاته في أفكاره؛ ليعبر بذلك عن مسار من المهم الوقوف عنده وعليه. وقد آثر البشريّ رصد هذه التحديات وتجلياتها مبرزا الجانب الفكري حيث يجب، والواقع حيث يلزم.

والتحدي الأساسي عند البشري والذي أسماه آفة الآفات التي تعانى منها مجتمعات الأمة المسلمة هو: “الصدع” و”الانقسام “، و”الازدواجية” بين الوافد والموروث نتيجة النقل عن الغرب سواء على صعيد الفكر والحركة أو المؤسسات والنظم، وهي الحالة التي تولدت وتجذرت في خبرة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأثمرت ثمارها في القرن العشرين، وذلك في ظل التناجي المتصاعد للتدخلات الخارجية درجة ونوعا.

يصف البشريّ هذا التحدي في أننا “نشكو من صدع هائل في حياتنا الفكرية ورؤانا الحضارية, وهو صدع لا يشق المجتمع فقط ولكن يكاد أن يشق الفرد الواحد نصفين، وقد انشق الضمير “نحن” وانشطر.. ونجد شقا طوليا يفصل المجتمع الواحد ويقطعه كأنه ضربة السكين في الجسم الحي..

ويوضح البشري معظم تجليات هذا التحدي التي تمثل في:

* صدع العلاقة بين الإسلام والعروبة.

* صدع الجماعة الوطنية ووضعية الأقلية فيها.

* صدع تجلى في الخطاب العلماني والقومي في علاقته بالحركة الإسلامية.

* صدع العلاقة بين التيار الإسلامي وتيار الوحدة العربية.

* صدع بين النخبة الحاكمة والفكرية الحديثة.

* صدع بين هذه النخب وبين الجماهير.

* صدع بين رجال الشرع والنخبة الفكرية, والتيار الإسلامي.

هذه الصدوع في البناء والكيان تبين مدى تأثير الفكر الوافد الأوروبي ومعه المنهج العلماني إلى بلادنا الإسلامية والعربية مع تعاظم النفوذ الغربي في القرن التاسع عشر، والذي يكشف عن أحد أسباب الانقسام والازدواجية الثقافية والحضارية وما لها من تأثيرات في عالم القضايا الإسلامية والعلاقة بينها وبين القومية العربية، وتأثيرات في عالم المفاهيم: كمفاهيم الوطن والقومية والتحديث والتمدين والتطور والتقدم، وتأثيرات على أرض الواقع سواء اتخذ المجال الفكري في إطار الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين, أو مجالات الممارسة في إطار تحليل جامع يحدد كيفيات حدوث الصدع, وبيان لأهم معالمه وتجلياته, وشرح لأهم مظاهره ونتائجه وآثاره وما ولد من تحديات مشتقة وفرعية يتمثل في الاضطراب التشريعي وهياكله وأنساقه وهو الاضطراب الذي تولد عن تفاعل ثلاثة عناصر هي:

* الجمود الذي اتسم به الوضع التشريعي المأخوذ عن الشريعة الإسلامية.

* الحاجة الماسة لإصلاح الأوضاع والنظم وتجديدها.

* وأخير الغزو الأوروبي السياسي والاقتصادي ثم العسكري المتصاعد.

والنقل المطلق والتقليد للغرب ليس إلا طاقة مهدرة أفرزت كثيرًا من السلبيات في مجال العلاقة بين القانون والمؤسسات (تفكيك للنظم والأواصر، وضريبة ما يمكن أن نسميه الجامعية, وفى مجال العلاقات بين القانون والأخلاق, وبين القانون والدين وفى الجملة في العلاقة بين السلطة – الدولة- والمجتمع).

