من تراثنا المعاصر

من تراثنا المعاصر – التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين

الدين والعقل والعلم ليست أعداء، ولا متخاصمة، بل هي إخوة متعاضدة، فالعقل أصل من أصول الدين والعلم من مكملاته، ولابد منهما، وكل آخذ بيد الآخر يعضده وينصره، ثم إن العقل والعلم لا غنى لهما عن الدين بحال، فالدين مرشد ومبين لما يخفى عن العقل، كما أن الدين هو أصل العلوم ومادتها، ولا سيما الأدبية، فكم أرشد الدين إلى أصولها وفروعها([1]).

فالدين هو الذي أرشد إلى مكارم الأخلاق، وهو الذي هذب الإنسان، ونقله من الوحشية البهيمية إلى الإنسانية، والرحمة، والرفق، والرقي في الحياة، فالأديان هي التي جاءت لخير البشر المحض، وهذبت النفوس الجامحة، وعلمت الناس طرق الحياة، وطريق الاجتماع وآدابه، ولها الفضل كله في تحسين حال المجتمع، ولولاها لكان الناس وحوشًا ضواري لما جُبلوا عليه من تنازع البقاء، والمنافسة، والتغالي في حب الذات، والاستيثار باللذات، وحب كل واحد أن يستولي على كل شيء.

فالأديان برَّدت كثيرًا من حرارة هذه الشهوة البهيمية، والشره الحيواني، وأرشدت إلى خير المجتمع، وهو الاعتقاد بالمسؤولية أمام الله في اليوم الآخر، الذي تُجزى فيه كل نفس بما كسبت، وبإرشادها ترَّقى المجتمع البشري، وصار مجتمعًا إنسانيًا، وجمعية رحمة وشفقة، وتعاون وأدب ونظافة وصحة وكمال، وما كان إلا مجتمع تواثب وتكالب وتطاحن.

والدين الإسلامي بالأخص، هو الذي أرشد إلى المبادئ الشريفة العالية، كالتسامح بين الأجناس والطوائف، وإغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، ونصر المظلوم، والوفاء بالعهود، وحرَّم كل ما يكون عليه التكالب، وحرَّم الظلم كليًا، وأوجب العدل على كل فرد، وعلى المجموع، ولا أظن أنه ورد في دين مثل ما ورد فيه من الإيغال في العدل، ونبذ الظلم كليًا حتى أن الله حرمه على نفسه([2]) وكلف النبي r أن يقوم بالعدل بنفسه، ثم أوجب عليه الشورى وهي مبدأ الديموقراطية، كما منع الإباحة المطلقة التي هي الخراب الكلي، وحرَّم الزنا، والاشتراك في الفروج، وجعل شأنًا للملكية الشخصية التي تردع النفوس الشريرة عن التناحر، وقرر الأنساب، ومنع الأسلاب بغير سبب شرعي، وجعل الميراث بين الأقربين ذوي النفع والدفع وبين الزوجين.

والدين الإسلامي هو الذي حرم الخمر والربا، وجعل حدًّا للتمتع باللذات والشهوات، وللمنافسة حتى لا تصل إلى حد الإضرار بالغير، فقال: «لا ضرر ولا ضرار»([3])، وهو الذي أوجب الزكاة، وجعل للضعفاء حقًّا في مال الرأسماليين، وخفف ويلات الإنسانية، وأرشد إلى تزكية النفس، وتحريم الفواحش، واحترام الحقوق.

والدين الإسلامي بالأخص هو الذي زهَّد الناس في تقديس المادة وعبادتها من دون الله، ورغَّب في التوادد والتراحم، فهو دين حب ورحمة، لا دين مادة، وما أفسد المجتمع البشري إلا تقديس المادة، ونكران المسؤولية أمام الله، فلولا الشرائع لكان الخراب عامًا، ولما أمكنت هذه العمارة، وهذا النظام الموجود في…………..

