Uncategorized

كلمة التحرير : الأمة بين مشروعين الأمة الوسط والشرق الأوسط

إن “الأمة” حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي “الأمة”: “الأمة – الوسط”، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي “الشرق- الأوسط” أو “المسألة الشرقية” أو “الشرق-الأوسط-الكبير”.

إن حضور مفهوم “الأمة” يعني “الأَمّ ” وهو القصد والوجهة، فالأمة محل القصد والقبلة والاتجاه. وحينما يبرز مفهوم جديد لا يُعنَى “بالأمة الوسط” وإنما “بالشـرق الأوسـط” مضافًا إليه صفة “الكبير”، فإنما يشير ذلك إلى معانٍ جغرافية، ويشير إلى أن مَن أطلق صفة “الكبير” (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة استراتيجية، ولكن هذا يحوّل الأمة من قَصْدٍ، ومن بشرٍ قاصد، ومن مقصود وفكرة ورسالة، إلى “مكان” مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة، إنه – بهذا – مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه “هندسة الإذعان”.

يبدو أن هذه الملاحظة المسكونة بمفهوم “الشرق” ظلت تلازم نوعين من الكتابات:

نوعًا أول تمثله كتابات “الاستشراق/الغربي والأمريكي” التي برزت بشكل مبكر، ثم لازالت تتماثل وتتكشف للعيان بأبعادها المابعد معرفية وغاياتها المابعد علمية. إن هذه الكتابات لعبت دور الممهِّد المعرفي والعلمي لمشاريع الاستعمار قديمها وجديدها، وفي هذا يشكك إدوارد سعيد: “في قدرة إنجلترا على احتلال مصر بمثل هذه الطريقة المؤسّسة جيدًا وتلك المدة الطويلة التي احتلتها لولا ذلك الاستثمار المكين في الدراسات الشرقية”، ومن هذه الخلفية فإن المشروع الذي طُرح مؤخرًا من خلال إدارة بوش الابن بشأن “الشرق الأوسط الكبير”؛ لم ينشأ من فراغ، وأنه إذا كان قد اكتسب ملامحه التي تم طرحه من خلالها على أساس من التطورات التي يحياها عالمنا المعاصر – سواء على مستوى المنطقة أو على مستوى تفاعلات النظام الدولي- إلا أنه يجد جذوره في عدد من الأصول الاستشراقية عبر عنها بعض المستشرقين؛ وعلى رأسهم برنارد لويس. بالطبع ليس لويس وحده، هو المحرك الوحيد لكل المسألة، إلا أنه يقدم نموذجًا مثاليًا على هذا الحلف غير المقدس.

وهذا يكشف – من ناحية أخرى- عن أن ميدان دراسات الشرق الأوسط (أو بالأحرى: ميدان دراسات العالم الإسلامي) في الغرب؛ إنما يقع تحت هيمنة اللوبي الصهيوني، في توافق تام مع التأثير الصهيوني على الإعلام الأمريكي، الذي يصوغ وعي الرأي العام هناك، ويؤثر على فهمه لنا تأثيرًا سلبيًا، ويستدر تأييدهم للسياسات العدوانية ضدنا لمصالح الصهيونية. اليمين الديني المحافظ كان إذًا مسبوقًا باليمين الاستشراقي الفكري والبحثي.

هذا نوع أول، ولكن يوجد نوع آخر من الكتابات يهتم برصد شأن العلاقات بين “شرق” و”غرب” من دائرة أخرى تحرك الوعي وتستثير السعي في هذا المضمار الهام، هذا النوع له نماذج عديدة يمكن الإشارة منها إلى الدكتور جورج قرم؛ وهو يحتل موقعًا مميزًا بين الباحثين الذين تناولوا موضوع العلاقة التاريخية بين أوروبا والشرق، وأصدر عددًا من الكتب التي تلامس هذا الموضوع بشكل أو بآخر مثل كتابه الشهير “انفجار المشرق العربي” الذي صدر قبل عشرين عامًا وطبع بالعربية والفرنسية أكثر من مرة، وكتابه الجديد “شرق وغرب: الشرخ الأسطوري” الذي صدر مترجمًا بالعربية في العام 2003.

إن هذا الاهتمام النظري والبحث في الخبرات التي تشكلها العلاقة بين شرق وغرب، والاقتراب من الوضع القائم الآن الذي يأخذ فيه “الشرق” دلالة جديدة إثر تأكد “الهيمنة الأمريكية” على المستوى العالمي، وتفرد القطب الأوحد في المنظومة الدولية، والإمبراطورية الكونية الأمريكية، والتي تعيد تعريف قضايا كثيرة بما في ذلك ما يُدعى “الشرق”. ورغم أن “قرم” أصدر كتابه الأخير والحرب على العراق قد دقت طبولها، وقبل سقوط بغداد؛ إلا أن هذا الاهتمام النظري امتلك منطق البرهنة الواقعية على الأرض، ولم يجد أي صعوبة كي يبرهن على أن “…الشرق في المخيلة الأمريكية مرتبط بالإدارة السياسية ورجال الإعلام والمتنفذين من الأكاديميين، أكثر مما هو مرتبط بواقع الشرق الفعلي…”، فالولايات المتحدة “تخترع الشرق الذي تريد“، آخذة في الاعتبار “مصالحها والفضاء المحتمل لمناوراتها السياسية المستقبلية”.

لقد أدى خطاب الغرب المتعصب عن نفسه إلى تعيين ذاته رسولاً لهداية الشرقيين الضالين، إلى درجة يحتفل فيها الغربيون اليوم والولايات المتحدة بشكل خاص “بعودة الله“، ذلك أن القومية الأمريكية تمتد بجذورها إلى البروتستانتية والعهد القديم. وسواء كشف الغرب عن تمسكه بالدين أو عن التحرر منه، فإنه أنتج في الحالتين معًا دينًا خاصًا به هو “دين القوة” الذي يجعل من الغرب عالمـًا “مقدَّسًا”، ومن الشرق عالمًا غريبًا عن القداسة ومفعمًا بالآثام. وظهر دين القوة هذا – الذي أوكل إلى الولايات المتحدة الدفاع عن المقدسات الغربية- بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ؛ حيث قبلت الأيدلوجيات العلمانية الغربية بالمزاعم والسياسات الأمريكية: الهدف مقدَّس، والوسائل علمانية.

عزز من هذه الرؤية “النصرُ الأمريكي في الحرب الباردة”، “فوكاياما ونهاية التاريخ”، الذي جعل من غرب النهضة الأوروبية غربًا يهوديًا/مسيحيًا، صورته المركبة هي دولة إسرائيل، التي لا تسمح لها “غربيتها” بأن توصم بأنها دولة عنصرية أو عدوانية؛ فهي من الغرب ولها دور الغرب في هداية العالم الضالّ. في هذا الانقلاب تصالَحَ التاريخُ العلماني والتاريخ الديني للغرب، وأصبح “الآخر” هو المسلم المكروه، وأصبح الغرب يتعامل مع الإسلام بصفته عقيدة كلية متصلبة، تنضح عنفًا، وتتنفس لاعقلانية كاملة.

وربما كان في التاريخ خبر وعِبَر، وتجارب وآيات، وشواهد وبراهين، تثبت مثل هذه الحقائق أو تعمق من دلالاتها.

هذا تعبير عن فكرة كان يرددها أستاذنا الدكتور حامد عبد الله ربيع رحمه الله؛ فكرة ورؤية للتاريخ كمختبر للأفكار والنظريات، وكأرضية صالحة لابتناء “نماذج” تعمل عمل النظريات في إحسان الوصف والتفسير والتأويل والتصديق والاستشراف: مقارنة ومقاربة وتسديدًا. وضمن هذه الرؤية الواجب تفعيلها يمكن قراءة المشروع الأكبر الراهن: “الشرق الأوسط الكبير” وما يرتبط به من مفاهيم متصادمة أو ما يمكن العنونة له بـ”صدام المفاهيم”، وذلك على النحو الذي قدم مثله الرافعي في المفاهيم العدوة، والكلمات المقاوِمة…

إن الفكرة الرئيسة التي يمكن أن نستلهمها من عبرة التاريخ ونماذجه الواضحة وضوح الشمس في ضحاها تتمثل في أن الاحتكاك الإسلامي مع الغرب كانت له سمات ودلالات مهمة أنموذجية تنبع من الطابع اللازم والملازم لأصول هذين الطرفين الحضاريين؛ تنبع من المركَّب الأصيل المحفّز لبناء كل منهما ابتداءً، والموجِّه لتطور كل منهما ولمساره انتهاءً، والمؤثر في تفاعلات هذين الكيانين عبر تاريخ العلاقة بينهما وعلى امتداده زمانًا ومكانًا.

الحالة العثمانية”، التي شهدت مع إرهاصات ضعفها بروز دولتنا –القومية الحديثة، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بأقصى ما كان يمكن أن يصل إليه الاحتكاك بالغرب، في صورة “الاستعمار” والاحتلال والحلول بعقر دار الإسلام، وتنفيذ المشروع الاستلابي بين يدي الآخر وعلى عينه.

لقد طرح الغرب مشروعه واضحًا إبان هذه المرحلة متمثلاً في “المسألة الشرقية” و”عبء الرجل الأبيض”، و”مسألة الرجل المريض”، فكيف واجهنا هذا المشروع؟ إنها المواجهة المرتدة على أعقابها، المسترشدة من التاريخ فقط بعروبة الجاهلية أو المكتفية منه فقط بجاهلية العرب: قومية الكلية البروتستانتية السورية، التي انتهت بالبعث “ربًّا لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثانِ”، مرورًا بثورة الشريف الكبرى.

إن الثورة العربية الكبرى لم تكن تمثل إلا الغفلة العربية الكبرى، التي أفرزت قواعد “الشرق الأوسط” الفسيفسائي وأسسه؛ وقائع الغفلة العربية الكبرى بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، تلك الحرب التي بدا للمنتصرين فيها “توظيف المنطقة ضمن عناصر صراعاتها”، والتي كانت تعني ضمن ما تعني عملية الاستفراد بالكيان العربي، ونقل الصراعات الأوربية/الأوربية، إلى تقسيم “مناطق نفوذ” على أرض العالم العربي والإسلامي، قَضَمَ منها الاستعمار ما قَضَمَ، وتنافس المتنافسون في الحصول على أكبر نصيب:

الاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا وبمباركة روسيا 1904، الحرب العالمية الأولى 1914-1918، الثورة العربية الكبرى 1915-1916، اتفاق سايكس /بيكو 1916، وعد بلفور 1917، فرساي 1919، مؤتمر سان ريمو وإعلان الانتداب على ما تبقى من الأمة وبالأخص على فلسطين 1920، إسقاط الخلافة العثمانية 1924،…

حزمة من التواريخ التي يجب أن تُقرأ في نسق وعلى صعيد واحد، لا تحرك فقط عنان الفطنة للاستهداف الخارجي، ولكنها كذلك -وعلى نفس القدر وربما يزيد عليها- تدفعنا إلى أن نفطن إلى قابليات هذا الاستهداف والتمكين للخارج. إن الخارج لا يتمكّن من الداخل إلا بمقدار ما يمكّن له الداخل؛ إنه درس سُنن التاريخ في معمل تجاربه وعالم أحداثه.

ثم كانالشرق الأوسط: من رحلة المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير“: وهذه المرحلة هي خلاصة ما سبقها، إن كل الحالات السابقة إنما قامت على مشروع “فكّ وإعادة تركيب” للمنظومة، ومن ثم لم تكن لتمضي قٌدمًا دون قابليات لهذا الفك ولإعادة التركيب، فكان لابد أن تستقبلها قابليات الدولة-القومية، أيًّا كانت صورتها: ملوك طوائف (طوائفية)، دويلات مستقلة (شعوبية)، ولايات مستقلة (دولة محمد علي وخلفائه، الباشوات، البايات، الدايات وانفراط أوصال حياة الرجل المريض…) .. أو دول تدعى مستقلة حاليًا (قطرية).

لماذا “الشرق”؟ لماذا “الأوسط”؟ لماذا “الكبير”؟

أما “الشرق” فلأنه هو الغرب المتحدث المحدِّث وحده، وهو لا يدرك الآخر إلا من منطلق “مركزية الذات” وأوليّة الأنا، فكنا شرقًا، رغم أننا في الوسط (وسط الكوكب/ وسط الخريطة التي يتفق على رسمها الجميع وأهل الاختصاص)؛ لأنه رأى نفسه أُسًّا وأساسًا، وما عداه كان شرقًا وآخر وثانيًا وثالثًا. ذات الأمر الذي جعل اليونان الإغريق (الآباء الفكريين لأوروبا والغرب المعاصر) يرون إفريقيا (بلاد الجنوب) وآسيا أو آسو (البلاد التي تشرق منها الشمس)، وجعلَ الرومَ يرون البحر “المتوسط” بحرهم: “بحر الروم”، وجعل معظم الجزر والمواقع التي اكتشفت تسمى بأسماء غربية وكأن الغرب أوجدها من عدم دون سؤال عمن كان فيها، هذا نفسه ما جعل الأندلس (إيبريا) تتحول كل مدنها أو أغلبها رمزيًا إلى الأسبنة، ومن بعدها “أمريكا” التي نُسبت إلى الغرب الكاشف الوافد لا إلى الساكن الأصلي الأصيل، والذي صار اسمه هنديًا أحمر لمجرد أن الفاتحين رأوه هكذا، وفضلوا إعادة تسميته كما تراءى لهم… فـ”الشرق” تعبير عن وجهة نظر المتكلِّم، حين لا يرى معيارًا للتسمية إلا هوى ذاته، من منطلق “الغرب والباقي”: The West & The Rest.

أما “الأوسط” فهو استدراك على مطلق “الشرق”، إنه شرق مخصوص بخاصية، ومقيّد بقيد يميزه عما سواه، إنه “أوسط”؛ ذلك أن أمته هي الأمة الوَسَط؛ )وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون( )وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (. إن “الأوسط” اعتراف بالتميز اضطر الغرب إليه من جهة، وسعى للاستبدال والتحويل والتحريف من جهة أخرى، تحريف “للأمة الوسط”. أما “الأمة الوسط” فهي الحقيقة المفترضة لهذه الأمة بالجَعْلِ الإلهي، وبشروطها التي على رأسها “الشهود والشهادة” على الناس، واتّباع الرسول الشاهد المبشر النذير السراج المنير الداعي إلى الله: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ((البقرة: 143).

أما “الكبير”، فإن كل مشروعات الغرب حين يحتك بعالم المسلمين، وكل المشروعات المواجِهة له تنحو إلى “تكبير المسألة”، ومدّ المجال الحيوي للغرب لإنجاز مصالحه أو بالأدق مطامعه ومشتهياته الممتدة التي لا نهاية لها. فما السر في هذا الميل التوسيعي؟ إنه مفاعل “الأمة” الذي يستقطب الآخر إلى نمط من التعامل الشمولي الساعي إلى تفريق “الجمع” وشرذمة “الجماعة”، وتفكيك أوصال “الأمة الجامعة”، والذي يستقطب كذلك مشروعات الإصلاح لكي تنهض على أساس استجماع المُكنات في صورة “الأمة”. إن مفهوم “الأمة” كان يرتبط عادة بمشروع  إصلاحي: فعبد الرحمن الناصر حين طبَّق مبدأ “النصرة والموالاة” وسار عكس تيار الشرذمة الطوائفي أفرز مشروعًا إصلاحيًا قوامه “الأمة الجماعة” فدانت له الأندلس .. وكذا بقايا السلاجقة (زنكي وابنه نور الدين..) والأكراد (الأيوبيون..) الذين ارتقوا على واقع “الشعوبية” وأيقنوا أن لا سبيل إلى استرداد بيت المقدس إلا من بعيد؛ من “الجبهة الموحدة”: شمال العراق مع الشام مع مصر، مع الاعتراف بالمظلة، ورفض كل الرموز المناوئة الهادمة للمظلة، هؤلاء عرفوا سر المسألة (الأمة الجامعة) فأفلحت مساعيهم. إن ابن تومرت كان مثالاً على الربط بين شرق الأمة وقلبها الذي ارتبط به عقيدة وعلمًا وحَجًّا، وغربها حيث الأندلس والمغرب “الأقصى”، كذلك استكمل المرابطون النموذج حين ضموا الجنوب على الشمال، وكسروا الجغرافية الفاصلة، والتاريخية المفرّقة؛ ليربطوا -بأربطتهم ودولتهم- الأواصر الأصيلة.

لقد كان كلٌ من هؤلاء يرجع -إبان الأزمة – إلى الأمة، “يفيء إلى أمر الله”، “يتحيز إلى فئته”، في عمليات كرّ وفرّ تشيد الإطار ولا تهدمه.

حتى كان المشروع الراهن الذي أتى على حالٍ أخذت الأمة فيه من ماضيها كل ما كان سيئًا: فملوك الطوائف متترسون – إزاء بعضهم البعض- داخل قومياتهم وقطرياتهم وحدودهم التي رسمها لهم “الغرب”: صاحب مشروع الغزو والهدم والغصب…، وأمراء التغلب كرَّسوا تغلُّبهم في العلاقة مع شعوبهم فيما لا حراسة لثغر، ولا حماية لسور، ولا رعاية لبوابة من بواباتنا المفتوحة على مصاريعها، فيما تبيّنه افتتاحية الحكيم البشري هنا أيَّما بيان.

إن “يوم الأحزاب” عاد أدراجَه، ولكنه عود غير أحمد، عود في ظل غيبة أمة أحمد، فالخندق الحائل الحامي قد ردمته “العولمة”، والاختراق صار – في ظل قابلياته – خرقًا وانخراقًا، والأحزاب صار فيهم مَن هم “من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا“، .. وبرزت الأمة/ القصعة “تتداعى” عليها الأمم من فوقها ومن أسفل منها، لا من قلة، ولا من إقلال، بل من وهنٍ وقابليات استخفاف.

فأين سفينة أمتي من هذا الخضم؟ هل يعي هؤلاء ممن خرقوا “سفينة الأمة” ولسان حالهم يقول: “نخرق خرقًا في موضعنا هذا،.. ولم نؤذِ من فوقنا، .. نحصّل منه ماءنا… هذا موضعنا نفعل فيه ما نشاء”؟!! ما بال هؤلاء لا يفكرون إلا تفكيرًا “أخرق” يخرق السفينة حتى تشرف على الغرق والهلاك.. إن بعضًا من “أمتي” لا يَعُون الدرس، ولا يتخذون العبرة من الخبرة والفكرة، ما بالهم لم يتعرفوا على درس مصطفى صادق الرافعي حينما بحث في متتابعات منظومة السُّنن فوجد أن “أصغر خَـرْق يَعنِي أوسعَ قَـبْر”؟

وفي هذا المقام يجب أن نتذكر ونبحث في الذاكرة التاريخية لمفهوم “الشرق الأوسط” “الكبير”، فعقب الحرب العالمية الثانية وبروز صيحات الاستقلال هنا وهناك .. حاولت السياسة الاستعمارية البريطانية التحايل على ذلك بأن قدمت مشروعًا تشترك فيه مصر والأقطار العربية المستقلة في ذلك الوقت، وضم بعض الأقطار الإسلامية المجاورة مثل تركيا وإيران وباكستان، وكان يربطها جميعًا مع بريطانيا وأمريكا في تكتل سياسي وعسكري بحجة الدفاع عن (الشرق الأوسط) ضمن مشروع أسمته في ذلك الوقت “الدفاع عن الشرق الأوسط“. واعتبره المصريون -آنذاك- وسيلة لتبرير بقاء الجيوش الأجنبية والنفوذ العسكري والسياسي البريطاني في مصر، ولذلك عارضوه بشدة وإجماع لا نظير له، وخرجت مظاهرات شعبية وطلابية حاشدة تهتف ضده؛ وأدى ذلك إلى رفضه نهائيًا.

إن المشروعات التي تحمل شعار “الشرق الأوسط” برزت تاريخيًا لتعبر عن هدف السيطرة على المنطقة بأشكال وأساليب تختلف حسب الزمان والمقام، وهي وسيلة تشكّل حلقة متصلة -سواءً أكان هذا “الشرق الأوسط” “جديدًا” أم “كبيرًا”- لتحويل أنظار الشعوب (إسلامية أو عربية) عن هدفها الاستراتيجي الذي أجمعت عليه “الأمة” منذ سقوط الخلافة العثمانية؛ والذي يهدف إلى إعادة بناء المنطقة العربية والإسلامية وإعادة توحيدها في صورة عصرية من خلال بناء تكتل إقليمي يضم دول العالم الإسلامي العربية وغير العربية، وهو أمر يحيلنا إلى قواعد النظر السليم لمشروعات الشرق الأوسط؛ هذا النظر الذي لا يكفي فيه مجرد رفض تلك المشروعات التي تحمل شعار الشرق الأوسط بل لابد من أن تضع القوى الفاعلة سياقات عملية لبناء تكتل عربي إسلامي إقليمي عصري مستقل عن نفوذ الإمبراطوريات الأجنبية التي تريد استغلاها والسيطرة عليها.

ومشروعات شعار الشرق الأوسط ليست إلا تحايلاً أجنبيًا يراد به تجاهل وحدة الأمة العربية الإسلامية صاحبة هذا الإقليم، بل وتجاهل وجودها وحقوقها، وإعطاء منطقتنا اسمًا جديدًا يفتح الباب لسيطرة قوى أجنبية، تهدف من وراء مشروعاتها ومبادراتها إلى تحقيق مصالحها التي ترى في الهيمنة والسيطرة عليها الطريق المؤكَّد لتحقيق ذلك في النظر إلى هذه المنطقة كعُقدة استراتيجية، فهل يمكننا أن نتدبر تلك المعاني حينما يرِد علينا شعار تارة يوصف بشرق أوسط جديد، وتارة بالكبير؟

إن “الشرق الأوسط” إقليم واسع في هذه الأيام، وله قضية تُذكرنا “بالقضية الشرقية” أو ما عرف بالمسألة الشرقية في القرن التاسع عشر. والذين عاصروا لغة السياسة والصحافة قبل الحرب العالمية الثانية يذكرون أن هذه التسمية لم تكن شائعة كما هي الآن، ولم تكن تعني ما تعنيه الآن، ويلاحظون أنها بدأت تروج في الخمسينيات والستينيات في فترة الحرب الباردة، حتى إنها أخذت معنًى أوسع مما كان لها من قبل، ومن حقهم أن يسألوا أنفسهم عن العوامل التي فرضت هذا المصطلح على لغة الصحافة والإعلام والسياسة، ومن حقهم كذلك أن يبحثوا عن الأسباب التي دفعت بعض القوى لترويجه، والأهداف التي ترمى لها من وراء ذلك.

كان “الشرق الأوسط” قبل الحرب العالمية الأولى منطقة تفصل بين “الشرق الأدنى” و”الشرق الأقصى”، ولكنه اليوم في لغة الصحافة والسياسة الغربية قد اتسع نطاقه ليشمل في نظرهم ما كان يُسمى من قبل بالشرق الأدنى إلى جانب ما كان يُسمى بالشرق الأوسط قبل ذلك: “Great Middle East.

كان إقليم “الشرق الأوسط” في قاموس “الجغرافية الإقليمية” قبل الحرب العالمية الثانية يختلف عن “الشرق الأدنى”؛ إذ كان يُقصد به الإقليم الذي يتوسط بين الشرقين الأدنى والأقصى ويفصل بينهما، كان “الشرق الأدنى” يشمل تركيا والبلاد العربية الخاضعة لها، و”الشرق الأقصى” يشمل الصين وما بعدها جنوبًا وشرقًا، ومع أن حدود كل قسم من هذه الأقسام الجغرافية الثلاثة لا تتقيد بالحدود السياسية للدول، إلا أنه يمكن القول بأن الشرق الأوسط بذلك المعنى كان يضم أفغانستان وإيران والهند قبل استقلالها (أي بما فيها باكستان وبنجلاديش والهند وسيلان/سيرلانكا)، أي الأقاليم الآسيوية التي تمتد من الخليج العربي إلى خليج البنغال.

ولا يمكن فهم هذا التوسع في مفهوم “الشرق الأوسط” إلا بدراسة العوامل الفكرية والسياسية التي تؤثر في رسم خريطة العالم وتحديد مناطقه، وهذه العوامل لا تقتصر على الاعتبارات الإقليمية والجغرافية.

إذا كان “الشرق الأوسط” تعبيرًا جغرافيًا فإن أحد أهم مقصوداته الزائدة على مجرد الوصف تمثّل في “زرع إسرائيل في الكيان العربي”، بل وإيجاد قاعدة شرعية وحجية ليس فقط لاستزراعها بل وقبولها ضمن مشروع أُسميَ “السوق الشرق الأوسطية”، وضمن حركة تطبيع وتطويع كبرى، وصار “الشرق الأوسط مزروعًا به إسرائيل” شعارًا دالاً ومؤشرًا على استراتيجية بعيدة المدى … ولا يكتفي دعاة “مشروعات الشرق الأوسط” بفرض التعاون مع إسرائيل اقتصاديًا، بل يريدون أن تكون لها الأولوية على علاقات التعاون بين الدول العربية والإسلامية بل وسيلة لمنع هذا التعاون، شاهدُنا في ذلك اتفاقاتٌ مفروضة ومشروطة، يتوارى فيها استخدام مفاهيم “العالم العربي” و”العالم الإسلامي” فضلاً عن المفاهيم التي تتمحور حول “الأمة”؛ لمصلحة كل تعبير يحمل مدلول “الشرق الأوسط”.

إن شعار “الشرق الأوسط” في المدى الطويل سوف يتناقض مع وجود الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي أو أي تكوين جماعي يشير إلى معنى التوحد والجامعية، لقد بدا هذا المفهوم ضمن عمليات إحلال، في الوجهة والهدف والمقصد.

وحينما يبرز مفهوم “الشرق الأوسط الكبير”، وما يحمله من تضمينات، فإننا أمام منطقة أكثر اتساعًا؛ على مقاس المصالح الأمريكية والتي اتسع مجالها الحيوي بكل حدوده للتعامل مع عالم المسلمين والعالم الإسلامي، فصار “الشرق الأوسط الكبير” ليس إلا العالم الإسلامي أو يكاد؛ هكذا سيكون هذا المفهوم الجديد هو البديل “للأمة الوسط”، وكأن هذه المنطقة بين مشروعين يتدافعان: “الشرق الأوسط” و”الأمة الوسط“.

المقاس الكوني للشرق الأوسط الكبير: وهكذا فإن مصطلح “الشرق الأوسط” يعتبر من المصطلحات الغامضة التي لا تشير إلى جغرافية ذات حدود ثابتة، على الرغم من وجود العديد من العناصر المشتركة التي تميز قطاعاتٍ في هذه المنطقة عن غيرها؛ مثل: اللغة، والدين، والثقافة، والتاريخ، والأصل العرقي. ويرجع هذا الغموض إلى العوامل السياسية التي صاغت المصطلح كي تعطيه شكلاً مرنًا يمكن إعادة تشكيله طبقًا لاستراتيجيات الدول الغربية ونطاقات نفوذها وأجندة مصالحها. وخلال الثمانية عقود الماضية تم بالفعل إعادة رسم المنطقة عدة مرات من خلال المعاهدات أو الأحلاف أو المبادرات التي سعت إلى تكريس هيمنة الإمبراطوريات الغربية. وفى معظم الأحوال جرت محاولات تمرير تلك المبادرات تحت غطاء من الشعارات والأهداف النبيلة؛ مثل دفع الخطر عن شعوب المنطقة، ومساعدتها بدعوى تحديثها وتنميتها، والوقوف إلى جانبها لتقرير مصيرها وإقامة حياة ديمقراطية.

وينصح بوش بأنه “يجب أن يكون لديه الشجاعة لفرض ثقافة سياسية جديدة على العالم الإسلامي المهزوم، كما فعلنا في اليابان وألمانيا“.

ومن هذا المنطلق تأتي مبادرة الشرق الأوسط الكبير: الولايات المتحدة تخوض حربها في المنطقة بالقوة العسكرية المباشرة ضد “الدول المارقة” (العراق أولاً، والبقية تأتي: إيران وسوريا ولبنان والسودان)، وبترهيب “الدول الصديقة” أو حلفائها التقليديين (السعودية ومصر واليمن) عن طريق الضغط عليهم بورقة الديمقراطية وزعزعة استقرارهم (Destabilization) سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا؛ كي يصبحوا أكثر تعاونًا وطواعية. فما أعلنه بوش وأركان إدارته هو أن النظم الاستبدادية التي تدعمها الولايات المتحدة في المنطقة لم تنجح، وغير قادرة على المحافظة على الاستقرار ومنع التهديدات للأمن القومي وللمصالح الأمريكية. فتحت هذه الأنظمة الاستبدادية يرقد أخطر تهديد للأمن القومي لأمريكا، وبالتالي لا يمكن لأمريكا أن تنتظر أكثر من ذلك ويجب عليها أن تبادر بتغيير المنطقة…، وليس بالضرورة الأنظمة. أي أن تفرض “ثقافة سياسية جديدة على العالم الإسلامي المهزوم، كما فعلنا في اليابان وألمانيا“؛ أي إن مناخًا ثقافيًا-سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا جديدًا يجب أن يسود في المنطقة.

فقد صرح ريتشارد أرمتدج، نائب وزير الخارجية، أثناء الاستعدادات لغزو العراق: “سنصرعهم الواحد تلو الآخر…كما الحال في مباريات المصارعة“.

وفي اعتماد قمة الثمانية مصطلح “الشرق الأوسط الكبير” عنوانًا لمبادرة “الإصلاح” ذات المنشأ الأمريكي دلالة إجماع صناع قرار الدول الثمانية على التعاطي مع المنطقة باعتبارها مساحة جغرافية وليست دائرة حضارية عربية الهوية والثقافة إسلامية العقيدة، تمتلك مخزونًا تراثيًا متميزًا وثقافة وقيمًا وأنماط سلوك خاصة. وذلك جريًا على ما عرف به الفكر والعمل الاستعماري الأوروبي، ووريثه في هيمنة كونية أمريكية، من إسقاط الأطروحات الاستشراقية على الواقع الموضوعي في عالم العرب والمسلمين، المتميز بامتلاك كل مقومات الوجود والارتقاء والنماء والتأثير.

فدعوة “الشرق الأوسط الكبير” تعني من بين ما تعنيه، وضع العرب والمسلمين  – أنظمة وقوًى شعبية وشخصياتٍ فكرية- أمام تحد ذي بعدين متضادين: الأطروحات التي تستهدف خلخلة الأنسجة الاجتماعية العربية والإسلامية، وإدماجها على شكل كنتونات عِرقية وطائفية في نظام إقليمي، يدور بقيادة صهيونية في الفلك الأمريكي، مقابل الطموحات التي غايتها تعظيم قدرات وتعزيز منعة العالم العربي، وتنمية التفاعلات الإيجابية قطريًا وقوميًا، والاستفادة بقدر المستطاع من تجربة الاتحاد الأوروبي.

إنها حالة من تكريس “الوهن” في الكيان والتفكير والتدبير والتغيير، وفي المقابل حالة من تأكيد “العزة” في خمائرها في تماسك النسيج للكيان الاجتماعي الحضاري العربي وأصول التفكير الناهض والتدبير الرافع لمكانة الأمة، والتغيير الدافع لإمكاناتها وفاعليتها.

إن هناك ضمن هذا التصور مشروعان يتدافعان : مشروع يؤصل معنى الجامعية ودافعية الأمة هو “الأمة الوسط ” ومشروع يحاول تفكيك الأمة وإجهاض مقدراتها ورسم خريطة تجزئتها الجغرافية وعوامل تفرقتها المعنوية والفكرية ، والمسألة التي تتعلق بضرورة المكاشفة والمصارحة داخل عناصر نسيج الأمة من شيعة وسنة ومحاولة إحداث نوع من التقريب المنهجي القائم على جامعية الأمة لمواجهة المشروع ” التفكيكي الأمريكي الصهيوني ” ليس بعيدا عن عملية التدافع تلك بل هي قبلها ، فإن مشروع الشرق الأوسط إنما يريد ان يفكك الأمة ويفتت جامعيتها ووحدتها ويقطع لحمتها في إطار تكريس التجزئة والفرقة بين الأمم الفاعلة في المنطقة ويزكي كافة عناصر الطائفية المذهبية والدينية وكافة التناقضات الثقافية والحضارية في إطار يكرس عناصر التجزئة والتبعية .

بينما مشروع الأمة الوسط هي الأمة الوسـط الشاهدة ذات المكانة الساعية إلى تمكين قدرتها ووحدتها في إطار يحرك معانى الجامعية فيها والدافعية في حركتها والفاعلية في بنياتها وعلاقتها وهي بذلك تسعى إلى أن تزيل الجفوة وتسد الفجوة  بين كل ما يؤدي إلى تفرقة الأمة ومحاولة هدم وحدة الصف والكيان في مواجهة ذلك المشروع التفكيكي . ومن الطرق التي يجب أن نسلكها بمنهجية رصينة وبصيرة واعية أن نتعامل مع موضوع التقريب بما يحفز وحدة الأمة وجامعيتها واصطفافها لمواجهة تحديات فرضت علينا لا تملك دول هذه الأمة فرادى أن تواجه مثل هذه التحديات ، إن التقريب إذن عملية ممتدة والاصطفاف لمواجهة التحدي عملية مقصودة. فأين نحن من المشروعين؟ مشروع الأمة الوسط في مواجهة مشاريع الشرق الأوسط ؟  )وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه(  (الأنعام: 153).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر