أبحاث

الأدب الإسلامي المعاصر والمدخل إلى العالمية

العدد 54

ــ 1 ـــ

الإِحياء الإِسلامى الكبير, الذى يشهده العالم الإِسلامى اليوم, والذى تترد أصداؤه فى مختلف أرجاء عالمنا الإِنسانى المعاصر, يتميز بكونه إحياءاً حضارياً شاملاً, لا يقف عند مجرد التحرك السياسى أو العسكرى ضد هيمنة أجنبية مباشرة أو غير مباشرة,
كما لا يقف عند مجرد التحرك الفكرى, أو الأخلاقى, أو الاقتصادى, أو غير ذلك من أجزاء الفعل الحضارى العام, وإنما هو حالة من الانبعاث الحضارى, تشمل كافة هذه الفعاليات الإِنسانية, إنه ـــ بكلمة ـــ حالة أمة تولد من جديد.

ولم تكن قضية الأدب ـــ بطبيعة الحال ـــ فى معزل عن زخم هذا الإِحياء الكبير, ومن ثم, نشطت الدعوات مؤخراً للبحث فى قضية الأدب من منظور الإِسلام, وبدأت التجارب « الإِبداعية » تنشط عبر أقلام نفر من أدباء الفكرة الإِسلامية الناهضة, ومن خلال القصة, والقصيدة, والمسرحية, ونشطت معها عمليات البحث والتنقيب فى اتجاهات الأدب الحديث والمعاصر, والتى باتت تهيمن على مناحى النشاط والفاعلية فى ساحة الأدب فى ديار المسلمين.

وعلى هذا الطريق, ظهرت عدة دراسات نقدية هامة, استطاعت أن تجلى لنا معالم الخرق والخلل التى أصابت فلكنا الثقافى, مرجعيتنا الشعورية, من جراء تغلغل تيارات الأدب الأوربى الحديث وسيطرتها على فاعليتنا الفكرية والأدبية. (1)

وعلى الرغم من كون هذه الدراسات والأبحاث الجديدة, نقدية فى مادتها ومنهجها وأهدافها التى ترمى إليها, إلا أنها كانت تعبيراً صادقا وموضوعياً, متوافقاً مع اللحظة التاؤيخية التى ولدت فيها, بل لا نغالى إذا قلنا بأن قضية الأدب مازالت فى حاجة إلى مزيد من الجهد الإِسلامى الناقد, بالنظر إلى ضخامة الاختراق الذى حققته التيارات الأدبية الأجنبية, وحجم الخطورة التى تمخضت عن ذلك الاختراق, والتى نجحت فى إحداث ما يشبه « غسيل الوجدان» للإِنسان المسلم فى واقعه المعاصر.

بيد أن ذلك الجهد الناقد, لا يغنى ـــ على ضرورته وخطره ـــ عن الاتجاه نحو الجهد البنائى, والذى يبحث عن «البديل» بعد أن يعرى أقنعة الخواء, ويعطى الحل الممكن بعد أن يكشف الخلل الواقع.

وعلى هذا الطريق الشائك. وفى سبيل تحقيق ذلك الهدف الطموح, ثمة محطات فكرية وأدبية أساسية, لا يسع الجهد الإِسلامى أن يتجاوزها إذ شاء أن يبحث فى قضية إعادة إحياء وبناء الأدب الإِسلامى ليأخذ دوره المناسب فى المسيرة.

ومن هذه المحطات الفكرية الأدبية الكبرى, والتى تستقطب عدداً من الإِشكاليات الهامة, والتى من شأنها إذا أهملت ـــ أن ترهق العقل وتربك الوجدان.

مسألة : عالمية الأدب.

وهذه المحطة تمثل اهتماماً كبيراً للتصور الإِسلامى, ومن جهة أن الإِسلام ـــ فى صميمه ـــ رسالة عالمية, جاءت لتخاطب الناس كل الناس, وتتوجه إلى الإِنسان, أى أنسان, فكان طبيعيا أن الفعل الحضارى الإِنسانى المرتبط بهذه الرسالة, متوجه ـــ بطبيعته وبلا تكلف ـــ إلى العالمية.

والأدب هو لواء الإِسلام وطليعته, بل إن معجزة الإِسلام الكبرى والخالده, كانت أدبية, ممثلة فى « البيان القرآنى المجيد », وإذن؛ فقضية العالمية فى الأدب, ليست أملاً خيالياً يداعب خيال الإِسلاميين, ولا أرقاً موهوماً يضنى حسهم, وإنما هى ضرورة ملحة, ترتبط ـــ عضوياً ـــ بلطبيعة الإِسلامية الشاملة, فى توجهاتها الإِنسانية, وبالتالى, يصبح من واجبات أية نهضة أدبية إسلامية جادة, أن تفق عند محطة العالمية, وتبحث فى مشكلاتها وأبعادها, وشروطها, والمداخل المناسبة لها.

ونحن فى دراستنا هذه, قد نضطر ـــ فى أحيان كثيرة ـــ إلى قصر المتابعة النقدية أو التاريخية, على « التحديد » فى مجال الدراسة قد فرض علينا فرضاً, ولا خيرة لنا فيه, وذلك أن المكتبة الأدبية الإِسلامية الحديثة, تعانى من قصور شديد فى الدراسات الأدبية الإِسلامية المقارنة, بما فيها الترجمات, وأنه ليعز على الباحث الإِسلامى المعاصر, أن يتناول شخصية أدبية إسلامية فى غير لسانه, إلا بجهد جهيد, لن يخلو من القصور ـــ إذا استثنينا محمد إقبال ـــ فكيف إذا كنا نبحث فى « اتجاهات » أدبية, وتيارات ومذاهب.

إلا أن ما يمكننا توكيده, هو أن قضية الأدب الإِسلامى فى الواقع الأدبى العربى الحديث, تتشابه ـــ من حيث الروافد والينابيع, ومن حيث التحديات ـــ مع قضاياه فى أقطار الإِسلام الأخرى, ذوات اللسان غير العربى, إلى الحد الذى يمنحنا المشروعية لأخذ مشكلة الأدب العربى, كأنموذج قابل للمقارنة والقياس.

ـــ 2 ـــ

الحديث عن العالمية, فى مجال الأدب, يجرنا بتاضرورة إلى الحديث عن « الخصوصية » وعن « الأصالة », ثم إن الحديث عندما يصل إلى معالجة هاتين المسألتين, فإننا نكون بمواجهة أبجديات القضية, لنبحث فى ماهية الأدب.