أقرأ المزيد

 

 

([1]) يلخص لنا شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه القيم: (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) 2/ 71 – 73، مواقف علماء عصره من العقل والعلم والدين، فقال رحمه الله تعالى:

«الحاصل أن الذين لا يقدرون الدين حق قدره، على درجات متفاوتة في زعمهم الباطل: فمنهم من يزعم ويتوهم أن قواعد الدين أي دين كان، مبنية على التسليم بما ورد في الكتب المقدسة من غير فحص في أصولها وأنها لا تأتلف مع العقل والعلم. وهذا الفريق الذين منهم الأستاذ فرح أنطون والأستاذ فريد وجدي بك (وقد أوردنا من قبل شواهد من أقوالهما على ذلك) في خطأ مضاعف. والفريق الثاني يعترف بأن العقل يوافق أساس الدين وإنما يخالفه العلم، ومرادهم من العلم العلم الحديث المبني على التجربة والمشاهدة… وربما ينعتون هذا العلم الذي لا يتفق مع أساسات= =الدين بالعلم المثبت. فهم لا يعتبرون علم الفلسفة الإلهية الذي يوازيه علم الكلام في الإسلام، من العلوم المثبتة مهما كانت قواعده مبنية على الأدلة العقلية القطعية، لأن هواة العلم الحديث المفتونين لا يسلمون بكون الأدلة العقلية أدلة قطعية مفيدة لليقين. فهم ينظرون إلى التجربة كأداة العلم الوحيدة، ولا يقيمون للاستدلال العقلي وزنًا. ويمكن أن يعد الأستاذان الأستاذ منشئ مجلة الجامعة والأستاذ رئيس تحرير «نور الإسلام» أولاً و«مجلة الأزهر» ثانيًا – بالنظر إلى القول الأخير من أقوالهما المضطربة – من هذا الفريق الثاني أيضًا وجل نقاشنا في هذا الكتاب سيتوجه إلى إبطال مزاعم الفريق الثاني لكونها أشبه بالحق مع بعدها عنه وكون خطرها على المتعلمين العصريين أشد، أما مزاعم الفريق الأول فبطلانها لا يحتاج إلى مزيد تنبيه، لظهور جهلهم بموقف الدين من العقل والعلم وموقف الفلاسفة الغربيين من كل هذه الأمور الثلاثة بأول فحص في كلماتهم. ألا يرى أن خصوم الدين عندما ادعوا التنافي بين الدين وبين العقل والعلم لا ينسون تقييد العلم بالعلم الحديث المثبت، وإن كانوا قد يطلقون القول في العلم بملاحظة أنه لا علم عندهم يعتد به غير العلم الحديث، والذين التزموا التقييد التزموه لما رأوا أن العقل لا يساعدهم في مناواة الدين ولا يساعدهم أيضًا العلم القديم المبني على العقل المحض… فيظهر من هذا أن أهل الدين لا يعوزهم الدليل العقلي. وأنت ترى العلماء الإلهيين من المسلمين وغيرهم يسندون مسألة إثبات وجود الله إلى براهين عقلية، فمعارضوهم أعداء الدين لما علموا ذلك أغفلوا العقل وتشبثوا بأذيال العلم الحديث المبني على التجربة الحسية. فالجمع إذن بين العقل والعلم الحديث في مناواة الدين خبط وخلط ظاهر من الفريق الأول.

([2]) جاء ذلك في حديث قدسي رواه مسلم، عن أبي ذر الغفاري t عن النبي r فيما يرويه عن ربه U أنه قال: «يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا…» الحديث.

([3]) هذه القاعدة لفظ حديث شريف حسن، رواه ابن ماجه والدارقطني، وغيرهما عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وعبادة بن الصامت j مسندًا، ومالك في الموطأ مرسلاً.

والضرار (بكسر الضاد) من ضره وضاره بمعنى، وهو خلاف النفع، كذا قاله الجوهري، فيكون الثاني على هذا تأكيدًا للأول، لكن المشهور أن بينهما فرقًا فحمل اللفظ على التأسيس أولى من التأكيد، واختلف في الفرق على أقوال ذكرها ابن حجر الهيثمي في (شرح الأربعين النووية) أحسنها: أن معنى الأول: إلحاق مفسدة بالغير مطلقًا، ومعنى الثاني: إلحاق مفسدة بالغير على وجه المقابلة له، لكن من غير تقييد بقيد الاعتداء بالمثل والانتصار للحق، وهذا أليق بلفظ الضرار، إذ الفعال مصدر قياسي لفاعَل الذي يدل على المشاركة. =

=القاعدة مقيدة اجماعًا بغير ما أذن به الشرع من الضرر، كالقصاص والحدود وسائر العقوبات والتعازير، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، على أنها لم تشرع في الحقيقة إلا لدفع الضرر أيضًا.

(وانظر ما يتفرع على هذه القاعدة من أبواب الفقه مما كانت مشروعيته توقيًا من وقوع الضرر في كتاب (شرح القواعد الفقهية) ص: 166 وما بعدها، للعلامة المحقق فقيه الشام أحمد بن محمد الزرقا – رحمة الله تعالى-).

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر