مركزية الأخلاق في التنظير القاصدي عند ابن عاشور
The Centrality of Ethics in the Maqasidi Theorizing of Ibn Ashur- العدد 172 /173
ملخص:
يعد ابن عاشور من أعلام الفكر المقاصدي المعاصر، بما عرف عنه من دقة في الاجتهاد وأصالة في التقعيد والتحقيق، من ذلك عنايته البارزة بالأخلاق وهو ينظر للمقاصد، ويسعى إلى بث روح جديدة فيها، بانيا على جهود من قبله، ناقدا ومستدركا، ومفيدا ومستفيدا، وذلك ما ستسعى هذه الورقة إلى بيانه وتحليل عناصره ومكوناته، والوقوف عند إمكانات الاستشراف والاستئناف والإفادة والزيادة، وليس مجرد الإشادة والقول بالسبق والريادة. وتكمن أهمية الموضوع من خلال الآفاق العلمية والمنهجية التي يفتحها البحث في العلاقة بين المقاصد والأخلاق، بالنظر إلى الحاجة الماسة إليهما معا في الواقع الراهن.
تقديم استشكالي:
إن الناظر المدقق في نصوص الشريعة ومقاصدها وكلياتها يجدها تركز بشكل كبير على الأبعاد الأخلاقية للفعل الإنساني الفردي والجماعي، آية ذلك المساحة الواسعة في القرآن الكريم والسنة النبوية للحديث عن الأخلاق وأهميتها في التربية بمفهومها الواسع، فكرا ومنهجا وسلوكا ورؤية. كما نجد سمة ملازمة للأحكام الشرعية وهي ورودها في سياق فرش أخلاقي قبلي وبعدي، ليقع الحكم الشرعي في النفس موقع القبول الذاتي ويتلقى باقتناع عقلي وتفاعل قلبي ووجداني. فيحصل نوع من التفاعل الباني والموجه، لتتحقق الثمرة المرجوة والهدف المنشود، والمتمثل في الامتثال الطوعي والاستجابة الذاتية من قبل المكلف.
ولكن شيئا فشيئا، بدأ الانحراف يتسرب إلى العقل المسلم، لعوامل فكرية واجتماعية وثقافية وسياسية وحضارية، فحصل نوع من الفصل بين الفقه والأخلاق[1]، وإذا استحضرنا أن الفقه منتج بشري لتفاعل العقل مع النصوص الشرعية ومتطلبات الواقع، كان هذا المنتج في حاجة مستمرة إلى النقد والتقويم والترشيد والتسديد، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومطلوب من الأجيال المتعاقبة أن تحقق كسبها الذاتي من الوحي دون أن تبقى عالة على كسب غيرها، ولن يكون هذا التقويم بإصلاح الأعطاب الجزئية التفصيلية، فذلك أمر متعذر وغير مجد، ولكن بمعالجة الاختلالات في البنية التصورية التي تنتج ذلك وتثمره، وذلك بالرجوع إلى القواعد النظرية والأطر الحاكمة، وهذا أمر اضطلع به الدرس المقاصدي الذي يروم البحث في أسرار الشريعة ومعانيها وعدم الاكتفاء بالرسوم والأشكال، وينشد الانتقال من الفقه الاستظهاري إلى الفقه الصناعي.
——————————————————————————–
[1] والأمثلة على ذلك عديدة، نكتفي منها بما يقرب من المقصود: يذكر عبد الوهاب المسيري مثالا عن العطب الذي ألمّ بالعقل الفقهي فيقول: أذكر أنني كنت أجلس مع بعض الأصدقاء المسلمين وحانت ساعة المصارعة الحرة في التليفزيون، والتي أحس بالاشمئزاز منها لدرجة أن معدتي تصاب بالغثيان، وبدلا من أن أطلب من الأصدقاء أن يغلقوا التليفزيون حاولت أن أكون كيّسا معهم، فسألتهم: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم معنا، أكان سيوافق على هذه المصارعة الحرة. فسارع الإخوة بالنفي، وحينما سألتهم عن السبب: قالوا لأن المصارعين لا يرتدون (سروالا شرعيا) وهكذا فاتتهم بنية الصراع الدارويني التي حوّلت المتصارعين إلى كتلتين من اللحم المتصادمتين، أي أن البعد المعرفي، الكلي والنهائي، لم يسترع انتباههم على الإطلاق. عبد الوهاب المسيري، نحو نظام معرفي إسلامي، أعمال الحلقة الدراسية التي عقدت في عمان، الأردن يومي 10-11 (يونيو) 1998م. ط1، 2000م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 49.