أبحاث

نحو تطوير الدرس الجنائي الإسلامي

العدد 78

لا يعمل العقل في فراغ، وإنما يتعامل مع تصورات، ويتحاور مع واقع، وأية محاولة للنظر في منهج دراسي، جزئي أو كلي، هي حركة عقلية ترتبط بتصور وتتحاور مع واقع، وتستهدف في النهاية تقديم مقترحات أو الوصول إلى نتائج. ولأن العلم الجنائي في جانبه التشريعي هو لحمة هذه الورقة وسداها، والغاية منها بدء الحوار حول مفردات منهج يتسق بالدقة والمرونة معاً، وحتى تكون المساحة المتاحة لتدريس التشريع الجنائي الإسلامي أوفى بالغرض وملائمة لأهدافها، جاءت هذه الورقة رباعية العناصر.

أولاً: الإسلام المعاصر

يتحرك الإسلام المعاصر في بيئة لها قسمات خاصة وملامح مفارقة ينبغي أن توضع في الحسبان باعتبارها البيئة التي يصمم المنهج في سياقها وتصاغ مفرداته، وأمامنا القوى الفاعلة في هذه البيئة، قبولاً ورفضاً، وتناقضاً وانسجاماً، وفي هذا الصدد نشير إلى ما يلي.

1ـ  منذ بداية هذا القرن، والإسلام جزء اساسي من هذا الخطاب العام في المجتمع، لكنه في العقود الثلاثة الأخيرة أصبح ظاهرة قوية تجتاح الأفكار السائدة، وتتوغل في مجالات اجتماعية وسياسية وثقافية، حتى أصبح فهم آليات الإسلام المعاصر _ بين التحدي والتصدي _ أمراً لا يكفي فيه تفسير الأنظمة الإقليمية، وإنما يستوجب فهم النظام الدولي، وكلا الأمرين بالغ التعقيد والتركيب، لأن البناء التشريعي للإسلام لا يقدم منعزلاً عن صلاحية الإسلام كبديل، وهذا يجعل الإسلام السياسي في قلب المنهج التشريعي بكل ما لهذا الوجود من أصداء ومتطلبات في صياغة التشريع وإعداد المناهج، وفي إطار هذه الأصداء يمكن الإجابة على عدد من التساؤلات في المجال الجنائي تتعلق بسريان النصوص على الأشخاص، وحل إشكاليات التمايز الديني، وصياغة إسلامية لحقوق الإنسان في الجانب الجنائي، ووضع ضوابط النقد المباح للنصوص، وقواعد فهم الواقع، وربما كانت التجربة السودانية بكل تداعياتها نموذجاً يجسد اللحظة التاريخية الراهنة، وما فيها من ترقب وتوتر، وهي لحظه ملأى بالتوقعات المتباينة، وتعني ضرورة التعامل مع الحضور الجديد للإسلام على الساحات المحلية والإقليمية والدولية.

2ـ  أن الجهود المبذولة لتجديد الفقه وإصلاح الفكر، لا انعكاس لها على اصلاح مناهج التدريس، بما يجعل الساحة الفقهية الراهنة _ في الأغلب الأعم _ امتداداً للجمود الذي شهدته الأمة منذ قرون وهو ما صوره الشيخ ” محمد مصطفى المراغي ” في مذكرته الإصلاحية التي كتبها عام 1928 عندما قال:

” ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا للراحة، وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس، فجهلوا الحياة، وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكيرالحديثة، وطرق البحث الحديث، وجهلوا ما جَدَ في الحياة من علم، وما جَد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنهم، ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له “.

وهو ما قاله ” ابن القيم ” منذ ستة قرون في مثل هؤلاء بقوله: ” لقد جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وصدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من معرفة الحق والتنفيذ له، ظناً منهم أنها منافية لقواعد الشرع، ولعمري أنها لا تنافي ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما نافت ما فهموه من الشريعة، والذي أوجب لهم ذلك نوع من تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر “.

وهذا يعني أن الأنساق التشريعية القادرة على مواجهة الواقع الجديد لم تتكون بعد، فحضور الإسلام سياسياً واجتماعياً، وغيابه عن الواقع التشريعي يقيم صعوبات جمة أمام مناهج التفكير والتقنين والتدريس.

ثانياً: الواقع المعاصر

هناك أزمة في تدريس الفقه في عالمنا الإسلامي المعاصر، وهي ازمة لها أسبابها ودواعيها، وتبدو الجهود الحديثة أقرب إلى استنزاف الطاقة منها إلى استئناف الاجتهاد، وتدريس الفقه في بلادنا يقوم على منهجين:

1ـ المنهج الأزهري القديم: والذي يعتمد كتاباً أو مجموعة كتب من التراث تكون مادة للبحث والحفظ والاستيعاب، وتختار غالباً من كتب المتأخرين، مما يجعل الدراسة الفقهية عسرة، والنتائج العملية محدودة، وقد وصف الشيخ المراغي هذه الكتب بقوله: ” هي كتب معقدة لها طريقة خاصة في التأليف، لا يفهمها كل من يعرف العربية، وإنما يفهمها من مارسها، ومرن على فهمها، وعرف اصطلاح مؤلفيها.

2ـ المنهج الحديث: وهو منهج أكثر تطوراً دفعت إليه الحاجة، ونشأ في ظل اتجاه الدولة العثمانية إلى وضع تجميع لأحكام المعاملات فيما سمى ” بمجلة الأحكام العدلية “، والتي مثلت شروحها في مصر والقسطنطينية وسوريا والعراق ولبنان، الروافد الأولى لنشاط تأليفي معاصر ذادت أهميته في مصر في مدرسة الحقوق الملكية، ومدرسة القضاء الشرعي، ومدرسة  دار العلوم.

وبينما ظل التأليف في مجال المعاملات _ لغيبة التشريع الإسلامي _ يتطور ببطء ولا يمده القضاء العملي بما للواقع من تأثير في نمو التشريع، فإن مجال الأحوال الشخصية _ وهو جزء من المعاملات _ شهد دراسات أكثر عمقاً وشروحاً أوسع وأوفى ترفده حركة القضاء بما يدعو إلى تطويره ويساعد على إثرائه وكثرت التآليف من خلال مقررات الدراسة في مدرستي الحقوق والقضاء الشرعي، واحتلت كتابات أحمد إبراهيم، وزيد الأبياني، ومحمد سلامة، وعبد الحكيم محمد، ومحمد الخضري، مكانة خاصة في العقل الفقهي الحديث، بل وتوغلت في مجالات جديدة أهمها تاريخ التشريع، والسياسة الشرعية، والتي كتب فيهما الشيخ المراغي، ومحمد البنا، وفرج السنهوري ، وعبد الوهاب خلاف، ومحمد علي السايس، وعبد الرحمن تاج، وغيرهم، وهي حركة فقهية تتسم بالنضج وفيها مجالات تستوعب بعض جوانب الفقه الجنائي والمرافعات وأصول الأحكام، وينبغي رصد انتاجها ومناهجها لتكون بين يدي الباحث المعاصر.

وجاء هذا التأليف الفقهي المتطور مواكباً لنمو الدراسات المقارنة في فرنسا، والتي فتحت إدارة الأستاذ “لامبير” لكلية الحقوق الملكية المجال أمام نخبة من طلاب القانون في مصر للتعمق في دراسة القانون المقارن فقدموا أطروحات علمية في فقه الشريعة الإسلامية مقارنة بالفقه الحديث، وهي دراسات أماطت اللثام عن الوجه الحقيقي لبنية الفقه الإسلامي وتطورها، وتقدمها في عدد من جوانب الدرس الفقهي القانوني، والتي ظن الغرب أنها نتاج خالص للغرب الحديث، ومن هذه الدراسات ما كتبه عمر لطفي، ومحمود فتحي، ومحمد صادق فهمي، ومحمد عبد الجواد، وعبد الرازق السنهوري، ومحمد فؤاد مهنا، وغيرهم، ولو قدر لهذه الحركة الاستمرار لانعكست على الواقع التشريعي والعلمي ودفعته إلى تطور منشود، ولكن التطورات التشريعية ذاتها، وظروف الاحتلال، وسيادة التوجه العلماني، أغفلت كثيراً هذه الجهود، حتى دخلت معظم هذه الاطروحات في دائرة النسيان.

ومع ذلك، فإن المحاولات التي بذلت منذ بداية هذا القرن لإعداد تشريع كامل للأحوال الشخصية في مصر، ثم أصبحت واقعاً تشريعياً في عدد من الدول العربية، أتاح فرصاً كثيرة لاحتكاك العقول، وإبراز المشكلات الفعلية التي يعاني منها الفقه المعاصر_ تقنيناً وتدريساً _ مما أكد الحاجة إلى أمرين هما:

(أ‌)             تقنين مستمد من الشريعة الإسلامية، يعتمد المذاهب الفقهية المختلفة، في نظرة إلى الفقه الإسلامي باعتباره وحدة متكاملة، وليس تفاريق مذهبية، مما يسمح باختيارات واسعة أمام عالم التشريع، ويؤكد صلاحية الشريعة، ووجوب صياغة تشريعات مستمدة منها، وهو ما حرص على الدعوة إليه في دراسات متعمقة ” أحمد ابراهيم “، و “عبد الوهاب خلاف ” ، و ” محمد مصطفى المراغي ” وغيرهم، ولعل هؤلاء جميعاً انطلقوا من مدرسة الأستاذ الإمام والتي عبر فيها الشيخ نفسه عن رؤية تشريعية منهجية من خلال تقريره لإصلاح القضاء الشرعي، وقد انتهى هذا الأمل إلى واقع تشريعي سواء في تشريعات فعلية صدرت في بعض البلدان أو مشروعات للقوانين كاملة الإعداد في انتظار إجراءات الإصدار والتطبيق.

(ب‌)        مؤلفات جديدة تكون تعبيراً عن فقه معاصر يتابع  هذه المتغيرات ويواكب التطبيق العملي بأحكامه ونوازله، ويكون قادراً على رفع المشكلات الواردة علية في كافة الجالات، ولا ينبغي لهذا التأليف أن يقطع صلة الدارس المعاصر بالتراث الفقهي لأعلام المذاهب، بل عليه أن يخفف من عنت الكتب المتأخرة، ويتجاوز المؤلفات الوسيطة من حواشي وهوامش وتعاليق، وقد سبق للإمام ” الشاطبي ” في مقدمة كتابه “الموافقات ” أن انتقد الاعتماد على الكتب المتأخرة وقال: ” أما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على الكتب المتأخرة فلم يكن ذلك محض رأي ولكني اعتمدته بحسب الخبره عند النظر في كتب المتقدمين والمتأخرين “. ونقل صاحب ” نيل الابتهاج ” في ترجمته للشاطبي عن أبي العباس القباب أنه كان يقول في المتأخرين: إنهم أفسدوا الفقه.

ثالثاً: تطوير تدريس القانون الإسلامي

إن تطوير دراسة القانون، ومن بينها التشريع الجنائي هي صدى للتطورات الاجتماعية، فلا يمثل تدريس القانون مساقاً معزولاً، بل لابد من ربط الدراسة بالواقع في ضوء الإلمام بوظيفة الدرس القانوني، وهل هي عملية بحتة تستهدف تكوين فقيه وصاحب فكر قانوني، أم هي عملية فحسب، مهمتها إعداد جيل من الدارسين لتولي الوظائف والمهن القانونية على اختلافها، أم هي علمية وعملية، لها دورها في صناعة الملكة الفقهية، وتعمل على تأهيل الكوادر المطلوبة للمهن القانونية.

إن تصميم المنهج الدراسي لأي فرع  من فروع القانون، يتأثر بلا شك بنوع الإجابة على هذه الأسئلة، ومن جانبنا فإن دراسة الفقه والقانون لا يمكن أن تكون لهدف مهني فحسب، غن دراسة الاحكام التكليفية في المجتمع تنطوي على اصول لابد من معرفتها، وتفاصيل لابد من الإلمام بها، وكل ذلك يعني أن الثقافة القانونية والفقهية هي الجانب الرئيسي في عملية تدريس القانون، فالفقه صياغة وعلم ورافد من روافد الحياة الاجتماعية.

وأتساءل: هل يمكن اقتراح منهج موحد لتدريس الفقه الجنائي في ظل تشريعات عربية متعددة، حتى لو كان الهدف الوصول إلى تشريعات موحدة؟

في الدراسات الأجنبية(1) الخاصة بطرق تدريس القانون خلاف في الرأي، فبينما يرى الأستاذ ” جورج أنطوني ” الفقيه الأرجنتيني إمكانية التوحيد مستفيداً ببعض التجارب في أمريكا اللاتينية، يعارض الأستاذ ” هازارد ” الفقيه الأمريكي إمكانية التوحيد مستدلاً على رأية بالخلافات التي كانت بين الأنساق المنهجية في كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذي غاب.

ويحاول الأستاذ ” بودان ” الفقيه الكندي، حصر الخلافات التي تؤثر على مناهج تدريس القانون فيما يلي:

أ ـ اختلافات تتعلق بمضمون النظم القانونية: وهذه الاختلافات ليست هامة بذاتها، إذ يجوز اتباع طريقة موحدة لدراسة نظم مختلفة.

ب ـ اختلافات تتعلق بشكل النظم القانونية: وهذه الاختلافات أكثر أهمية، فالقوانين الموضوعة في تقنينات يتلاءم معها التدريس التوضيحي المؤصل عن طريق المحاضرات، أما القوانين القضائية فتتطلب تنمية القدرة على الاستخلاص، مما يستدعي تخصيص الجزء الأكبر من وقت الدارس _ إن لم يكن كل وقته _ لدراسة الأحكام المنشورة.

وينتقد الأستاذ ” هازرد ” بشدة المحاولات التي تقوم بها بعض مدارس القانون في الولايات المتحدة لاستخدام طريقة القضايا في تدريس القوانين الفرنسية أو الألمانية أو قوانين أمريكا اللاتينية.

ويرى الأستاذ ” بودان ” أن تدريس القوانين المقننة يجب أن يتم عن طريق شرح مبادئها الأساسية، أما دراسة القضاء فتأتي بعد ذلك لإيضاح وتجلية هذه المبادئ.

جـ ـ اختلافات تتعلق بعادات الطلاب العقلية: وهذه الاختلافات ليس من السهل تعريفها، وقد لاحظ الاستاذ” بودان ” من خلال تدريسه للطلبة الكنديين الإنجليز والكنديين الفرنسيين، اختلافات نفسية بينهم، فالكندي الذي ينحدر من أصل إنجليزي لا يزال مصطبغاً بصبغة عملية ورثها عن أسلافه مع بعض التأثر بالظروف الأمريكية، ولذلك وجده يهتم بالبحث عن حل عملي لكل مشكلة على حدة، أما الكندي المنحدر من أصل فرنسي فيهتم بالناحية النظرية للمشاكل، وبالعمليات الذهنية، بصرف النظر عن نتائجها العملية.

والواقع أنه يمكن تعداد الكثير من الفروق النفسية المماثلة الموجودة بين طلاب البلاد المختلفة، سواء كانت نتيجة الميراث العنصري أو التقاليد أو الظروف الاجتماعية، أو مستويات التعليم، أو المناخ الروحي والثقافي، وعلى ضوء هذا الاختلاف يمكن القول بأن توحيد مناهج وطرق تدريس القانون ليس هدفاً عملياً، إلا في حدود النظام القانوني الواحد، أو في مجموعة من البلاد المتشابهة من الناحيتين القانونية والروحية.

والذي نراه أن دراسة القانون _ كما يقول الفقيه ” ليون دوجي ” _ لا ينبغي أن تقتصر على تفسير نص صريح أو غامض، ولو اقتصرت مهمة أستاذ القانون على شرحة لما استحق ذرة واحدة من جهده وعمله، إن المهمة الأولى لهذه الكليات هي البحث عن المبادئ العامة ووضع القواعد الضرورية للفرد والجماعة والدولة، وهذه النظرة تستبعد الفقه الأصم، بل لابد من حركة فقهية تتحرك مع الواقع وتحركة، خاصة وأنه من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في الاحكام الشرعية الاجتهادية، وكما يقول ” القرافي ” في كتابه “الفروق ” ما نصه: ” الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضيين “.

إن القانون صياغة وعلم وفلسفة، وعامل من عوامل الحياة الاجتماعية، فالقانوني المشتغل يجب أن يكون ملماً بالمبادئ الفنية و بقواعد القانون الوضعي المتعلقة بها، ويجب أن يتوافر لديه إدراك علمي للقانون باعتباره مجموعة من المبادئ التي يمكن أن يستخلص منها الحل القانوني الصحيح، أو جميع الحلول القانونية الصحيحة الممكنة – للمشاكل الجديدة التي لا تغطيها السوابق الأخرى، ويجب على الفقيه وعلى المشرع ان يضعا الغاية من القانون نصب أعينهم، والعدالة هي هذه الغاية.

وما يقولة القانونيون هو ما أشار إليه بدقة الفقيه الحنبلي ” ابن القيم ” في ” إعلام الموقعين ” إن الشريعة مبناها و أساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.

وهذه الأصول الشرعية والتشريعية تجعل من مناهج البحث ومواد التدريس دوائر متكاملة لتحقيق غايات الشريعة ، حيث لابد من أن يحتوي المنهج والدرس كلاهما ما يغطي فقه الواقع وفقه النص بلغة ” ابن القيم “، كما يقول ” الدكتور إردشيك ” الفقيه الألماني:     ” إن تدريس القانون يجب أن يتناول القانون كمثال وكواقع، ويقول بحق فيما يتعلق بتدريب قضاة المستقبل إن الغرض الأساسي والرئيسي منه هو خلق الإدراك القانوني الصحيح، وتكوين شخصية القاضي الممتاز “.

فلا يكفي- كما يرى الفقيه الفرنسي ” كابيتان ” – لفهم القانون ومعرفته مجرد النظر إليه كشئ جامد في حال سكون، كما يفعل ذلك من يدرسه في الشروح، بل يلزم لفهمه ومعرفته النظر إليه، وهو في حال نشاط وحركة، وهذا يتطلب من رجال الفقه الإسلامي التعامل مع كتب النوازل والفتاوي والأحكام، وهي تراث فقهي مذخور، تصل بعض مؤلفاتة إلى مجلدات كثيرة، وما كتبه ابن سهل، وأبو عبد الله الأزدي، وابن المناصف، وابن الرامي والونشريشي، وابن عابدين، وابن حجر، وغيرهم يستحق دراسة خاصة تحتل مكانها في مواد الدراسة في كليات الشريعة والقانون في كافة الفروع، ومنها الفقه الجنائي، لقد ظلت هذه المؤلفات أمداً طويلاً نتاجاً مهملاً ومجهولاً على الرغم من أنها تمثل الفقه المتحرك إزاء متون الفقه ومختصراته بشروحها وحواشيها، وهي الفقه الساكن الذي لا يزال جل اعتمادنا على ما جاء بين دفتيه، إن الفقه جدلية بين الواقع والنص، وينبغي أن تفرد لكتب النوازل- المنهج والموضوع – مساحات في مفردات الدرس الفقهي المعاصر، فالنوازل أشبه بمجموعات الأحكام القضائية التي لا يستغني عنها الفقيه والقاضي على السواء.

إن مشكلة التعليم الفقهي هي كيفية الاستفادة من سنوات الدراسة المخصصة لتعليم الشريعة والقانون، وبصفة خاصة في كيفية إيجاد التوازن بين أمرين:

أ- التعليم المنهجي: أي تكوين عقل الطالب، وإثارة إدراكه بالمشاكل الفقهية العميقة المتعلقة بالتشريع والقانون، وتزويده بالعلوم المساعدة التي تجعله قادراً على استنباط الأحكام من المصادر أو إنزال الأحكام على الوقائع.

ب -التمرين المهني: الذي يجعلة يحيط بالأشكال القانونية المختلفة، وما يصحبها من اجراءات، وما يحيط بالدعاوي من خفايا وحيل وصعوبات.

إن مستوى الخريج المطلوب ينبغي أن يكون قادراً على التعامل مع النص القائم، أو اختيار النص الملائم، والتعاون مع القائم على أمر التشريع من أجل إصلاحه، ومواكبة تغير الأحوال والزمان والمكان، باجتهاد لا يقطع النص ولا يقاطع الواقع.

رابعاً: نحو منهج لتدريس الفقه الجنائي الإسلامي:

من الصعب على باحث بمفرده أن يصمم منهجاً دراسياً، فأي منهج لابد أن يوضع في ظل سياسة تعليمية معده سلفاً، واستقر الرأي فيها _ قبل تصميم المنهج _ على فلسفة وأهداف ورسالة الكلية، وما يجب أن يكون مجالاً للتركيز في مستوى الدراسة الجامعية، وما ينبغي تقديمه لطالب الدراسات العليا، وما هو حجم المنهج المطلوب تدريسه، وما هو النظام الذي يتم تقديم المنهج من داخله، كل هذه أسئلة قبلية تعتبر الإجابة عليها المدخل الطبيعي والضروري في محاولة اقتراح منهج، أو التوصية بمفردات دراسية، وفي حالتنا _” كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات “_ فإن القِدْر الذي أتيح من المعلومات يدعو إلى تصميم منهج يتم في داخل نظام للساعات المعتمدة، وهو نظام له جذوره في ثقافتنا، يقول ” توماس لامونت ” (2) في بحث له عن ” نظام الساعات المعتمدة _ نشأته وتطوره”: “منشأ ومصدر نظام الساعات المعتمدة يمكن إرجاعه إلى تاريخ النظام الاختياري” ، وقد نبتت بذور النظام الاختياري في بعض جامعات العصور الوسطى، وفي ظل تقاليد التعليم الإسلامي. نشأت مدارس المساجد أو المدرسة.. ، وقد ترك للطالب حرية اختيار المدرس والمادة والحلقة الدراسية والموعد الدراسي، بالإضافة إلى عدد المحاضرات التي تعطي في فترة زمنية محددة “. وهذا النظام بعد تعديله وفق تطورات ثقافية ومنهجية، هو أساس الساعات المعتمدة، وفيه يسمح للطالب باختيار التخصص مع إتمام مقررات مطلوبة داخل كل تخصص، بالإضافة إلى مقررات المعرفة العامة المحددة من جانب الجامعة، وبهذه الطريقة يعتبر نظام الساعات المعتمدة وسيلة لتطبيق النظام الاختياري، مع إعطاء قيمة لكل مقرر على حدة، من حيث وزنه داخل ما يعرف بمتطلبات التخرج لأي درجة ممنوحة.

فنظام الساعات المعتمدة إذن ما هو إلا وسيلة لإيجاد توازن ما بين فلسفتين تعليميتين:

أ‌- نظرية التحول في التعليم: والتي تقوم على إتمام مقررات مفروضة، وترى أن نقل المعرفة يتم بصورة إجبارية.

ب‌- نظرية التخصص في التعليم: وهي تجعل كل المقررات اختيارية، بافتراض أن الطالب سيختار المقرر الدراسي وفق دوافع ذاتية، وأن التحصيل سيتم وفق إقبالة على المقرر الذي اختاره.

ويمكن القول بصفة عامة أن صورة التوازن التي يسعى إليها نظام الساعات المعتمدة لا يختلف كثيراً عن التوازن الذي عملت على إيجاده مدارس المساجد والمؤسسات التربوية الأولى في التاريخ التعليمي عند المسلمين.

وإعداد منهج دراسي للقانون الجنائي بتضمن الخطوات الآتية:

1-             تحديد أهداف المنهج.

2-             اختيار طريقة التدريس.

3-             تصميم المقررات العلمية.

1- تحديد أهداف المنهج:

إن التشريع في أي مجتمع _ كما يؤكد علم الاجتماع القانوني_ هو حصاد ما تعارف عليه المجتمع من مثل ومبادئ، ومن ضوابط وقواعد، ونظام تشريعي مستمد من الشريعة الإسلامية، لابد أن يحافظ على أصولها ، فهو محكوم بالثوابت التي هي لب التشريع_ نظام الحدود مثلاً في التشريع الجنائي_ ويعترف بالمتغيرات التي تجعل من الاجتهاد آلية فعالة في الاستجابة لظروف الزمان والمكان.

وأهداف هذا المنهج هي:

أ‌-  دراسة القانون الجنائي مرتبطاً بأصولة الشرعية في فتح باب الاجتهاد المعاصر؛ لأن الفقه الإسلامي _كما يقول العلامة السنهوري_ لا يقتصر على دراسة الأحكام القانونية التي تدخل في نطاق علم الفروع، بل إنه يشتمل على شق آخر هو علم الأصول، الذي يدرس مصادر التشريع، ويبحث في طرق استنباط الأحكام الفرعية من المصادر.

ب‌- تعميق المفهوم الاجتماعي للجريمة، باعتباره ظاهرة اجتماعية، وليس مجرد فكرة قانونية _وكما يقول الدكتور علي راشد بحق_ فلا يبقى القانون الجنائي أداه لمجرد الوعيد والعقاب بغير هدف اجتماعي إنساني، وكل قيمته العملية تنحصر في أنه بضاعة قانونية صرف لمنفعة طائفة من المحامين، بالأضافة إلى أنه جهاز يكلف الدولة أبهظ النفقات والعباء، فمن بديهيات النصف الثاني من القرن العشرين ضرورة تغيير مفهوم القانون الجنائي _تشريعياً وقضائياً ومدرسياً_ من مجرد دراسة محورها النصوص الجامدة تشرح المتن وتسير وراءه، إلى مادة واقعية محورها الإنسان.

ولم تستجب كليات الحقوق في عالمنا العربي لهذا التطور المنهجي إلى الحد الذي جعل البعض يقارنها بمصانع الطرابيش.

2- اختيار طريقة التدريس:

إن صناعة العقل الفقهي من خلال كليات الشريعة والقانون ونظائرها يستدعي اختياراً دقيقاً لمنهج التفكير وطريقة التدريس، ورغم تنوع الطرق والأساليب، إلا أن الاكتفاء بالمحاضرات الصماء بعيداً عن الاستجابات العملية للفكرة وللنصوص، تبعدنا عن صناعة العقل الفقهي المنشود.

في بعض كليات القانون في الولايات المتحدة الأمريكية يتم تدريس القانون باطريقة المصطلح عليها _طريقة القضايا case method، والتي تقوم على عرض القضايا المتصلة بالموضوع محل المحاضرة قبل إلقائها؛ لإمكان متابعة المناقشة، والإسهام فيها، كما أن بعض الكليات تستعمل طريقة عرض المشكلات problem method وهي أشبه بطريقة عرض القضايا، إلا أنها تعرض مشكلات مجردة قد لا تكون أحداثاً واقعية جرت في ساحات القضاء.

وهذا اللون من التفكير التعليمي في تدريس القانون _شرعياً كان أو وضعياً_ ليس بعيداً عن الثقافة الإسلامية، فقد ابتدعت مدرسة القضاء الشرعي في مصر مادة دراسية للوصول إلى ذات الهدف، وهي مادة ” القضايا ذات المبادئ ” ، وقد زودت المكتبة الفقهيه من خلال أعلام القضاء الشرعي الذين انتدبوا لتدريس هذه المادة، بعدد من المؤلفات الهامة منها كتاب ” الحياة القضائية ” للأستاذ محمد ضاحي أستاذ مادة القضايا ذات المبادئ بكلية الشريعة جامعة الأزهر، وقد أصدره عام 1938 ومنها أيضاً كتاب “الإجراءات القضائية الشرعية والقضايا ذات المبادئ ” والذي أصدره عام 1952م الأستاذ مجاهد الدولتلي عضو المحكمة العليا الشرعية وأستاذ المادة بإجازة القضاء الشرعي.

ولا شك أن هناك خلافاً بين ما انتهجته كليات القانون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وبين ما كان عليه الأمر في كلية الشريعة ومدرسة القضاء الشرعي، فعندهم كانت القضايا طريقة للتدريس تستوعب المقررات الدراسية جميعها، وعندنا كانت مادة للدراسة، ولكن الهدف كان واحداً عندنا وعندهم، وهو تطوير الدراسة القانونية لتصبح القضايا العملية أساساً مهماً من أسس المنهج الدراسي.

وعلى مستوى التعليم المقارن، تنحصر طرائق التدريس القانوني فيما يلي:

أ‌- طريقة المحاضرات، وفيها يجتمع الطلاب للإستماع إلى جزء من المقررات يحاضر فيه الأستاذ، ونجاح هذه الطريقة يعتمد على عدة أمور منها:

–  قدرة الأستاذ على توصيل مادته.

–  مدى انتباه الطلاب .

–  مدى اشتراك الطلاب في المحاضرة بالحوار والأسئلة.

وإذا لم يتحقق الوجود الإيجابي لهذه العناصر، أو كانت المحاضرة مجرد قراءة لصفحات من كتاب مقرر، فإن هذه الطريقة تكون غير مؤثرة، وإن كان بعض الباحثين منهم الفقيه الفرنسي “رينيه دافيد ” يرون في طريقة المحاضرات ” الطريقة الوحيدة الممكنة للتدريس للأعداد الكبيرة” ، وتمتاز هذه الطريقة بما يلي:

– تسهيل تدريس القوانين التي تم إصدارها في تقنينات، بحيث يصبح هذا التدريس منتجاً وفعالاً من خلال الشرح المنظم، وكثير من المؤلفات القانونية الضخمة جاءت حصاداً لمحاضرات الأساتذة في قاعات الدرس وفق هذه الطريقة.

– أن الطالب اليقظ يجد لذه عقلية في متابعة الأستاذ تنعقد بها صلة روحية لها أهميتها، ويستطيع الطلاب الاستفادة من ملاحظة كيف ينظم المحاضر الكبير موضوعه، وكيف يعرضه بصورة تبرز تطور قواعده، ومنطقية حججه وأدلته، ومقدرته في الوصول إلى الحل النهائي، أو ترجيح الآراء التي يعتنقها المحاضر، يقول الأستاذ ” بودان ” : ” إن هذا النوع من الدروس إذا لم يتم عن طريق القراءة يجرد الأفكار للمستمع، ويبرز الفكرة الواحدة “. ويقول الأستاذ ” جروير “: ” إن المحاضرات الشفوية أكثر تنشيطاً من الكلمات المكتوبة، أو يجب أن تكون كذلك “.

وعندنا أن أهمية المحاضرات ليست مطلقة لأنها تحتاج إلى أستاذ وطالب كلاهما يحس بأهمية الزمن المحدد وضرورة تقسيمة في المحاضرة بالصورة التي يتحقق بها الهدف، فطريقة المحاضرات وحدها غير كافية، وينبغي إكمالها بطرق أخرى.

ب‌- نظام جماعات المناقشة:

توجد صور مختلفة لهذه الطريقة، ففي بعض الجامعات التقليدية في الغرب يقوم طالب أو طالبان معاً بزيارة المدرس في غرفتة الخاصة في وقت معين من كل أسبوع؛ لقضاء ساعة معه في مناقشة شخصية، ويكون العمل الرئيسي لهذه المناقشة، موضوعاً قانونياً أختير في الأسبوع السابق وكتب الطالب مقالاً قصيراً فيه، ويتقدم الطالب لقراءة البحث بين يدي أستاذه، والذي يقوم بمناقشته ونقده.

والاعتراض الرئيسي على هذه الطريقة، يكمن في تكلفتها، فهي تتطلب مدرساً مؤهلاً تأهيلاً كاملاً لكل عشرين أو ثلاثين طالباَ. وأعتقد أن هذه الطريقة لها جدواها وفعاليتها إذا استخدمت في كلية الشريعة والقانون بدولة الإمارات، بل وفي كل دول الخليج؛ لأن البيئة المادية وأعداد الطلاب تسمح بالاستفادة من مميزاتها، وقد طبق نظام مماثل في ألمانيا، وفيه يناقش الأستاذ مع طلابه قضايا سبق لهم إعدادها، وقد قرر الأستاذ الألماني ” إردشيك ” أن قيمة هذه الطريقة كانت كبيرة للغاية.

ويختلف حجم جماعات المناقشة باختلاف البلاد، ففي إحدى كفتي الميزان نجد نظام جماعات أكسفورد التي تتكون من طالب أو طالبين ومدرس، وفي الكفة الأخرى نجد فصولاً للمناقشة تضم خمسين أو مائة، وهي منتشرة في الولايات المتحدة، ولا شك ان جماعات المناقشة تفقد مزاياها بكثرة الأعداد، حيث يندر تحقيق مناقشات جدية يشترك فيها الجميع.

كما أن مادة المناقشة يمكن أن تكون المسائل التي تمت دراستها، أو المقالات التي كتبها الطلاب، والحوار في كلا الاتجاهين له اهميتة، لأن المقالة تنمي في الطالب القدرة على البحث والتعبير، والمسألة تنمي في الطالب القدرة على صياغة السؤال وتطبيق المبادئ المجردة التي درسها على الحقائق الواقعية. وتعد القضايا الافتراضية أو فقه الفروض شكلاً معتاداً في هذه الطريقة.

وعندنا أن إضافة ” نصوص للقراءة ” من كتب الفقه الإسلامي ذات أهمية خاصة إذا ما استخدمت هذه الطريقة حتى يمكن فتح الأبواب المغلقة أمام طلاب أقسام الشريعة؛ ليعرفوا الكتب الأساسية في المذاهب المختلفة، من ناحية المنهج والمصطلحات، وآليات الموازنة بين الآراء وكيفية التعامل مع الراجح والمرجوح.. إلخ، وتلك مساهمة لها اهمية قصوى في صناعة العقل الفقهي.

ج- طريقة القضايا:

لقد كانت هذه الطريقة هي الغالبة في دول common law، لكنها واجهت العديد من الصعوبات، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، وهي البلد الذي نشأت فيه.

والحقيقة، فإن أهم نقد وجه لهذه الطريقة صدر عن القاضي الأمريكي ” جيروم فرانك “، الذي لاحظ أن الحكم القضائي الذي يتعين على الطالب دراسته ليس هو القضية بل جزءاً صغيراً منها هو الجزء الأخير، ويرى الأستاذ ” فرانك ” أن دراسة القضايا يجب أن يكون جزءاً فقط من تدريب الطالب، وأن هذا الجزء يصبح أكثر قيمة إذا التزم الطالب بدراسة عدد قليل من القضايا، ولكنه لم يقتصر على دراسة الأسباب القضائية، بل جعلها شاملة لملف القضية كاملاً ابتداءً من اعلان أوراقها الأولى إلى أن تصل إلى محكمة الموضوع، ثم من خلال نظرها في المحاكم العليا.

وطريقة مدرسة القضاء الشرعي وكلية الشريعة في مصر كانت تتجاوز هذا النقد بطريقة فعالة، فهي تختار قضاة المحكمة الشرعية العليا لتدريس مادة القضايا ذات المبادئ، وهؤلاء يقدمون لطلابهم أحكام اصدروها هم، فيدرس الحكم كلة في إطار ما ثار حولة من ردود وحدود منذ كان مجرد أوراق في ملف إلى أن أصبح حكماً، وغالباً ما كان الاستاذ يواجه الانتقادات التي عرضت للحكم، فكانت الدراسة متعة عقلية وحواراً فقهياً، قوي التأثير عالي المستوى.

ويلاحظ الأستاذ ” جروير ” فارقاً بين الطريقتين الأمريكية والإنجليزية، فالطالب الأمريكي يزوده مدرسه عادة بكتاب للقضايا مقدماً، أما في انجلترا فيتم تشجيع الطلاب على أن يكوّنوا كتب القضايا بأنفسهم، من المجموعات الأصلية.

وفي الفقه الإسلامي تحتل هذه الطريقة أهمية خاصة، ليس فقط لربط طالب الشريعة بحركة الواقع، وتطبيقات النصوص؛ بل لأنها تواجه نقداً مغرضاً صدر عن عدد من المستشرقين، يمثلة قول “شاخت “: ” إن الظروف التي احاطت بالشرع الإسلامي عند نشأته عملت على تطويره دون أن يكون وثيق الصلة بالحياة العملية، بل كان يصور مثلاً دينياً أعلى مخالفاً للأوضاع العملية “.

وفي مجال تطوير الدرس الجنائي نرى ضرورة الجمع بين هذه الطرق الثلاث، فتنويع الطريقة يكفل بداية قوية لدرس جنائي يعتمد تشريعاً جنائياً حديث التطبيق، ويتغلب على كسل الطالب من ناحية، ومعوقات العملية التعليمية_ وهي كثيرة_ من ناحية أخرى.

ونضيف إلى محاولة المزج عدداً من الوسائل المساعدة مثل مجلات الطلاب، والأفلام التعليمية، زيادة المكتبات، والتردد على المحاكم باعتبارها جزءاً من مفردات المنهج، وهذا أفضل من انشاء قاعات محاكم في كليات الشريعة والقانون يحس فيها الأستاذ والطالب أنهما يمثلان نصاً مكتوباً لا يعبر عن واقع معاش.

3- تصميم المقررات العلمية:

يعني نظام الساعات المعتمدة_ من زاوية تصميم المقرر الدراسي_ ما يلي:

أ‌-  أن كل تخصص يمكن تقسيمة إلى مقررات متفرقة.

ب‌-  أن لكل طالب أن يختار تخصصاً رئيسياً أو تخصصاً مركزاً.

ج- أن تكون بعض المقررات التي تكون المنهج محددة، والبعض الآخر اختيارياً.

د- إيجاد طريقة معترف بها ومحددة لقياس وزن كل مقرر على حدة.

فحتى نصل إلى صياغة مقررات  المنهج الدراسي، وحتى نقترح مقرراً دراسياً، لابد من استيفاء المراحل السابقة، ثم يتم الاتفاق على المعلومات التي يتم تحصيلها في مراحل الدراسة، ويتم توزيعها إلى مقررات لكل مرحلة تبدأ بالكليات أو بالمقرر العام؛ وصولاً إلى المنهج الخاص المختار، وبعد اختيار هذه المقررات يتم توصيف الجزء المقرر في كل فصل دراسي من الفصول الثمانية، والوصول إلى الشكل النهائي للمقررات وعددها وعدد الساعات المعتمدة المتخصصة لكل مقرر، وكذلك العدد الكلي للساعات في كل فصول الدراسة، كل هذا ينبغي أن يدرس بعناية كافية، ويعرض للنقاش على نطاق واسع: وقبل أن نقدم مقررات مقترحة من جانبنا نشير إلى ما يلي.

أ‌-   أن عملية اختيار المقررات الجنائية لابد أن تأخذ في اعتبارها أن تصميم المنهج يتم في إطار نظام الساعات المعتمدة، وهذا يعني الاختيار داخل التخصص الجنائي، سواء كان الاختيار مطلقاً، حيث يستطيع الطالب أن يختار أي مقرر من المقررات المطروحة في القسم العلمي التابع له، أو كان الاختيار مقيداً بحيث لا يختار الطالب إلا من بين مجموعة محدودة على الجدول الدراسي.

ب‌-  أن المقرر الجنائي المقترح يميل أن لا يفسح مكاناً كبيراً لما يسمى بالقسم الخاص في المدونة الجنائية، بل يدعو إلى اختيار نماذج معينة في ضوء مجموعة من المعايير، وتخضع هذه النماذج لدراسة مفصلة تفرضها الحاجة إلى فهم الشريعة أو تعميق الوظيفة الاجتماعية للنص الجنائي. وهذا قد ينقل دائرة البحث إلى موضوعات غير تقليدية تستوعب ما يطلق عليه القوانين الجنائية الخاصة.

ج- ينبغي أن تحتل العلوم الجنائية المعاصرة مكانها في مفردات الدرس الجنائي، وفي مقدمتها علم الإجرام والعقاب وعلوم السياسة الجنائية وعلم المجني عليه.

د- إن الدرس الجنائي ينبغي أن يراعي اختلاف الفلسفة والمنهج بين الشريعة الإسلامية، والفكر الوضعي، فهناك تمايز ضروري بينهما، فلا يمكن في ظل الفقه الإسلامي دراسة الحدود نصوصاً وشروحاً إلا ومعها قواعد الإثبات التي تعد جزءاً لصيقاً بالحد في جانبه الموضوعي، خاصة وأن جرائم القصاص والحدود هي ثوابت النظام الجنائي الإسلامي.

وقد حاولت بعض الأقطار العربية التغلب على مشكلات تطبيق الشريعة الإسلامية، خاصة في جانبها السياسي بإعداد تشريعات للحدود مستقلة عن مجموع المدونة الجزائية، بدعوى أن المدونات الحالية تغطي نظام التعازير، بينما يتطلب نظام الحدود بحوثاً فقهية وتهيئة اجتماعية، ونظماً قضائية قد يستغرق تحقيقها سنوات طوال.

إلا أن _ وكما قيل بحق_ أسلوب إصدار الجرائم الحدية في تشريعات مستقلة أو موحدة بعيداً عن المدونة الجزائية العامة، يضع أحكام الشريعة الإسلامية في القصاص والحدود في مرتبة تالية لمرتبة ” التعزيزات ” ، وهو وضع معكوس؛ لأن الجرائم والعقوبات الحدية هي لب التشريع الجنائي الإسلامي، بالإضافة إلى أن الركائز الفلسفية للمسئولية الجنائية، وأصلها ثابت في القرآن والسنة_  هي عامة في كل الجرائم الحدية، وفي كل تعزيز ينطوي على معنى الجزاء، الأمر الذي يجعل الفصل بينهما في إطار تشريعات مستقلة من العيوب الفنية في التشريع.

والرأي عندنا أن المادة التشريعية في مجال الدرس الجنائي تحتوي على قسمين هما:

أ‌-   النص الديني الإسلامي، وما يفرضه من التزام بحكمه.

ب‌- النتاج الفقهي الإسلامي عبر العصور المختلفة، بما يتطلب الإحاطة بأنساقه الاجتهادية التي أقامها في كليات المسائل، وفروعها على السواء، كما يتطلب الإحاطة بمصطلحات الفقه، وإمكانية وجودها المعاصر، وأراء الفقهاء، والأسس الفنية لمذاهب التشريع، الأمر الذي يفرض أسلوب الدراسة المقارنة، باعتباره أفضل الأساليب في الدرس الجنائي المنشود، والأصول العلمية لهذه الدراسة المقارنة يمكن تلخيصها في أربعة:

أ‌-   أن تشريع كل أمة  هو من خصائصها، وله ارتباط وثيق بدينها وأخلاقها وتقاليدها.

ب‌-   أن هذه الخصوصية لا تمنع الاستفادة من الخبرة البشرية في مجال النظم الجنائية_ وغيرها من نظم القانون_ استعارة واستنارة، وتكفل السياسة الشرعية الأساس الفقهي لهذه النقول المستحدثة.

ج- أن المقارنة بين الشرائع تكون في الأصول والمبادئ، وليس في الفروع والتفاصيل، وكلما كانت بين أنساق فقهية كبرى كلما كانت المقارنة ذات جدوى أكبر وتأثير أفضل.

د- أن المقارنة الصحيحة بين الشرائع أو في داخل الفقه الإسلامي المذهبي، ينبغي أن تحيط بالفكرة محل المقارنة إحاطة تستوعب تاريخها وتطورها وأسسها الفنية في داخل المذهب حتى لا تنتزع من سياقها، وحتى يمكن وضعها في بناء تشريعي حديث يكفل صحة النقل وتناسق البناء.

ونرى أن الدرس الجنائي على هذا النحو ليس سهلاً، خاصة وأن التحولات الراهنة قد تفرض على البعض أحكاماً تصدر تحت مظلة السياسة الشرعية، وواقعها أقرب إلى السياسة الظالمة، وقد لاحظ ” مجيد خدوري ” في أكثر من دراسة له أن المشرع المعاصر في البلاد الإسلامية رغم إعلان ضرورة الاقتراب من الشريعة الإسلامية واعتبارها المصدر الأساسي للتشريع في عدد من الدساتير، إلا أن وجهة التشريع في كثير من هذه البلدان تجسد في الواقع العملي علمانية تشريعية، وهو ما نحذر منه في نصوص التشريع ومناهج الدرس.

والله ولي التوفيق

 

الهوامش

(*) ورقة مقدمة إلى ندوة كلية الشريعة والقانون _ جامعة الإمارات العربية المتحدة.

(**) أستاذ مساعد _ قسم الشريعة الإسلامية كلية الحقوق_ جامعة الإسكندرية

(1)           أ . ه. كامبيد، دراسة مقارنة لطرق ومعاهد تعليم القانون ، ترجمة د. محمد لبيب شنب، 1968م.

(2)           أستاذ أمريكي شغل لسنوات عدة منصب عميد الكليات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر