تطور استخدام التاريخ في حقول العلوم الاجتماعية – حقل السياسة نموذجا
The Evolution of the Use of History in the Social Sciences: Political Science as a Model
التاريخ هو المفهوم الإنساني للزمن – الأقرب إلى المفاهيم الفيزيائية، ولهذا فإن له خصائص نوعية مختلفة تستدعي اختلافًا في منهج التناول. فإذا كان الزمن يمكن تناوله من خلال قوانين الفيزياء بوصفه بعدًا رابعاً من أبعاد المكان، فإن التاريخ لا يمكن تناوله على النحو ذاته. فالتاريخ الإنساني قد اصطبغ بما للإنسان من خصائص، على نحو يجعل من الصعوبة بمكان إخضاعه للقوانين الطبيعية. وأحد المظاهر التي تنهض شاهدة على هذا الاختلاف تكمن في تباين طبيعة “التغير” الذي يشهده التاريخ الإنساني عن التغير الذي يعرفه الزمان الطبيعي، فالتغير في حركة التاريخ أكثر تركيباً من التغير الذي يعرفه الزمن الطبيعي، من حيث كون الأخير تغير مطرد؛ يمكن رصده بدراسة تعاقب الليل والنهار([1])، أما التاريخ الإنساني فهو وعاء لأفعال كائنات ذات إرادة، تدفع بحركته في مسارات شتى. وفي هذا المعنى يقول العلامة ابن خلدون: “من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار، ومرور الأيام. وهو داء دوى شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق، والأقطار، والأزمنة، والدول. سنة الله التي قد خلت في عباده”([2]).
على أن موقع التاريخ، وعلاقته بالعلوم الاجتماعية، وحقل السياسة على وجه التحديد، هو مما شهد تقلبات كثيرة، وخصوصًا في إطار التنظير الغربي، الذي اهتمت بعض روافده بدراسة العلاقة بين التاريخ والسياسة بصفة عامة، كما اهتمت روافد أخرى منه بدور التاريخ في مجال دراسة العلاقات الدولية بصفة خاصة، وساهمت بعض اقتراباته النظرية في توظيف التاريخ فعليًا في دراسة النظم الدولية([3])، وقد تباينت العلاقة بين حقلي التاريخ والسياسة منذ تبلور “العلوم الاجتماعية” في نهاية القرن الثامن عشر، وخصوصًا من زاوية الأهمية النسبية التي يوليها كل من الحقلين للآخر، فعلى الرغم من أن حقل التاريخ ظل بمثابة الأب الشرعي لحقل السياسة لفترة طويلة؛ وأن اتجاهات الكتابة التاريخية كانت تجد في الموضوعات السياسية مادتها المفضلة، على الرغم من ذلك فإن التطور الطبيعي للتخصص العلمي قد أخذ مجراه، واستقل حقل السياسة عن حقل التاريخ في نهاية المطاف([4]).
——————————————————————————————————
([1]) يثير مفهوم الزمن، مثله مثل مفهوم التاريخ، العديد من الإشكالات الفلسفية التي لا يتسع المقام في إطار هذه الدراسة لمناقشتها، للاستزادة انظر: محمد كمال إمام، نحو نظرية عامة في الزمن الفقهي، مرجع سابق، ص 2.
([2]) عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (بيروت: دار الكتب العلمية، 2020)، ص 22.
([3]) مصطفى، نادية محمود، النظرية العامة للنظم ودراسة العلاقات الدولية، مذكرات غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1983. نادية محمود مصطفى، مدخل منهاجي لدراسة التطور في وضع ودور العالم الإسلامي في النظام الدولي: مشكلات وضوابط التعامل مع التاريخ الإسلامي، في نادية محمود مصطفى (محرر)، العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي،= =1996)، الجزء السابع. نادية محمود مصطفى، التاريخ في دراسة النظام الدولي، رؤية مقارنة، ندوة العلوم السياسية والاجتماعية: الآفاق والتوقعات، مركز البحوث السياسي، مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية، القاهرة، فبراير 2000. ص 5. نادية محمود مصطفى، العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي: منظور حضاري مقارن (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2015)، ص 44 وما بعدها. نادية محمود مصطفى، مسار علم العلاقات الدولية بين جدالات المنظورات الكبرى واختلاف النماذج المعرفية، في نادية محمود مصطفى (محرر)، العلاقات الدولية في عالم متغير، منظورات ومداخل مقارنة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2016)، الجزء الأول.
([4]) انظر مناقشة لهذه الأفكار في نادية محمود مصطفى، مدخل منهاجي لدراسة التطور في وضع ودور العالم الإسلامي في النظام الدولي: مشكلات وضوابط التعامل مع التاريخ الإسلامي، في نادية محمود مصطفى (محرر)، العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996)، الجزء السابع، ص 14.