ويمكننا القول, بأن الأدب هو ترجمة فنية إبداعية واعية لتداعيات وجدانية, تنبعث عن « مرجعية شعورية عميقة » أهاجتها مواقف إنسانية مختلفة.

وهذا التعريق الجامع , قد يحتاج منا إلى فضل بيان.

إن الأدب ـــ فى مادته وصلبه ـــ نشاط فنى, يبحث عن إطار شكلى جمالى, يلائم العواطف المختلفة التى تتولد فى وجدان الأديب بحيث يستطيع من خلال نسقه الفنى أن يبلّغ حالته الوجدانية, بأقصى قدر ممكن من الصدق والحيوية, إلى الآخرين, أى لكى يحقق التواصل الوجدانى مع غيره, ولولا الحاجة إلى ذلك التواصل لما أخرج خلجاته, ولما أجهد فكره فى البحث عن النسق الفنى الملائم(2).

ثم إن النشاط الأدبى بهذا المعنى, وهو نشاط واع, لأن عملية البناء الفنى الجمالى, لا يمكن أن تحدث إلا بجهد فكرى متميز, مرهف الاختيار, يستثمر خبرات مركوزة فى ذاكرته الفنية, لينطلق بها فى عملية الخلق الفنى.

والنشاط الأدبى إنما يكتسب خصوصيته من ذلك الجهد البنائى فى الأنساق الفنية, أما الحالات الوجدانية ـــ وهى التى يصح وصفها باللاوعى ـــ فهى بمجردها, لا تسمى أدباً لأنها تعترى الإِنسان, أى إنسان, لمحض كينونته البشرية, وإنما الأديب هو الذى يستطيع أن يصطنع « الجسر الفنى » الذى يبرز من خلاله تداعيات وجدانه.

ثم إن الأديب هو « بناء إنسانى » تترسب فى أعماقه, وأصوله الإِنسانية الحميمة « مرجعية شعورية حية », تشكلت من خلال « مركوزات » فطرية تولد معه ـــ بحكم إنسانيته ـــ وهى لا يختلف فيها إنسان عن غيره, فى أى مكان, وأى زمان, وأى نمط حضارى, بالإِضافة إلى

« مكتسبات », فكرية وروحية عديده, يكتسبها الإِنسان بحكم التنشئة والتربية والتعليم, وبحكم التجربة  الحياتية التى يخوضها فى مجتمعه الذى ينمو فيه, ومن خلال النمط الحضارى الذى يستظل به, وهذا « الإِطار المرجعى الشعورى » « الصبغة » التى يصطبغ بها النشاط الأدبى الإِبداعى, فى البنى الحضارية المختلفة, وهو الذى يوجه تموجات الوجدان المنفعلة بالمواقف الإِنسانية المختلفة, ثم أنه, بما يحتويه من أصول فطرية ثابتة, ومكتسبات فكرية وروحية متحركة, هو الذى يحكم لنا مسألة الأصالة والعالمية, الخصوصية والإِنسانية, فى النشاط الأدبى الإِبداعى, فى جذورها البعيدة, وأبجدياتها الأولية.

وعالمية الأدب ـــ من ثم ـــ تأتى من جهة القدرة على الانطلاق بالخصوصية الفنية الملتحمة بنسقها الحضارى, إلى الآفاق الإِنسانية المجردة, وذلك يستدعى القدرة على النفاذ إلى « المرجعية الشعورية », بحيث يمكننا إحداث التوافق والتناغم بين المكتسب والفطرى فيها, وأيضا « بلورة » « الجذر » الثابت, وهذا هو مدار العبقرية التى تسمح للأدب أن يكون عالمياً.

ومن ثم : فيمكننا أن نقرر, بأنه ليس ثمة عالمية فى الأدب من دون أصالة, كما أنه خصوصية, فالأصالة هى التى تمنح الأدب فرادته وتميزه الذى يجعل منه إضافة جديدة, وتطويراً فى النشاط الأدبى العالمى, كما أن الخصوصية هى التى توفر للنتاج الأدبى شرط الصدق, الذى به وحده, يستطيع أن ينفذ إلى حنايا النفس الانسانية, ويهز أوتارها, ويحرك مشاعرها.

وعندما افتقدت حركة الأدب العربى الحديث, هذه البصيرة بطبيعة الأدب, وتعامت عن شروط العالمية, انزلقت إلى مجاهل السبل, مسالك التيه, وأصبح كل همّ الأديب العربى أن يقلد اتجاهاً أدبياً أوروبياً أو حتى أدبيا أوروبياً بعينه, تجاهل أدبنا الحديث حقيقة أن ثمة مالا يمكن تجاوزه فى الفعل الإِبداعى بأية حال, إذا شئنا أن ينسب هذا الفعل إلينا, كأدباء ذوى « هوية » إنسانية متميزة.

لقد تجاهلنا, أو جهلنا, أن الأصالة هى المدخل الطبيعى إلى العالمية وأن الخصوصية هى الشرط الجوهرى فى عالمية الأدب.

ولقد أصبحت « العالمية » فى قاموسنا الأدبى الحديث, مرادفاً كاملاً للأوربية, وغدا شائعا ـــ ولما يزل ـــ أن نعنى « الأوربية »  كما ذكرنا العالمية, ولقد كان الأدب العربى « المندحر » فى حاجة ـــ على ما يبدو ـــ لأن يسمع النصيحة من الأوربى ذاته, وقليلاً ما تأتى, حيث وجه أديب ايطاليا الكبير « ايجتازيو سيلونى » دعوته إلى أدباء العربية « إن الطبيعة تأبى أن تعترف بأداب عام لأقوام اختلفت أمزاجتهم وعقلياتهم, وتفاوت ميراثهم النفسى والحضارى, ولهذا نود إنما يأخذ مكانته أدباً عالمياً بتفرده وأصالته (3).

ـــ 3 ـــ

فى جولة قام بها المستشرق الفرنسى المعاصر « شارل بيلا » فى عدد من الأقطار العربية, سأله أديب صحافى : أيهما تقرأ الأدب العربى القديم أم الحديث ؟ فأجاب : بل أقرأ الأدب العربى القديم وحده, فسأله الصحافى الأديب : ولماذا لا تقرأ الأدب العربى الحديث ؟ فأجاب « بيلا » : لأنه أدب أوربى مكتوب باللغة العربية ! (4)

من هذه اللفته الهامة, التى قدمناها كمدخل, للدلالة على الخلفية الحضارية التى يتحرك من خلالها أدبنا الحديث, غالطاً عامداً فى إدراك مفهوم « العالمية » فى الأدب, نستطيع أن نعرض أمثلة تطبيقية توضح لنا حجم الخلل والخطر الذى نتج من جراء ذلك « السقوط » وسنأخذ مثالين : أحدهما من خلال تناول « الموقف التاريخى الدينى », والآخر من خلال تناول « الأنموذج الإِنسانى ».

فعلى صعيد « الموقف التاريخى » من المعروف أن قصة صلب وقتل المسيح ـــ عليه السلام ـــ وهى واحدة من أعظم الموروثات الدينية والتاريخية, التى يلح عليها الشاعر الأوروبى الحديث, كلما أراد بسط مشاعره, حول فكرة الظلم الإِنسانى, والخطيئة البشرية الكبرى, والخلاص, ونحو ذلك.

ولا شك أن « المورث الدينى المسيحى » يتيح للشاعر الأوربى حيوية واسعة فى أن يبدع من خلال هذا الموقف, ويستثمر ذلك الحدث, لأنه يتكىء عليه لاستثارة وتهييج الضمير العقائدى المستخفى فى أغوار الإِنسان الأوروبى, فيستحضر الشاعر بذلك أرق ما فى النفس البشرية من معانى الخلاص والبراءة ..

فإذا ما انتقلنا إلى ساحة الشعر العربى, وجدنا الأمر محض تكلف جاف, وفاشل فنيا, فى استثارة الضمير المسلم, وفق ذلك الرمز الدينى والموقف التاريخى المرتبط به, وذلك أن الضمير العقائدى المترسخ فى أغوار المسلم, يجعله مستعصيا على مثل ذلك التهييج الشعورى, لأنه قد ترسخ فيه أن قصة صلب المسيح وقتله, هى محض أكذوبة وفرية اخترعها الرواة عن وهم, وأنه « وما قتلوه وما صلبوه ولكن شه لهم »(5)

وتبقى محاولات « حشر » هذا « الموقف التاريخى الدينى », بإيحاءاته واصطلاحاته, ومشتقاته الدينيــة المسيحية, فى السياق الشعرى العربى الحديث, عيثاً شائناً, ودلالة صريحة على التبعية والسقوط (6).

وفى النفس هذا الموقف, على مستوى الفن الروائى, فقد قام الأستاذ « سمير الهضيبى » مجاولة روائية كبيرة, تحت عنوان « نهاية أورشليم » عالج فيها تفسخ المجتمع اليهودى وانحلاله وسقوطه من خلال « لوحات » تصور لنا عصر المسيح ـــ عليه السلام ـــ وعندما عرض الأديب المسلم لحادث الاعتداء على المسيح, أراد أن يتوسط فى الموقف ! فأثبت الصلب وتحايل فى نفى القتل بحيلة مقبولة فنياً, إلا أن الصورة العامة ستلقى صدوداً وجدانيا لدى قارىء المسلم للأسباب التى قدمناها, وقد انسحب الأديب الروائى إلى زلة اعتماد المصطلحات المتصلة « حميما » بمفاهيم الاعتقاد المسيحى. (7)

أما على صعيد « الأنموذج الإِنسانى » فمن المعرف أن أنموذج البغى الفاضلة أو  « البغى الضحية » هو أحد النماذج الشائعة والمتواترة, فى الآداب الأوروبية الحديثة, وفى الشعر بوجه الخصوص, وقد عالجا « فيكتور هوجر » فى « ماريون دى لورم », كما عالجها « الأسكندر دوما » فى « غادة الكامليا », وعالجها « ألفريد دى موسيه » فى قصيدته الشهيرة « رولا » والتى جاء فيها :

أيها الفقير ..

إنما أنت البغى

أنت الذى دفعت إلى هذا السرير تلك الطفلة

أنظر؛ لقد أقامت الصلاة قبل نومها هذا المساء

ومن دعت يا إلهى العظيم :

وهذه هى …

تحت ستائر العار, فى هذا المأوى المفزع, وفى سرير الضعة

تعطى أمها حين تعود إلى مسكنها, ما كسبته هناك … (8)

الذى لا شك فيه, أن «دى موسيه » كان صادقاً مع نفسه, ومع وجدانه, ومع واقعه, لأنه يصور لنا إحدى الإِفرازات « المتعفنة » التى أفرزها النمو المختل فى البنية المجتمعية الأوروبية الحديثة, فى أعقاب الثورة الصناعية الكبرى, ويرصد لنا ذلك الخلل النفسى والاجتماعى واللاأخلاقى الرهيب, الذى فرضته على المجتمع الأوروبى, بالإِضافة إلى أن المعالجة « الفنية » التى قدمها « دى موسيه » لهذا الأنموذج, تعكس لنا ـــ بلا شك ـــ الضمير الاجتماعى الذى تكون فى مرآته وجدان ذلك الجيل الجديد, الذى ولد فى أوروبا, وهو الذى ينبغى له « دى موسيه ».

فإذا ما انتقلنا إلى الواقع العربى المسلم, وجدنا أن هذا الأنموذج, لا يمكن أن يستثير الضمير الاجتماعى لهذا الواقع, بل إنه قد يستثير نتائج عكسية على « الأنموذج » وعلى صاحب النتاج الأدبى المتعاطف معه كذلك.

ورغم هذه الحقائق, فقد اندفع كثيرون فى تصوير ذلك « الأنموذج » الأوروبى, فأنشأ « خليل مطران » قصيدته* « الجنين الشهيد » والتى جزم غير واحد من النقاد بأنها ترجمة صريحة لروح « رولا » عند « الفرد دى موسيه ».(9)

ومن ذلك أيضا قصيدة صالح جودت : « الهيكل المستباح » وقصيدة « محمود حسن إسماعيل » « دمعة بغى »(10) وكلاهما لا تعدوان أن تكونا « تبعية وسقوطا », أدبيا, فضلاً عن كونها تمثل نوعاً من « تغريب » الوجدان العربى الذى استقر فى ضميره الاجتماعى أن « الحرة تموت ولا تأكل من ثديها », إضافة إلى أنه لا يحسن بتلك « الخلخلة الاجتماعية » التى تشبه ما أحدثته الثوره الصناعية وتراثها الأخلاقى فى المجتمع الأوروبى.

ولقد استفز هذا الطوفان من تقليد أنموذج « البغى » ناقداً أو أدبياً مثل الأستاذ « يحيى حقى » الذى كتب يسجل لنا ذلك الانهيار وقال :

« … فلست تجد شابا يبتدىء فى الأدب, إلا ويكتب عن البغى ؟! »(11).

ـــ 4 ـــ

يمكننا أن تقسم الأدب الإِسلامى إلى قسمين كبيرين, باعتبار الصدور والاتجاه, أعنى : القاعدة أو المنطق الذى يصدر عنه الأدب, والمخاطب الذى يتوجه إليه, وهذان القسمان هما أدب الرسالة, وأدب الحضارة.

وأدب الرسالة, هو ذلك النشاط الفنى الأدبى الذى يحمل قضية « دين الله » بأفرعها الإِيمانية المختلفة, ويتوجه بها إلى الضمير المسلم فى كل مكان, مثيراً فيه نوازعه الإِيمانية العميقة, وشاحذا همته لنصر الدين, ودفع مسيرة رسالة الإِسلام, وأمجاد المسلمين, ويستفز المسلم من رقدته ليحرك مشاعره, ومن ورائها سلوكياته وانتماءاته, ويحسم له فى مشاعره العميقة الولاء للإِسلام.

وهذا القسم من أداب الإِسلام, يرتبط ظهوره بالتحديات التاريخية التى تجابه الأمة, وتهدد وجودها, لكنه يختفى فى الحقب المستقرة والمطمئنة, ونستطيع أن نتمثل له بمعطاءات : حسان بن ثابت, وكعب بن مالك, وعبد الله بن رواحة, وكعب بن زهير, من الرعيل الأول, وقد يجوز إضافة أدب المذهبيات العقائدية والسياسية, كأشعار الكميت, وقطرى بن الفجاءة, ودعبل الخزاعى, وأضرابهم, ثم يضاف إلى ذلك الأدب المصرى فى العصر الأيوبى والذى سجل لنا ملاحم النصر الكبير للإِسلام على الصليبية, وفى مقدمته أشعار « الصماء الأصفهانى » « وأبو الحسن الساعاتى » و « التعاويذى » و «ابن سناء الملك » و « الجوائرون » و « هبة الله بن محاسن », و « البهاء زهير », و « كمال الدين ابن النبيه », و « شرف الدين بن عنين ».

كما يقف فى هذا الصف أيضا, أشعار « الأندلسيين » عند مغيب دولـة الإِسلام, وما نظموه من أشعار تنعى الإِسلام وتاريخ الإِسلام وأهل الإِسلام فى الأندلس, وتستحث المسلمين فى كل الأرض أن يهبوا لإِنقاذه, ودفع الهلكة عنه, ومن أجمل ما نظم فى ذلك قصيدة « أبى البقاء الرندى » الشهيرة :

لكل شىء إذا ماتم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

وهى الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

فإذا ما أتينا إلى العصر الحديث, فسوف تبرز أمامنا إبداعات الشاعر الهندى المسلم « محمد إقبال », والمصريين : محمد عبد المطلب وأحمد محرم, وروائيات « محمد فريد أبو حديد » ؟ « على أحمد باكثير » والدكتور « نجيب الكيلانى », ومن بعدهم عامة شعراء الجليل الجديد أمثال محمد الحسناوى, ومحمود مفلح, وغيرهم.

وهذا القسم من أدب الإِسلام ـــ أدب الرسالة ـــ يحمل من صفات العالمية, إمكانيته الطبيعية لاختراق حاجز اللغة, لينتقل إلى الوجدان الإِنسانى عبر اللغات المتباينة والألسن المختلفة, فتهز أوتار المسلم الهندى, ما تهزه من أوتار المسلم المصرى, ويطرب لها المسلم التركى, كما يطرب لها المسم النيجيرى.

ولقد رأينا كيف أن أشعار « محمد إقبال » تترجم إلى معظم الشعوب الإِسلامية, فتجد من القبول والتجاوب ما يماثل ذلك الذى قابلته فى موطنها الأصلى ولغتها الأصلية, فمن هذا المعنى نستطيع أن نصف أدب الرسالة بأنه أدب عالمى, بحكم قدرته على التواصل مع الإِنسان فى أة بقعة من الأرض, وبأى لغة من لغاتها, إلا أن وصف العالمية ينحسر عنه إذا نظرنا إلى محدودية القدرة على اختراق البنية الحضارية الإِنسانية, المخالفة له فى المعتقد وشمولية الرؤية الكونية بالإِضافة إلى تأثر ذلك القسم من أدب الإِسلام, بضيق المجال الحياتى والنفسى والزمنى, الذى يتعاطى معه.

أما القسم الآخر, من أدب الإِسلام, أعنى « أدب الحضارة », فهو ذلك النوع من النشاط الفنى الأدبى الذى يصدر عن القاعدة الحضارية الواسعة, التى تعبر عن المدينة الإِسلامية بكل ما فيها من روح وفكر, وفن وتصور, وقيم, ومواضعات اقتصادية وسياسية, وطبائع اجتماعية وتشريعية, واشكاليات نفسية, وهواجس مستقبلية, وتراث أسطورى أو تاريخى كونى, وهموم إنسانية عامة, وغير ذلك, ومن شبكة الحياة الواسعة, الكثيفة الأفرع, والبعيدة الامتداد, وأدب الحضارة بهذا المعنى, لا يحمل الرسالة بالمفهوم السابق, وإن كانت روح الإِسلام تتسرب فى حناياه, وتذوب مع ذراته الدقيقة, إلى الدرجة التى تكاد فيها لا تدرك بالحس المباشر, واليقظ.

وهذا النوع من أدب الاسلام ـــ أدب الحضارة ـــ هو الذى يملك مقومات العالمية بكل أبعادها, وذلك لأنه لا يصدر عن حالة من الهم المباشر بقضية الإِسلام, مما يجعل ثمة حواجز دينية وتراثية تحول دون امتداده فى الوجدان الإِنسانى العام, وهذا الأمر يكسب أدب الحضارة الإِسلامية حيوية كبيرة, تغرى البناءات الحضارية الأخرى, لكى تفتح نوافذها لاستقبال ذلك الروح الأثيرى الجديد, برؤاه الجديدة, ومعاناته المختلفة لمشكلات الحياة الإِنسانية.

وعلى الجانب الآخر, فهو لا يصدر ـــ حين يصدر ـــ متوجها إلى الإِنسان المسلم على وجه التحديد, وإنما هو يخرج رحيقاً إنسانياً صافياً, مجرداً عن أية قضية محددة, أو وجهة مميزة, تماماً كما يخرج رحيق الزهر من طلعه, لا يعنيه من يستعذبه ولا من يشريه, وإنما هو ينبعث للحياة انبعاثا فطريا خالصا, دونما تكلف أو وعى مضبوط.

وهذا الأدب الإِسلامى ـــ أدب الحضارة ـــ هو جمهرة أدب الإِسلام, الذى أفرزته حدائق الإِسلام الواسعة الامتداد, والهائلة التشعب والتنوع, والوافرة الثروة على مدار التاريخ الطويل للحضارة الإِسلامية.

وأدب الحضارة ـــ من ثم ـــ هو مدار العالمية فى أدب الإِسلام, ومن حيث الخصيصة الإِنسانية المجردة, التى تجعله قادراً على اختراق حواجز « المرجعية الشعورية المكتسبة » فى البناء النفسى للإِنسان فى شتى  البنى الحضارية, لينفذ إلى صميم « المرجعية الشعوريـة الفطرية », والتى لا يختلف فيها الإِنسان عن الإِنسان فى أى مكان من وجه الأرض, بل وفى أى زمان على مدار التاريخ.

وهذه الخصيصة, هى التى تمنح كتاباً مثل « طوق الحمامة فى الألفة والألاف » لأبى محمد على بن حزم الأندلس, ابن القرن الخامس الهجرى, حيوية بالغة عندما يترجم إلى عدد من اللغات الأوروبية الحديثة, حتى أنه يتصدر قائمة المبيعات الأدبية المشرقية فى « بولندا » فى مطلع القرن الخامس عشر الهجرى, تاركاً وراءه أحدث النتاجات الأدبية فى الشرق, بما فيها تلك التى يجهد أصحابها فى تقليد المذهبيات الأدبية الأوروبية ذاتها.

وهذه الخصيصة ـــ أيضا ـــ هى التى تجعل كتاباً مثل « رسالة الغفران » لأبى العلاء المعرى أو « حى بن يقظان » لابن الطفيل, منهلاً ينهل منه أدباء أوربيون كبار, ويبدعون من خلال « روحه » وحتى « إطاراته الفنية ».

وهذه الخصيصة ـــ أيضا ـــ هى التى تمنح إنتاجاً شديد الخصوصية فى البناء الحضارى التاريخى للإِسلام, مثل « أدب بنى ساسان » أو « أهل الكدية », أو بالتعريف القريب « أدب المتسولين » جاذبية هائلة, تسترق مشاعر المستشرق السوفيتى « مينوسكى », والمستشرق الألمانى « رور صوير » فيخرجون ذخائرها, ويحققونها, وينشرونها فى العالمين, حتى قبل أن تنتبه لها الإِدارات المتخصصة فى العالم العربى (12).

وهذه الخصيصة ـــ أيضا ـــ هى التى تمنح « رباعيات الخيام », تلك الجاذبية الروحية الكبيرة التى تشد إليها وجدانات البشرية فى العديد من اللغات المختلفة والأنماط الحضارية المتباينة.

وهذه الخصيصة ـــ أخيراً ـــ هى التى تمنح كتاباً مثل « ألف ليلة وليلة » تلك الهيمنة العجيبة على خيالات البشرية فى كل مكان, لتصبح جزءاً لا يتجزأ من تراثها الأسطورى الذى يربص على مناحى التفكير الفنى وآفاقه الإِنسانية.

هذا التراث الأدبى الكبير الذى لم يعرف يوما ما, إشكالية الأدب الملتزم وغير الملتزم, والمسؤول وغير المسؤول, والهادف وغير الهادف, هو الذى يصدق عليه كلامنا ـــ عند الاطلاق ـــ بوصفه : أدب الإِسلام العالمى.

ـــ 5 ـــ

العالمية فى أدب الإِسلام طبيعة طابعة, وخصيصة أصيلة, لا تقصد قصداً, ولا تتكلف تكلفا, نظراً للطبيعة الإِنسانية التى تمثلها قاعدته الحضارية التى يصدر عنها, ومن ثم؛ فعندما نتحدث عن شروط إعادة أدب الإِسلام إلى مدارات العالمية, فإن حديثنا ذاك, يتعادل تماماً مع حديثنا عن شروط نهضة الأدب الإِسلامى وحسب.

وعلى الرغم من اتصال الحياة الأدبية, بظواهر الحركة الحضارية بوجه عام, وهو الأمر الذى يبشر بنهضة الحضارية الجديدة, إلا أن ثمة شروطاً فنية ومنهجية ومنطقية, ينبغى أن تراعى إذا أردنا لهذه النهضة الأدبية أن تؤتى أكلها, وثمارها, وتنجو من مزالق التيه, وعثرات الطريق.

ويمكننا أن نلخص تلك الشروط فى النقاط الآتية :

أولاً : صدق التجربة, وسلامة التصور : لقد سبق وأوضحنا أن الخصوصية هى شرط العالمية, وأن الأصالة هى مدخلها, وبالتالى فعندما نتحدث عن شروط نهضة الأدب الإِسلامى, فإنه يقفر فى المقدمة شرط « صدق التجربة ».

إن المواقف الأدبية, أو النماذج الإِنسانية التى يعالجها الأديب المسلم, ينبغى أن تكون صادرة عن واقع صحيح يعيشه ويحياه, أو ـــ على الأقل ـــ تملك المواقف والنماذج التى يختارها معقولية الصدور عن مناخ إنسانى حضارى يمثله الأديب بوصفه مسلما.

والحقيقة أن « صدق التجربة » يرتبط ارتباطا وثيقاً بسلامة التصور, والتأمل فى وضعية الإِنهيار والتبعية التى غرق فيها الأديب العربى المسلم, والتى تفتقر فى عمومها لصدق التجربة, سيلحظ بوضوح أن السبب الأساسى يعود إلى « اغترابه الفكرى », والخرق الذى أصاب « فلكه الثقافى», حتى لقد وصل الحال ـــ فى مرحلة هامة من تاريخنا الحديث ـــ إلى حد شعور الأديب العربى المسلم أنه فى وضع صراع مع كيانه التراثى والتاريخى والدينى كذلك.

ولقد صور لنا الدكتور « محمد حسين هيكل » بدايات الأزمة تصويراً دقيقاً, وعن تجربة, فقال : « والشرقيون الذين لم يفطنوا بما يجب من الدقة إلى هذا الاتصال التاريخى بين الدين والعلم والفلسفة والأدب فى الغرب, والذين فتنوا بأدب الغرب, خيل إليهم أنهم قديرون على نقل صور الأدب إلى الشرق كنيسة ككنيسة الغرب, وأن ما انتهى إليه النضال بين الدولة والكنيسة فى الغرب, يجب أن يبدؤا عنده حملتهم على الكنيسة الموهومة فى الشرق »(13).

و « هيكل » ـــ رحمه الله ـــ لم يكتف بتسجيل ذلك الإِنهيار على أبناء جيله وحسب, بل ذهب إلى حد الاعتراف الشخصى بالحقيقة, فقال : « وأعتراف أن خواطر كهذه جالت بنفسى فى أوقات متفاوته »(14).

ومن هنا؛ فإنه سيكون من الضرورى, فى خطوات الأدب الإِسلامى الأولى نحو نهضته, ونحو العالمية, أن يتضلع بهذا الفتح, الطلائع الإِسلامية الواعية, والتى تحمل فى حناياها وضمائرها إرادة التغيير, وسلامة التصور, والارتباط الحميمى بأمتهم : تراثا, وواقعا, وآفاقاً مستقبلية.

ثانياً : تجاوز الموقف التريخى إلى الواقع الحى : وهذه المسألة, قد تكون لها بعض حساسياتها مع أصدقائها وإخواننا مبدعى الأدب الإِسلامى المعاصر, إلا أن ظن الخير يمنحنا الشجاعة لنقد الخلل, وتوجيه المسار.

إن الملاحظ على عامة النتاجات الأدبية الإِسلامية الجديدة ـــ ولا سيما فى الفن الروائى والمسرحى ـــ انتحاؤها منحى التاريخ, بمواقفه ونماذجه على السواء, وتكاد عملية الاستلهام هذه تقبع فى حقبة محدودة, لا تتجاوز القرون الثلاثة الأولى, وباقى تاريخ الإِسلام همل, إلا من الوقفات عند المعارك الكبرى, كمعارك صلاح الدين, والظاهر بيبرس, وحتى هذه الوقفات لا تحاول النفاذ إلى أعماق الضمير الشعبى الإِسلامى, بقدر ما تحاول تسجيل المشاهد التاريخية الظاهرة, والفذة, أيضا الملوكية, وربما يعود ذلك إلى ضعف الحصيلة المرجعية من كتب التاريخ المتخصصة, وهو الأمر الذى تكشفه نقاط فراغ كثيرة فى العمل الفنى, يحاول الأديب سدها عن طريق تمديد الحوار أو الوصف, فى المواقف المركزية.(15)

ومسألة استيحاء التاريخ فى العمل الأدبى, حق مشروع تماماً للأديب, ولا مماحكة فى فنيتها وقيمتها, ما استوفت شرائط العمل الفنى, لكن الذى نتحفظ عليه, هو أن يستغرق التاريخ مجهودات مبدعينا, ويصبح ـــ وحده ـــ مستودع تجاربهم الفنية, فمثل هذا المنحى يصبح بمثابة شهادة إفلاس للأدب, ويتحول التاريخ إلى « بنك » للمفلسين, ممن يعجزون عن رصد واقعهم الحى, وتفجير مكنونات خواطرهم المشحونة بحركاته وصراعاته, وخلجاته, وأفراحه وعذاباته, وتحدياته, ومشكلاته العميقة.

إن الواقع الحى يملك من الخصوبة التجاربية, وسعة الرؤية, والجاذبية الفنية, ما يملكه الموقف التاريخى, إن لم يكن أكثر, فلماذا نقصر فى هذا الحقل الكبير ونهمله, وأين معاناة المسلم فى حياته العادية وممارساته اليومية ؟

إنه لمن المؤسف أن يترك هذا الواقع الحى, بكل إلحاحه وحيويته, وتجاربه الخصيبة, للمغتربين فكراً وتصوراً, يستخرجون منه آلاف الصور والمشاهد والأنماط, بينما الأديب المسلم يقبع هناك فى ركن بعيد زاوٍ, مهما قلنا عن قيمته, فإنها لن تبرر له أن يسجن قلمه ووجدانه فيه, ويصبح هو الآخر مغترباً, وإن كان من زاوية أخرى.

ثالثا : الوازن النفسى للأديب المسلم فى تعامله مع النتاجات الفنية الأجنبية, والمذهبيات النقدية والاتجاهات الأدبية, فإننا إن كنا نلح فى إبراز مخاطر عملية الاغتراب أو الاندحار الذى ألقى بنفسه الأدب العربى المعاصر, لحساب آداب أمم أخرى, فهذا كان بالنظر إلى مخاطر هذا الجانب وإلحاحه الواقعى كشاهد حى.

إلا أننا ينبغى أن نحذر حالة التقوقع والانعزال عن مجريات الحركة الأدبية فى العالم, لأن ذلك ـــ لو حدث ـــ ينعكس سلبا على حركتنا الأدبية, ويحرمها روافد إنسانية جادة من حقنا, بل من واجبنا, أن نتناولها, ونمحصها, ونهضمها, فنمر ما نمر, ونلفظ ما نلفظ, ونصبغ ما نصبغ.

إن الخصام العقائدى والقيمـى والاجتماعى مع الجاهلية, لا يعنى القطيعة الكاملة مع كافة نتائجها الإِنسانية, فلقد رأينا الأدب الإِسلامى القديم يمتاح من معين الجاهلية العربية, والأغريقية والفارسية والهندية, فلماذا تكون الجاهلية الأوروبية الحديثة بدعاً فى الأمر .

أنه ـــ كما يقول الأستاذ « ناصر الدين الأسد » « لابد أن نفتح النوافذ كلها, لنستقبل النور والهواء على أن نرى النور بأعيننا لا بأعين غيرنا, وأن نتنفس الهواء برئاتنا لا بالرئات التى تصنع لنا, وأن نفتح النوافذ ونغلقهل حين نريد نحن, لا حين يراد لنا, وعلى الصورة التى نختارها, ولا على الصورة التى تفرض علينا »(16)

رابعا : العمل الجاد على اصطناع منهج الأدب الإِسلامى المقارن, فى جامعاتنا ومعاهدنا العليا, والحقيقة أن هذا المجال هو واحد من أخطر المجالات الأدبية, بل الإِنسانية, التى ما زلنا نهملها إهمالاً غربياً, ومربياً !!

ومن عجب أن يتعزز منهج الأدب المقارن فى مؤسساتنا التعليمية العليا على أساس الربط بين آداب أقطار الإِسلام فرادى, مع الأدب الأوربى الحديث, حتى أصبح من المألوف أن يعرف العربى المشرقى عن تاريخ الأدب الانجليزى مالا يعرفه عن تاريخ الأدب التركى الإِسلامى, ويعرف العربى المغربى عن تاريخ الأدب الفرنسى مالا يعرفه عن تاريخ الأدب الفارسى أو الهندى الإِسلامى.

إن إيجاد, وتنشيط, منهج الأدب الإِسلامى المقارن بين لغات الإِسلام وشعوبه وأقطاره, سيتيح إمكانية كبيرة, لتخصيب الفكر الإِبداعى فى أدب الإِسلام, وسيعرض أمام الأديب المسلم كماً هائلا من التجارب الإِنسانية والفنية الحية, والتى لن يشعر أبداً بغربتها عنه, لأنها صادرة عن وجدان وواقع, صاغهما تاريخ وتراث ودين ـــ وربما تحديات ـــ هى نفسها التى صاغت واعه ووجدانه.

إنه ـــ باختصار ـــ سيشعر بامتداد إنسانى عالمى لواقعه الإِسلامى بكل ما يعتمل فيه من حياة نابضة, هذا بالإِضافة إلى الإِفادات الأخرى من التجارب الفنية والجمالية, والنحاولات التجديدية المتواضعة, التى تتضخم وتزهو بتراكم الخبرة والفحص والتطوير. هذا, وللأدب الإِسلامى المقارن قيمة أخرى عظيمة, تتصل بمشاعر وحدة الأمة وطبيعة التحدى الحضارى الذى تجابهه فى واقعها المعاصر.

وقد سبق لنا أن تعرضنا لمشكلات هذه المسألة, وأبنّا عن خطورتها, وقدمنا مقترحاتنا لايجاد منهج الأدب المقارن وتنشيطه, نكتفى هنا بإحالة القارىء إليها, تحاشياً للإِطالة والتكرار.(17)

خامسا : الخدمة الإِعلامية المناسبة : وفى هذه النقطة تتفتق جروح وأحزان, على الباحث والأديب المسلم, حين يرى الحصار المضروب على الأدب الإِسلامى, فى منابرنا الإِعلامية من صحافة وإذاعة, ودوريات, ومنتديات, ومؤسسات إعلامية رسمية وشعبية, بصورة لا تحتمل إلا وصف « التواطؤ » على خنق هذا الأدب.

فلقد وصل الحال بأحد الباحثين المصريين فى مجال الأدب, أنشأ « ببليوجرافيا » للرواية المصرية منذ مطلع القرن العشرين, وحتى الثمانينات من القرن, فوجد فى نفسه الشجاعة لأن يسقط كافة النتاجات التى كتبها الروائى المسلم « نجيب الكيلانى » رغم دقة دراسته, التى تقصت الأغمار ومن لا يعرفوم ! (18)

الذى نريد قوله؛ أنه لا يمكن أن توجد حركة أدبية ناشطة, فى أى مكان وأى زمان, دون معونة إعلامية كافية, تخدمها وتعرف بها, وتحقق التواصل بين المبدع وقارئه أو مستمعه, والتواصل ركن كامل من أركان الحياة الأدبية تموت بموته, ومن هنا فإننا نحدد المسؤولية المباشرة على أطراف ثلاثة :

أ ـــ المنظمة الإِسلامية للتربية والثقافة والعلوم « اسيسكو » بوصفها الكيان المنوط به خدمة قضايا الإِسلام ومشكلات الثقافة الإِسلامية, وليس من المقبول ولا المعقول أن يقوم رجل مثل الأستاذ الشيخ « أبى الحسن الندوى » بمجهوداته فى بعث الأدب الإِسلامى, دون المعونة الكافية من المنظمة الإِسلامية.

والمطلب الملح الآن أن تصدر المنظمة مجلة إسلامية راقية, ومتخصصة للأدب الإِسلامى.

ب ـــ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم « اليسكو », فالإِسلام هو دين العرب وتاريخهم والعربية ما أخذت مكانتها التاريخية العالمية, إلا بوصفها لسان الإِسلام ولغة حضارته, فكيق تتاح المنابر والمنافذ الدعائية والإِعلامية, والمنتديات المدعومة من المنظمات العربية, لكافة أصحاب المذهبيات المغتربة, من أقصى اليسار المتطرف, حتى أقصى اليمين العلمانى, دون أن تتاح حتى فرصة المشاركة للإِسلاميين ؟ وإن هذا الكلام يصدق على قضية الأدب.

لقد أصبحت المنتديات الأدبية التى تشرف عليها وتنفق جامعة الدول العربية, حكراً على بعض النماذج الأدبية المعروفة بعدائها الصريح للإِسلام !

ج ـــ المجلات الإِسلامية, وكافة الدوريات التى تتبنى قضايا الإِسلام المعاصرة, إذ أن المساحة الأدبية المعطاة للأدب, لا تكفى لابراز حركة الأدب الإِسلامى بصورة

تذ ييــــــــــــــــــلات

(*) مطران شاعر مسيحى, ولكنا نستشهد بنتاجه هنا بوصفه ابن المجتمع العربى المسلم, الذى من المفروض أن أدبه صورة لواقعه ونسقه الحضارى كما كنا نستشهد  « بالأخطل » فى زمن الأول, بوصفه أبناً لواقع حضارى عربى إسلامى رغم دينه غير الإِسلامى .

1 ـــ من ذلك كتاب الدكتور محمد محمد حسين « الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر », وأبحاث متنوعة للأستاذ « أنور الجندى » والدكتور « محمد مصطفى هداره والدكتورة « عائشة عبد الرحمن » ولصاحب البحث, وخاصة كتاب « الغار على الوجدان المسلم ».

2 ـــ النسق الفنى لابد وأن يتلاءم مع « المادة » الوجدانية, فعلى سبيل المثال من يعالج حالة الحزن لا يستقيم له بحر الرجز, ومن يعالج الحماسة يوافقه « الكامل » أكثر من غيره, ومن يعالج معانى الفرح من المنافذ والمنابر الإِعلامية, التى تمكن الأدب الإِسلامى من اختراق الحصار المضروب حوله, والذى يمثل عائقاً أساسياً, من عوائق نضجه وانتشاره.

لائقة, ولا تغرى باستقطاب زاهرته الواعدة, وإن كنا لا نغمط بعض المجلات جهودها المشكورة, وفى مقدمتها مجلة « الوعى الإِسلامى » بالمقالات والنتاجات الإِبداعية(19) ومجلة  « المسلم المعاصر » بالدراسات والأبحاث النقدية.

ولا يفوتنا أن نذكر بالثناء ـــ فى هذا المقام ـــ الجهود المشكورة, التى يقوم بها تجمع الأدباء الإِسلاميين فى المغرب, من خلال مجلة « المشكاة ».

وتبقى المسئوولية التضامنية قائمة, على كل الأطراف الإِسلامية, ومؤسساتها الشعبية والحكومية, لتوفير القدر المناسب والخفة, لا يوافقه « الطويل أو المديد » وهكذا, كما أن القافية والروى, لابد من تواؤمها مع المادة الوجدانية, أو من البحر الشعرى كذلك.

3 ـــ راجع د. عائشة عبد الرحمن « قيم جديدة للأدب العربى » ص 241.

ط معهد البحوث والدراسات العربية, القاهرة, 1966 م.

4 ـــ راجع مقال د. محمد عبد المنعم خفاجى « الغزو الفكرى وموقفنا منه » مجلة « الأزهر » ربيع أول 1404 هـ ديسمبر 1984 م.

5 ـــ سورة النساء آية 157.

6 ـــ المصطلحات المسيحية, أصبحت تمثل « طوفاناً » أغرق معه الآليات الفنية للشعراء العرب المعاصرين ولأول مرة فى تاريخ الأدب العربى, تصبح ألفاظ : الصلب والصليب والقداس والعمادة … إلخ هى المهيمنة على الصورة الشعرية ولغتها :

« صارت لى الكوؤس والأكمام وسادة … حلما على الوسادة من زمن الولادة

فى غاية الرضاع والفطام

أنقل أجراس فى الليل إلى كنيسة النهار

النسع قداس بين الطلع والثمار

والورق العمادة … »

هكذا يغنى الشاعر المسلم  « على أحمد سعيد » ( أدونس )

راجع الآثار الكاملة ص 14 ج 2 ط. دار العودة بيروت « الثانية » 1971 م, وقد تصل الاستعارة إلى حد التكلف  « الفج » كأن يقول شاعر عربى مسلم لوجدان عربى مسلم :

أشتهى أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة

أو صليباً من الذهب على صدر عذراء تقلى السمك لحبيبها العائد من المقهى !! »

راجع : محمد الماغوط « الآثار الكاملة » ص 26, ط. دار العودة « الثانية » 1981 م. وقد تصل  « الفجاجة » حد الاستفزاز, كأن يغنى « شاعر عربى مسلم كبير » لثورة الجزائر العربية المسلمة, فيقول :

« أقسمت يا جزائرى الحبيبة أن أحمل الصليب !!!! أن أطأ اللهيب … »

هكذا يغنى عبد الوهاب البياتى, لشعب مسلم, ظل طوال أكثر من قرن يجاهد المستعمرين حملة الصليب.

راجع د. أنس داود « الأسطورة » فى الشعر العربى الحديث » ص 255.

ط. المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإِعلان ـــ طرابلس الغرب, بدون تاريخ.

7 ـــ راجع اللوحة الرابعة عشر « محاكمة يسوع » ص 371 وما بعدها.

ط. دار الأمة الإِسلامية, القاهرة  « الأولى » 1988 م.

8 ـــ راجع د. محمد غنيمى هلال « الموقف الأدبى » ص 72.

9 ـــ د. محمد غنيمى هلال « الأدب المقارن » ص 411.

ط. دار العودة / دار الثقافة, بيروت « الخامسة » بدون تاريخ.

10 ـــ يقول « محمود حسن إسماعيل » فى قصيدته :

واسنى يادهر وكفكف عن صروفى وأعنى

طال بالعار على الدنيا وقوفى لا تلمنى

وخبت من خزيها تحت سفوفى نار حزنى

بعت عرضى يا إلهى برغيف فاعف عنى

إلى أن بقول :

هكذا الدنيا على الدنيا هواها راح يقضى

حرة باللقمة العفراء راها بعت عرضى

رجع د. محمد هبد الرحمن شعيب « الأدب المقارن » ص 117. ط. دار التأليف. القاهرة 1389 هـ ـــ 1969 م.

11 ـــ راجع : هلال « الموقف الأدبى » ص 152.

12 ـــ قامت وزارة التربية والتعليم بمصر, بطبع كتاب « أدبى دلف الخزرجى مسعر بن مهلهل » فى وصف رحلته فى أواسط آسيا, وهى الرسالة التى حققها  « مينورسكى ».

13 ـــ « ثورة الأدب » ص 214. ط مكتبة النهضة المصرية, القاهرة, « الثالثة » 1965 م.

14 ـــ نفس المصدر, ونفس الصفحة.

15 ـــ يصح كلامنا هنا على نتاجات الأساتذة الرواد : محمد فريد أبو حديد, وعلى أحمد باكثير, وعبد الحميد جودة السحار, وكذلك النتاجات المبكرة للدكتور « نجيب الكيلانى ».

مع الإِشارة إلى أن كلامنا هذا لا ينتقص من ريادة هؤلاء النفر, ولا القيمة الكبرى التى قدموها للأدب الإِسلامى المعاصر.

16 ـــ  « التراث والمجتمع الجديد » ص 360.

من أعمال موتمر الأدباء العرب الخامس ـــ القسم الأول ـــ بغداد 1965 م.

17 ـــ « الأدب الإِسلامى المقارن … ضرورة حضارية ».

« الوعى الاسلامى », العدد 291, ربيع أول 1409 هـ, أكتوبر 1988 م.

18 ـــ د. طه وادى « ببليوجرافيا عن الرواية المصرية من البداية حتى 1987 », مجلة القاهرة العدد 6,88  1987 », مجلة القاهرة العدد 6,88 ربيع أول 1409 هـ, 15 أكتوبر 1988 م.

19 ـــ أفراغت مجلة « الوعى الإِسلامى » العدد رقم (291) بصورة شبه كاملة للأدب الإِسلامى, إبداعا ونقداً ودراسة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر