الحضور الكلامي في رسالة الشافعي – آثاره وحدوده
العدد 170 /171 - The Theological Aspect in Al-Shafi'I’s Book “Al-Risala”
تمهيد:
تجنبا لأي تنسيب يتعلق بحقيقة المرجعية العقدية، أو توصيف عقدي لأي علم من أعلام الأمة؛ لما أراه في ذلك من تقدير لا يليق، ومهيع لا يستقيم، فقد آثرت الحديث عن المرجعية الكلامية، المستند إليها في مدارسة قضايا النظر الأصولي عند الإمام الشافعي رحمه الله، والمقصود بالمرجعية هنا: “منهج تحرير القضايا الأصولية ذات الصلة بالدرس الكلامي ومدارستها، ومدى تأثيرها وتأثرها” فهل يصح إذن، أن نتحدث عن مرجعية كلامية للإمام الشافعي في كتابه “الرسالة”؟ وما طبيعة حضورها المنهجي فيه؟ وما هي آثاره وحدوده؟
وما دعاني إلى هذا المأخذ إلا الاستلزام التاريخي المشهود بين الأصلين: “علم أصول الفقه” و”علم أصول الدين”، ومدى التداخل المعرفي بينهما الذي دفع كثيرًا من الدارسين إلى استجلائه؛ إلا أن ابن تيمية يؤكد تجنيب الشافعي علم أصولِ الكلامَ منذ أول نشأة تدوينية، فقال:”فمعلوم أن أول من عُرف أنه جرَّد الكلام في أصول الفقه هو الشافعي”([1]) لكن السؤال العارض قبل البحث عن المرجعية الكلامية في “الرسالة” هو: هل توجد فيها معرفة كلامية تؤصل للتأثير المبكر للنظر الكلامي في الدرس الأصولي؟ وهل يوجد ما يؤشر على مرجعية كلامية عند “الشافعي”؟ وما تأثيرها البعدي في بنية الدرس الأصولي، وعمرانه العلمي؟
أولا: في الجذور الكلامية للرسالة
وإن لم تكتمل التصنيفات الكلامية في عهد “الشافعي”، ولم تظهر أطرافها على الصورة التي برزت فيما بعد، فإن معرفة الزمن الكلامي، وخصائصه حينها، يسعفنا في رصد أهم التطورات اللاحقة، والممتدة في أزمان الدرس الأصولي. لأن السياق الثقافي وما أثث مشهده العلمي من حراك كلامي ونقاش عقدي له بواعثه المختلفة على عهد “الشافعي”، مما أفضى إلى نشأة الفرق العقدية إلى ما قبل ظهور “الشافعي”؛ لأسباب سياسية منها ما عرف بمسألة التحكيم في قضية خلافة علي t كالخوارج، والمرجئة ثم الشيعة، وأخرى نظرية، نشأت بفعل النظر الكلامي كالمعتزلة، وأهل السنة والجماعة، بالإضافة إلى ذلك برز تيار الزندقة، وتمثله حركة فكرية همّها القدح في مسائل الدين والعقيدة، وقد بلغت تلك الفرق قوتها، ونضجها العلمي بتأسيس أصولها، وبناء منهجها العملي، ضمن مدارس لها أئمتها، وأسسها العلمية، اشتغلت على مناظرات علمية، ومحاورات دينية شفوية، ومكتوبة، أسهمت في تطورها. ولا يستبعد أن يكون لهذا الزخم العلمي، والجدلي بين تلك التيارات، والمذاهب الكلامية أثره في تدوين “أصول الفقه”.
وقد نتلمس بعض ذلك في “الرسالة” ولو على سبيل التأثير غير المباشر، وإن كان “الشافعي” ذاماً للكلام محرضاً عليه. وهذه أهم عناصرها نعرض لبعضها في هذا المساق:
اقرأ المزيد ..