إن جوهر التحدي تمثل في الصدع، والصدع تجلى في وقائع وأفكار وأحداث ونظم وقضايا، وولد معه تحديات فرعية. إنه يعبر عن ذلك بأبلغ ما يكون لتصوير طرق التحدي: “إن الوفود العلماني الذي بدأ صغيرًا وأخذ ينتشر ليزاحم القومية والموروث الإسلامي ويحدث ما نسميه الآن (الازدواج).. انشرخ معه قلب المواطن وعقله جميعا؛ أي انفصمت نفسه في التعليم وفي القيم وفي أنماط السلوك والعادات وانشطر المجتمع أشطرًا بين مؤسسات القضاء الشرعي والوضعي والقوانين الشرعية والوضعية الفرنسية, والمعاهد الدينية والمدارس الحديثة وأحياء المدن القديمة والإفرنجية، والنخب السياسية والاجتماعية ذات المنزع الأوروبي وجماهير شعبية ذات منزع إسلامي..الخ”.

ولَّد جدل الموروث والوافد قضايا دار حولها الجدل الفكري لدى التيارات الفكرية والحركية المختلفة وما تعكسه من تصدعات وانقسامات هذه القضايا هي: النظام الديمقراطي, فكر الإصلاح الديني  قضية الفكر القومي, والحركات الاشتراكية.

والتحدي يولد استجابات، ورؤية تجددها عناصر الاستجابة الصحيحة الواعية في إطار دراسة الجديد والتجديد والشريعة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية وإشكالاتها, كل ذلك في ضوء منهج النظر مقارنا بالشريعة. كما ولد هذا الوضع تحديا مشتقا آخر مثل ذلك الصدع والانفصام، وذلك في إطار ما أسمى بعملية الإصلاح المؤسسي والإصلاح الفكري التي جرت في الدولة العثمانية منذ نهاية القرن الثامن عشر وما آلت إليه من نتائج أفرزت مجتمعات مصدوعة على مستوى الفكر ومستوى المؤسسات والنظم. والبشري في هذا المقام يسكن التحديات الفكرية من خلال التركيز على تيارات الفكر وسياقات الحركة بأنماطها المختلفة في محاولات التصدي لهذا الصدع طوال القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين.

والاستجابة لا بد أن تكون من نفس جنس التحدي؛ أي رأب الصدع وإقامة الجسور من أجل لم شمل الأمة وترميم ما انصدع من أبنيتها وهياكل مؤسساتها وأفكارها، والاستجابة لا بد أن تكون قاصدة للبحث في الحل والوصول إلى المخرج وللاستجابة حقائق وشروط (المشروع الوطني: متطلباته ومقتضياته) وأهمها:

* التمسك بالذات الحضارية المستقلة ذات الجذور؛ إذ يمثل ذلك القواعد والأسس.

* ضرورة الانطلاق من هذه القواعد والأسس لصالح الجماعة وليس لصالح الآخر.

* ضرورات الحوار وفق مقتضياته والتعرف على أهم عقباته وقبل هذا وذاك التعرف على دوافعه.

وفى هذا السياق يتجلى المثل في: قضية العلاقة بين الإسلام والعروبة والحوار الإسلامي- العلماني. إن هذه الشروط والآليات لو تحققت لابد أن تؤسس ملامح التيار الأساسي بما يسع الجوهر الإيجابي لكل من المشاركين في الجدل والحوار من التيارات الفكرية ذات الغلبة في المجتمع. التيار الأساسي وضرورة بنائه في مسار تيار سياسي غالب في المجتمع يمثل الأمة في عموميتها يستوعب المشترك الأعظم مما تنادي به كل القوى ذات الوجود الفاعل في المجتمع.

هذا النموذج في فهم التحديات وإبراز منهج النظر فيها وإليها إنما تعكس طبيعة الظرف التاريخي زمانا ومكانا؛ حيث إن التحديات ذاتها تختلف باختلاف الظرف, ومن ثم فإن تقييم هذه الاستجابات لا يمكن أن ينفصل عن فقه الواقع.

فما هو شرط تقدم الاستجابات خاصةً على المستوى الفكري؟ إنه القدرة على ممارسة التجدد الذاتي: “إن الفكر – شأن أي كائن حي- لن نحميه بأن نصنعه في المعازل, ولكن السبيل الأمثل للدفاع عن الوجود هو بالتجديد وبالتفاعل مع أوضاع الواقع المعيش.. وهناك تصور خاطئ لفكرة التجديد؛ وهو أنها تعني بذلك الجمود لإسباغ بردة الإسلام على ما نشاهد ونمارس من أوضاع المعيشة في حياتنا الراهنة, وبخاصة ما طرأ عليها من أنماط السلوك والنظم الوافدة، حتى وإن كانت تخالف أصلاً من أصول الإسلام وهذا موقف خاطئ لأنه يحيل الفكر الإسلامي إلى مجرد أنه تبرير وتسويغ للواقع المعيش وليس حاكمًا له.. إن التجديد الحقيقي يأتي من وجهة أخرى. إنه يرد من كيفية استجابة الأحكام الشرعية ونظم الإسلام ودعوته للتحديات التي تواجه عقيدة المسلمين وديارهم”.

وإذ جعل من الأمة وحدة تحليله التأسيسية، ومن الجماعة الوطنية وحدة تحليله الواقعية، فإنما أراد البشري أن يبحث عن معنى الأمة في الجماعة الوطنية؛ وهو عمل لا يفقد الأمة كوحدة تحليل مرجعية، ولكنه في ذات الوقت لا يفقد الواقع ولا يتركه نهبًا لوحدات تحليل تضر بالظاهرة وإمكانات فهمها والتعامل معها وتقويمها.

هو من أجل هذا يذكر أن علم السياسة وعلم الاجتماع لا يكفي في أحدهما النظرُ الذي يركز على وحدة الانتماء العامة أو وحدة الانتماء الأساسية التي تقوم عليها الدولة, ويتعلق بها نظام الحكم أو السلطات الثلاث، لا يكفى بذلك لفهم أوضاع نظم الحكم وطبيعتها. وهو بهذا ينفتح على العديد من الهيئات والجماعات والتكوينات، ولا يرى المواطنين محض أفراد تجمعهم الأحزاب ومؤسسات الدولة فقط. ذلك أن علوم السياسة والمجتمع ينبغي ألا تكتفي برسم الأطر وتحديد القنوات، إنما يتسع نظرها وبحثها ويصل إلى الجماعات الفرعية التي يتجمع فيها الأفراد, وكذلك إلى المؤسسات والأبنية التي تقوم على هذه الجماعات. إن أول الخطوات في طريق الخطأ تتمثل في نظرنا إلى المواطنين كأفراد، وفي عدم إدراكنا ما يجمعهم من الجماعات الفرعية ووحدات الانتماء الفرعية المتداخلة في المجتمع, وما تتشخص به هذه الجماعات والوحدات من هيئات ومؤسسات.

“إن المجتمع يتكون من وحدات انتماء لا حصر لها وهي تتنوع من حيث معيار التصنيف: فيكون أساسها الدين والمذهب أو الطريقة الصوفية أو المالية أو المشرب الثقافي أو الطائفة، أو تكون اللغة أو اللهجة، أو يكون أساسها نوع التعليم أو المهنة أو الحرفة، أو يكون أساسها وحدة العمل الوظيفي لجيش أو جماعة أو شركة كبرى أو وسط عمل معين، أو يكون أساسها الإقليم أو الحي أو القرية أو الحارة، أو يكون أساسها القبيلة أو العشيرة أو الأسرة، أو غير ذلك مما لا يقع تحت حصر من حيث العدد أو من حيث النوع، أو من حيث معيار التصنيف. وبسبب تنوع معيار التصنيف فهي تعتبر وحدات انتماء جامعة، ولكنها ليست بالضرورة وحدات انتماء مانعة. والفرد الذي ينتمي لإحداها قد يمتنع عليه الانتماء لغيرها من جنسها وبذات معيار التصنيف، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لغيرها وفقا لمعيار آخر التصنيف، فالمنتمي لأهل السنة يمتنع عليه الانتماء للشيعة لوحدة معيار التصنيف الفارق بين الوحدتين، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لقبيلة أو لإقليم أو غير ذلك لاختلاف معيار التصنيف, ومن هنا فالوحدات متداخلة ومتشابكة، ودوائر تشكل حلقات ليست منفصلة، وبسبب تعدد هذه الوحدات وتنوع معايير التصنيف لها فهي لا تقف على قدم المساواة في علاقاتها بعضها ببعض ولا تختلف اختلاف تعدد وتنوع فقط، إنما أيضا اختلاف وعموم وخصوص أو اختلاف أجناس، وأنواع من كل جنس منها، أو اختلاف أصل وفرع .. وهكذا نرى بين وحدة المذاهب الدينية ووحدة السنة ووحدة مذهبها ووحدة الصوفية وأنواع الطرق، وهكذا نرى بين الوحدات الصلات الإقليمية أو الصلات المهنية أو روابط وغير ذلك.

من هذه الوحدات تظهر في كل مرحلة تاريخية وحدة الانتماء العامة التي تعتبر الحلقة الكبرى والأساسية التي يتشكل المجتمع وفقا لما تفيده, والتي تعتبر الحلقة الحاكمة لغيرها أو الوحدة الحاكمة لغيرها, وما بعدها يمكن الإشارة إليه بحسبانه وحدات الانتماء الفرعية.

ومن الجلي أن وحدة الانتماء العامة يكون لها قدر من الثبات النسبي ولكنها تقبل التأثر والتأثير من داخلها بواسطة الوحدات النوعية ومن خارجها بواسطة الأوضاع العامة المحيطة. ومن الجلي أن كل مجتمع حي يتضمن صيغة ما من صيغ الوحدة مع التعدد، أي وحدة الانتماء العامة التي يكون لها الغلبة في المجتمع وفى وعي الناس في هذا المجتمع، وتستجيب لما يلاقي من تحديات، وتتحقق الحد الأقصى من الصوالح، وترعى القاسم المشترك الأعظم منها بالنسبة للجماعات المختلفة في المجتمع التي تتعدد بتعدد الجماعات وبتعدد معايير التصنيف القائمة في المجتمع, وهى بالضرورة متداخلة ومتشابكة, وهي تلتف حول الوحدة العامة بقدر إدراكها أن هذه الوحدة العامة تكفل لها الحد الأدنى من تحقيق الوجود ومن البقاء ومن المصالح المرجوة. بكفالة هذا الحد الأدنى تقوم علاقات الدعم المتبادل والتغذية المتبادلة بين العام والفرعي, فإذا لم يتكفل هذا الحد الأدنى قام نوع من الصراع ينحسم بالغلبة لصالح الوحدة العامة من أي الوحدات الفرعية أو لصالح الوحدات الفرعية إذا تكاثرت واتحدت ضد ما يعتبر وحدة عامة في مرحلة معينة”.

“وأتصور أن حجم التحدي الذي يواجهه المجتمع ونوع هذا التحدي, إنما يؤثر في وجود الانتماء وفى غلبة وحدات بعضها على بعض، في فترات تاريخية معينة يحدث ذلك بالسلب أو الإيجاب. وقد حدث في مثل بلادنا أن تناثرت أشلاء بسبب اقتسام القوى الغربية لها واحتلالها إياها وسقوط الخلافة كمشخص لوحدة الانتماء العامة بينها جميعًا. وفى مثل هذه الأوضاع فإن القطر المجتزأ ينشىء من داخله ويهيئ من أشلائه التشكيلات التي يستطيع بها أن يسيطر على وضعه. إنه عضو حي وحياته تكسبه هذه القدرة على التهيؤ والتشكل, ومن ثم تنشأ له ذاتية خاصة وقدرة خاصة على التعامل بمحيطه المضروب عليه كوحدة سياسية اجتماعية، وكوحدة انتماء عام. وهذه الوحدة المتخلقة تنشئ لذاتها الأهداف والرؤى والتصورات التي تستطيع أن تواجه أوضاع الحياة السياسية والاجتماعية. وهي فيما تصنع تعيد ترتيب وحدات الانتماء الأخرى على أساس أن تلحق هذه الوحدات بها كوحدة حاكمة، وهذا ما يجرى في مصر مثلاً منذ 1919 عندما علت الجامعة المصرية على غيرها وألحقت بها غيرها.

ومن جهة أخرى فإن الخطر الخارجي تحشد له قوى المواجهة وتنشط معه وحدات الانتماء القادرة على مواجهته بحجم الشمول والعموم المطلوب. وفى الأزمات الداخلية مثلا تحشد القوى القادرة على التصدي لهذه الأزمات بما هو خليق بمعالجة المخاطر الحادثة. وفي هذا الحشد تبدو الوحدات بوصفها الخليقة بقيادة غيرها في ظروف الأزمات الراهنة لما تتصف به من عموم وشمول يتناسب حجمه مع خطورة المواجهة القائمة، كما اتحد المسلمون ضد الصليبيين أو ما تتصف به هذه الوحدة نوعيًا من مواصفات تكفل لها كفاءة خاصة في مواجهة نوع الخطر الحاصل كهيمنة المؤسسة العسكرية على أوضاع المجتمع في ظروف مخاطر الحرب مثلما حدث في بلادنا بعد ظهور الخطر الصهيوني وإنشاء دولة إسرائيل”.

وكما يشير البشريّ، فإنه يحاول توضيح الأهمية الاجتماعية والحضارية القصوى لوجود هذه الوحدات جميعًا؛ “لأن وجود الوحدات الفرعية يغذى الوحدات العامة ويتغذى منها، ونحن نخطئ إن تصورنا أن وجودها يشكل انتقاصًا من الوحدات الأعم. إن الإنسان مدني بطبعه وهو جماعي بطبعه ولا يوجد فرد بغير جماعة وإن وجوده بغير جماعة هو أقرب إلى التصورات الصورية الافتراضية. إن الفرد دائما هو داخلٌ في وحدة أو أكثر من هذه الوحدات الجمعية, والنظام يكتسب حيويته من قيام هذه الوحدات ونشاطها وتفاعلها”.

إن حيوية المجتمع وقدرته على تنويع حركته وعلى تغيير أوضاعه مع الظروف المتغيرة وقدرته على تكوين استجاباته وفقًا لوجوه المواجهة وألوانها التي تفرض عليه.. كل ذلك يتوقف على مدى فاعلية وحدات الانتماء التي تربط أفراده في كل الأنواع والأجناس من الجماعات المتداخلة التي تبني للمجتمع عروته الوثقى. لو كانت المصرية ضعيفة لما استطاعت أن تقاوم الإنجليز عندما انكسر الوعاء الإسلامي الأشمل؛ أي لما استطاعت أن تشكل وعاء أخص يكون قادرًا على الحياة والمواجهة. ولو كانت الإسلامية والعروبة غالبتين لما استطعنا أن نستمد في ما نستهدف الآن من مواجهات عالمية كبرى تثبت تجربتها أننا نقدم مثالاً باقيًا من أمثلة الصمود والمقاومة على مدى عشرات السنين من التاريخ. وإن ليونة التحول من وضع مواجهة إلى وضع آخر تتوقف على مدى حيوية هذه الوحدات وفعاليتها. وكل ما هو مطلوب ألا نصفي أي من هذه الوحدات لحساب الوحدات الأخرى، ولكن أن نضعها كلها ونعيد ترتيبها؛ بما يجعلها يقوي بعضها البعض ويغذي بعضها البعض ويدعم بعضها البعض.

الجماعات الفرعية هي مولدات الحركة للجماعة كلها في صورها الشاملة, .. ولقد أخطأنا عندما نظرنا إلى وحدات الانتماء العامة بوصفها نوعًا من أنواع أجولة الحبوب تحمل حبات منفصلاً كل منها عن الأخرى، وتضم وحدات متماثلة على غير تنوع ولا تدرج ولا تفاعل بين بعضها البعض. وإن القومية لا تضم أفرادًا، وإن الوحدة الإسلامية لا تضم أفرادًا، وإن المصرية أو العرقية أو المغربية لا تضم أيضًا أفرادًا إنما تضم جماعات تمثل وحدات انتماء تقدر كل منها على الانبعاث الذاتي وتدفق الحركة من داخلها بالمولدات الذاتية الخاصة بها.

ونحن نخطئ.. عندما ننظر إلى مجتمعاتنا بذات الرؤية والتصور الذي ساد عن مجتمعات الغرب عمومًا.

وفى إطار هذا الفقه لدوائر الانتماء كوحدات تحليل دراسية ضمن سياق ظواهرنا المختلفة التي نعيشها يؤكد البشريَ على نقطتين:

الأولى- أن الكثير من المؤسسات التي هي وحدات انتماء فرعي قد دُمرت إما لأن الهيمنة الغربية اقتضت تدميرها أو لأننا نحن ضربنا فيها معاول الهدم؛ لأننا نظرنا إليها من منظور التقليد للغرب، ومن منظور ما فهمناه عن المجتمع الغربي، فرأينا في مؤسساتنا ووحدات انتمائنا الفرعية لا كونها موضوعا للإصلاح والتجديد ولكن عقبات في وجه الإصلاح والتجديد فهدمنا “تجديدًا” ودمرنا “إصلاحًا”. ثم لما شيدنا على أنساق الغرب ما شيدنا لم نجد من هذه التكوينات الفرعية ما يمكِّن المؤسسات الجديدة من الأعمال النافعة.

والثانية- أننا نظرنا في النظام الغربي المأخوذ عنه في صياغاته الفلسفية التي تبدأ بالفرد ثم تقفز إلى التصور الكلى العام، ولقد جرى في الغرب إعلاء القيمة الفردية لتحرير الفرد من بعض المؤسسات الضاغطة والمانعة من انتقاله إلى مؤسسات جمعية أخرى تولدت في المجتمع نفسه, أي تحريره من ربقة القنانة وإطلاق حريته في الاقتراب من وحدات الانتماء التي ولدت من رحم المجتمع نفسه في المدن والمصانع والجمعيات والنقابات، فكان التركيز على الفردية لا لكي يتناثر الناس أفرادًا ولكن لكي تنفتح أمامهم مسالك الانجذاب والانضمام إلى ما يرون من وحدات أخرى. أما نحن فقد تصورنا المجتمع من خلال علاقة الفرد المنفرد بالجماعة القومية وبالدولة القومية وبالحزب ..هكذا مباشرة، وهكذا ضربة لازب, دون اهتمام بالحلقات الوسيطة والوحدات المتداخلة المتشابكة في شتى المجالات.

ومتى صار الشعب أفرادًا فقد صار الحاكم فردًا؛ لزوال التكوينات الضاغطة، ولأنه لا توجد وقتها إلا وحدة الانتماء الأعم التي تتشخص فيه بذاته منفردًا عما عداه. إنها رؤية لوحدات التحليل تتحرك من الواقع وصوبه، وهي تعبر عن معنى الجامعية والقصد الكامن في مفهوم الأمة.

وإذا كانت تلك وحدات تحليل داخل المجتمع السياسي فإن وحدات التحليل ضمن التعامل الخارجي شهدت اهتماما منهجيًا على نفس المستوى الذي يحاول وضع قواعد منهج نظر لوحدات التحليل وتفعيل العمل من خلالها ليس فقط بحثيًا ولكن واقعيًا.

إن مفهوم الأمة كوحدة تحليل في التعامل الخارجي لم يمنع البشري من رؤية الواقع الإقليمي وواقع الدولة القومية وواقع النظام الدولي بتشكلاته، وملاحظة عناصر القسمة الجديدة في ذلك الواقع. إن المستشار البشريّ استطاع أن يحلل معضلات المنهج في وحدات التحليل بين وحدات التحليل للتقويم، ووحدات التحليل للوصف في الواقع، وجمع بينها في إطار فقه تتكامل فيه وحدات التحليل ولا تتعارض ولا تتنافى. إنها رؤيته الجامعة التي تحرك أصول الرؤية الكلية ومناهج النظر المشتقة منها وعنها.

إن هذه الرؤية تؤكد مرة أخرى تصورًا لمعنى التحديات في سياق تعدد وحدات الانتماء. فإن الدوائر المتداخلة والمتكاملة تعني كيف أن الجامعة كانت الشغل الشاغل لمشروع البشريّ في رؤية التحديات وتقدم الاستجابات، وفق رؤية حضارية عميقة، لا تفهم السياسي إلا في محضنه الحضاري.

وبعد،،،

فهذه تطوافة عاجلة في عقول أربعة من أهم العلامات الفكرية العربية في القرن العشرين، والتي اجتمعت على العناية بالأمة مستوًى للنظر والتناول والتعامل، ودائرة للانتماء والاهتمام والفكر والإصلاح. وقد اتفقت كلمتهم على أن الأمة تعيش أزمة حضارية مترامية الأطراف متنوعة الوجوه والأعطاف، وفي هذا الإطار تنوعت زوايا نظرهم، وتعددت مناطق تركيز كل نموذج منهم، وتواصلت أيضًا. لقد كانت قضية الوحدة العربية والإسلامية وتفكك عراها شغلا شاغلا وتحديًا أكبر لكافتهم، وتواصلت محاولاتهم لتصويرها وطرح الحلول والاستجابات اللازمة لعودة هذه الوحدة؛ ما بين مؤتمر الكواكبي وعصبة السنهوري وكومنولث مالك، والتيار الرئيس لدى الحكيم البشري. وبالمثل عناهم تحدي الاستبداد وإهدار طاقة الشورى والمشاركة وما جرّه على الأمة من ويلات: الاستعمار والقابلية للاستعمار، وتفرق الكلمة في الداخل وتصدع دوائر الانتماء المتحاضنة. وجمع بين هؤلاء الأعلام الشعور العميق بوطأة الخارج وضغوطه على الثقافة والحضارة والفكر والسياسة، الأمر الذي زادت استجابات الانبهار وعقلية الوهن والقابليات من التمكين له، والاستمرار في التصارع داخل إناء الأمة على أسلوب التعامل معه.

انتهى العرض السابق إلى حقائق عدة، لعل من أهمها – لضيق المقام- أن التحديات التي صارت تواجهها الأمة قد باتت من نوعية التحديات الحضارية العميقة الآثار الممتدة المجالات، والتي لا يسعنا مواجهتها بما هي أهله إلا باستجابات من نوعها، تتمثل في التجدد الحضاري، الواعي بأصله وعصره، والمنتمي لذاته والمتعارف المنفتح على العالمين.

 

مراجع الدراسة

عبد الرحمن الكواكبي، أم القرى، (بيروت – لبنان، دار الشرق العربي، الطبعة الرابعة 1411هـ = 1991م).

عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تقديم: د.أسعد السحمراني، (دار النفائس، 1427هـ – 2006م).

عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح هيئة أمم شرقية (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2،  1993م).

مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، ترجمة عبد الصبور شاهين، (سوريا- دمشق، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1984)،

فكرة كمنويلث إسلامي، 2002.

فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج، 1986.

ميلاد مجتمع، ط6، 2006.

بين الرشاد والتيه، ط6، 2006.

في مهب المعركة، ط7، 2006.

الظاهرة القرآنية، ط6، 2006.

القضايا الكبرى، ط6، 2007.

من أجل التغيير، ط5، 2006.

مشكلة الثقافة، ط12، 2006.

–  طارق البشري: سلسلة المسألة الإسلامية المعاصرة، 8 أجزاء، (القاهرة: دار الشروق)، وهي:

الحوار الإسلامي – العلماني ، 1996.

– الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، 1996

– الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، 1996.

– ماهية المعاصرة، 1996.

– بين الإسلام والعروبة، 1998.

بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي، 2000.

منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، 2005.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر