حوار

تعقيب على بحث حد الردة في الفكر الإسلامي المعاصر: قراءة نقدية في ضوء النص القرآني – عبد الرحمن الحللي

العدد 98

تناول الباحث موضوع الردة من خلال المنظور القرآني، ودعا الباحثين إلى تناول الموضوع من منظور السنة مع التنبيه إلى أنه يمتنع شرعًا قيام تعارض بين القرآن بوصفه الأصل والسنة بوصفها تطبيقًا وبيانًا له . وتوقع الباحث احتمال الادعاء بنسخ السنة للنص القرآني أو تخصيصها لعمومه، فدعا الباحثين إلى دراسة هذا الاحتمال مع إبداء شكه في أن تسفر هذه الدراسة عن ثبوت النسخ أو التخصيص؛ لاعتقاده بأن دلالة النص القرآني لا تقبل النسخ ولا التخصيص.

واستعرض الباحث النصوص القرآنية التي أصلت حرية الاعتقاد ، ثم النصوص القرآنية التي تحدثت مباشرة عن الردة ، وأشار إلى آراء بعض المعاصرين الذين أولوا النصوص القرآنية، وأيدوا قتل المرتد ، ورد عليهم مفندًا آراءهم . ثم عرض لمواقف المعاصرين من عقوبة المرتد، وحصر مناهجهم في ثلاثة ، أولها : منهج تبريري توفيقي ، والثاني: توفيقي تأويلي ، والثالث: تحليلي واقعي ، وخلص الباحث في ختام دراسته إلى أن نصوص القرآن التي تحدثت عن الكفر بعد الإيمان لا توجب قتل المرتد ، وكل ما يترتب عليها هو حرامٌ يقع فيه من كفر .

تقدير البحث :

عرض البحث لقضية من القضايا التي يوليها الفكر المعاصر أهمية كبرى ،  وهي حرية الاعتقاد . ولما كان الانتصار لهذه الحرية من سمات العصر الذي نعيش فيه ، فمن الطبيعي أن يكون موقف الإسلام منها محل اهتمام من قبل المسلمين المعاصرين ، ويزيد من أهمية هذا الموضوع ما يتعرض له الإسلام في الوقت الحاضر من حملات لتشويه صورته في عيون المؤمنين به وفي عيون الآخرين ؛ وذلك لاعتبارات سياسية في المقام الأول .  ولعل حرية العقيدة من أولى القضايا التي يكثر فيها الجدل.

والواضح من البحث أن صاحبه لم ينهج فيه نهج الفقهاء ، فهو لم يسلك مسلك السلف في إيراد النصوص القرآنية والأحاديث النبوية واستعراض أقوال الأئمة وفقهاء المذاهب في بيان حكم المرتد ، وهل يقتل أو يعزر ، وشروط إيقاع الحد أو التعزير، وإنما اكتفى بالوقوف أمام النص القرآني مرتكزًا بصفة أساسية على المبدأ الذي يقرر حرية الاعتقاد في الإسلام والذي أكدته الآية الكريمة :{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، ثم استدل لرأيه بعديد من الآيات القرآنية التي تتسق في جملتها مع هذا المبدأ ، والتي يثبت بعضها أن أشخاصًا في عهد الرسول كفروا بعد إيمانهم ثم تابوا ثم عادوا إلى كفرهم وأوغلوا فيه، ومع ذلك فقد خلت هذه الآيات من ترتيب جزاء دنيوي على ارتدادهم ، قتلاً كان أو ما دونه من صنوف العقاب .

ونرى أن المنهج السليم يفرض علينا البدء بتحرير الموضوع قبل الخوض في تفاصيله ؛ لأن كثيرًا من وجوه الخلاف مردها إلى اللبس في فهم المراد بمصطلح الردة . والردة التي يتعين البحث في حكمها هي الردة المحضة ، أي مجرد الخروج من الإسلام ، سواء كان ذلك بالتحول إلى غيره من الأديان ، أو بالخروج منه إلى غير دين . أما الخروج على الإسلام ، سواء باللحاق بأعدائه ، أو بالتشنيع عليه والكيد له ، أو بالتغرير بالآخرين وإغرائهم بالخروج منه ، فليس من طبيعة الردة ولا هو من لوازمها . والبحث في مدى جواز العقاب على هذه الأفعال يخرج عن نطاق البحث في موضوع الردة، وإذا وجب العقاب على هذه الأفعال فلا شأن لذلك بحرية الاعتقاد، وإنما هو من باب السياسة الشرعية.

والذي نراه أن الحديث عن حرية الاعتقاد وتصنيفها ضمن مجموعة الحريات التي تنص الدساتير والتشريعات المعاصرة على كفالتها فيه قدر من المجاز أو التسامح ، ذلك أن الاعتقاد بطبيعته لا يكون إلا حرًّا .وإذا لم يكن له في التصور المجرد إلا حال واحدة فلا معنى لسلكه في عداد الحريات العامة ووضعه في صعيد واحد مع حرية التعبير وحرية التنقل وحرية العمل ونحوها ، فهذه الحريات يمكن أن تكفل وأن تُسلب أو تُقيد ، بل إن الحرية الكبرى _ وهي اللصيقة بصفة الإنسانية _ تعرضت للإنكار والسلب لفترات طويلة من التاريخ، استرقَّ الإنسان فيها أخاه ، وأسقط عنه صفة الإنسانية ، وأحاله (شيئًا) .

إن الحرية من خصائصها القابلية للسلب والتقييد ، أما مالا يقبل أن يسلب من الإنسان أو يقيد فلا يصح وصفه بأنه حرية ، وإنما هو فطرة وجبلة، والاعتقاد _ ومثله التفكير _ من هذا القبيل، فالعقيدة فكرة ترسخ في النفس، وتصمد لكل عوامل النفى، وتسمو إلى مرتبة المسلمات ، وهي تبلغ هذا المدى إما لقبولها ابتداء باتباع وتسليم ، أو بعد تمحيص واقتناع، ولأن الاعتقاد حالة باطنية وليس حركة عضوية فإنه يستعصى على الإرغام .

ومن هنا فنحن نرى أن قوله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هو خبر قبل أن يكون حكمًا ، أو هو حكم معلل بالواقع .فالاعتقاد _ لكونه اختيارًا حرًّا _ يستعصى على الإجبار ، ومتى تبين الرشد من الغي فلكل امرئ أن يختار لنفسه ما يشاء . ولأن الأمر هكذا فلا يجوز لأحد أن يكره غيره على الدخول في أي دين ، كائنًا ما كان ، أو على البقاء فيه ، لعدم جدوى هذا الإكراه . وإذا صح فهمنا للنص القرآني على هذا الوجه ، جاز لنا القول مع الباحث بأنه لا يقبل النسخ ؛ لأن النسخ لايرد على الأخبار .

وقد وردت في القرآن الكريم إشارات عديدة تؤكد المعنى الذي فهمناه ، ونكتفى هنا بالاستشهاد بآيتين غنيتين بالدلالة _ قال تعالى في سورة الأعراف : {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِين} (الآية : 88) . وقال تعالى في سورة هود على لسان نوح : {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَءَاتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُون}( الأية : 28) فهذا شعيب يسفه قومه ؛ لأنهم يريدون إكراهه هو ومن معه على الخروج من دينه والعودة في ملتهم ، ودليله على سفههم أنهم يظنون الإكراه سبيلاً للإيمان . وهذا نوح يصارح قومه بأن الله قد آتاه بينة من عنده فعرضها على قومه ، فآمن من آمن وكفر من كفر، ولأنه يدرك حقيقة الدين وطبيعته فقد استبعد إكراه المخالف على الدخول في دينه حثّا له في المقابل على الكف عن حمله هو ومن معه على العدول عن دينهم والعودة إلى دين قومهم .

ونلاحظ من سياق الآيتين أمرين:

الأول: أن كلاًّ منهما ختمت باستفهام استنكاري لا يحتمل غير جواب واحد ، وذلك للدلالة على سخف المخاطب الذي يتجاهل الطبيعة البشرية ويتعامى عن المسلمات .

والثاني: أن كلا من النبيين الكريمين لم يدلل على فساد منطق قومه بأنه ومن معه على الحق وأنهم على الباطل ، بل دلل على فساد منطقهم بالتعجب من أن يكون الإكراه في اعتقادهم سبيلاً لحمل إنسان على ترك دين آمن به والدخول في سواه ، وذلك بغض النظر عن صحة هذا الدين أو فساده ؛ لأن الإكراه ليس من شأنه أن يكون وسيلة لتحقيق هذا الغرض ، ومن ثم فإن اللجوء إليه لا يجدي .

ومما له دلالة واضحة في هذا المقام خلو القرآن على كثرة آياته التي تناولت موضوع الردة من النص على عقوبة دنيوية للمرتد. وكل ما رتبته هذه الآيات على الردة هو خسران المرتد وحبوط عمله وتعرضه لسخط الله وغضبه واستحقاقه للعنته وخلوده في العذاب الأليم في الآخرة . ولو صح أن للردة عقوبة دنيوية لكان المقام مناسب في هذه الآيات للنص عليها ، لاسيما أن العودة إلى الكفر بعد الإيمان ليس مجرد خطيئة ، بل هي الخطيئة الكبرى ، وإذا كانت النصوص القرآنية قد أمسكت عن التصريح بتقدير عقوبة دنيوية للردة رغم مناسبة المقام لذلك واكتفت بالجزاء الأخروي ، فمعنى ذلك أن هذا هو كل الواجب في الردة .ويتأكد هذا الفهم متى لاحظنا أن القرآن عندما عرض في نصوص أقل عددًا من نصوص الردة لمعاص لا تدانيها في الفحش والشناعة ،  حرص علي بيان عقوباتها الدنيوية ، وهو ما يبدو في نصوص القتل والحرابة والسرقة والزنى والقذف ومع أن العقوبة التي تقررت في القرآن لكثير من هذه المعاصي أهون من العقوبة التي قررها جمهور الفقهاء للردة ، وهي القتل.

ونضيف إلى ذلك أنه لو جاز أن يكون الإسلام قد أمرنا بقتل من ينسلخ منه بعد الدخول فيه لوجب أن يكون قد أمرنا كذلك بقتل من يرفض ابتداء الدخول فيه ؛ وذلك لاتحاد العلة ، وهي الكفر . ولما كان جمهور الفقهاء على أن الكافر _ كتابيًّا كان أو وثنيًّا _ لا يجبر على ترك دينه والدخول في الإسلام، ولا يعاقب على إيثاره الكفر على الإيمان ، فما ينبغي أن يختلف حكم الكفر الطارئ عن حكم الكفر الأصلي، ولا عبرة بما يساق من تعلاّت لتبرير التفرقة بين النوعين ، فهي لا تصمد للنقد لما تنطوي عليه من تكلف .

والحق أن معصية الكفر تختلف عن سائر المعاصي في أنها تقع عدوانًا على حق الله الخالص . ونقصد بهذا المصطلح هنا معنى يختلف عن المعنى المتداول في كتب الفقه والذي يرادف حق الجماعة ، فالفقهاء يصفون الزكاة بأنها حق الله ، ويصفون حد الزني بأنه حق الله ، ويعتبرون البر بالوالدين وصلة الرحم وأداء الشهادة وإماطة الأذى عن الطريق من حقوق الله ، وهذه الحقوق في واقع أمرها مقررة للجماعة ، لان نفعها عائد إليهم ، وإنما أضيفت إلى الله من باب المجاز ؛ إعلاء لشأنها ، وتنبيهًا لأهميتها ، وتأكيدًا لوجوب كفالتها . ولهذا كان العدوان على هذه الحقوق موجبًا للعقاب الدنيوي عليها ؛ لأن هذا العدوان يورث اضطرابًا في حياة الناس ويلحق الأذى بهم ، فكان العقاب عليه من أجلهم ودفاعًا عن مصالحهم .وليس الأمر كذلك بالنسبة لإيمان الناس بالله والتزامهم بعبادته، فهذا من حقوق الله الخالصة التي لا يتعلق بها حق لأحد من البشر .

فليس لأحد منا حق في أن يؤمن الآخرون بالله وأن يعبدوه حق عبادته. وإذا كان إخلاصنا لله وحبنا لإخواننا في الإنسانية يفرضان علينا هداية الآخرين إلى الله ليظفروا بنعمة الإيمان وجزائه ، فليس لأحد منا الحق في تجاوز حدود الدعوة واللجوء إلى استعمال القوة التي تصل إلى حد القتل لحمل الآخرين على الإيمان بالله ، إلا أن يكون ثمة نص قطعى الثبوت والدلالة يفوضنا _ نيابة عن الله _ في قتل من يرفض الإيمان أومن يخرج منه بعد الدخول فيه . وليس لهذا النص وجود ؛ ولا نتصور أن يكون له وجود، ذلك أن الله لو شاء أن يحمل الناس جميعًا على الإيمان لفعل ، هذا ما يصرح به النص القرآني : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين} (يونس : 99) وتأمل طلاقة القدرة في قوله تعالى: {كُلُّهُمْ جَمِيعًا} . وإذا كان الله قد أراد لنا أن نختار بملء حريتنا بين الإيمان والكفر ، ونهى رسوله عن حمل الناس على الإيمان به كرهًا ، فكيف يقبل عقلاً أن يفوضنا في قتل من يرتكس في الكفر بعد إيمانه . والله بعد غنى لا يزيد في ملكه أن يعبده الناس ، ولا ينقص من ملكه أن يكفروا به ، {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيد} ( إبراهيم الآية : 8).

وإذا كان الله لم يحرم أحدًا من خلقه من عطاء الربوبية ، فوسع ملكه البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، وكان قادرًا على أن يعطل الأسباب فلا تستجيب لمن كفر ، وكان قادرا على إزهاق روحه ، بل على ألا يخلقه ابتداء، فكيف نضيق بمن لم يضق به ربه في ملكه ، وكيف نزهق حياة من منحه ربه الحياة بدعوى أنه لا يؤمن به ، وكأننا أغير على دين الله من الله .

ومما يدعو إلى الحيرة أن في القرآن إشارات كثيرة تدل على أن عقاب المرتد موكول إلى الله في الآخرة ، أما في الحياة الدنيا فلا عقاب عليه لمجرد ارتداده، ولا ندرى لِمَ لَمْ يلاحظ كثير من الفقهاء دلالة هذا الإشارات .

وأخيرًا فإن القائلين بوجوب قتل المرتد أو بعقابه بما دون ذلك لا ينصرون الإسلام كما يظنون ؛ فلا فائدة للإسلام ممن أضله الله بعد إذ هداه ، ولا خير للإسلام فيمن أبطن الكفر وأظهر الإسلام تقية مخافة العقاب ؛ فمثل هذا ضرره أكبر من نفعه . وإن الإسلام لا يعنيه الاستكثار من المنافقين ، وإنما ينتصر فحسب بالمؤمنين الصادقين . وإذا كان الإسلام يذم النفاق ويحذر المؤمنين من كيد المنافقين ، فكيف يصح لنا أن نصنع بأيدينا وأن نقيم بين أظهرنا فئة من المنافقين ، خرج الإسلام من قلوبهم، وأخرس خوف العقاب ألسنتهم، فغمَّ علينا أمرهم ، نحسبهم معنا وهم يد علينا ، يضمرون للإسلام الشر ويتربصون به الدوائر ، وهذا بالضبط ما يؤدى إليه تقرير العقاب على الردة ، فليس من شأن التهديد بالعقاب عليها حمل المرتد على الرجوع إلى الإسلام ،وإنما شأن التهديد بالعقاب جعله منافقًا يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وحكمة الله في التشرع تتنزه عن ذلك .

بقيت كلمة تضاف إلى ما ذكره الباحث ردًّا على العالم الجليل الشيخ ابن عاشور بشأن دلالة الفاء في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} ، فقد ذهب الشيخ الجليل إلى أن العطف بالفاء المفيدة للتعقيب تشير إلى أن الموت يعقب الارتداد ، وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد، فيعلم السامع حينئذ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية ، فتكون الآية دليلاً على وجوب قتل المرتد ، وقد عقب الباحث على ذلك بأن الفاء العاطفة عند اللغويين لا تفيد التعقيب مع الترتيب دائمًا، وإنما هي عند كثير من اللغويين والأصوليين تأتي بمعنى (ثم) ، أي للترتيب والتراخي ، وزاد بأنه حتى على مذهب القائلين بأنها تفيد التعقيب دائمًا بدون تراخ ، فإن التعقيب يكون بحسب المعقب به ، أي بحسب سنة الموت المعتاد بعد الهرم وانتهاء الأجل . ثم أشار إلى أن صرف الفاء إلى المعنى الذي أراده الشيخ ابن عاشور من شأنه أن يحيل العطف إلى جواب للشرط ويجعل جواب الشرط في الجملة استئنافًا، وهو ما يناقض تركيب الجملة الأصلية.

وما ذكره الباحث سديد، ونضيف إليه أن النصوص القرآنية تفرق _ كما تفرق اللغة _ بين الموت والقتل ، وتجعل لكل منهما معنى يباين الآخر من بعض الوجوه ، فالموت هو زهوق الروح من تلقاء نفسها ، أما القتل فإزهاق الروح بفعل فاعل . والآيات القرآنية تترى في الدلالة على ذلك . قال تعالى :{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران :144) وقال تعالي :{َياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}(آل عمران : 156) ، وقال تعالى : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(157)وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُون} (آل عمران الآيتان 157 ، 158) وقال تعالى : {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} (الحج : الآية 58) ولما كانت الآية التي استدل بها الشيخ ابن عاشور على عقوبة المرتد تتحدث عن موته لا عن قتله ، فإنها لا تصلح سندًا لرأيه ، بل هي دليل ضده ؛ لأن مؤداها أن المرتد إذ يموت فإنما يموت حتف أنفه ولا يقتل بسبب ردته. ولا يعترض بأن الموت جنس والقتل نوع ، وأن الإشارة إلى الموت تتسع للقتل ؛ فهذا القول يصح حين يتسع المقام للعموم ، أما حين يقتضى التخصيص _ لأن المقام مقام عقاب دنيوى _ فدقة البيان القرآني كانت تقتضى التصريح من جهة ، والتخصيص من جهة أخرى.

ونؤكد في ختام التعقيب ما نبه إليه الباحث من أن نفي العقاب على الردة لا يعنى إباحتها ،  إذ لا تلازم بين الأمرين؛ فليس لمسلم البتة أن يحل الكفر، فهو أكبر الكبائر ، غير أن تحريم أمر لا يقتضى بالضرورة العقاب عليه في الدنيا ، والردة المحضة من هذا القبيل .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر