طرح الرسول صلى الله عليه وسلم قيم العدل الاجتماعي ومبادئه وخطوطه العريضة على مستويات ثلاثة، في أولها قدم لنا مبادئ ونظريات وقواعد يمكن أن يبني المشرع الإسلامي عليها -كما حدث فعلا- عمارات فقهية شامخة في ميدان العدل الاجتماعي، مستمدا قدرته على العمل من روح هذه المبادئ والنظريات والقواعد، مهندسا اجتهاداته وفق مساراتها واتجاهاتها.
وفي ثانيها نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم بعض التجارب وأجرى عددا من التغييرات والممارسات على المستوى الجماعي، فجاء هذا (التنفيذ) الواقعي امتدادا للمبادئ والنظريات المطروحة على لسانه صلى الله عليه وسلم وتأكيدا -في الوقت نفسه- على أن الإسلام ما جاء لكي يطرح أفكارا خيالية ومُثلا مُعلقة في سماء الأحلام، وإنما لكي (يغير) شكل الواقع (ويبدل) في أحجامه المتوارثة ويحول علاقاته لصالح الإنسان. وأنه بواقعيته هذه قدير على أن يتحرك -دوما- في عهد الرسول وصحابته وتابعيه والمنتمين إلى دعوته جيلا بعد جيل. كما حدث فعلا، من أجل إحداث هذا التغيير والتبديل والتحويل.
أما على المستوى الثالث فقد نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم -باعتباره القائد الأعلى للجماعة الإسلامية وأسوتها الحسنة على مر الأجيال- نفذ (أخلاقية) العدل الاجتماعي التي تنبعث من الأعماق وتئول إلى ممارسة وسلوك وعمل تتبدى ملامحها في كل جزئية من جزئيات الحياة اليومية وكل منعطف من منعطفاتها؛ ابتداء بمسألة السكنى والملبس والطعام والشراب داخل بيته وانتهاء بطبيعة علاقاته كنبي وقائد مع أبناء أمته، فأعطى بذلك الإشارة الحاسمة لكل الذين سيجيئون بعده فتحملهم الأحداث أو الجماهير إلى مراكز السلطة. وأشعل الضوء الذي على هديه سار خلفاؤه الراشدون، حكام العالم. وهم يتضورون جوعا، وينامون على الحصى، ويأكلون الخل والزيت ويلبسون قمصانا مرقعة لم يتجاوز سعر إحداها -يوما- أربعة دراهم أو خمسة.
ولقد ظل الضوء النبوي -وسيظل- رغم انطفاء العصر الراشدي مشعلا لكي يبين لكل الواصلين إلى السلطة من المؤمنين الحقيقيين معالم الطريق. وليس انقلاب عمر بن عبد العزيز -خليفة نصف العالم- وتحوله الذاتي الأخلاقي العظيم، إثر تسلمه السلطة، سوى مثل من الأمثال.
على هذه المستويات الثلاثة المتداخلة، المترابطة كحلقة متماسكة لا تدري أولها من أخرها طرح الرسول صلى الله عليه وسلم قيم العدل الاجتماعي ومبادئه وخطوطه العريضة، وكان هذا يعني -في التحليل السلبي من جهة أخرى- أن افتقاد وتحطم أي رأس من رءوس هذا المثلث ذي الزوايا المتناظرة سيعرض التجربة لضربة قاصمة، وسيفكك أضلاع المثلث ويتيح للقوى المضادة (من انتهازيين ووصوليين وأنصاف مؤمنين وأرباب مل ومنافع ومترفين ومنافقين وطواغيت) كما حدث ويحدث بالنسبة لكثير من التجارب الاجتماعية أن تتسلل أفواجا لكي تقبع هناك.
وماذا يبقى من المفهوم الإسلامي للعدل وقد آل الأمر إلى أن يملأ هؤلاء مساحات المثلث ذي الأضلاع المفككة؟ ومن ثم كان لنا أن ندرك مدى خطورة هذا الارتباط العضوي، ليس في الإسلام فحسب بل في كل المذاهب. بين نظرية تطرح وتجربة تنفذ وأخلاقية تحمي النظرية والتجربة من التحرير والاستغلال والتزوير وتلتزم بالصرامة أسلوبا في التعامل مع الذات ومع الآخرين وهي في قمة السلطة، ليس كذلك الذي تمارسه وهي في القاعدة!.
وإذا لم تكن تجربة العدل الاجتماعي في الإسلام قد نفذت وبرزت بأطرافها جميعا، في فترات طويلة من تاريخنا، وإذا كان بعض المتسلطين قد جرفتهم الأحداث إلى مواقع السلطة دون أن يفعلوا شيئا في هذا الميدان. بل دون أن يوقفوا التيار المضاد عن تدفقه وتضخمه أكثر من هذا، راحوا هم أنفسهم والمحيطون بهم يعملون، في الاتجاه الآخر المعاكس فيزدادوا ترفا وتخمة وطغيانا بينما تزداد -في الجهة المقابلة- أزمة الجوع والفقر المسغبة بين جماهير أمتهم.
إذا ما حدث هذا وذاك فإنه ليس عيبا أو خللا في نظام الإسلام ذاته وفي برامجه الاجتماعية. إنما هي الإرادة والوعي البشريان اللازمان دائما لحماية المبادئ من التجميد والانحراف أو التسلل والاستغلال. وما أكثر المتسللين والنفعيين والوصوليين والمنافقين الذين مارسوا السلطة في مستوياتها العليا وأثروا وامتلكوا وأترفوا عبر التجارب الاجتماعية المختلفة. وما أطول المدى الذي اجتازته مجتمعات الغرب الرأسمالية التي بلغ فيها التناقض حده الأقصى. فتحتم على الديالكتيك أن يمارس دوره ويدفع البروليتاريا إلى الثورة واستلام السلطة، دون أن يحدث ما يوحي بقرب اليوم الموعود!! ومرة أخرى: الوعي والإرادة البشرية المدعمة بالإيمان هما اللتان تصنعان الأحداث وتصوغان حركة التاريخ وتحميان المبادئ والتجارب من التجميد والتزوير والتزييف والاستغلال ولا شيء وراء ذلك مما يقال أنه حتميات التاريخ!.
ولنا بعد ذلك أن نعرض بإيجاز تام لكل من هذه المستويات الثلاثة التي طرحها ونفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتطعين منها نماذج فحسب، إذ يصعب الحصر في بحث موجز كهذا، مركزين على المبادئ متجاوزين التفاصيل والجزئيات.
أولا- المبادئ والقواعد والنظريات:
يطرح الرسول صلى الله عليه وسلم مبادئ متفاوتة الدرجات إزاء (المال) و (حق الجماعة) ويسلط الضوء على المسألة الاجتماعية من زواياها وأطرافها كافة لكي لا تتبقى منها أية مساحة غارقة في العتمة وهو في هذا كله إنما يساير القرآن جنبا إلى جنب، يؤكد آياته البينات ويعززها ويوضحها. إنه صلى الله عليه وسلم يتحدث عن العمل والأجر والأرض والزراعة، وعن طبيعة العلاقات المتينة العميقة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم الواحد وتجعلهم كالبنيان لا يسمحون لأي منهم أن يسلم أو يظلم.
وعن المسئولية الجماعية التي تحتم على كل فرد أن يعرف مواطن الحق والواجب وإلا عصفت بهم العواصف. ويقف طويلا عند الثروة ويبين في أكثر من موضع أنها ليست هدفا ولا يجب أن تكون كذلك، وإلا قادت عبيدها ومستخدميها إلى الدمار، وكيف أن الموقف الصائب في التعامل معها يضعها في موضعها المناسب من فاعليات الإنسان على الأرض. كوسيلة تحمله والجماعة معه إلى أبعد الآفاق.. وكيف أن حق الجماعة في المال يتدرج ابتداء من (الزكاة) حده الأدنى، صعدا صوب القمة التي تغدو فيها مشتركة في هذا المال الزائد عن حاجة صاحبه، وما وراء ذلك هو ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله “ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا، أموت وعندي منه دينار، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا..” وطوح بيديه يمينا وشمالا وخلفا. وسنرى في المقطع الأخير من هذا البحث كيف مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عنده دينار واحد!!.
يتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن (العمل) باعتباره الأساس الذي يوليه الإسلام الأهمية الكبرى، والذي تتمخض عنه ابتداء القيمة التي يتضمنها المال والمنفعة المترتبة عليه، ويجب أن نلاحظ هنا كيف أن القرآن الكريم يورد العمل بتصريفاته المختلفة وأبعاده الجزئية والشاملة، المادية والأخلاقية، الدنيوية والأخروية فيما يزيد عن ثلاثمائة وخمسين موضعا. ويسعى صلى الله عليه وسلم إلى أن يدرأ بحض أتباعه على العمل ظواهر التبطل والكسل والتواكل والاستجداء التي تتناقض أساسا مع متطلبات العدل الاجتماعي وصورة المجتمع الذي يسوده التوازن الفعال.
قال: “والذي نفسي بيده لأنْ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله، أعطاه أو منعه” وقال: “ما أكل أحد طعاما قط خير من عمل يده”. وقال: “على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة”. المهم هو أن يعمل الإنسان المسلم، وأن يكون إيجابيا، فإذا عجز عن تفجير طاقاته في بعض مساحات النشاط البشري، فإن هناك مساحات أخرى غيرها.
ومن أجل تأكيد هذه الفكرة في العطاء الاجتماعي قال، فيما نقله لنا حكيم بن حزم “سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذ بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى” وقال: “ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة” وقال: “العمل عبادة” و “طلب كسب الحلال فريضة” و “طلب الحلال جهاد” و “من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له يوم القيامة” وقال: “إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده”. وقبل يدا ورمت من كثرة العمل وقال: “هذه يد يحبها الله ورسوله” وقال: “إن الله يحب العبد المؤمن المحترف”.
ومرة أخرى يعود إلى إيجابية العمل في الحياة الإسلامية ويفضله على “سكون” العبادة فيقول: “لئن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين” ويبلغ من تقييمه للعمل وتقديره للعطاء وإدراكه العميق للدور الذي يلعبه على المستوى الاجتماعي خاصة والحضاري عامة أن قال: “إذا قامت الساعة وفي يد أحكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر”.
ويؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن العمل على “حق” الأجير والعامل، هذا الحق الصارم الذي يجب أن يعطاه لحظة توقفه عن العمل جزاء وفاقا على ما قدمت يداه. فيأمر أصحابه “أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه”. ويصب غضبه الشديد ويعرب عن خصومته القاطعة لكل من يستأجر أجيرا فيأكل حقه: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه فلم يعطه أجره”.
ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة أهم من مسائل العمل، تلك هي تكليف العامل أو الأجير ببذل جهد أكبر من ذلك الذي تم الاتفاق عليه، أو قضاء ساعات أطول في العمل أو إنجاز قطع أكثر من المتفق عليها. وضرورة ضمان هذه الزيادة في الجهد الذي تنبثق عنه قيمة أكبر لصاحب العمل. كما أنه لم يترك مسألة العلاقات الإنسانية التي يجب أن تسود بين الطرفين: العامل وصاحب العمل، في أي نشاط اجتماعي، ويتقدم بها صلى الله عليه وسلم صعدا حتى يضعها في مرحلة الأخوة الكاملة حيث يأمر أصحابه حينذاك عمالا وأصحاب عمل، أن يأكلوا سويا ويلبسوا سويا.
يقول صلى الله عليه وسلم “.. إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكفلوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم” وليس ثمة نظام تعرض فيه مسألة “العمل” وفق هذا المثلث الصارم: منح حق العامل كاملا في وقته المناسب، وزيادة هذا الحق بما يتناسب واتساع الجهد الذي يبذله العامل، ورفع العلاقة بين العامل وصاحب العمل إلى مستوى الأخوة والتعامل المشترك في الطعام واللباس.. ليس ثمة نظام كهذا يتاح فيه -لو نفذت تعاليمه في عصر صناعي على سبيل المثال- أن تنمو وتترعرع الأخلاقية الرأسمالية الجائرة والطبقية المقيتة.
ثم إن هذه التعاليم وغيرها كثير، تعد في الوقت نفسه سببا في عدم وصول المجتمع الإسلامي إلى مرحلة الرأسمالية بمفهومها الكامل. رغم ما قدمته له حضارته من معطيات في ميادين التكنولوجيا والعلوم التطبيقية، لأن أخلاقية المسلمين التي صنعها دينهم وصاغها رسوله صلى الله عليه وسلم تقف حائلا دون هذا المصير حتى لو لم تجيء “الحروب الصليبية” و الـ “غزو المغولي” لكي تدمر حيوية الحضارة الإسلامية وتنقل البندول إلى عالم الغرب.
وليس أدل على أهمية العمل في نظر الإسلام، وأنه وراء القيمة الحقيقية للإنتاج من موقف القرآن والسنة الحاسم المعروف إزاء العمليات الربوية بكل أشكالها التي لا محل لعرضها هنا. ومن الأحاديث الشريفة التي وردت عن مسألة الأرض والزراعة وإنها لمن “يزرع” لا لمن “يملك”، وأن الذي يعمل في الأرض التي لا يملكها أحد أحق بها، ونحن نجتزئ منها بهذه الأحاديث: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها”. وعن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع. وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يؤخذ للأرض أجرا أو حظ. ويقول صلى الله عليه وسلم “عادي الأرض لله والرسول ثم لكم، فمن أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين”. ويقول “من كانت له أرض فيلزرعها أو ليمنحها”. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى بلالا بن الحارث المزني جميع أرض العقيق، فلما كان زمن عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره عن الناس، إنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي.
ويبني المشرع الإسلامي الشهير ابن حزم القرطبي “ت 456هـ” على هذه الأحاديث في مسألة الأرض والمزارعة رأيه المعروف في المحلى “ولا تجوز إجارة الأراضي أصلا لا للحرث فيها ولا للغرس فيها، ولا للبناء فيها لشيء من الأشياء أصلا….. لا لمدة مسماة قصيرة ولا طويلة، ولا بغير مدة مسماة، بدنانير ودراهم، ولا بشيء أصلا…. فمتى وقع فسخ أبدا. ولا يجوز في الأرض إلا المزارعة بجزء مسمى مما يخرج منها، أو المغارسة كذلك فقط. فإن كان فيها بناء قل أو كثر جاز استئجار ذلك البناء، وتكون الأرض تبعا لذلك البناء غير داخلة في الإجارة أصلا”!.
وكما كانت قواعد العمل الآنفة رهينة بعدم ظهور مجتمع رأسمالي على النمط الغربي كانت هذه القواعد الخاصة بالنشاط الزراعي رهينة بعدم ظهور المجتمع الإقطاعي على النمط الغربي نفسه، لولا أن انحرف الناس في ميدان التطبيق، بدرجة أو أخرى، عن قيم الإسلام وتعاليمه، وهذه المسألة شيء والقول بأن الإسلام نفسه جاء لكي يعزز النمو الإقطاعي أو الرأسمالي في المجتمعات البرجوازية شيء آخر يتهافت بمجرد إلقاء نظرة سريعة على نظرية الإسلام نفسها.
ويتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن “الثروة”، ويبين في أكثر من موضع كيف أنها ليست هدفا ولا يجب أن تكون كذلك، وإلا قادت عبيدها ومستخدميها إلى الدمار، وكيف أن الموقف الصائب في التعامل معها يضعها في موضعها المناسب من فاعليات الإنسان على الأرض، كوسيلة تحمله، والجماعة معه إلى أبعد الآفاق، ويحمل على الترف والمترفين الذين لا يعرفون حقوق غيرهم في الجماعة التي ينتمون إليها والذين يأكلون كما تأكل الأنعام. يحدثنا عنهم بأسلوب ينضح بالسخرية والتنديد ويذكرنا بمواقف القرآن منهم وصوره عنهم “مما أرجو أن يكون موضوع بحث آخر”. عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: “إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها… وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا أكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل- أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة.
وفي مقابل هذه الصورة البشعة المنفرة يطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الصورة الوضيئة المشرقة التي يحدثنا عنها أبو ذر رضي الله عنه، هذا الصحابي الجليل “كنت أمشي مع النبي في حرة المدينة، فاستقبلنا أحد فقال: يا أبا ذر!! قلت: لبيك يا رسول الله!! قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا، أموت وعندي دينار إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، ثم مشى فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا. وقليل ما هم”.
ولا يعني هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الفقر أو يدعو إليه، أبدا… لأن هذا الموقف يتناقض أساسا مع نظرية الإسلام عن دور الإنسان الإيجابي البناء في العالم، كما يتناقض مع فلسفة العدل الاجتماعي الإسلامي القائمة على ضرورة إشباع حاجات الإنسان الأساسية وإسعاده وتمكينه من دوره. بل إنه يتناقض بالكلية مع مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه إزاء الفقر كظاهرة اجتماعية سلبية شاذة ومرض فتاك… من ثم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يساويه بالكفر كظاهرة تتميز -هي الأخرى- بالشذوذ والمرضية على كل المستويات، كان يستعيذ منها على السواء… كان يقول “كاد الفقر أن يكون كفرا” وأنى للجائع أن يرتفع بأشواقه ووجدانه إلى السماء، ويناجي الله على مكث ويتأمل في ملكوت السماوات والأرض وأمعاؤه تتقطع ألما ومسغبة وجوعا؟ وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر” فقال رجل: أيعدلان؟ أجاب الرسول: نعم.
وعن طبيعة العلاقات الاجتماعية الإيجابية المتينة العميقة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم الواحد، وتسوسهم بمنطق التكامل، وتجعلهم كالبنيان يمنحنا الرسول صلى الله عليه وسلم مزيدا من القيم والتعاليم… عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: “تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف” وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” “لا يؤمن” بهذا الجزم…. والمحبة ليست عواطف تمنح فحسب، بل إنها عطاء وتضحية ونبل وإيثار وإلا فلن تستكمل أبعادها أبدا. والحديث التالي يسلط أضواء أكثر على المسألة: عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة”.
ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر المسئولية الاجتماعية المشتركة الملقاة على عاتق المسلمين جميعا في المسير بالجماعة إلى بر العد والخير والأمان قال: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا” من أجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر “المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا” ومن ثم فإن أي خلل يصيب البناء الاجتماعي يجيء بمثابة علامة خطر أكيدة في مسيرة الجماعة الإسلامية كلها فإن تداركوا الخلل نجوا وإلا فإن البناء سيتصدع والمركب سيستقر بهم في الأعماق.
وتقودنا قضية (الترابط الاجتماعي) هذه إلى مسألة من أهم مسائل العدل الاجتماعي في الإسلام تلك هي التكافل الاجتماعي الذي تأمر به الدولة، أو تقوم به الجماعة تطوعا واختيارا. ومن وراء الدولة والجماعة أحاديث وقيم طرحها الرسول على طول حياته المديدة بين حكامه والمدينة متدرجا وأصحابه بين (الزكاة) كحد أدنى من العطاء مفروض على المال وبين الاشتراك الكامل فيه. مرورا (بالتصدق) الذي لا حد له والذي يتراوح هو الآخر بين الكلمة والدرهم والدرهمين. وبين التنازل الكامل عن المزارع والأراضي والممتلكات والأموال.
عن ابن عمر أن رسول الله قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم -إلا بحق الإسلام- وحسابهم على الله). وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال له (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وإني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ سوى الزكاة). ونذكر بهذا الصدد ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى (إذا أخلت أيدي الجند من الأموال ولم يكن من مال المصالح -بيت المال- ما يفي بخراجات العسكر، وخيف من ذلك دخول العدو بلاد المسلمين، أو ثوران الفتنة من قبل أهل الشر، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند…) وما قاله الشاطبي معلقا على ذلك (وقد نفذ هذا في زمن الدولة الإسلامية، ومن ذلك في عهد الملك قطز لرد التتار بناء على فتوى سلطن العلماء عز بن عبد السلام رحمه الله (واتفق العلماء أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة -بعد أداء الزكاة- فإنه يجب صرف المال إليها”. وما قاله الإمام مالك (يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع أيضا).
ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم متحدثا عن المسألة من أكثر من زاوية قال: (ليس المؤمن الذي يشبع جاره وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم). وقال: (أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا برئت منهم ذمة الله ورسوله). وقال: (إذا بات مؤمن جائعا فلا مال لأحد).
وتعليقا على حديث آخر بهذا الصدد وهو (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) يقول ابن حزم في كتابه المحلى، باب الزكاة “من تركه يجوع ويعرى فقد أسلمه، ويضيف إن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره” فإن قتل الجائع فعلى قاتله القصاص، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله”. ويستطرد ابن حزم قائلا: “… وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة”. وهو يروي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس)!!.
وفي أكثر من مرة يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعهد الدولة للفقراء والضعفاء والعاطلين والعاجزين (من ترك كلا -أي ذرية ضعيفة- فليأتني فأنا مولاه) (من ترك ضياعا فعلي ضياعه) (وما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة). وفي حديثه الشهير (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته… يعلن صلى الله عليه وسلم مسئولية الحاكم أو الدولة الإسلامية عن كافة رعاياها، مسئولية شاملة، ولم يستطيع أحد أن يقول أن للحاكم أو الدولة ألا تعتبر نفسها مسئولة عن أولئك الذين يموتون جوعا ولا يقدرون على ممارسة أدوارهم الطبيعية في الحياة لأنهم قد أخرجوا بالفقر والجوع والحرمان عن مواقعهم الصحيحة لأن المسئولية واحدة لا تتجزأ. وهي ترد في هذا الحديث (مطلق) مسئولية لا مسئولية جزئية عن جانب ما من جوانب العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ويتقدم صلى الله عليه وسلم خطوات أخرى واسعة مدهشة في مجال العدل و التكافل الاجتماعيين وصل بها إلى الآفاق التي ما كانت (ظروف الإنتاج) وفق التفسير المادي للتاريخ تسمح بمجرد التفوه بها. قال: (من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، وليست له زوجة فليتزوج أو ليس له دابة فليتخذ دابة). وقال: (طعام الاثنين كافي لثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة). وثمن ما كان يفعله (الأشعريون) -من عرب الجنوب- بكلمات توحي أنه لم يكن يباركهم فحسب. بل (يأمر) بتنفيذ (أسلوبهم) أيام الأزمات والمجاعات والمهمات (المشتركة) (إن الأشعريين -يقول صلى الله عليه وسلم- إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم) (اقتسموه في إناء واحد بالسوية) (فهم مني وأنا منهم) تلك كلمات وإشارات ما كان لها أن تفلت من بين أيدينا وتغيب عن أذهاننا حتى لو مضى عليها آلاف من السنين!! ثم ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يعلن في إحدى الأسفار مخاطبا أتباعه: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له. ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له…) ويضيف الرواة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حينذاك من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل!!.
ثانيا: التجارب والممارسات الجماعية:
تبرز تجربة (المؤاخاة) المعروفة في مقدمة الممارسات التي نفذها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. أول عهد الدولة الإسلامية بالظهور والتشكل. وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يحل بهذه التجربة (الأزمة المعاشية) التي اجتاحت المهاجرين بعد مغادرتهم مكة، مخلفين وراءهم أموالهم وممتلكاتهم، وينظم علاقاتهم الاجتماعية بإخوانهم الأنصار. ريثما يستعيد المهاجرون مقدرتهم المالية ويتمكنوا من بلوغ مستوى (الكفاية الاجتماعية). فاعتمد أسلوب المؤاخاة والمشاركة بين الطرفين فقال: “تآخوا في الله أخوين أخوين”. وقد بلغ من تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على تعميق (المشاركة) أن كان ميراث الأنصاري يؤول بعد وفاته إلى أخيه المهاجر بدلا من ذوي رحمه من الأخوة أو الأبناء أو النساء…. واستمر ذلك حتى موقعة بدر التي حظي فيها المسلمون بمقادير لا بأس بها من الغنائم والأموال، مكنتهم من الحصول على تعويض نسبي عما خسروه أثناء الهجرة. وحينذاك أنزل الله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، فعاد التوارث سيرته الأولى، وتأكدت -بالمقابل- قاعدة أساسية أخرى من قواعد العدل الاجتماعي في الإسلام والتي تجعل الجهد البشري يتوزع وفق دائرة، أكثر منطقية، تبدأ بالأخوة والأبناء، وتتسع لكي تضم الوحدة الاجتماعية كلها مرورا بذوي القربى والجار، تقديرا منه للتكوين النفسي العميق للإنسان، وفطرته التي تميل في (العطاء) -في الأعم الأغلب- للأقرب فالأبعد.
وقد تلقى الأنصار أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بفرح عميق، وفتحوا قلوبهم ودورهم لرفاقهم في العقيدة، حتى أن الواقدي يذكر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحول من بني عمرو بن عوف -في قباء- إلى المدينة، تحول أصحابه المهاجرين فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان. فما نزل أحد منهم على أحد إلا بقرعة سهم، كما أعلن الأنصار أنهم يهبون الرسول صلى الله عليه وسلم كل فضل في خطط بلدهم وقالوا له: إن شئت فخذ من منازلنا، فقال لهم خيرا، وخط لأصحابه في كل أرض ليست لأحد أو موهوبة من الأنصار.
ولما غنم المسلمون أموال بني النضير (سنة 4هـ) دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار وذكرهم بما صنعوا للمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم، وأثرتهم على نفسهم، ثم قال: “إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلهم وأموالهم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم” فأجابه زعماء الأوس والخزرج: يا رسول الله بل تقسمه للمهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا يا رسول الله.
وقابل المهاجرون إيثار إخوانهم وسماحتهم بتقدير كامل وسماحة مماثلة، رافضين -منذ البدء- أن يكونوا اتكاليين على إخوانهم، وعالة على أولئك الذين آووهم وقاسموهم، وليست قصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه الأنصاري سعد بن الربيع سوى مثل واحد من عديد من الأمثلة على هذا التقابل الأخوي العادل في الأخذ والعطاء، روى البخاري أن المهاجرين لما قدموا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لرفيقه: إني أكثر الأنصار مالا فاقسم لك نصف مالي، وأنظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. فغدا عبد لرحمن فأتى بأقط وسمن، ثم تابع الغدو، وما لبث أن جاء وعليه أثر الزينة) فسأله رسول الله: تزوجت؟ قال: نعم، ومن؟ قال: امرأة من الأنصار، قال: كم سقت إليها؟ قال: زنة نواة من ذهب!!.
لقد كان الإخاء تجربة رائدة من تجارب العدل الاجتماعي، ضرب الرسول فيها مثلا على مرونة الإسلام وانفتاحه -في الظروف المناسبة- على أشد (أشكال) العلاقات الاجتماعية مساواة وعدلا، ورد فيها، وفق المنطق الإلهي الذي لا يحابي ولا يداجي على كل القائلين بأن الإسلام جاء لكي يمثل (إصلاحا) جزئيا للمسألة الاجتماعية، لأن (العصر) الذي تصوغه (وسائل الإنتاج) لم يتح له أن يتحرك لصياغة عالم جديد من العلاقات لم تسمح المرحلة الإنتاجية -بعد- بصياغته ولم تأمر بها. وسنرى بعد قليل، عبر سني الدعوة الحافلة، المزيد من التجارب الاجتماعية التي ترفض منطوق هذا التحليل الخارجي الصارم، تلك التجارب التي لا تقل في دلالتها وأهميتها عن تجربة (المؤاخاة).
لقد نجحت التجربة لأن الأرضية التي أقيمت عليها، والقيادة التي خططتها ونفذتها، استكملتا كل شروط النجاح في مجتمع شاب يحكمه مبدأ العطاء قبل الأخذ وتشده أواصر العقيدة وحدها، ويوجهه الإيمان العميق في كل حركاته وأعماله وفاعلياته. ويوقده الرسول صلى الله عليه وسلم (الأسوة) الذي ضرب بتجرده وإيثاره، وانسلاخه عن الأخذ، وعطائه الدائم، مثلا عاليا ومؤثرا يحرك حتى الحجارة الصم لكي تنبجس فيتدفق منها الماء. وأنى لتجربة كهذه أن تفشل وتتعثر والرسول صلى الله عليه وسلم يخوض مع أصحابه من الكبار والقادة تجربة الفقر والجوع في سني الهجرة الأولى، لا يعاني كما يعانون، بل أكثر مما يعانون، دون أن يفكر يوما بأن يمتطي منصبه (الأعلى) ليسلك طريقا آخر غير الذي يسلكه أتباعه، فيثرى ويفقرون، ويأخذ ويعطون، ويشبع ويجوعون….. وسنرى في المقطع الأخير من هذا البحث، الأبعاد العميقة الشاملة للالتزامات الأخلاقية التي أخذ الرسول بها نفسه في هذا الميدان الخطير في حياة البشرية.
إن تجربة المؤاخاة نجحت، وكان لا بد لها أن تنجح ما دامت قد استكملت الشروط وتهيأت لها الأسباب في القيادة والقاعدة على السواء، وبغض النظر عن عدد الذين تآخوا عشرات كانوا أم مئات أم ألوفا.
وبمرور الوقت أخذت الممارسات الجماعية على مستوى القيادة والقاعدة تزداد وتتنوع، وتقدم لنا الدلائل والإشارات على رغبة ا لإسلام (العملية) العميقة في التسوية الاجتماعية، متمثلة بفاعلية الرسول وأتباعه، وبما كان يرافقها ويوازيها ويعقب عليها من آيات وأوامر وبرامج ويتنزل بها الوحي من السماء وتغطي مساحات كبيرة من كتاب الله.
روى ابن سعد أن عددا من أبناء القبائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعقاب فتح خيبر (مطلع عام 7هـ) فكلم الرسول أصحابه فيهم أن يشركهم في الغنيمة، ففعلوا، وروى الواقدي أن المسلمين لما فتحوا حصون خيبر وجدوا هنالك متاعا وسلاحا وأثاثا كثيرا “فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس، يأخذ منه الناس حاجاتهم”. كما يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نادى خلال حصار الطائف سنة (8هـ) أن أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليه بضعة عشر رجلا، فأعتقهم وسلم كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله. ويروى أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقرض في أعقاب فتح مكة مبلغ مائة وثلاثين ألف درهم من عدد من سكان مكة وقسمها بين أصحابه من أهل الضعف، فيصيب الرجل خمسين درهما أو أقل أو أكثر. ويروي البلاذري أن يهود فدك صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصف الأرض، فكان يصرف ما يأتيه منها على أبناء السبيل. وفي رواية أخرى له عن أبيض بن جمال أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح الذي بمأرب فقال رجل: إنه كالماء العد (أي الجاري) فأبى الرسول أن يقطعه . وعن عبد الله بن هشام أنه كان يخرج إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له أشركنا!! فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة، فيشركهم، فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل.
وفي أنساب الأشراف أن رجلا من بلقين قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، فقلت: يا رسول الله لمن المغنم؟ قال: لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم. قلت: فهل أحد أحق بالمغنم من أحد؟ قال: حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه فليس بأحق به من أحد. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما هي -أي فدك- طعمة أطعمنيها الله حياتي، فإذا مت فهي بين المسلمين”. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “كان للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا، فكانت بنو النضير حبسا لنوائبه وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء، فجزءان للمهاجرين، وجزء كان ينفق منه على أهله، فإن فضل رد على فقراء المهاجرين”. وليس هذا التأكيد في التوزيع على (المهاجرين) سوى محاولة من الرسول صلى الله عليه وسلم لإعادة (التوازن الاجتماعي) بينهم وبين الأنصار هذه المحاولة التي بدأت بمؤاخاتهم مع رفاقهم الأنصار، ثم تطورت بمنحهم مزيدا من فرص الحصول على المال لكي يبلغوا مرحلة الكفاية ويتمكنوا من مواصلة نشاطهم الاجتماعي والعقائدي على السواء.
وليست مسألة توزيع أموال بني النضير الكثيرة على فقراء المهاجرين، وحجبها إلا عن قلة من الأنصار، إلا استمرارا على ذات الطريق. وقد قدم القرآن الكريم، من خلال هذه التجربة بالذات، موقفه الحاسم إزاء التوازن الاجتماعي عندما قال: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) لكن هذا لم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم -تمشيا مع المبدأ نفسه- من منح الأنصار، ما دعت أحوالهم المعاشية إلى ذلك. وفي رواية لأبي سعيد الخدري ما يوضح ذلك حيث يقول: “إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم” (وأنظر: دراسة في السيرة، فصل دولة الإسلام في المدينة للمؤلف).
ومن المتفق عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم حمى أرضا بالمدينة يقال لها “النقع” لتعرى فيها خيل المسلمين، وكان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار فكان يدخل عليه هو وأهله فيؤذيه، فشكا ذلك الأنصاري إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلقاه من سمرة، فطلب الرسول منه أن يبيعه أو يقلعه، فأبى فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت مضار، وقال للأنصاري: اذهب وأقلع نخله. وكان الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي كل واحد من أصحاب النخيل بالعذق عند جذاذه. ثم يعلقه على باب المسجد، يأكل منه ما يشاء، وحدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان أبو عبيدة بن الجراح يجاهد مع ثلاثمائة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ففني زادهم، فأمرهم أن يجمعوا أزوادهم في مزودين وجعل يقوتهم إياها على السواء. وجاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة من الأنصار فسأله: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق. فقال النبي: على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل. ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك بعثا تصيب منه. وفي خطبة الوداع أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بإلغاء الديون الربوية وقال: “إن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله”. ولقد جاءت الخطوة بلا ريب لمصلحة الفقراء المدينين.
وعن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم. وعن أبي هريرة أن الأنصار قالت للنبي اقسم بيننا وبين أخوتنا “المهاجرين” ما نملكه من النخيل. قال: لا . فقالوا لإخوانهم المهاجرين: تكفوننا المئونة ونشرككم في التمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لبعض الأنصار أراضي مواتا في البحرين فأبوا إلا أن يكتب لإخوانهم من المهاجرين بمثلها. فلم يفعل النبي ذلك. إذ لم تكن هناك أراض موات غير التي أراد إقطاعها للأنصار.
ولن يستطيع المتمعن أن يمر على الوقائع الآنفة دون أن تستوقفه بعض دلالاتها: أبناء القبائل وهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن (يشركهم) في غنيمة أصحابه، وطعام خير الذي ترك للمسلمين كافة يأخذ منه (كل حسب حاجته) ونداء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عبيد الطائف أن يغادروا أسيادهم لكي يحرروا، وتوكيل كل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله، واستقراض الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغا من ضخما من المكيين لكي يوزعه -دون مقابل- على أتباعه الفقراء، و(اشتراك) ابن عمرو بن الزبير في طعام الرجل الذي دعي له الرسول صلى الله عليه وسلم (بالبركة). ووقف “المنفعة” التي تغلها أراضي فدك وخيبر على أبناء السبيل والفقراء، وتركه ملح مأرب “مشاعا” بين الناس، وتوزيعه فيء بني النضير على فقرا المهاجرين وحجبه عن الأنصار إلا من كان من ذوي الحاجة منهم، ومنحه المال لأولئك الأنصار الذين كانوا كلما سألوه لم يرد لهم طلبا بعبارة واضحة لا تحتمل لبسا ولا غموضا (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم).
ثم إننا نجد في تعقيبات الرسول صلى الله عليه وسلم على مواقف وممارسات أصحابه الجماعية، ومباركته لمبدأ “العطاء” وفق المدرج الإسلامي القائم على الأقرب أو كلا تترك أية ثغرة في بنيان المجتمع، وتأكيده العميق على ضرورة أحداث التوازن بين كتل الجماعة الإسلامية وتحقيق المساواة العادلة في صميم علاقاتها، سيما في أوقات الأزمات الاجتماعية والكوارث العامة.
ونحن هنا نجتزئ باثنين منها فحسب، لأن مواقف الأصحاب كثيرة متنوعة لا يحتملها مقال كهذا، فضلا عن أن معظمها معروف يمكن الرجوع إليه بمجرد استعراض أدوارهم الاجتماعية والعقائدية في كتب التراجم. عن أنس بن مالك قال: “كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، فلما أنزلت هذه الآية (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون…) قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول (لن تنالوا البر…..) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله: بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه”.
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم) (اقتسموه في إناء واحد بالسوية) (فهم مني وأنا منهم)!! مرة أخرى تلك تعقيبات على الموقف ما كان لها أن تفلت من بين أيدينا وتغيب عن أذهاننا حتى لو مضى عليها الآلاف من السنين!!.
ثالثا: الالتزامات والممارسات الأخلاقية:
تأخذ تجربة العدل الاجتماعي في الإسلام، من بين سائر المذاهب بعدا أخلاقيا واقعيا يلعب دورا حاسما في (تنفيذ) التجربة و “حمايتها” من الاستغلال والتزييف والتزوير، ويستمد هذا البعد قوته وقدرته على أن يشق طريقه في قلب الوقائع. من المسئولية الدائمة التي يلقيها الإسلام على عاتق المسلمين ومن يقظة ضميره الديني ومن إحساسه الأبدي برقابة الله سبحانه على كل خطوة يخطوها وعمل يمارسه كبيرا كان أم صغيرا ظاهرا كان أم باطنا… والمسلم إما أن يكون مسئولا، يقظ الضمير، شاعرا بالوجود الإلهي الدائم في حياته أو أن لا يكون مسلما على الإطلاق… من ثم فإننا عندما نتكلم عن البعد الأخلاقي فإنما نعني به أولئك المسلمين الذين يرون هذه المسائل الأساسية في حياتهم من بداهات إيمانهم. ويعتقدون أن الخروج عنها بإرادة وتعمد مسبقين يمثل خروجا على متطلبات الدين ومروقا عن معالم الإيمان.
ومهما طرحت النظريات الاجتماعية الوضعية من حماية أخلاقية لبرامجها، ورسمت قيما مثالية تحميها من التبديد والاستغلال والتمييع، فإن هذه “الحمايات” وتلك “القيم” لا تعدو أن تكون نظريات معلقة في عالم المثل ما دامت تمتلك القوة “الداخلية” المركوزة في أعماق الإنسان لكي تحولها إلى ممارسات وسلوك تحرسها المسئولية وتعمقها يقظة الضمير وتحركها رقابة الله الدائمة صوب الأحسن والأكمل… من ثم كانت هذه البرامج عرضة دوما للخيانة والمروق وكان المنتمون إليها نهبا للازدواجية الخطيرة بين النظرية والتطبيق، بين الشعارات والتنفيذ، وبين الواقع والمثال. وما أكثر ما جرت تلك الخيانة وهذه الازدواجية والآلام، ليس فقط إزاء جماهير الناس التي مورست معها، ولكن -وهذا هو الأخطر- إزاء المذاهب أو النظرية وإزاء ثقة “الأتباع” بقدرة “القادة” على التنفيذ المخلص الأمين.
إن القضية في أساسها قضية “أخلاقية” فالمبادئ التي تأتي من فوق، من خارج كيان الإنسان ووجوده وفطرته، دون أن تجد سندا من العقيدة والأخلاق والضمير في أعماق الإنسان نفسه، لا تفعل فعلها في “تحويل” ذلك الإنسان إلى تعبير حي عن مبدئه… إلى وجود عقائدي متحرك متوحد بين الفكرة والتجربة، بين الذات والموضوع، بين الرسالة والهدف.
إن الإسلام وحده، ذلك الدين القيم، هو الذي يغرس مبادئه في أرض حية من الضمير والأخلاق.. كل إنسان مسلم بحق هو عقيدته الحية تمشي على الأرض وتتفاعل مع الحياة وتتحرك في الواقع المعاش…. ليس ثمة مجال للتناقض بين المبادئ والأشخاص، بين القول والعمل، بين التوجيه والتنفيذ، وبين الفكرة المقولة والتجربة المعاشة. إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا فيما يرويه أبو هريرة، كيف أنه سيأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام.. إنه يريد أن يبين لنا كيف أن الإسلام يسمى إلى أن يركز أخلاقية العدل الاجتماعي في الأعماق، إذ بدون هذه لا تستطيع أشد القوانين صرامة وأكثر السلطات ضبطا أن تمنع الكسب الحرام والتعامل الحرام والاستغلال الحرام غشا وسرقة ورشوة وابتزازا واستنزافا في الأسواق السود وركوبا للمناصب من أجل امتصاص دماء الناس وعرقهم ودموعهم.
والحفاظ على أخلاقية (التزام الحلال) في علاقتنا الاجتماعية مسألة غاية في الصعوبة لأن وقودها يجب أن يكون محترق دائما: شعورا بالمسئولية ويقظة في الضمير، يفجرها الإحساس الدائم برقابة الله التي لا تند لحظة.. من ثم يغدو هذا الجهد ذو البعد النفسي (جهادا) قاسيا يمنع الإنسان المسلم من أن ينحرف بدرجة أو أخرى صوب (الحرام) ذلك الموقف الذي هو ضد بداهات العدل الاجتماعي أساسا، ومن ثم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (طلب الحلال جهاد) وهو يرى ما يستلزمه من إرادة لا يثنيها إغراء عن المضي في الطريق إلى نهايته.
إن ثمة صورا رائعة، مجيدة، يعرضها تاريخنا، عن أولئك المسلمين الرواد الذين لم يعرفوا اليمين ولا اليسار، ولا الديالكتيك ولا الحتميات التاريخية، ولكنهم عرفوا كيف تكون العدالة الاجتماعية بأعمق مفاهيمها وأسمى أخلاقياتها والذين بايعوا رسولهم العظيم على تحمل مسئوليتهم حتى النهاية.
كثيرون من الصحابة الكبار كانوا في جاهليتهم يملكون القصور والأموال والضياع، وعندما أعلنوا إسلامهم تنازلوا بكل تجرد عن قصورهم وأموالهم وضياعهم ليعيشوا فقراء محرومين من أجل قضيتهم الكبرى.. كثيرون منهم بلغوا أسمى المناصب ولكنهم لم يخونوا الأمانة ولم ينسوا يوما الأمة المسلمة ولم يغفلوا لحظة عن تجاربها الزاخرة بالسراء والضراء.
أبو بكر رضي الله عنه وهو ينفق في سني الدعوة الأولى في مكة ثمرة كدحه وكده عبر عمر حافل نشيط طويل…. أربعين ألف درهم… وعندما يسأله رسول الله (وماذا أبقيت لعيالك؟) يجيب الصديق (أبقيت لهم الله ورسوله). وعندما توليه الأمة منصب الخلافة يفرض له صحابتها الكرام راتبا سنويا محددا قدره مائتان وخمسون دينارا. ولما لم يجدها تكفي لكي يعيش وعياله الكثيرون عيشة متوسطة يطلب إليهم أن يزيدوها وإلا عاد إلى ممارسة التجارة التي أتقنها.. فلا يزيدوه مبلغ (الخمسين دينارا) إلا بعد نقاش طويل، وإقرار من جماهير المصلين في مسجد المدينة. ويبقى دار الخليفة، فاتح العراق والشام، بسيطا متواضعا في ناحية السنح بأطراف المدينة، يغدو ويروح إليه كل يوم في أعقاب عمل متواصل حتى صلاة العشاء، على بغلته التي كانت له قبل أن يتولى الخلافة… وكم اشتهت زوجته صنفا من الطعام فلم تقدر على (إشباع) رغبتها، إذ لم يكن لديها ما يعينها على ذلك.
وعمر بن الخطاب لا يبيح لنفسه -بعد تسلمه الخلافة- من الطعام والكساء أكثر مما لأي فرد من عامة المسلمين. لأنه لم يكن يرى أن له بسبب الخلافة حقا يزيد على ما للمسلمين من حقوق في المال. فلما جاء عام الجوع وأصاب المنطقة قحط شديد. أقسم ألا يذوق السمن ويأكل طيبا حتى يفتح الله على المسلمين.. وبقي عامه على هذا الحرمان والمسلمون يرون حاله فيشفقون عليه من الجهد الذي يبذله، حتى بسر وجهه من أكل الزيت مع قلة الطعام الذي يتناوله ورداءته. حتى لقد ذكر أحد الصحابة بالحرف (كنا نقول: لو لم يدفع الله عام الرمادة لظننا أن عمر سيموت هما بأمر المسلمين)… ويرجوه أصحابه أن يرأف بنفسه ويشفقون عليه من الجهد الذي يبذله، ويبيحون له -عن طيب خاطر منهم- أن يأخذ من بيت المال ما يصلح به شأنه. ولكنه يرفض ذلك ويصر على رفضه الحاسم قائلا: وكيف يعنيني أمر الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم؟ إنه هنا يقدم لنا شعارا اجتماعيا، هو جوهر العدل الاجتماعي وروحه الأصيلة.. شعارا لا تفسره الكلمات، إنما (موقف) عمر نفسه وهو (يعاني) مع أمته من أجل أن يعمق اهتمامه بمآسيها ومتاعبها وأحزانها. وكان رضي الله عنه يحذر أهله وأقرباء قائلا: “لا أعلم إن أحدا منكم وقع في شيء مما نهيت عنه إلا ضعفت له العقوبة” ولقد ظل حتى النهاية عند كلمته تلك رغم ما جرعته إياه من الآلام وألحقت به خسائر مادية ونفسية، لم تكن وفاة ابنه عبد الرحمن الذي خالف عن أمره في مصر، سوى واحدة منها.. وكان يصادر كل ربح يكبه أحد أفراد أسرته من التجارة أو الرعي فيضع الربح في بيت المال ويرد المال إلى صاحبه، تخوفا من الشبهات!!.
وعثمان بن عفان يرى المسلمين وقد تقطعت مواردهم في أيام أبي بكر، ووقعوا في ضائقة اقتصادية قاسية، ثم ما تلبث قافلته أن تجيئه ببضائع جمة كان قد استوردها من الشام، فيسرع إليه تجار المدينة يتقدموا إليه بعروضهم السخية لكنه يرفض ويعلن لهم أنه قد تركها خالصة لفقراء المسلمين يرد بها عنهم غائلة الجوع. ثم هو -بعد الخلافة- ينام في أطراف المسجد، متوسدا جبته، ثم يقوم وأثار الحصى في جنبه، فيقول الناس هذا عثمان بن عفان، هذا أمير المؤمنين. وقال عبد الله بن شداد “رأيت عثمان يوم الجمعة يخطب، وهو يومئذ أمير المؤمنين، وعليه ثوب قيمته أربعة دراهم أو خمسة”!.
وكان كما يحدثنا الحسن البصري “يطعم الناس طعام الإمارة، ويأكل الخل والزيت”… إذا قدرت الجماهير يوما أن تحظى بمسئولين يأكلون الخل والزيت ويطعمون الناس طعام الإمارة فإن لنا أن نقول إن العدل الاجتماعي قد نفذ فعلا!.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يلتزم في خلافته الجانب الأصعب من الحياة حرصا على أموال المسلمين، ويقول أحد معاصريه “دخلت على علي في الكوفة، وهو يرتجف تحت سمل وقطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى جعل لك ولأهل بيتك نصيبا وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: والله ما أرزؤكم في مالكم شيئا!!”.
صور كثيرة متلاحقة لا يحصيها عد، مئات من الصحابة المسلمين الرواد وقفوا مواقف كهذه، وصمموا على البقاء حتى النهاية مع أبناء الأمة التي منحتهم ثقتها ومقدراتها.
ولنا بعد هذا العرض الخاطف أن نجيء إلى “المعلم” الذي تلقى عنه الأصحاب تعاليم العدل الاجتماعي. وهي لم تجيء على يديه مجرد دساتير وخطبا وكلمات ونظريات علمية. ولكنها جاءت سلوكا وممارسة وتجربة وعملا وواقعا معاشا. ونقف بعض الوقت لكي نتتبع تفاصيل حياة النبي اليومية الذي يكاد بعض المؤرخين المحدثين أن يتهمه بالبرجوازية.. كيف كان يأكل ويشرب، وكيف كان يلبس وكيف كان ينام. وأهم من هذا كله، كيف كان يتعامل مع “المال”.. ولا أظننا بعد هذا بحاجة إلى أي تعليق!.
سئلت عائشة رضي الله عنها كيف كان رسول الله في بيته؟ أجابت: “كان بشرا كالبشر يصلح نعله ويرقع ثوبه ويخدم نفسه” كما قال صلى الله عليه وسلم: “أنا أجلس كما يجلس العبد وأكل كما يأكل العبد”. كان يجلس على الأرض ويوضع طعامه على الأرض. كان قدحه من خشب غليظ مضبب بحديد. كان إذا سقى أصحابه شرب أخرهم. وإذا لم يجد الطعام صبر حتى إنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع. كان يعمل في حفر الخندق يوم غزو الأحزاب، فرأى صحابته الحجر على بطنه من شدة الجوع، وكان يمر عليه الشهر لا يجد ما يخبزه “ولكن كان لنا جيران من الأنصار -تقول زوجته عائشة- نعم الجيران كانوا يهدوننا بعض الطعام” ولو كان لنا مصباح -تقول عائشة أيضا- لأكلنا زيته!.
صلى مرة جالسا من شدة الجوع، قدموا له عصير اللوز فقال: أخروه عني هذا شراب المترفين. لم يكن لديه قط قميصان معا ولا رداءان ولا إزاران ولا نعلان وأهدي إليه من الشام جبة وخفان فلبسهما حتى تمزقا، وحج في قطيفة لا تساوي أربعة دراهم. كان يلبس الصوف -أرخص شيء وقتها- ويخصف النعل ويرقع القميص ويركب الحمار. وكانت له حصيرة ينام عليها، ويبسطها في النهار فيجلس عليها… نام عليها حتى أثرت في جنبه وكانت له مخدة من جلد حشوها ليف، وأحيانا ينام على عباءة تثنى مرتين، فطوتها زوجته حفصة أربع مرات، فلما نام عليها كان من لينها ورفاهيتها أن استغرق في النوم حتى فاتته صلاة الليل. فنهى حفصة عن ذلك وأمرها أن تعيد العباءة إلى وضعها الأول. ورأى امرأة من الأنصار ما ينام عليه فأهدته مرتبة من الجلد حشوها صوف، فأمر عائشة بأن تردها، قالت “فلم أردها حتى أمرني ثلاثا لأني كنت أحب أن يكون في بيتي مثل هذا”!! “عن هذه النقطة أنظر بالتفصيل: جلال كشك: الحق المر”.
دخل عليه عمر رضي الله عنه يوما فرآه على حصير قد أثر في جنبه، ورفع رأسه في البيت فلم يجد إلا أهابا معلقا وقبضة من شعير وحصير تكاد تبلى فبكى عمر، فقال له: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قال عمر: يا نبي الله مالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك؟ وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار. وأنت نبي الله وصفوته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا!.
في أحد الأيام الأولى للهجرة، أيام الجوع والفقر والمسغبة، يتلقى صلى الله عليه وسلم في أحد أزقة المدينة بجماعة من أصحابه، تكسر وجوههم الصفرة. ويطوي أجسادهم العناء وقلة الطعام، يشتكون إليه من الجوع، ويكشفون عن بطونهم التي يشد كل منهم عليها قطعة من حجارة ليسكت جوعتها. فيبتسم الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعزيهم بالكلمات، فالكلمات في ساعات الجوع الكافر لا تغني ولا تطعم، يكشف لهم بطنه فإذا به قد شد عليها قطعتين من الحجارة الصماء!!.
فمن رغب عن سنتي فليس مني… فلا يتصورون أحد أن الرسول في مواقفه التي نعرضها هنا كان يدعو إلى الزهد والفرار.. وناداه رجل يا سيدنا وابن سيدنا فقال: لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي. وكان أصحابه إذا رأوه قادما عليهم لم يقوموا إليه، وهو أحب الناس إليهم، لما يعرفون من كراهيته لقيامهم وكان يكره أن يمشي وراءه، ويأخذ بيد من يفعل فيدفعه إلى السير بجانبه. رآه رجل فارتعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هون عليك فإني لست ملكا، وأنا ابن امرأة كانت تأكل القديد… ما كان يغلق دونه الأبواب، ولا يغدى عليه بالجفان ولا يراح عليها بها.. كان من أراد مقابلة نبي الله يقابله!! (أنظر: جلال كشك: الحق المر).
ونعود مرة أخرى إلى طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام بحثنا هذا ينصب بالدرجة الأولى على مسألة “الطعام” كحاجة أساسية. روى البخاري أن أنس بن مالك قال: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا حتى ألحق بالله، ولا رأى -في بيته- شاة سميطا بعنيه قط. وعن عائشة قالت: إنا كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله نار. فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ أجابت: الأسودان، التمر والماء. وقالت رضي الله عنها: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي!! وعن أنس قال… ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم خبز له مرقق قط ولا أكل على خوان قط. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. وعن عائشة قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض. وعن أنس أنه مشى إلى النبي بخبز شعير.. وقال: لقد رهن النبي درعا له بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله، ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع بر ولا صاع حب.. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتي بالتمر عند ضرام النخل فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره حتى يصير عنده كوما من تمر، فجعل الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر. فأخذ إحداهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله فأخرجها من فيه. فقال…أما علمت أن آل محمد لا يأكلون صدقة؟
وماذا عن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته وأهل بيته؟ اشتكت إليه فاطمة بنته ما تلقاه من أعمال البيت من شدة وعناء وطلبت إليه أن يخدمها خادما فرفض صلى الله عليه وسلم ذلك وقال لها: لا أعطيك وادع أهل الصفة -وهم جماعة من الفقراء- تطوي بطونهم من الجوع. وأتى النبي بيت فاطمة ليزوره، ثم عدل فلم يدخل عليها، فبعث عليا ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب عدوله عن زيارتها فأجاب الرسول: إني رأيت على بابها سترا موشيا.. وأرى أن ترسلي به إلى أهل بيت فلان فهم في حاجة.. وأراد زيارتها مرة أخرى. فعاد كذلك دون أن يدخل عليها، فأرسلت متسائلة عن سر ذلك فأجابها: إني وجدت في يديها سوارا من فضة!! فبلغها ذلك، فأرستلهما إليه. فباعهما وتصدق بثمنهما على الفقراء!!.
أما نساؤه فقد أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم عليهن -كما يقول محمد الغزالي- “أن يتحملن شدة ما كن يعرفنها من قبل. لقد جئن إليه من بيوتات كبيرة، وأكثرهن اعتادت في صدر حياتها الزاد الطيب والنعمة الدافقة، أما مع آبائهن وإما مع رجالهن السابقين، فلا عجب إذا تململن من هذه الحياة الجديدة، وطلبن الرغد والنعومة، واجتمعن ليسألن الرسول صلى الله عليه وسلم مزيداَ من النفقة تتزعمهن عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وحزن رسول الله لهذه المظاهرة. إنه المسلم الأول على ظهر الأرض، وأبصار المؤمنين والمؤمنات ترنو إليه من كل ناحية، وهو بصدد بناء أمة تشق طريقها وسط ألوف مؤلفة من الخصوم المتربصين. فإذا لم يعش بيته عيشة المجاهد المحصور فكيف يواصل الكفاح ويكلف الرجال والنساء من أمته أن يذهلوا عن كل شيء إلا السير بدينهم حتى يبلغ مأمنه؟ لذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم الاستجابات لرغبات نسائه في توسيع النفقة، وكره منهن هذا التطلع، فقرر مقاطعتهن حتى شاع بين النساء أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه جملة… وفزع أبو بكر وعمر لهذه الإشاعة، فذهبا يستأذناه ليدخلا عليه وليتعرفا جلية الخبر، فلما دخلا وجدا النبي صامتا وحوله نساؤه واجمات. وسأله عمر: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا… إلا أن جو الحزن كان يخيم على المكان. فقال عمر: لأكلمن رسول الله لعله يضحك؟ فقال: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -يعني زوجته- سألتني النفقة لوجأت عنقها! فضحك النبي حتى بدا ناجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة؟ فقام أبو بكر إلى عائشة يؤدبها وقام عمر إلى حفصة. كل منهما يقول: تسألان النبي ما ليس عنده؟! وهجرهن النبي شهرا، حتى يشعرن بما فعلن، ونزلت آيات التخيير من عند الله تطلب إليهن جميعا إما التجرد للدار الآخرة مع رسول هذه طريقته في حياته، وإما اللحاق بأهلهن حيث الملابس الحسنة والمآكل الدسمة “يا أيها النبي قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما”. وكان هذا الدرس كافيا ليمحو آخر ما في أنفسهن من رغبة لا تتجاوز المباحات المشتهاة! فاخترن جميعا البقاء مع النبي.
وماذا عن تعامله مع المال؟
في أعقاب معركة حنين “سنة 8هـ” عندما راح الرسول صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم الوفيرة التي تجمعت لديه من جراء هزيمة قبيلتي هوازن وثقيف، ناداه الأعراب: يا رسول الله أقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم، وازدحموا عليه حتى ألجأوه إلى شجرة اختطفت عنه رداءه، فقال ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان لكم عندي بعدد شجر تهامة لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا، ثم تقدم إلى بعير قريب منه فاستل منه وبرة جعلها بين أصبعيه، ثم رفعها وقال “أيها النسا، والله ما لي من فيئكم، ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم”.
ويوما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو ذر يتمشيان في أطراف المدينة فاستقبلهما جبل أحد. قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا أموت وعندي منه دينار إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وشماله وعن خلفه. ثم مشى فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. وقليل ما هم!!.
ومات رسول الله!!.
عن عمرو بن الحارث قال “ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة”!!