افتتاحية
إطار الدراسة ومضمونها
تتناول هذه الدراسة نظريات الفائدة على رأس المال في حقلي الفكر الاقتصادي والشريعة الإسلامية. مع التركيز على موقف الإسلام من مسألة الربا، وكيفية إدارة النظام المصرفي المعاصر وفقا لتعليم الشرع الحنيف.
أهمية الدراسة
يتزايد اهتمام الدول الإسلامية في الآونة الحاضرة، وعلى المستوى الرسمي والشعبي معا، بقضية تطبيق مبادئ وأصول الشريعة الإسلامية في مختلفة نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية السياسية. وبالذات بحث موضوع “الاقتصاد الإسلامي”، الذي تبرز بصدده في المقام الأول، مسألة موقف الإسلام من قضية الربا (الفائدة)، وتنصرف إلى كيفية تصميم نظام لإدارة المصارف المعاصرة بما يتفق وتعاليم الشرع، ولا يؤدي في الوقت نفسه إلى تخفيض كفاءة المصارف، أو وحجبها عن بعض الأعمال، بل العكس، فإنه يلزم لهذا النظام أن يزيد من كفاءة العمل المصرفي، بما يضمن الاستمرار والبقاء في جو المنافسة من المصارف غير الإسلامية.
وتتضح أهمية هذه الدراسة جلية مع ملاحظة أن الدول الإسلامية تقف في الوقت الحاضر على مفترق طرق متعارضة، تريد أن تتعدى مرحلة التخلف الاقتصادي، فتولى وجهها تارة شطر المذاهب الاشتراكية، وتارة شطر المذاهب الرأسمالية والديمقراطية وواقع الأمر أن هذا التقلب لن يصل بها إلى بر الأمان. فهذه المذاهب لم تعد قادرة على حل مشكلات الإنسانية، وهي جد معقدة.
إن النظم الاقتصادية المطبقة حاليا في العالم الإسلامي غريبة عنه وغير طبيعية بالنسبة له، ومن ثم فهي لن تحقق له تنمية، ولن تدعم له نهضة، وبالتالي فهو في حاجة إلى اقتصاد يكفل له هذه المتطلبات بسهولة، دون أن معوقات أو مضاعفات.
تقديم:
يعتبر الربا من أهم المشكلات الاقتصادية والظواهر الاجتماعية التي صاحبت تاريخ البشر من قديم، حث يرتبط تاريخ الربا في المجتمعات الإنسانية بتاريخ اكتشاف الإنسان للنقود.
فقبل استعمال النقود لم يعرف للربا مكان في التنظيم الاقتصادي، حيث قامت المبادلات الاقتصادية على أساس من المقايضة العينية.. ومن ثم لم يكن ليوجد فاصل بين البائع والمشتري، فقد كان طرفا أية صفقة بائعا ومشتريا في الوقت ذاته، إذ كان الشراء لا يتم إلا بالبيع، والبيع لا يتم إلا بقصد الشراء.
وبدخول النقود إلى مجال التبادل اختلف الأمر كثيرا، لان النقد يضع حدا فاصلا بين البائع والمشتري. فأصبح البائع، بالتعريف، هو صاحب السلعة التي يعرضها في السوق مقابل النقود، كما صار المشتري هو الشخص الذي يبذل النقود للحصول على تلك السلعة.
وفصل البيع عن الشراء في عمليات المبادلة القائمة على أساس النقد قد أفسح المجال لتأخير الشراء عن البيع فالبائع لم يعد مضطرا، لكي يصرف سلعته، أن يشتري السلعة التي يعرضها المشتري، بل أصبح في إمكانه أن يبيع سلعته بالنقود التي يحتفظ بها لحين حاجته للشراء.
وهذه الفرصة الجديدة، التي وجدها البائعون بتأخير الشراء عن البيع قد غيرت الطابع العام للبيوع والمبادلات. وهكذا تحول البيع للشراء إلى بيع لامتصاص النقود، ونشأت عن ذلك ظاهرة اكتنازه لا يكلف شيئا يذكر في النفقات، بالإضافة إلى ما يتمتع به من قبول عام في الوفاء بالالتزامات والإبراء من الديون. وهكذا توافرت دواعي الاكتناز في المجتمعات التي أخذت المبادلات فيها تقوم على أساس النقود، ونجم عن ذلك أن تخلت المبادلة عن وظيفتها الطبيعية في الحياة الاقتصادية، كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، وأصبحت واسطة بين الإنتاج والادخار.
ولم تقف مشاكل النقد عند هذا الحد، حيث لم تقتصر النقود على أن تكون أداة اكتناز بل أصبحت كذلك أداة لتنمية الأموال وتركيم الثروات، حيث أمكن إقراض النقد بالربا الذي يتقاضاه الدائنون من مدينيهم، كما يتقاضاه أصحاب الأموال من المصارف التي يودعون أموالهم فيها.
نظريات الفائدة (الربا) في الفكر الاقتصادي
مقدمة:
ثمة لبس قائم في الدوائر الاقتصادية، التي لا تدرك تماما معضلات النظرية الاقتصادية الحديثة، مؤداه أن هناك اتفاقا عاما على أسس ومحددات نظرية الفائدة بين الاقتصاديين. والواقع أن هذا الاعتقاد بعيد كل البعد عن الحقيقة. فالحق “أن النظرية الفائدة كانت، منذ أمد بعيد، وما تزال، نقطة ضعف في علم الاقتصاد. وأن تحديد معدل الفائدة فضلا عن تبريره، ما يزالان يثيران الكثير من الاعتراضات بين الاقتصاديين أكثر من أي فرع آخر من فروع النظرية الاقتصادية”.
ولم يحدث في تاريخ الفكر الاقتصادي، أن أثار موضوع الجدل والنقاش مثل موضوع تحديد سعر الفائدة فضلا عن تبرير تقاضي الفائدة، بل استمر هذا الجدل والنقاش عبر المدارس الفكرية المختلفة حتى يومنا هذا.
ويدرس الباحث نظريات الفائدة في مختلفة مراحل تاريخ الفكر الاقتصادي من خلال مباحث ثلاثة متعاقبة.
أما المبحث الأول فينهض بمهمة استعراض نظريات الفائدة في العصور القديمة. وينصرف المبحث الثاني إلى تبيان نظريات الفائدة في العصور الوسيطة. بينما ينفرد المبحث الثالث بتسجيل نظريات الفائدة في العصور الحديثة.
المبحث الأول
نظريات الربا في العصور القديمة
يرى “كينز” أن “محاربة الربا من أهم المسائل الشائعة في اقتصاديات العصور القديمة. فارتفاع درجة التفضيل النقدي كان الشر المستطير الذي قتل الحافظ على الاستثمار، وعاق التقدم الاقتصادي في هذه العصور.
المطلب الأول
الربا في مصر الفرعونية
وصل سعر الفائدة على المعاملات التجارية والفروض في مصر الفرعونية إلى 100%، كما كانت الفائدة المركبة معروفة في أيام الأسرة التاسعة عشرة. وقد مارست الحكومة ذاتها عمليات الإقراض الربوية، كما نهض بهذه العملية رجال المعابد من الكهنة أيضا.
ويتحدث “ثيودور” المؤرخ الإغريقي عن قانون وضعه الملك “بوخوريس” (من ملوك الأسرة الفرعونية الرابعة والعشرين) ويقضي بأن الربا، مهما تطاولت عليه الآجال، لا يجوز أن أصل رأس المال: وهذا يدل على ذيوع الربا بمصر القديمة.
وثمة دليل آخر على أن المقيمين بمصر، على مختلف جنسياتهم، من مصريين ثم يهود ثم أغريق ورومان، قد مارسوا الربا واحترفوه حرفة لكسب الأموال وتحصيل الثروات ففي كتاب “مصر من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي” يذكر المؤلف الدكتور “مصطفى العبادي” (ص 106) ما يلي:
“لم يقتصر نشاط جند الجيش الروماني في مصر على الزواج وتكوين الأسر، بل كثرا ما نقابلهم في وثائقنا في مجالات مختلفة من النشاط المالي والاقتصادي، وخاصة كمالا للأراضي وممولين بقروض المال نظير فوائد مجزية، وهي تجارة مربحة مارسها كثير من الأثرياء في مصر الرومانية”.
وفي عهد البطالة والرمانية، كان المصريون يمارسون الربا محليا وعالميا. فقد جاء في برديات القرن السادس الميلادي أن بعض المصريين قد تعاقدوا على اقتراض مبلغ من المال في القسطنطينية مقداره عشرون “سوليدس” من الذهب بفائدة مقدارها 8% ورغم أن العقد قد تم في القسطنطينية إلا أنه نص على أن يرد الدين في الإسكندرية.
وكان يهود مصر كذلك يتعاملون بالربا فيما بين أنفسهم، مخالفين بذلك تعاليم كتبهم. ويثبت ذلك ما سجله الأستاذ Chair Cover وهو أحد مشاهير علماء البرديات، من أن يهود مصر لم يقيموا وزنا لتعاليم التوراة، وكانوا يتعاملون مع يهود مثلهم بالربا، طبقا للقانون الهليني.
المطلب الثاني
الربا في حضارة وادي الرافدين
(1) الحضارة السومرية
قامت الحضارة السومرية في جنوب العراق، فيها انتشر التعامل بالربا بين الناس. واضطلع المعبد في سومر بوظيفة البنوك في تقديم القروض الربوية لطالبيها. وكان الكهنة يقومون بإقراض الناس باسم الآلهة، كما كانوا يتقاضون الربا نيابة عن الآلهة أيضا.
وقد تم العثور على حفريات سومرية تمثل عقود قروض ربوية مكتوبة وموثقة بشهادة شهود. كما وجد عندهم نظام الائتمان الذي يمكن بمقتضاه للشخص أن يقترض برهن بضائع أو عقارات مقابل ربا على قرضه.
وكانت الفائدة تدفع في بعض الأحيان نقدا، وفي الأحيان الأخرى عينا. وكان سعر الفائدة يتراوح بين 15 – 33 بالمائة.
ولقد قام الملك “أوركا – جينيا” بوضع حد للسرقات، كما طهر المدينة من المرابين واللصوص والسفاكين. وعمل على استتباب حالة الأمن، ونظم قوانين الربا بما يخفف عبئا على الفقير والمسكين والأرملة. وهذا التنظيم في ذاته يعتبر كراهية للربا منذ زمن بعيد.
(2) الحضارة البابلية
كانت بابل من أعظم دول الشرق القديم اهتماما بالتجارة، وكان الربا من أهم الأسس التي سارت جنبا إلى جنب مع حركة التجارة. وكان رجال الدين هم الذين يقومون بإقراض الأموال بالربا. وكان معدل الفائدة يتراوح بين 30/ إلى النقود و50% على القمح والشعير. وكانوا يعتبرون هذه النسبة شيئا عاديا لا ظلم فيه. أما ما زاد عن ذلك فهو الربا الفاحش في عرفهم. وكثيرا ما كانت الفائدة في بعض الأحيان تصل على 120%، كما كانت ترتفع إلى 240% في أحيان أخرى. وهكذا تفاقمت الآثار السيئة للربا. وظلت الأوضاع الاقتصادية على سوئها حتى اعتلى “حمورابي” عرش البلاد (حوالي 1800 ق.م) فكان أول مصلح اقتصادي، حيث نظم لوائحه المشهورة التي تضمنت قواعد تنظيم مشكلة الربا، ونصت على أن الربا لا يمكن أن يزيد عن أصل القرض مهما كانت الظروف، وبذلك حد من المغالاة في رفع معدل الفائدة الذي وصل في بعض الأحيان إلى 450%.
وكان من آثار إصدار قانون حمورابي أتجه رجال المعبد الذين كانوا يغالون في رفع سعر الفائدة، إلى تخفيض هذا السعر حتى وصل في بعض الأحيان إلى 20% سنويا على الفضة، ولو أنهم كانوا يتقاضونها شهريا. كما عملت الحكومة على تحديد الفائدة على القروض التي تعقد برهن بضائعها وجعلتها 33% وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك فائدة تدفع على تأخير سداد الديون يبلغ سعرها 50% من أصل الدين الواجب سداده.
(3) الحضارة الآشورية
كان الربا منتشرا في بلاد آشور. وكان سعر الفائدة على القرض يبلغ 25% تقريبا، ويزيد عن ذلك بالنسبة للمحاصيل وأهمها القمح والشعير. وكانوا يتعاملون بالذهب والفضة والرصاص والنحاس كنقود، ويمارسون الربا في إقراضها. وكانت للمحاصيل الزراعية كذلك استعمالاتها الربوية.
المطلب الثالث
الربا في حضارة الهند القديمة
لا بد، لفهم واقع التعامل الربوي في الحضارات الهندية القديمة، من إدارك حقيقة التركيب الطبقي في شبه القارة الهندية، إذ يوجد بالمجتمع الهندي، منذ القدم، أربع طبقات اجتماعية متميزة وهي:
1 – طائفة الأكشترية (أو الكستارية) المحاربون.
3 – طائفة القيشية، أي طبقة الزراع والتجار التي توفر وسائل العيش للكهنة والمحاربين.
4 – طائفة الشوادرا، وهي أسفل الطبقات، إذ تتكون من فئات المنبوذين، وليست لها مهنة محددة ولا يعترف لها المجتمع بعمل إلا خدمة الطوائف الثلاثة السابقة في أحط حاجياتها.
والنظام المعمول به يحرم على طائفتي البراهمة والأكشترية الاشتغال بالجارة أو بالشئون المالية أو عمليات الإقراض الربوي. بل لقد بلغ الأمر حد تقرير أن الشخص من هاتين الطائفتين إذا ما اشترى قطعة من الأرض أو أية سلعة بثمن رخيص ثم باعها بثمن مرتفع فإنه يعتبر متعاملا بالربا، ويعد تبعا لذلك، منبوذا من رجال “الألتفيدا”.
أما طبقة القيشية فلها الحق في القيام بالأعمال التجارية والتعامل بالربا.
وأما طبقة الشوادرا فيحرم عليها نهائيا ممارسة وسائل جمع الثروة، لأنها جماعة من المنبوذين.
المطلب الرابع
الربا في حضارة الصين القديمة
حرمت الصين الربا منذ أقدم العصور. ذلك أن تاريخ الصين المكتوب لا يسجل أية صورة للتعامل الربوي.
وقد يكون هذا التحريم ناشئا عما وصل إليه الفلاسفة الصينيون القدماء من حكمة أفادتهم في الاهتداء إلى ما في الربا من شرور وآثام. فخلصوا إلى أن حرموا نهائيا التعامل به.
المطلب الخامس
الربا في الحضارة العبرية (اليهود)
إن النصوص المستقاة من كتب العهد القديم في شأن قضية الربا، تسجل على اليهود موقفا من مواقف التمييز العنصري البغيض، ينصرف إلى تحريم التعامل بالربا فيما بين اليهود وبعضهم، وإباحة هذا التعامل بين اليهود وغيرهم من الأجانب الغرباء عن شعب إسرائيل.
ويورد الباحث بعض هذه النصوص.
ولا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا شيء مما يقرض بربا. للأجنبي تفرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا”. (سفر التثنية: 23: 19، 20).
“إن أقرضت فضة لشعبي الفقير.. فلا تكن له كالمرابي – لا تضعوا عليه ربا”. (سفر الخروج 22 : 25).
“وإذا افتقر أخوكن وقصرت يده عندك، فاعضده، غريبا أو مستوطنا، فيعيش معك لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة. بل أخش الهلك، فيعيش أخوك معك: فضتك لا تعطه بالربا، وطعامك لا تعطه بالمرابحة”. (سفر اللاويين 25 : 35).
بصدد هذه النصوص يلزم إيضاح المقصود من اصطلاح “الأخ” ونقيضه “الأجنبي” في الديانة اليهودية.
أولا: مفهوم الأخ في كتب العهد القديم.
وهو يحتمل معنين:
أ – معنى ضيق يقتصر على اليهود فقطن حيث تربطهم رسالة موسى برباط العقيدة. ومن ثم ينصرف هذا المعنى إلى كل فرد يدين بالديانة اليهودية، أيا كان محل إقامته وعمله، وسواء اجتمع اليهود في دولة واحدة أو تفرقوا.
ب – معنى واسع، يشمل بالإضافة إلى أتباع موسى من اليهود، أصحاب ذلك الرسول الذي بشر به موسى قومه، وهو عيسى بن مريم. ووفقا لهذا المعنى فإن المسيحيون يعتبرون أخوة لليهود.
ومع ذلك فقط أخذ اليهود بالمعنى الضيق، حيث قصروا لفظ “الأخ” على أبناء جلدتهم فحسب.
ثانيا: مفهوم الأجنبي في تعاليم حاخامات اليهود.
تباينت تعاريف حاخامات اليهود لصفة الأجنبي، وإن كان الباحث يفضل اعتماد تعريف الأجنبي على أنه هو “غير المعتنق للديانة اليهودية” عملا بنص التلمود “قريب اليهود هو اليهودي فقط”ز
والإجماع قائم على أنه يحرم على اليهود إقراض الأجانب بدون ربا.
والأمر الثابت تاريخيا، هو أن اليهود قد أجمعوا، بعد عودتهم من الأسر، على أكل الربا من بعضهم، حيث قد تعاملوا بالربا فيما بينهم أنفسهم، مما أهاج غضب أنبياء بني إسرائيل على قومهم المارقينن فاستنزلوا اللعنات عليهم.
ومع ذلك استمر اليهود يتعاملون بالربا فيما بين أنفسهم، وبلغ سعر الفائدة فيما بينهم، في مرحلة ما بعد الأسر، 1% في الشهر وظلوا على هذا الأمر حتى بزوغ شمس المسيحية، فقد كان معظم ربح الصيارفة الذين كانوا بالهيكل متوالدا عن صرف الدراهم للذين كانوا يأتون إلى الهيكل لدفع المرتب السنوي. وكانوا يأخذون المرابحة في البيع والشراء فيما بينهم، ومن أجل هذا طردهم المسيح من الهيكل عندما دخله.
المطلب السادس
الربا في الحضارة الإغريقية
(1) انتشار الربا عند اليونان القدماء
كان الربا شائعا على الإغريق. وكان للدائن أن يسرق المدين، وأن يمتلكه، إذا لم يسدد دينه، بل وأن يقتله إن أراد. وقد أدت هذه الأوضاع الجائزة إلى تفاقم حدة الصراع الاجتماعي عند الإغريق.
إن دستور “صولون”، في القرن السادس ق.م، دليل على هذا الصراع المتزايد، لقد حاول هذا الدستور، عن طريق عدد من الإصراحات الاجتماعية والاقتصادية، أن يحول دون تفاهم الآثار السيئة للربا، فحرم استرقاق المدين، وحرر بعض العبيد، وخفض الكثير من الديون المستحقة، كما ألغى بعضها نهائيا، بالرغم من أنه لم يحرم التعامل بالربا، وإن كان قد وضع حدا أقصى لما يمكن أن تبلغه الفوائد، وهذا الحد هو 12% من أصل الدين.
(2) الربا في الفلسفة اليونانية
إن الفلسفة اليونانية قدمت إسهامها الرئيسي في الفكر الإنساني من حيث أنها كانت وليد صراع اجتماعي، أدى إلى السخط، وعني بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
أ – أفلاطون والربا
ذم “أفلاطون” الربا في كتابة “القانون”، ونهى عنه حيث قال: “لا يحل لشخص أن يقرض بربا”. واعتبر “أفلاطون” الفائدة، أيا كان مقدارها، كسبا غير طبيعي، لأن مؤداها أن يكون النقد وحده منتجا غله، بغير أن يشترك صاحبه في أي عمل او يتحمل أية تبعة. ورأيه أن “النقد عقيم”، فالنقد لا يلد النقد، ذلك أن النقود ليست سوى رمزا للتبادل.
ويرى “أفلاطون” أن ناموس الغلات الطبيعية أن تكون متولدة في الأشياء ذاتها. إما توليدا طبيعيا، كما في أعمال الصيد والقنص والجمع والالتقاط، وإما توليدا مختلطا يندمج فيه عطاء الطبيعة مع العمل البشري، كما في أعمال الزراعة والاستخراج والتعدين والحرف اليدوية. وإما توليدا تجاريا حيث تقوم التجارة بتوفير خدمات نقل وشحن وتخزين البضائع، بشرط الا يؤدي ذلك إلى حدوث احتكار، أو منع لأقوات الناس، أو مبالغة في رفع الأثمان والأرباح بما يجاوز الحدود المعقولة.
وفي نظر “أفلاطون” أنه طالما أن النقد لا يصلح بذاته لأن تتولد منه غلة من هذه الأنواع الثلاثة، إذ هو، بالأساس، عقيم بطبعه، فإن سلوك الأفراد الذين يهدفون إلى اتخاذ النقد وسيلة لتجميع الثروات يعتبر سلوكا غير طبيعي، بل ومجافيا للطبع السليم.
ب – أرسطو والربا
ناقش “المعلم الأول” قضية الربا في كتابه الشهير “السياسة”.
وقد بدأ “أرسطو” دراسته للربا ببحث أوجه المعاش، ويقصد بها الوسائل التي يتوسل بها الناس في الحصول على الرزق. وقد قسم “أرسطو” هذه الوسائل إلى ثلاث:
أولا: أوجه المعاش الطبيعية
وهي سائر الوسائل التي توسلت بها الجماعات البدائية للحصول على أرزاقها. وتشمل أشغال الصيد والقنص وعمليات النهب والحرب، وأعمال الزراعة وتربية الماشية، وكذلك معاملات المقايضة العينية، وهي ما اسماها “أرسطو” بالمعاملات (أو المبادلات) الطبيعية، وتنصرف إلى استبدال حاجة من حاجات المعيشة بحاجة أخرى، شريطة أن يتم ذلك دون كسب، فتكون المبادلة بين قيم متكافئة من الطرفين، ومثلها استبدال الثوب بالطعام.
ثانيا: أوجه المعاش المشتقة
وهذه هي وسائل المعاش التي تختلف عما اتبعته الجماعات البدائية، وهي في أصلها مشتقة من المقايضة العينية، ولذلك تسمى “بالأوجه المشتقة”.
فمع تقدم الجماعات الإنسانية، وتشابك علاقاتها، تزداد أهمية المبادلة، وبالتالي تتكشف للعيان عيوب ومثالب المقايضة، ومن ثم تلجأ الجماعة، تحت ضغط الضرورات العملية، إلى اختيار إحدى السلع وتضفي عليها صفة القبول العام في التبادل بغيرها من السلع، وبذلك تصبح هذه السلعة وسيطا للتبادل.. وهنا تظهر النقود، وتقوم بوظيفتها كأداة للاستبدال. إلا أن الأفراد سرعان ما يكتشفون للنقود وظيفة أخرى، بمجرد ظهورها، وهي استخدام النقود مقياسا لقيم كافة الأموال في التبادل. وعليه، فبدلا من استبدال الأموال بالأموال، يتم استبدال الأموال بالنقود. ويلاحظ “أرسطو” أن النقود، في ذاتها، أمر تافه لا قيمة له. وإذا كان الأفراد يقبلونها ما يتنازلون عنه من أموال، فإنهم إنما يفعلون ذلك بالنظر إلى الأموال الأخرى التي تستطيع النقود ان تنقل إليهم ملكيتها.
ثالثا: أوجه المعاش المصطنعة
باستعمال النقود تنشأ التجارة لذاتها، وينظهر السعي لجمع المال وتكديسه. وسرعان ما يغيب عن النظر الغرض الطبيعي للمبادلة، وهو الإشباع الأوفر للحاجات، ويصبح غرض التبادل هو تركيم النقود، ويصير جمع المال غاية في ذاته. وهذا هو وجه المعاش المصطنع الملفق والطفيلي، لان أسوا أشكال جمع المال هو ما يستخدم النقود ذاتها مصدرا للتجميع، ذلك أن النقود يراد بها استخدامها في التبادل وقياس القيمة، فهي بذلك ليست وسيلة للازدياد المطلق بطريق الإقراض الربوي، بما أن النقود عقيمة لا تلد.
ويقرر “أرسطو” أن النقود في الاقتصاديات النقدية تصبح أهم وسائل تركيم الثروات. فبظهر النقود سرعان ما تقتصر مهمة علم الكسب (الاقتصاد المعيشي) على دراسة وسائل تنمية النقد، على وجه الخصوص. ويصبح الغرض الرئيسي للنشاط الاقتصادي هو استكشاف وسائل تنمية النقود.
ولا يفوت الباحث أن يسجلن بهذا الصدد، أن تحليل “أرسطو” يتضمن تفرقة واضحة بين وظيفتين أساسيتين للنقود، بوصفها وسيلة للتبادل، تكمن في وظيفتها في اقتناء السلع والخدمات اللازمة للإشباع. وبصفتها أداة للاكتناز، أي بوصفها رأس مال نقدي، يؤدي بالناس إلى الرغبة في التجميع الذي لا حد له. ويقرر “رول” أنه لأول مرة، في تاريخ الفكر الاقتصادي، تتقرر القسمة الثنائية بين النقود ورأس المال الحقيقي هنا على يد “أرسطو”.
كذلك يلاحظ الباحث أن تحليل “أرسطو” أيضا إنما ينهض على أساس تفرقة أخلاقية بين نوعين مختلفين من الكسب. أحدهما يهدف إلى إشباع الحاجات الحقيقية للفرد ليس أكثر منها. ومن الأساليب الواجبة الاتباع هنا أن تجري المبادلة بين أموال ذات قيم متساوية، بحيث لا تتخذ المبادلة وسيلة للكسب. وهذا هو الكسب الهانئ المشروع. أما النوع الثاني من الكسب فغرضه الأصل هو تنمية الأموال وتثميرها إلى ما لا نهاية. وهذا هو الكسب المحقور وغير المشروع.
ومن بين طرق الكسب المحقورة وغير المشروعة، وهي الطرق المصطنعة والملفقة للكسب، يخص “أرسطو” الربا، باعتباره أحقر أنواع الكسب.
المطلب السابع
الربا في الحضارة الرومانية
(1) الربا في عهود الوثنية
كان الربا شائعا معروفا عند الرومان. ويرى “لبيمان” أن كلمة فائدة ذات أصل روماني، حيث كانت المعاملات الربوية في روما تعتبر مسألة عادية. وقد كانت الإمبراطورية قد حرمت تقاضي اية فوائد على الديون في عهودها الأولى، إلا أن هذا الوضع لم يستمر، إذ أخذت الفائدة تظهر تدريجيا مع اتساع رقعة الإمبراطورية وتزايد أهمية المال وتعاظم نفوذ التجار.
كذلك اختلف موقف مفكري الرومان بصدد الربا. فمنهم من ذمه وحرمه، ومنهم من أجازه (ولكن في حدود).
وكان الفيلسوف “شيشرون” ممن انتقدوا الفائدة وحرم التعامل بها نهائيا. وفي منطق هذا الفيلسوف تتساوى جريمة أكل الربا تماما مع جريمة القتل.
بينما أجاز “سنيكا”، بعض صور التعامل الربوي، بحدود وشروط، وذلك تحت ضغط الضرورات العملية التي ظهرت مع اتساع رقعة الإمبراطورية، ونشاط حركة التجارة والمال بين أرجائها.
وفي مجال التشريع (القانون الروماني)، بعض صور التعامل الربوي، بحدود وشروط، وذلك تحت ضغط الضرورات العملية التي ظهرت مع اتساع رقعة الإمبراطورية، ونشاط حركة التجارة والمال بين أرجائها.
وفي مجال التشريع (القانون الروماني)، صدر “قانون الألواح الاثني عشر”، بتحديد الأقصى للفائدة بنسبة 12% من أصل الدين. أما في مجموعة الفقيه “جستنيان” فقد جعل الحد الأقصى للفائدة يدور بين 12% للتجار وأمثالهم، و4% للنبلاء. ويمكن تبرير هذه التفرقة بين التجار والنبلاء بأن الأخيرين في الغالب “هم الذين يعطون النقود للإقراض في انتظار الفائدة”. وبذلك يمكن القول بأن الرومان من أوائل الأمم التي شرعت القوانين لحماية المدينين. وأكثر من هذا، ففي الميدان العملي، الخاص بتطبيق القانون ومراقب نفاذه، فرضت الإمبراطورية قيودا شديدة على معدلات الفائدة، وكان تنفيذها يراقب بدقة وصرامة.
(2) الربا في المصادر المسيحية الأولى
بزغت شمس المسيحية في عقر دار الإمبراطورية الرومانية، وقد أصاب الإمبراطورية غير قليل من مظاهر الفساد، ودواعي الضعف، والانحلال في مختلف نواحي الحياة وقد كانت المسيحية، في جوهرها دعوة ثورية، ومثالية، في نفس الوقت، للإصلاح الاجتماعي.
وبصدد مسألة الربا وبيان موقف الشريعة المسيحية منها، فإن الباحث يسوق النصوص التالية:
1 – “من سالك فاعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده” (متى 5 : 42)
2 – “من سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه” (لوقا 6 : 30)
3 – “وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم فأي فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضا يقرضون الخطاة، لكي يستردون منهم المثل. بل أحبوا أعداءكم، وأحسنوا، وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئا، فيكون أجركم عظيما” (لوقا 6 : 34 – 35)
وللباحث هنا ملاحظات ثلاث:
فاولا يرى الباحث أن المسيحية قد قطعت شوطا ابعد من اليهودية، بشأن الربا. فإذا كانت اليهودية قد حرمت الربا بين اليهود دون الأجانب، فإن تعاليم المسيح تطالب بترك أصل القرض للمقترض.
وثانيا يلاحظ الباحث أن في مطالبة المسيحية المقرض بترك أصل القرض للمقترض، فضل فوق العدل. فالعدل يقضي باسترداد المقرض لأصل رأسماله، دونما زيادة أو نقصان. والفضل يوجب انتظار المدين المعسر لحين ميسرة، أو التصدق له بذات الدين، في حالة عجزه عن السداد.
ثالثا، ولكن ليحاول الباحث في بساطة كشف نتائج هذا الموقف المتفضل على علاقات التعامل المالي. ذلك أنه فمن المقرر أن الموقف أو المبدأ المعين، لكي يوصف بالفضل، يشترط فيه أن يؤدي إلى نتائج فاضلة، كما ينبغي له أن يسفر عن نتائج محمودة في مجال التطبيق العملي. وغير خاف ما يترتب على أعمال مبدأ عدم أحقية المقرض في استرداد أصل قرضه من تضييق لدائرة التعامل المالي، حيث يقبض أصحاب الأموال أيديهم عن الإقراض، ويحسبون الأموال عن التداول، بما يترتب عليه من شح وسائل التمويل، وإتاحة الفرصة للربا الجشع والاشتراطات المجحفة. وظهور كل هذه النتائج الوبيلة جاءت في الأصل بسبب تقرير قاعدة مثالية عالية، بلغت من تعاليها في المثالية أنها جاوزت حدود الطبيعة البشرية، وما تنطوي عليه من حرص واستحواز.
فالحق أن تطبيق أي مبدأ من مبادئ الفضل ينبغي ألا يتم على سبيل الأمر، ذلك أنهن وكما ورد في الأثر “لا جبر على فضل” حيث ينبغي أن يكون واضحا تماما أن “الفضل بالتفضل” وبناء على ما تقدم، فتقرير مبدأ الفضل في نطاق المعاملات المالية، وهو يقضي بنزول الدائن عن أصل دينه للمدين المعوز، ينبغي ألا يكون تقريرا ملزما آمرا، وإلا قاد إلى عكس النتائج المرجوة منه. ولكن تطبيق مبادئ الفضل يجب أن يحدث بالتطوع من الفاعل (الدائن) الذي قد يقبل التفضل بالنزل عن دينه، فهو خير له وأبقى، وقد لا يتفضل فيجري العدل فقط، ويأخذ أصل ماله لا غيرن دون ربا، فلا غبار عليه، ولا ضرر ولا ضرار.
من كل ما تقدم يخلص الباحث، فيما يتعلق بموقف المسيحية من قضية التعامل بالربا، إلى تقرير النتيجة التالية التي أقرها المرحوم الدكتور “محمد عبد الله دراز” في محاضرته التي ألقاها في مؤتمر القانون الإسلامي بباريس، حيث قال:
“لقد أجمع رجال الكنيسة ورؤساؤها، كما اتفقت مجامعها، على أن التعليم الصادر من السيد المسيح، عليه السلام، يعد تحريما قاطعا للتعامل بالربا. حتى أن الآباء اليسوعيين، الذين يتهمون غالبا بالميل إلى الترخص والتسامح في مطالب الحياة، وروت عنهم، في شأن الربا، عبارات صارمة. منها قول (سكوبار): (أن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا، وليسوا أهلا للتكفين بعد موتهم).
المبحث الثاني
نظريات الفائدة في العصور الوسيطة
ليس محلا للخلاف الآن، ذلك التحديد الزمني للفترة التي يشملها اصطلاح “العصور الوسطى”. فعموما يمكن القول بأنها تشمل مدى الألف عام بين سقوط روما (476 م) وسقوط القسطنطينية (1453م).
وثمة خصائص مشتركة لعالم العصور الوسطى يستطيع الباحث إجمالها عموما في اثنين هما:
1 – رسوخ دعائم الإقطاع، كنظام اقتصادي واجتماعي وسياسي لأوروبا العصور الوسطى.
2 – تعاظم نفوس الكنيسة، كتنظيم رسمي له تأثيره الواضح على تفكير الأفراد وسلوكهم. فقد تضخمت ممتلكات الكنيسة إلى الحد الذي أصبحت معه أعظم السادة الإقطاعيين، كما ملكت وحدة مذهبية اكسبتها نفوذا عالميا.
وهذا المزيج من السلطتين الروحية والمادية للكنيسة، نتج عنه اتفاق كامل بين مذاهب الكنيسة ومصالح الإقطاع.
المطلب الأول
الفكر الكنسي ومسألة الربا
بالدخول إلى العصور الوسطى تصبح تعاليم المسيح بمفردها غير كافية، كأساس تقوم عليه فتاوى الكنيسة ومواد القانون الكنسي. وبناء عليه، ظهرت آثار مذهب أرسطو، وفلسفة القانون الروماني كمصادر للفكر الكنسي في العصور الوسطى، هذا برغم اختلاف الخلفية التأريخية والدوافع الحقيقية بين الأناجيل من جهة وفلسفات اليونان والرومان، من جهة أخرى.
والسمة المميزة للفكر الاقتصادي في أوروبا العصور الوسطى، هي محاولته الدائبة للتوفيق بين أصول العقيدة اللاهوتية وبين الأوضاع القائمة والمستقرة في نظام الإقطاع. إن إدارك أهداف هذا الفكر وطبيعته، كمحاولة للتوفيق بين حقائق الدين ومتطلبات الواقع، هو شرط ضروري لفهم حقيقة ومغزى الأفكار والآراء التي انبثقت عن فترة العصور الوسطى.
(1) نظرية توماس الأكويني في عدم مشروعية الفائدة
يعتبر الأكويني نموذجا لرجال الدين المسيحي الذين كانوا يعملون بين مقررات الدين ومقتضيات العقل، أي بين الدين والواقع، مسترشدين بآراء الفلاسفة اليونانيين، وبخاصة أرسطو، ومبادئ القانون الروماني. ويطلق عليهم اسم “المدرسيين”.
يبدا القس “توماس” تحليله للربا متأثرا بثلاثة من روافد الفكر، محاولا التوفيق بينهما، وهي:
1 – أصول الدين: أن تعاليم المسيح بشان تحريم الربا واضحة قاطعة فالأناجيل تحرم استرداد أصل القرض، فضلا عن تقاضي أية فوائد عنه. ويظهر تأثير “توماس” جليا بتعاليم المسيحية عندما يتعرض لتنفيذ أفكار بعض معاصريه الذين نادوا بإباحة الفائدة بالاستناد إلى أنها ثمن مضي الوقت مع تعطيل المال، أي ثمن الزمن. حيث يرفض “الأكويني” هذا التبرير. فيرى أن الزمن ملك لله، ولا يحق لشخص أن يتقاضي ثمنا عن شيء لا يملكه أصلا.
2 – الفلسفة اليونانية: وخاصة آراء “أرسطو” في الربا، حيث رأى أنه ليس منطق أقوى من ذلك الذي يقرر أن أبغض الأشياء وأبعدها عن العقل هو الربا الذي يستدر الربح من المال ذاته، وينحرف بالنقد عن الغرض الذي خلق من أجله، ألا وهو وساطة التبادل.
3 – القانون الروماني. فالرومان يفرقون بين نوعين من الأموال أموال تهلك بمجرد استعمالها لأول مرة كالخبز. وأموال قابلة للاستعمال أكثر من مرة، كالمنزل. ففي الطائفة الأولى، يندمج حق الاستعمال بحق الملكية، حيث أن استعمالها يترتب عليه تدميرها. وهنا تختلط منفعة الشيء ذاته. ومن ثم تتضمن إعارته أيضا التنازل عن ملكيته، ولذا فهو قابل فقط للبيع. ومن يقدم هذا الشيء لا يجوز له أن يطالب بأجر عن استعماله (كمقابل للحصول على منفعته) بالإضافة إلى ثمنه (أي قيمته التبادلية) في وقت واحد، لأن الشيء ومنفعته أمر واحد. وليس من العدل أن يطالب المالك بقيمة الشيء الذي يملكنه مرتين. أما الطائفة الثانية من الأموال قابلة للاستعمال لأكثر من مرة، ومن ثم ينفصل فيها حق الاستعمال عن حق الملكية، كما تتميز منفعة الشيء عن الشيء ذاته، حيث يمكن استعمال الشيء والإفادة منه ثم إعادته إلى المالك. ولذلك يصبح تأجير هذا الشيء، والحصول على أجرة لقاء ذلك، أمرا مقبولا.
أخذ “توماس” هذه التفرقة عن القانون الروماني. ثم بحيث: ترى هل تنتمي النقود إلى الطائفة الأولى أم الثانية من الأموال؟. ورأي أن النقود إنما تدخل في نطاق النوع الأول من الأموال. ذلك أنهان وإن كانت ليست محالا لاستهلاك مادي، فهي موضوع استهلاك قانوني. ومن ثم، فإقراض النقود ينبغي أن يكون بيعا لها بمبلغ مماثل للمقدار المقرض. وهذا هو الثمن (قيمة القرض). فلا محل إذن لتقاضي أجرة عن القرض، أو بعبارة أخرى “فائدة”. فمن المخالفة لقواعد العدالة في المبادلة أن يبيع المقرض نقوده ويحصل على أجرة نتيجة استعمالها بواسطة المقترضين. لذا كان التعهد بدفع الفائدة، في نظر “توماس” إلتزاما بلا سبب، والوفاء بها هو دفع مبلغ غير مستحق.
وهكذا يكون “توماس”، قد أرضى وجهة نظر الدين جيدا، وأرضى ضميره كقس. ولكن كيف السبيل غلى إرضاء متطلبات الوقائع الجارية؟
هنا يلجأ “توماس”، وكغيره من المدرسين، إلى التوفيق بين روح الدين ووقائع الأمور. حيث يأتي “توماس” باستثناء لنظريته في تحريم الربا. فهو ينص على أنه إذا لحق المقرض ضر ناجم عن تأخر المقترض عن الوفاء في الميعاد المحدد للسداد، يصبح للمقرض الحق في مطالبة المقترض بالتعويض، شريطة إثبات الضرر الذي انتاب المقرض. وبذا تكون الفوائد المستحقة، في هذه الحالة، تعويضية لا تأخيرية. هذا أقصى ما استطاع “توماس” أن يترخص فيه مخالفا لأحكام دينه وأصول نظريته في تحريم الربا.
(2) آراء “مارتن لوثر” في الربا
استمر حكم تحريم الربا منصوصا عليه، محترم المكانة، محتلا للمقام الأسمى ضمن تعاليم الكنيسة، حتى في خضم الأحداث التي عرفت “بحركة الإصلاح الديني” والتي تمخضت عن ظهور “المذهب البروتستانتي” حيث أجمعت الكنائس كلها على تحريم الربا.
فهذا “مارتن لوثر” (وهو مؤسس المذهب البروتستانتي)، قد اشتد في تحريم الربا، حيث وضع رسالة عن التجارة والربا، حرم فيها كثيرا من البيوع الربوية. وقد أسهب “لوثر” في شرح أنواع الربا التي تروج باسم التجارة. ويوجز الباحث بعض عباراته فيما يلي:
“إن هناك أناسا لا تبالي ضمائرهم أن يبيعوا بضائعهم بالنسيئة، في مقابل أثمان غالية تزيد على أثمانها التي تباع بها نقدا، بل هناك أناس لا يحبون أن يبيعوا شيئا بالنقد، ويؤثرون أن يبيعوا سلعهم جميعا على النسيئة… إن هذا التصرف مخالف لأوامر الله مخالفته للعقل والصواب. ومثله في مخالفة الأوامر العقلية، أن يرفع البائع السعر لعلمه بقلة البضائع المعروضة، أو لاحتكاره القليل الموجود من هذه البضائع. ومثل ذلك وذاك أن يعمد التاجر إلى شراء البضاعة كلها ليحتكر بيعها، ويتحكم في رفع أسعارها..
“ومن بين التصرفات التي تدخل في باب المراباة، ولا تدخل في باب التجارة، أن يعمد أحدهم إلى الاحتكار عن طريق الترخيص، إذا عجز عن الاحتكار عن طريق المغالاة، فيبيع ما عنده بالسعر الرخيص، ليكره غيره على البيع بهذا السعر، فيحل بهم الخراب…
“كذلك فإنه من قبيل الربا والفسق والاحتيال أن يبيع أحد ما ليس في يده، لأنه يعلم موضع شرائه، فيستطيع شرائه، فيستطيع أن يعرض على مالكه ثمنا دون الثمن الذي يفرضه على طالب الشراء…
“ومثله أيضا أن يتآمر التجار الكبار، في أوقات الحروب، على إشاعة الأكاذيب لدفع الناس إلى بيع ما عندهم، ثم احتكاره بين أيديهم، وتقدير أثمانه على هواهم…
“ومثله أن بعض الممالك الأوروبية، كالملكة المتحدة، تعقد في عاصمتها مجلسا يراقب الأسواق، ويدبر الوسائل لاحتجان (تخزين) السلع المرغوب فيها لاحتكارها، ومقاسمة الدولة في أرباحها..
“كذلك فمن الحيل المعهودة لترويج الربا باسم التجارة أن تباع السلعة إلى أجل، ويعلم البائع أن شاريها لا بد أن يبيعها في هذا الأجل، بأقل من ثمنها، ليسدد ما عليه من الدين، ويشتريها بالثمن الذي يضطره إليه…
“وهناك تصرف آخر مألوف بين الشركات. وهو أن يودع أحد الأشخاص مبلغا ما عند تأجر، ألف قطعة من الذهب مثلا، على أن يؤدي له التاجر مائة كل سنة، وسواء ربح أو خسر… وتسوغ هذه الصفقة بأنها تصرف ينفع التاجر، لأنه بغير هذا القرض يظل معطلا بغير عمل، وينفع صاحب المال، لأنه بغير هذا القرض يبقى ما له معطلا بغير فائدة…
“كذلكن فمما يخرج من أبواب التجارة المشروعة، ويلحق بالربا المحرم، أن يخزن البائع غلاله في الأمامكن الرطبة، ليزيد في وزنها، وأن يذوق السلعة ليغزي الشاري ببذل الثمن الذي يربي على ثمنها. وأن يتخذ من سائل الاحتكار أو الإغراء ما يمكنه من جمع الثروات الضخمة، لان التجارة المحللة لم تكن قط وسيلة لجمع الثروات الضخام. وأنه إذا وجدت ثروة ضخمة فلا بد هناك من وسيلة غير مشروعة”.
ولعل “لوثر” قد بلغ في تحريم البيوع المريبة، والحاقها بالربا المحرم، ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده من رؤساء الدين المسيحي في العصور المتأخرة. ومما لا ريب فيه أن الحالة النفسية التي تساور المصلح الاجتماعي أو الواعظ الديني، باعث قوي على التشدد في حظر المحرمات وذرائعها، واتقاء الشبه التي توقع الأبرياء في حبائلها.
المطلب الثاني
المتحلل من حكم تحريم الربا
لافت دعوة تحريم الربا قوبلا في أوروبا، في أوائل العصور الوسطى، حيث تم تطبيقها على رجال الدين فقط، أول الأمر، لأن طبيعة الظروف، في ذلك الحين، لم تكن تتطلب تطبيقا عاما لمبدأ التحريم على كافة الأفراد، فقد كان نظام الاقتصاد النقدي ضيقا غير تام، كما كانت الفرصة التي تسمح بالاستثمار المجزي لرؤوس الأموال النقدية محدودة. وكانت الكنيسة هي الشخص الوحيد الذي يتلقى مبالغ كبيرة من الأموال، بينما المستحقات الإقطاعية للسيادة والملوك كانت لا تزال تدفع عينا. كما كانت عمليات الإقراض محدودة، وتتم في أغلبها في صورة قروض استهلاكية لذوي الحاجة من الفقراء. ولذا وصم الرأي العام الأوروبي، في هذه الآونة، اقتضاء الفائدة بأنه استغلال للفقراء.
إلا أنه مع انتعاش التجارة، ونمو المعاملات النقدية، وتزايد فرص مزاولتها، في أواخر العصور الوسطى، برز اتجاهان متعارضان اشد التعارض فيما يتعلق بالربا. فمن جهة سار الأسلوب العلماني في اتجاه التوسع في إقراض المال مقابل جني الفوائد، ومن جهة أخرى أخذت الكنيسة، وقد أزعجها هذا التطور الجديد، في جعل تحريمها الأصلي أشد تأكيدا وأكثر شمولا. ففي “المجلس اللاتيرني” المنعقد عام 1179 – صدرت أول سلسلة من القرارات الصارمة بتحريم الربا. وثمة دليل آخر على الحركة ذاتها، يلقاه الباحث في نمو الفرق الدينية التي جعلت معظمها من التقشف التام أسمى مبادئها.
ولكن بالرغم من تشدد موقف الكنيسة، نما أسلوب تقاضي الفائدة، تمشيا مع تحريمها. واطردت الزيادة في القرارات التي تضع حدا أعلى لأسعارها وبالوصول إلى عصر الكشوف الجغرافية، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تكون مسالك الاستثمار المجزي قد نمت إلى الحد الذي أصبحت عنده مذاهب الكنسيين القدامى لا تتفق، بصورة تدعو إلى اليأس، مع متطلبات التعامل الاقتصادي. وهنا تظهر تعديلات هامة في نظرية الربا في الفكر الأوروبي، حيث تراجع القانون الكنسي بوجه عام عن التشدد في تحريك تقاضي الفائدة، وإن كان ذلك بصورة بطيئة في البداية. وانطوى هذا التطور على التسليم بالاستثناءات، بدلا من التخلي عن المبدأ الصلي في التحريم، في مبدأ الأمر. ثم امتد إلى حبك بعض الحيل الفنية، وصياغة بعض النظريات الفقهية لإجازة تقاضي الفوائد ومنحها.
(1) الاستثناءات من المبدأ العام لتحريم الربا
أ – يجوز للمقرض أن يتقاضى تعويضا عن الخسائر التي أصابته بسبب القرض ومثال ذلك أن أجيز لجمعيات “القرض الحسن” أن تتقاضى فوائد يسيرة على المال الذي تقرضه، تعويضا عما تتكبده من المصروفات في دفع أجور العمال وفي إدارة العمل.
إن مبدأ تعرض المقرض للخسارة كان هو الأساس الذي أدى “بتوماس الأكويني” إلى التطويع من صرامة نظريته في تحريم التعامل بالربا. فحين يتأخر سداد الدين، فإن للمقرض الحق في المطالبة بالتعويض عن الخسائر التي لحقته نتيجة تأخر الوفاء له بدينه. وأخذت الكنيسة تسلم بتحمل المقرض للخسارة بمجرد التأخر في وفاء المدين إليه. وفتح هذا الحكم الباب واسعا لاستثناء أكبر، حتى نشأ بين اللاهوتيين المتأخرين، ومن أمثال (NAVRRUS) الاتجاه إلى الاستغناء كلية عن أية فترة للدين الاختياري، وهو ما فتح المجال لتقاضي الفوائد دون أي اعتبار من خسارة أو تأخير.
ب – يجوز للمقرض أن يتقاضى من المقترض تعويضا عما فاته من الربح بسبب القرض (Lucrun Cesson)، وكان يشترط في هذه الحالة أن يتفق المقترض مع المقترض على ذلك مقدما. وألا يجاوز التعويض مقدار صافي الربح الذي كان المقرض يمكن أن يجنيه لو أنه استبقى ماله واستثمره بنفسه، بعد خصم ما كان يتكبده من مصروفات في سبيل الحصول على الربح. كذلك أن يتبين أن المقرض ليست لديه وسيلة أخرى للحصول على هذا الربح، كأن يكون غير مستطيع أن يستثمر مالا آخر له غير المال الذي أقرضه. ولم تكن هذه الشروط لتتوفر إلا نادرا في بداية العصور الوسطى، حيث كان التداول المالي بطيئا وغير ملحوظ، وفرص الاستثمار المجزي للأموال محدودة.
والحقيقة أن الاستثناء الخاص بتوقف الكسب بسبب القرض يعتبر أهم سند في تحطيم التحريم الأصلي حيث أصبح ضياع فرصة تحقيق الكسب، بسبب إقراض المال، مبررا لتقاضي الفائدة. وقد استطالت المحاولات بشان هذا الاستثناءن ولكن إذ جعل ازدياد فرص الاتجار، في نهاية العصور الوسطى، من السهل إثبات أن كسبا قد جرت التضحية به عند إقراض المال، لم يكن في الإمكان منع هذا المبدأ من إحراز فوزه النهائي.
ج – يجوز للمقرض أن يتقاضى من المقترض فوائد يسيرة لتأمين خطر الضياع الذي يتعرض له ماله عند إقراضه (Periculm Sortis) وهذا الاستثناء لم يتم التسليم به إلا في أواخر القرن الرابع عشر، وذلك لمخالفته الصارخة لموقف الكنيسة من تحريم الربا.
د – يجوز للمقرض أن يتفق مع المقترض على شرط جزائي (Poena Conventionalis) يلتزم بموجبه المقترض، إذا لم يسدد القرض في الميعاد المقرر له، بأن يدفع مبلغا إضافيا جزاء تأخره في الوفاء.
لقد تردد رجال الكنيسة في إباحة هذا الاستثناء، ثم انتهوا إلى التمييز بين أمرين: شرط جزائي مبالغ فيه، وهو لا يجوز إذ أنه حينئذ يخفى ربا فاحشا مستترا. وشرط تهديدي لا يتجاوز الفائدة البسيطة التي كانت الكنيسة تسمح بها في بعض الحالات، وهو حلال وصحيح طالما لم يكن الغرض منه سوى حث المقترض على السداد في الأجل المضروب.
هـ – يجوز للمقرض أن يتقاضى من المقترض فائدة حقيقية عن رأس المال، إذا كانت القوانين المدينة أو العاديات تجيز ذلك. فتكون الفائدة حينئذ مرتكزة على سند شرعي (Titre Lègale). وقد روعي في هذا الاستثناء أن القوانين أو العادات التي يتقاضى الفائدة نظير الخسارة التي لحقته، أو الربح الذي فاته. وقد كان يشترط في هذه الحالة أن تكون الفائدة معتدلة، غير مبالغ فيها.
و – منذ أواخر القرن السادس عشر (1593) وضعت الكنيسة استثناءا جديدا بأن أباحت تثمير أموال القصر بالطريق الربوي، شريطة الحصول على أذن من القاضي بذلك.
وفي ظل هذه الاستثناء من المبدأ الأصلي لتحريم الربا، وهي جد خطيرة، تغلب الرأي الذي يبيح التعامل الربوي، وضاقت دائرة التحريم، وتزعزع موقف الكنيسة فتراجعت عن عنادها القديم، وصرحت في شيء من التخاذل بأن من يتقاضى فائدة غير معتدلة يكون ليس له حق فيها، ويجب عليه (ديانة لاقضاء) أن يردها، وإلا اعتبر مرتكبا لخطيئة (Pechè).
(2) الحيل الفنية للابتعاد عن دائرة التحريم
كذلك نشطت العقلية الأوروبية إلى ابتكار الحيل التي تبرر بعض صور التعامل الربوي، وتجيزها، وتضفي عليها الشرعية الدينية، وتخرج بها بذلك عن دائرة الربا المحرم. واهم هذه الخيل اثنتان هما:
أ – التعاقد الثلاثي… ومؤداه أن يؤسس صاحب المال مع المقترض شركة توصية يقدم فيها صاحب المال ماله والمقترض عمله، ويشتركان بذلك في اقتسام عائد الشركة. ثم يعقب عقد الشركة عقد تأمين بين الشريكين نفسيهما، ينزل بموجبه صاحب المال عن نسبة من أرباحه المحتملة في مقابل أن يؤمنه العامل ضد الخسارة المحتملة التي يكون قد أمن نفسه ضدها في مقابل تخفيض نصيبه النسبي من الأرباح الاحتمالية ثم يتلو عقد التأمين عقد ثالث، هو عقد بيع يبيع فيه صاحب المال ربحه الاحتمالي إلى المفترض في مقابل مبلغ محقق من المال يكون هو الربا بعينه.
ويستطيع الباحث أن يضرب لذلك مثلا، فيقول أنه إذا كان صاحب المال يساهم، بوجوب عقد الشركة، في الربح والخسارة، وكان نصيبه النسبي من كليهما هو 30%ن فهو ينزل في عقد الشركة، والربح والخسارة، هو 20% ثم ينزل صاحب المال نفسه، في عقد البيع، عن نسبة العشرين في المائة هذه في مقابل الحصول على عائد ثابت مضمون في شكل نسبة ثابتة من أصل المبلغ، وهي نسبة بالطبع أقل من هذه التي باعها، (ولتكن 10% من رأس المال) وهي ما تعتبر ربا مستترا.
ب – عقد المخاطرة (Contracu Movhatrae) وصورته أن يشتري الشخص طالب القرض من أحد التجار أية سلعة لديه بثمن مؤجل أكبر من ثمنها الفوري، ثم يعيد بيعها له في الحال بثمنها الحالي، والفرق بين الثمنين يحصل عليه التاجر صاحب السلعة مقابل الأجل. وهذا أيضا ربا جلي تحايل الطرفين على اخفائه.
والمثال العملي لهذه الحيلة أن يشتري رجل من تاجر سلعة قيمتها حاليا 400 جنيه بخمسمائة مؤجلة إلى سنتين، ثم يبيع المشتري السلعة نفسها للتاجر ذاته نقدا بقيمتها الحالية (400 جنيه) فينتهي الأمر إلى أن المشتري قد حصل من البائع على 400 جنيه، يؤديها 500 بعد سنتين. وهذا هو الربا السافر مستترا تحت صفقتين متتابعتين من البيع.
(3) النظريات الفقهية المجوزة للربا
وحاول آباء الكنيسة صياغة بعض النظريات الفقهية التي يمكن الاستناد إليها للحكم بجواز بعض المعاملات الربوية، وذلك مجاراة من الكنيسة لظاهرة انسياب الكثير من المعاملات الربوية مجرى النشاط الاقتصادي. وأهم النظريات في هذا الصدد هي التي قال بها اليسوعيون (الجزويت) والبرتستانت.
أ – وخلاصة رأي الشيوعيين هي أن التعامل بالربا قد صار، على عهدهم، أمرا طبيعيا لا يتجافى مع اعتبارات العدل. وقد صدر هذا الرأي عن الحكم بأن النقود التي كان “أرسطو” قد وصفها بأنها “أداة عقيمة غير منتجة” قد أصبحت عاملا منتجا، بل أصبحت من أهم عوامل الإنتاج. فإذا كانت النقود، من حيث كونها معادن، لا تنتج شيئا، فإنها، من حيث هي وسيلة ائتمان، تدخل ضمن عوامل الإنتاج. فإذا كان العمل لا يستطيع أن يؤدي دوره في عملية الإنتاج حال غياب رأس المال، فإن رأس المال يعد بذلك عاملا أساسيا في الإنتاج، حيث لا يتحقق الإنتاج بدونه. ومن ثم فإذا كان العمل يحصل على جزائه في صورة “أجر” فإن رأس المال يستحق هو الآخر مكافأته، ويحصل عليها في صورة “الفائدة” وبهذا التصوير لا تدخل “الفائدة” في دائرة الربا المحرم، بل تكون “أجرا مشروعا لمال منتج”.
فالفائدة مشتقة بالضرورة من صفة الإنتاجية التي يتصف بها رأس المال. ذلك أن رأس المال يزيد في إنتاجية عنصر العمل، وضرب “الجزويت” لذلك العديد من الأمثلة، منها أن الصائد لو استخدم قواه الجسدية مباشرة، دون التوسل ببندقيته أو زورق مثلا، لكان عائد الصيد قليلا مع كثرة الإجهاد والتعب. بينما لو استعمل سلاحا، كالبندقية مثلا، أو قارب للصيد، لكان العائد أوفرا، والجهد أقل. ومثل وسائل الصيد، في هذا المثال، ينطبق على آلات النسيج وأدوات البناء ووسائل الزراعة.
وإذا كان رأس المال يزيد الإنتاجية على هذا النحو، فمن المتعين أن يعطي المقترض جزءا مما حصل عليه من الزيادة في الإنتاج. ويمكن تبرير حق المقرض في الحصول على عائد قرضه، بالنظر إلى مشروعية استجار الأدوات الرأسمالية، فمن لا يمتلك زورقا للصيد أو محراثا للزراعة، يجوز له أن يستأجرها مقابل دفع الأجرة لصاحبها. وحيث أبيحت الأجرة فلا بد من إباحة الفائدة على القرض، لأن القرض إجارة للمال. وبذلك تكون الفائدة عن أجرة هذا المال. وبهذا التأويل أباحوا الفائدة قياسا على الأجرة.
ومع ذلك قال (الجزويت) بتحريم الفائدة في بعض صور التعامل بين الأفراد، ومثلها الغرض الاستهلاكي، وأيضا حيث يتم الإقراض بفائدة تربى على الحد المألوف.
ب – أما بالنسبة لموقف “البروتستانت” من جهة إباحة الفائدة (الربا) فالباحث يجد لكل من “منتسكيو” و”كالفن” آراء مجوزة للتعامل بالربا في بعض صور المعاملات. فكانا يجوزان ربا الإنتاج والاستثمار، ويحرمان ربا الاستهلاك الضروري الذي يضطر إليه المحتاج، مثال ذلك فلاح تلف محصوله ولا يجد ما يشبع به حاجات معيشته هو وأسرته.
وهكذا، عن طريق الاستثناءات والحيل الفنية والنظريات الفقهية، ضاقت دائرة الربا المحرم في دول أوروبا المسيحية، شيئا فشيئا، واتسع نطاق المعاملات الربوية وتعددت صورها وتنوعت فنونها. ووقف المفكرون من رجال الدين والاقتصاد عاجزين عن مواجهة هذا التيار العلماني المجوز لأكل الربا، بل واعترف كثير منهم بكون الربا “شر لا بد منه”. فهذا “بيكون” في كتابه “بحث في الربا” يقول: “طالما استمر احتياج الناس إلى إعطاء المال وأخذه كقروض، وما داموا في ذلك القدر من غلظة القلب، حتى أنهم لا يقرضون نقودهم ما لم يحصلوا على عائد في مقابل ذلك، فينبغي إذن أن نسمح بالفائدة”.
المبحث الثالث
نظريات الفائدة (الربا) في العصور الحديثة
المطلب الأول
التجاريون والفائدة
(1) حقيقة موقف التجاريين من الفائدة
انصرف الهم الأول للتجاريين إلى بحث وسائل تنمية الموارد الاقتصادية للدولة القومية الناشئة.
وقد رأوا أن هذا الأمر يتحقق عن طريق زيادة الاستثمار الكلي. أي حفز للاستثمار المحلي، وتشجيع الاستثمار الأجنبي.
ووسيلة حفز الاستثمار المحلي هي خفض سعر الفائدة السائد في داخل الدولة، بافتراض توافر البيئة الاجتماعية والسياسية الملائمة لحفز الاستثمار، بينما يتوقف جذب الاستثمار الأجنبي على مقدرة الدولة على تحقيق ميزان تجاري موافق.
ويزيد من أهمية هذه السياسة المزدوجة عند التجاريين، ذلك الترابط القائم بين أداتيها في الداخل والخارج. فتحقيق ميزان تجارب موافق، وهو يجذب الاستثمار الأجنبي، فإنه يؤدي في نفس الوقت، عن طريق دخول المعدن النفيس، إلى خفض سعر الفائدة في الداخل، وبالتالي الاستثمار المحلي.
على أن فعالية سياسة تخفيض سعر الفائدة في تحقيق أهدافها تتطلب مراعاة اعتبارين هامين.
الأول هو ألا يكون انخفاض سعر الفائدة كبيرا بحيث يغري بزيادة الاستثمار والعمالة زيادة كبيرة، بما يؤدي إلى ارتفاع وحدة الأجر في الداخل، وبالتالي ارتفاع أثمان الإنتاج المحلي بالمقارنة بأثمان الإنتاج الأجنبي المماثل، وهو ما يتمخض في النهاية عن تحقيق ميزان تجاري غير موافق.
والثاني هو ألا يكون انخفاض سعر الفائدة كبيرا بحيث يصبح مستواه أقل كثيرا عن مستويات الفائدة السائدة في دول العالم الخارجي، حيث يؤدي هذا الأمر إلى تسرب المعدن النفيس خارج الدولة، وهو ما يؤدي إلى تحقيق ميزان تجاري غير موافق.
وتزداد أهمية هاتين الملاحظتين إذا ما اتسعت دائرة العلاقات الاقتصادية بين دول العالم. ذلك أن دخول المعدن النفيس في دولة ما يعني خروجه في نفس الوقت من دولة أو دول أخرى. ومن ثم فإن الآثار غير الملائمة المترتبة على انخفاض أسعار الفائدة محليا، وارتفاع تكاليف الإنتاج في الداخل، تزداد خطورة بارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض تكاليف الإنتاج في العالم الخارجي.
ويوضح تاريخ أسبانيا، في أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، كيف أن زيادة رصيد المعدن النفيس قد أدى إلى انخفاض سعر الفائدة انخفاضا كبيرا، مما دفع إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي، وقلل بذلك من مقدرة السلع الأسبانية على الصمود أمام منافسة المنتجات الأجنبية المثيلة في الأسواق الخارجية، بما انتهى إلى تدمير التجارة الخارجية لأسبانيا.
خلاصة ما تقدم أن التجاريين قد أدركوا تماما أن سعر الفائدة المرتفع إنما يمثل عقبة كأداء في سبيل نمو الثورة القومية.
وثمة مسألة هامة وصمها التقليديون بالصبيانية، ولكنها كانت موضع عناية التجاريين لعدة قرون. ذلك أن التجاريين لا يرون أن سعر الفائدة يتحدد تلقائيا، بل يرون أنه لا يوجد أبدا ما يضمن أن يتحدد سعر الفائدة تلقائيا بما يحقق الصالح الاجتماعي العام. إذ يميل سعر الفائدة، في رأيهم، إلى الارتفاع المستمر مع مرور الزمن. ومن ثم فمن واجب الحكومة المتزنة أن تعمل على الحد من الارتفاع المستمر في سعر الفائدة، عن طريق سن التشريعات التي تحدد حدا أعلى للفائدة.
ويرى “كينز” أن التجاريين قد أدركوا أيضا أن سعر الفائدة يتحدد بالعلاقة بين التفضيل النقدي وكمية النقود. وهنا أيضا يخلص الباحث إلى أمرين:
والأول هو أن التجاريين قد استوعبوا حقا مساوئ ارتفاع التفضيل النقدي عن المستوى المناسب، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع سعر الفائدة، وعرقلة نمو الثروة.
والثاني هو أن التجاريين قد تفهموا إمكانية خفض سعر الفائدة، وبالتالي محاربة الربا، عن طريق زيادة كمية النقود.
وأخيرا يقرر “كينز” أنه يصعب علينا أن نتفهم حقيقة الاستنتاجات التي انتهى إليها التجاريون، والتي ساقتهم خبرتهم العملية نحوها، بدون أن نعلم ذلك الاتجاه الجاد الأصيل الذي ساد تاريخ البشرية من قديم، والذي يؤكد دائما أن الميل للادخار أقوى بكثير من الحافظ على الاستثمار. فضعف الحافز على الاستثمار كان، في كل الأوقات، المفتاح الأكيد للمشكلة الاقتصادية. فحقيقة الأمر أن رغبة الأفراد في زيادة ثرواتهم الخاصة، عن طريق ضغط الاستهلاك، كانت دائما أقوى من حوافز أرباب الأعمال على زيادة الثروة القومية باستخدام عمال جدد، وإنتاج أصول جديدة.
(2) نماذج من الفكر التجاري حول الفائدة
الحق أن الباحث يرى في موقف التجاريين من مسالة الربا ما يبعث على الدهشة. ذلك أنهم، مع تقديرهم الكبير للنقود (المعدن النفيس) قد رفضوا الحجج المدافعة عن الربا، التي قال بها أصحاب الفكر العلماني المعارض للمذهب الكنسي.
لقد لاذ التجاريون بآراء الكنيسة التي كانت تعارض الربا، وتدافع عن الاقتصاد الاقطاعي ضد هجوم رأي المال النقدي، وهذا تناقض أول، مرجعة إلى أن التجاريين، رغم اعتقادهم بأن النقود منتجة، قد لاحظوا، مع شدة رغبتهم في الحصول على رأس المال النقدي، تعارض مصالحهم مع مصالح المدخرين الذي يعرضون النقود للإقراض. فمن مصلحة التجار الحصول على الأموال السائلة بأقل سعر ممكن للفائدة، بينما يغر بالمدخرون في الحصول على أكبر سعر فائدة ممكن. وتتحقق مصلحة التجار كاملة بإلغاء الفائدة كلية. وفي كفاح التجاريين ضد ما اعتبروه “الفائدة المبالغ فيها” أو التي تتجاوز الحد، لم يتورعوا عن الاستناد إلى حجج الذين كانوا يستنكرون ربح التاجر، وبقوة لا تقل عن قوة دفاع التجاريين أنفسهم عن الربح. وهذا تناقض ثان.
من داخل هذه المتناقضات يجب أن يفهم أي باحث واقع الأمثلة التالية التي توضح موقف التجاريين من الفائدة.
أ – جيرالد مالين
يعد “مالين” مثالا للنظر فيما يتعلق بالتناقض في موقف التجاريين من الفائدة. فلقد كان موظفا وتاجرا ناجحا في آن واحد. وبصفته المزدوجة هذه لم يستطيع أن يستنكر تقاضي الفائدة كلية، إلا أنه، من ناحية أخرى، لا يسمح بإطلاق العنان لسعر الفائدة. فهو يفرق بين “الفائدة” وهي العائد المعقول عن استخدام راس المال النقدي، “والربا” وهو العائد المبالغ فيه. وفي كتابه “وصف مجازي عن سان جورج لإنجلترا” (1601)، و”القانون التجاري” (1622)، يهاجم “مالين” بأكبر قدر من المرارة، شرور الربا الفاحش، ويدعو إلى فرض رقابة صارمة على أسعار الفائدة، وتكوين ما يعرف “بجمعيات القرض الحسن” (Monts de Pièlè) للحيلولة دون استغلال الفقراء وكذلك كوسيلة لتفادي عادة مألوفة ودارجة يرى، بوصفه من رجال الأعمال، أن ليس في الإمكان القضاء عليها.
وبرغم قلقه تجاه الربا، فإنه كان يعتقد أن الربا ليس سوى عرض واحد من أعراض شر أبعد غورا، وهو التعامل في النقد الأجنبي، وكان يمارسه الماليون لحسابهم الخاص. وغالبا ما كان هذا التعامل ربويا، ويؤدي إلى رفع أسعار الفائدة عن طريق خفض رصيد البلد من المعدن النفيس. والواقع أن “مالين” كان يعتبر النقد الأجنبي والتعامل فيه، بمثابة المشكلة الاقتصادية الرئيسية. ولكنه من ناحية أخرى، تناول المشكلة بعقلية رجل العصور الوسطى، فبنى تشخيصه وعلاجه على أساس أخلاقي.
بدأ “مالين” بأن سلم بالحاجة إلى التبادل الداخلي والدولي، وسلم كذلك بأن النقود قد ابتكرت لتكون وسيطا للتبادل ومقياسا مشتركا للقيم. وأن الكمبيالة قصد بها أن تكون مقياسا مشتركا في المعاملات الدولية، ولكن أفسدتها ألا عيب الماليين الأنانيين، وترتب على ذلك نمو المبادلات غير المشروعة، وتحطيم سعر التعادل الحقيقي بين العملات الأجنبية. أي سعر التبادل بين العملات بحسب ما تحويه كل عملة من المعدن طبقا لقاعدة التعادل أو التكافؤ، وهي الأساس الأخلاقي لعمليات التبادل. فإذا انحرفت نسبة التبادل عن سعر التعادل بين العملات، فإن ذلك يتضمن ظلما يقع على أحد طرفي المبادلة. وهو يرجح إمكانية حدوث الانحراف عن قاعدة التعادل (par. Pro. Pari) إلى وجود شكلين غير مشروعين للتعامل في العملات النقد الوهمي (Cambio Ficticio) والواقع أنه ليس واضحا تماما ما يقصده “مالين” من التعبيرين. على أنه يبدو من الأمثلة التي قدمها، أنهما لا يختلفان عما يمكن تسميتها اليوم “كمبيالات صورية وكمبيالات مالية مقبولة”. ففي الحالة الأولى يقترض تاجر نقودا من مالي، بأن يسحب كمبيالة على المراسل الأجنبي للمالي. وهنا (وبرغم عدم وجود معاملة تجارية) ينشأ النقد الأجنبي. وفضلا عن هذا يمكن إخفاء الأسعار الربوية للفائدة. وفي الحالة الثانية يستخدم المركز المالي للصيرفي ومراسله الخارجي لتسهيل تجارة التجار ذوي الموارد الضعيفة، الذي يتعين عليهم دفع فوائد ربوية عالية لقاء ذلك. والواقع أن هذه المعاملات الربوية في العملات الأجنبية تؤدي إلى الإضرار بمصلحة التبادل التجاري، وتقوض صرحه. والعلاج هو أشرف الدولة المتزايد على تداول العملات، وقصر التجارة الخارجية على القلة الممتازة من التجار ذوي الأخلاق.
ب – توماس كلييير
في كتابه “مقال ضد الربا” (1621)، أراح “كلييير” نفسه من الدخول في الجدل الفقهي حول مشروعية تقاضي الفائدة أو عدم مشروعيته. ولكنه مع ذلك أيد فكرة إصدار قانون بتحديد الحد الأعلى لسعر الفائدة، حيث رأى أن تخفيض الحد الأعلى للفائدة يمكن التجار الإنجليزي الذي يؤددون، حينذاك فائدة قدرها 10%، من أن ينافسوا بنجاح أوفر مزاحميهم الهولنديين الذين لم يكونوا يدفعون، في نفس الوقت، سوى فائدة قدرها 6% فقط.
ج – جوسيا تشايلد
تصدى “تشايلد” في كتابه “حديث جديد في التجارة” (1669) لنقد أحد معاصريه، وهو “توماس مانلي” الذي دافع عن الفائدة، في كتابه “النظرة الخاطئة إلى الفائدة عن النقود”. فرأي “تشايلد” أنه نصير الجد، بينما كان “مانلي” يدافع عن الكسل. ذلك أن “مانلي” أخذ سعر الفائدة المنخفضة على أنه نتيجة للثروة، فعنده أن زيادة الثروة، أي زيادة عرض المعدن النفيس، يؤدي إلى خفض سعر الفائدة، بينما يرى “تشايد” أن سعر الفائدة المنخفض سبب للثروة وليس نتيجة لها. فإذا كانت التجارة وسيلة لإثراء البلد، وإذا كان خفض سعر الفائدة يشجع التجارة، فهل يمكن أن ينكر أحد أن السعر المنخفض للفائدة سبب قوي في خلق ونمو الثروة؟
ومع ذلك، ولما كانت البيضة هي منبع الدجاجة، والدجاجة هي مصدر البيضة، فإن “تشايلد” يوافق على أن الزيادة في الثروة، بسبب انخفاض سعر الفائدة، يمكن بدورها أن تؤدي إلى مزيد من الخفض لسعر الفائدة.
وعلى غرار “كلييبر” كان “تشايلد” معنيا بتدعيم المقدرة التنافسية للسلع الإنجليزية في الأسواق الخارجية. وفي هذا الصدد فإنه كان كثيرا ما يبدي إعجابه بالهولنديين، ويرى أن هولندا هي “بلد الرأسمالية التجارية بلا منازع”. ويفسر ذلك بأنهم في هولندا أمكنهم منذ زمن طويل، إخضاع قوة رأس المال النقدي لاحتياجات الرأسماليين الصناعيين. وهو نصر لم تحرزه إنجلترا بعد.
والواقع أن هجوم التجاريين على أسعار الفائدة العالية كان أمرا طبيعيا في عصر تمييز بعظم ندرة المال السائل، وعدم تطور التسهيلات المصرفية، وازدياد العداوة بين الرأسماليين التجاريين والرأسماليين الصناعيين.
المطلب الثاني
الرواد الإنجليز ونظرية الفائدة
أ – وليم بيتي
رأي “بيتي” أن الربا هو ريع النقود. تماما كما أن الريع هو عائد الأرض. ومن ثم فهو يفسر ماهية الفائدة بالاستناد إلى ظاهرة الريع.
والرأي الذي يبديه “بيتي” في الربا بسيط. فهو يستنكر تقاضي الفائدة إذا استطاع المقرض أن يطلب من المقترض في أي وقت، بينما لو تمتع المقترض بالقرض الحاصل عليه لفترة زمنية محددة، بحيث يمتنع على المقرض المطالبة بقيمة قرضه خلال هذه الفترة، فإنه يكون في وسع المقرض أن يطالب بفائدة على قرضه. ويكون له حق فيها. ويخلص “بيتي” إلى أنه سعر الفائدة يتحدد بريع الأرض. وهو في هذا يسبق الطبيعيين الفرنسيين، حيث يقرر أنه طالما كان استرداد القرض أمرا مضمونا لا ريب فيه، فإن سعر الفائدة يكون مساويا لريع تلك المساحة من الأرض التي تشتريها النقود المقرضة. ولكنه يستدرك فيقول بأنه طالما أن الأمان عرضين وضمان الاسترداد أمر غير مؤكد، فلا بد من إضافة مبلغ ما إلى الفائدة الطبيعية (الريع)، كتأمين ضد مخاطر الإقراض.
وبرغم أن القاعدة العامة تنص على أن الفائدة تتحدد بالريع، إلا أن “بيتي” يرى أن هناك عوامل تؤدي إلى تفاوت من وقت لآخر، ومن مكان لآخر. مثل حجم الثروة وعدد المقرضين. ومن ثم فمن العبث التدخل بتحديد سعر الفائدة عن طريق قانون وضعي، فهو يتخذ من مناقشة موضوع الفائدة فرصة مواتية للحديث عن بطلان وعبث من القوانين الوضعية. وهو يهاجم القوانين المعمول بها في عصره بأنها ربما كانت ضد القوانين الطبيعية، بل وربما لا تصلح التطبيع وعبث من القوانين الوضعية. وهو يهاجم القوانين العمول بها في عصره بأنها ربما كانت ضد القوانين الطبيعية، بل وربما لا تصلح للتطبيق. وبالتالي ينبري للدفاع عن مبدأ الحرية الاقتصادية والإنسانية، ويسبق بذلك الطبيعيين و “آدم سميث” في تعميد فكرة (النظام الطبيعي) ويسوف “بيتي” مثلا، حالة بلد يملك قدرا كبيرا من النقود بأكثر مما يلزمه، فينبغي له أن يذيب نقوده، ويصدرها كسلعة إلى الخارج، حيث يوجد طلب على المعدن النفيس، أو يقرض هذه النقود بفائدة حيث يكون معدل الفائدة مجزيا. عكس الحال إذا كانت لدي البلد نقود قليلة، فينبغي إنشاء مصرف، وإذا ما أحسنت إدارته فإنه سوف يضاعف تقريبا من آثار المتداولة من المسكوكات.
ب – جون لوك
ساير “لوك اتجاه “بيتي” في معارضة قوانين تقييد الفائدة. كما اترع “لوك” بدقة آثار “بيتي” في استخلاص نظرية الفائدة عن طريق تحليل الريع. إذ كان ما يزال يعتبر أن الريع هو الفائض الوحيد. ومن ثم اتجه إلى تفسير هذا التساؤل المحير: كيف يمكن أن يكون أن يكون للنقود، وهي عقيمة بطبيعتها، نفس الطابع الإنتاجي للأرض الزراعية التي تنتج بالفعل شيئا نافعا؟. وخلص إلى أنه كما أن التوزيع المتفاوت للأرض الزراعية قد مكن الذين يملكون أرضا، تزيد على ما يستطيعون زراعتها بأنفسهم، من إجبار المستأجر على دفع ريع مقابل انتفاعه بالأرض، فإن التوزيع المتفاوت للنقود قد مكن الحائزين لها في الحصول على فائدة مقابل إقراض النقود الفائضة عن حاجاتهم إلى الغير.
وقد جعل “لوك” النقود ذات قيمة مزدوجة. قيمة ايجارية، وقيمة تبادلية. إذا لما كانت النقود ليست بسلعة سريعة العطب، فإن ذلك يلغي قيدا من القيود التي يمكن أن تحد من ظاهرة تزايدها، أي تراكمها، في أيدي الأفرد. فالسلع سريعة العطب وحدها هي التي لا يستطيع أي فرد أن يقتني منها بأكثر مما هو في احتياج فعلي إليه، مخافة التلف ومع ذلك فهناك قيود على المبلغ الذي يستطيع أي فرد تملكه، وهو نوع ومقدار العمل الذي يمارسه الفرد، فضلا عما يؤول إليه من ميراث أو هبة أو وصية ومن هنا نشأ التفاوت الحقيقي في توزيع الثروات بين الأفراد وهو ما جعل للنقود قيمة ايجارية تتمثل في قدرة النقود على أن تدر دخلا دوريا، يعرف بالفائدة وهو شبيه بالريع، أما القيمة الثانية للنقود، فهي قيمتها في الاستبدال. أي سلطانها في المبادلة بكافة السلع والخدمات المتداولة في الأسواق. وبذلك يكون “لوك” قد وقع في الخطأ الذي سبقه إليه “التجاريون” من حيث الخلط بين النقود ورأس المال، وإن كان يخالف التجاريين رأيهم بأن انخفاض سعر الفائدة يعمل على رفع الأثمان. فيوضح أن الذي يحدد الأثمان ليس هو سعر الفائدة، وإنما كمية النقود في التداول. ويعتبر هذا المذهب من “لوك” اسهاما بناء في بنيان النظرية النقدية الكمية.
كذلك فإن “لوك” قد تجنب الأخطاء التي انقاد إليها كل من “تشايلد” و”كلييبر” وذلك بأن اعتبر “لوك” الفائدة نتيجة وليست سببا لمقدار النقود التي تسعى إلى التوظف في السوق.
ج – دادلي نورث
اتخذ “نورث” نفس موقف “بيتي” و”لوك” في معارضة قوانين تقييد الفائدة، وفي تحليل العلاقة بين الفائدة والريع. وإن كان “نورث” قد سار خطوة أوسع من سابقه “لوك” حيث يبدو أنه كان أول من كون فكرة واضحة عن رأس المال. فقد سماه الرصيد. وجعل إقراض الرصيد في التجارة، من جانب الذين تعوزهم القدرة على استخدامه بأنفسهم، أو تجنبوا مشقة هذا الاستخدام، معادلا لتأجير الأرض والفائدة التي يتقاضاها المقرضون هي ريع للنقود شبيه بريع الأرض. وملاك الأرض، يجتمعون في نمط واحد عند “نورث”.
ولا يتفق “نورث” مع التجاريين في إمكانية تنمية الأفراد ثرواتهم عن طريق اكتناز النقود (المعدن النفيس). ذلك أن الأفراد، سعيا منهم لتنمية ثرواتهم، إنما يتجهون إلى تثمير ممتلكاتهم. إما عن طريق إقراضهم للغير أو استخدامها بأنفسهم في أي مشروع يدر عليهم ربحا. وما أحد يريد الاحتفاظ بالنقود في شكل عاطل، إذ أن كل فرد يسعى إلى تنمية ثروته.
ومثل “لوك” أيضا. أخذ “نورث” الفائدة على أنها نتيجة لمستوى النشاط الاقتصادي، وليس سببا له. ذلك أن تفسير سعر الفائدة عنده يكمن في الكمية النقدية المتداولة. ولكنه كان أوضح من “لوك” في التعبير عن هذه الفكرة، حيث قال بأن سعر الفائدة يهبط إذا زاد عدد المقرضين عن عدد المقترضين. ذلك أن سعر الفائدة المنخفضة لا يخلق التجارة، بل العكس هو الصحيح. إذا انه لو ارتفع مستوى النشاط التجاري لترتب عليه زيادة كمية النقود في التداول، وبالتالي هبوط سعر الفائدة، والعكس صحيح.
د – دافيد هيوم
في “مقال عن الفائدة” يبدأ “هيوم” حديثه بالتسليم بالمبدأ الذي كان موضع قبول في عصره، والذي يرى أن انخفاض سعر الفائدة في بلد ما، يعد أقوى دليل على الازدهار الاقتصادي لهذا البلد. وهو في هذا يتفق مع آراء كلييبر” و “تشايلد”. ولكنه بعد ذلك، وعلى غرار “بيتي” و”لوك” و”نورث” راح يبين أن سعر الفائدة المنخفض هو نتيجة وليس سببا. وبذلك انحاز إلى هذا الفريق من المفكرين في معارضة قيام الدولة بتنظيم الفائدة.
ثم أنه بعد ذلك يفوق “لوك”، حيث يرفض “هيوم” القول بأن سعر الفائدة المنخفض يعد نتيجة مترتبة على وفرة النقود. بل يرى حدوث الأمرين سويا.
ولقد ميز “هيوم” عدة عوامل تشترك في تحديد سعر الفائدة. أولها عرض وطلب القروض، تماما كما قال “نورث”، حيث يرى “هيوم” أن سعرا عاليا للفائدة يكون سببه “طلبا شديدا على الاقتراض “مع” قلة المال المتاح لإشباع هذا الطلب”. ولكنه يذهب إلى أبعد من مجرد هذه الأسباب المباشرة، حيث يقرر أن نفس هذه الأسباب تعود، في مبررات وجودها، إلى انخفاض حجم النشاط الإنتاجي في الصناعة والتجارة. وبذلك يكون مستوى النشاط الاقتصادي هو العامل الثاني في التأثير على مستوى الفائدة السائد. كذلك فعندما يوافق “نورث” التي ترى أن الصفة الأساسية التي يتصف بها رأس المال، هي المقدرة على خلق الربح، يكون قد اكتشف العامل الثالث المحدد لسعر الفائدة، وهو الأرباح الناشئة عن التجارة. حيث اعتبر الأرباح والفائدة أمرين مرتبطين. فهو يقرر “أن انخفاض أرباح السلع يغري الأفراد بأن يكونوا أكثر استعدادا لقبول فائدة منخفضة”. ومن جهة أخرى “لن يقبل أحد البيع بأرباح منخفضة، حيث يستطيع أن يحصل على فائدة عالية”.
المطلب الثالث
التقليديون والفائدة
يجمل بالباحث أن يبدأ بعرض بعض التعريفات التقليدية للفائدة.
فقد عرف “مارشال” الفائدة بأنها الثمن الذي يدفع لاستخدام رأس المال، في أية سوق. ويصبح سعر الفائدة عند مستوى التوازن عندما يتعادل الطلب الكلي على رأس المال في السوق مع الكمية الكلية المعروضة منه. ويرى “كاس” أن الاستثمار يشكل الطلب على الانتظار، والادخال يشكل عرض الانتظار. وسعر الفائدة هو الثمن الذي يحقق التعادل بين الاثنين. ويرى “كارفر” أن سعر الفائدة هو السعر الذي يحقق التوازن بين المشقة الحدية للانتظار والإنتاجية الحدية لرأس المال. ويرى “تاوسج” أن سعر الفائدة يستقر عند المستوى الذي يجعل الإنتاجية لرأس المال قادرة على جذب الكمية الحدية من الادخار.
ومفاد هذه التعريفات كلها، أن الفائدة لا تعدو أن تكون، في نظر التقليديين، ثمنا للإدخال. وهي بذلك تتحدد، وكأي ثمن، بعرض وطلب الإدخال. ولما كان طلب الإدخال يعود، عند التقليديين، للاستثمار، أمكن القول أن سعر الفائدة يتحدد بالإدخال والاسثمار.
(1) النظريات التقليدية عن الفائدة
ويمكن تصنيف النظريات التقليدية عنا لفائدة في إطار ثلاثة اتجاهات. اتجاه اهتم بتحليل عرض طلب الإدخال، وهذه هي نظرية إنتاجية رأس المال. ثم ظهر بعد ذلك الاتجاه الموفق، على يد التقليديين المحدثين، وبالذات في السويد، وهذه هي نظرية “الأرصدة المتاحة للإقراض”.
أ – نظرية التفضيل الزمني (الامتناع)
تجد هذه النظرية بذورها في كتابات “سنيور”. وتهتم بدراسة مبررات تقاضي المقرض الفائدة، ولكنها لا تركز على أسباب دفع المقترض للفائدة.
وخلاصة النظرية أن سعر الفائدة يتحدد بعرض وطلب الإدخال. ويميل إلى التساوي مع التضحية التي يتحملها المدخر بسبب الامتناع عن الاستهلاك. ويتم هذا التساوي عن طريق تأثير الفائدة في عرض وطلب الإدخار. وتفضيل ذلك أنه لو حدث وكانت الفائدة مرتفعة عن التضحية، فذلك يؤدي إلى زيادة الادخار. عن الطلب عليه، بما يقود إلى انخفاض الفائدة. وبالتالي ينخفض عرض الادخار بينما يرتفع الطلب عليه. وهكذا تظل الفائدة تنخفض حتى تتساوى مع التضحية، وحينئذ يتساوى عرض الادخار وطلبه. عكس ذلك إذا ما انخفضت الفائدة عن التضحية. فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض عرض الادخار عن الطلب عليه، مما يقود إلى ارتفاع الفائدة حتى تتساوى مع التضحية التي يتحملها المقرض، وحينئذ يتساوى عرض الادخار مع طلبه.
ب – نظرية إنتاجية رأس المال
ترجع هذه النظرية، في صورتها الأولى، إلى “مالتس” في إنجلترا، و”ساي” في فرنسا. وقد اهتمت النظرية بدراسة مبررات دفع المقترض للفائدة. وخلصت إلى أن الفائدة تجد مصدرها في إنتاجية رأس المال. فالفائدة هي ثمن استخدام الادخار. ومن ثم فهي تتحدد، كأي ثمن، بعرض وطلب الادخار. ولكن هذه النظرية تهتم، عكس سابقتها، بتحليل جانب الطلب. ولذلك خلصت إلى أن الفائدة تميل إلى التساوي مع إنتاجية رأس المال. فإذا حدث وارتفعت الفائدة عن إنتاجية رأس المال، فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض الطلب على المدخرات من جهة أخرى، حتى يتساويا. وإذا حدث وانخفضت الفائدة عن إنتاجية رأس المال، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة الطلب عن الادخار عن عرضه، مما يؤدي إلى رفع الفائدة، وخفض الإنتاجية حتى يتساويا كذلك.
وينبه الباحث إلى أن “الحديين” قد فهموا كلا من تضحية المدخر وإنتاجية رأس المال بالمعنى الحدي.
ج – نظرية الأرصدة المتاحة للإقراض
إن الأرصدة المتاحة للإقراض تصبح كذلك نتيجة سلوك نشاط محددة يعرف بالامتناع عن الاستهلاك. ويطلق على هذا النشاط اصطلاح “الادخار”. فالفرد، عندما يدخر، يتخذ في واقع الأمر، قرارا بالامتناع عن الاستهلاك الحالي، أي الامتناع عن الإنفاق الحالي لجزء من دخله الجاري. وهو بهذا القرار يعني أنه يؤجل حقه في التمتع بالاستهلاك إلى فترة لاحقة. سواء قام هو بالاستهلاك مستقبلا، أو ناب عنه ورثته في ذلك. ويحتوي القرار بالادخار على عنصرين:
1 – الانتظار أي عدم الاستمتاع الحالي بمكاسب أو مميزات يمكن الاستمتاع بها الآن وحالا.
2 – تحمل المخاطر، ذلك أنه، لسبب أو لآخر قد لا تتحقق المكاسب أو المتع المستقبلة بالحجم المتوقع.
ويرى سير “روبرتسون” أنه عند مناقشة تحديد سعر الفائدة، يجب أن تناقش القوى التي تحكم الطلب على الأرصدة المتاحة للإقراض (أي الطلب على الانتظار)، والقوى التي تحكم عرض الأرصدة المتاحة للإقراض (عرض الانتظار).
الطلب على الأرصدة المتاحة للإقراض يمكن تصنيف الكمية المطلوبة من الأرصدة المتاحة للإقراض، بحسب الغرض الذي تستخدم من أجله هذه الأرصدة إلى:
1 – أرصدة موجهة للإنفاق بهدف الإضافة إلى رأس المال القائم، أي بهدف بناء رأسمال جديد، سواء أكان ثابتا أو عاملا.
2 – أرصدة موجهة بغرض الحفاظ على نوع وكم رأس المال القائمن دون زيادة، أي أرصدة مخصصة لإحلال رأس المال، سواء أكان ثابتا أو عاملا.
3 – أرصدة مخصصة للاحتفاظ بها، أي تخزينها (الاكتناز).
4 – أرصدة موجهة للإنفاق الاستهلاكي زيادة عن الدخل الجاري من جانب الأفراد أو الحكومة.
من التصنيف السابق يمكن تقسيم طالبي الأرصدة المتاحة للإقراض إلى ثلاث فئات:
أ – طلب الأفراد (القطاع العائلي)
يرغب الأفراد في الاقتراض من أجل زيادة الاستهلاك الحاضر، أي بهدف الحصول على كمية من السلع في الحاضر بأكثر مما يسمح به الدخل الحالي. ويأخذ الائتمان في هذه الحالة إما شكل القرض المباشر أو عن طريق الشراء بالتقسيط. والاعتقاد السائد لدي رجال الاقتصاد (وهناك من الدلائل ما يؤيده) هو أن الكمية المطلوبة بواسطة الأفراد من الأرصدة المتاحة للإقراض تتزايد مع انخفاض سعر الفائدة.
ب – طلب الحكومة
تقوم الحكومة بطلب الأرصدة المتاحة للإقراض من أجل بناء الأعمال العامة ولمواجهة الزيادة في الاستهلاك العام. ويتوقف حجم طلب الحكومة على هذه الأرصدة على عوامل متعددة مثل الزيادة في السكان، والزيادة في حجم الإنفاق الحربي، والزيادة في الطلب على الخدمات العامة، وأيضا حجم الإيرادات العادية للحكومة. ولقد أثبتت الدراسات التطبيقية أن طلب الحكومة على هذه الأرصدة يتسم بانخفاض المرونة بالنسبة لسعر الفائدة، نتيجة تأثر هذا الطلب بعوامل أخرى كثيرة أقوى من مجرد اعتبار مستوى الفائدة.
ج – طلب المشروعات
ويمثل النسبة الكبرى من الطلب على الأرصدة المتاحة للإقراض، حتى يمكن القول بأن التغيير في طلب المشروعات. وتقوم المشروعات بطلب الأرصدة لتوقعها أن الاستثمار في السلع الرأسمالية سوق يدر عائدا يزيد على نفقات رأس المال. ويسمي هذا العائد الزائد عن تكلفة رأس المال بإنتاجية رأس المال.
ويعتبر طلب المشروعات على الأرصدة المتاحة للإقراض طلبا مشتقا من الطلب على منتجات الأصول الرأسمالية التي سوف تستخدم هذه الأرصدة في بنائها، وهو ما يعني أن الطلب على الأرصدة يتوقف على العائد منها. ومن ثم فإذا توفر لدي المشرع معلومات كافية عن فرص الاستثمار المتاحة، ومعدل العائد المتوقع من كل منها، فإنه يستطيع أن يبني جدولا يوضح حجم الأرصدة النقدية التي سيقوم باستثمارها عند كل مستوى معين للفائدة. مؤدي هذا أن طلب المشروعات على الأرصدة يتوقف على الموازنة بين معدل العائد من الاستثمار وسعر الفائدة الواجب دفعه في مقابل الحصول على الأرصدة. ومن ثم تكون العلاقة بين الطلب على الأرصدة المتاحة للإقراض وسعر الفائدة علاقة عكسية.
عرض الأرصدة المتاحة للإقراض
يقصد به التيار الجديد المتدفق من الأرصدة المتاحة للإقراض. ومن ثم لا يدخل ضمنه القروض التي تمت في الماضين والتي ما زالت قائمة في الحاضر. ولكن يدخل فيه تلك الأرصدة التي كانت في صورة رأس مال ثابت ويجري تحريرها إلى الصورة النقدية. ولا يدخل فيه الادخار الذي قام به الأفراد في الحاضر ولكن لم يتح للاستخدام، لوجود أشخاص آخرين قاموا بالادخار السالب، أي بابتلاع الادخار الموجب. ومما تقدم يتضح أن عرض الأرصدة المتاحة للإقراض يتألف من العناصر التالية، (مع الأخذ في الاعتبار بأن بعض هذه العناصر يمكن أن يكون سالبا):
1 – الادخار الجاري. أي المدخرات التي تتكون في خلال الفترة موضوع البحث.
2 – المدخرات خلال الفترات السابقة، التي استخدمت في الماضي في تكوين رأس المال الثابت والمتداول، ويتم تحريرها في الفترة محل البحث، من صورتها لتصبح متاحة للاستخدام في التكوين الرأسمالي الجديد.
3 – الاكتناز الصافي ويشمل إجمالي القروض المصرفية الجديدة (الجارية) مطروحا منها المدفوعات الجارية إلى البنوك، والتي تتم في المدخرات الجارية.
مما سبق يتبين أن عارضي الأرصدة المتاحة للإقراض هم الأفراد والحكومة والمشروعات والبنوك.
العوامل التي تؤثر في عرض الأرصدة المتاحة للإقراض:
أ – بالنسبة للأفراد
يواجه الأفراد باستخدامين محددين لدخولهم، وهما: إما الاستهلاك أو الامتناع عن الاستهلاك حاليا، أي الانتظار والادخار. ولا شك أن العوامل التي تؤثر في قرار الأفراد بالاختيارين الاستهلاك أو الادخار متعددة، مثل:
1 – القدرة على الانتظار وتتوقف على حجم الجزء من الدخل الزائد عن مستوى الاستهلاك الضروري.
2 – مدى توفر فرص استخدام المدخرات بطريقة مستقرة. تضمن الطمأنينة والامان للمدخر.
3 – مدى إلحاح الحاجات المستقبلة بالنسبة للاحتياجات الحالية. وتثير هذه القضية مسألة التفضيل الزمني للأفراد بين الاستهلاك الحاضر والمستقبل، مما دفع ببعض الاقتصاديين إلى تطبيق مفهوم سعر الخصم بالنسبة للزمن في هذا الصدد بحيث أن ادخار الفرد يكون موجبا إذا زاد سعر الفائدة الجاري عن سعر الخصم بالنسبة للزمن، ويكون الادخار سالبا إذا زاد سعر الخصم عن سعر الفائدة. ويكون الادخار صفرا إذا تساوى السعران. والقاعدة العامة أن عرض الأرصدة المتاحة للإقراض سيزيد مع ارتفاع سعر الفائدة.
ب – بالنسبة للمشروعات
مدخرات المشروعات هي الأرصدة التي تقوم بتكوينها الشركات المساهمة. وتتكون هذه الأرصدة من مخصصات الإحلال (وتتوقف على حجم رأس المال القائم، ومعدل استهلاك( فضلا عن الأرباح المحتجزة التي تمثل المصدر الرئيسي لعرض الأرصدة المتاحة للإقراض بالنسبة للمشروعات. ويتوقف حجم هذه الأرباح المحتجزة على معدل ربح المشروع، والنسبة التي يوزعها على المساهمين. وواضح أن ذلك لا يتأثر، إلى حد بعيد، بسعر الفائدة السائد.
ج – بالنسبة للحكومة
تتمثل المدخرات الحكومية (الادخار الجماعي) في الزيادة في الإيرادات الحكومية الجارية عن الإنفاق العام الجاري. وتستخدمها الحكومة في التكوين الرأسمالي وسداد القروض العامة.
د – بالنسبة للبنوك
يستطيع الجهاز المصرفي، عن طريق خلق الودائع المصرفية، من خلال التوسع في إقراض الأفراد والمشروعات، أن يزيد من حجم الأرصدة النقدية المتاحة للإقراض ويتوقف ذلك على حجم احتياطات البنوك، ونسبة الاحتياطي، والحالة الاقتصادية العامة وسياسة البنك المركزي. ويمكن القول أن ارتفاع سعر الفائدة، مع بقاء الأشياء الأخرى على حالها، يؤدي إلى زيادة حجم الودائع المصرفية، إذ أن يعني تعويض البنوك عن المخاطر المترتبة عن تقص الاحتياطي النقدي. إلا أنه بعد حد معين يصبح عرض الأرصدة المتاح للإقراض (من خلال التوسع في الودائع المصرفية) غير مرن، ذلك أن البنوك لا تستطيع أن تتجاوز قيد حجم ونسبة الاحتياطي، كما أن أهمية سعر الفائدة في توسع الودائع المصرفية يتوقف، إلى درجة كبيرة، على سياسة البنك المركزي.
خلاصة كل ما سبق، أن المحددات الأساسية لعرض الأرصدة المتاحة للإقراض هي:
1 – نسبة الادخار إلى دخول الأفراد.
2 – سياسة المشروعات العامة للدولة بين الفائض والعجز.
3 – سياسة الموازنة العامة للدولة بين الفائض والعجز.
4 – سياسة الجهاز المصرفي في خلق نقود الودائع.
ومن خلال كل المحددات السابقة يظهر أن العرض الكلي للأرصدة المتاحة للإقراض يستجيب، بلا شك، للتغير في سعر الفائدة. فارتفاع سعر الفائدة سوف يؤدي إلى زيادة ادخار الأفراد من دخل معين، وزيادة خلق الودائع المصرفية، ومن ثم تكون العلاقة بين سعر الفائدة وعرض الأرصدة علاقة طردية.
كيفية تحديد سعر الفائدة
حيث تسود المنافسة الكاملة سوق رأس المال النقدي، فإن سعر الفائدة يتحدد عند ذلك المستوى الذي يعادل بين الطلب الكلي والعرض الكلي للأرصدة المتاحة للأقراض.
2 – تقويم موقف التقليديين من الفائدة
كان “لكينز” فضل السبق في عرض النظرية التقليدية للفائدة في صورة كاملة مبسطة، وفي بيان أوجه النقد التي تؤخذ عليها. ويوجز الباحث أهم أوجه النقد هذه فيما يلي:
1 – أخذ التقليديون بفرض ثبات الدخل القومي. ولقد أودى بهم هذا الفرض الخاطئ إلى القول بأن سعر الفائدة يتحدد سعر الفائدة. إلا أن التسليم بالفرض الأكثر واقعية الخاص بتقلب الدخل الثقومي، يجعل الادخار ليس بمنأى عن تأثير تغير الاستثمار. ذلك أن أي تغير في الاستثمار يؤدي إلى تغير الدخل، وهذا يقود بدوره إلى تغير الادخار ومن هنا فإن الادخار الاستثمار ليسا بقوتين مستقلتين. وعليه لا يصح الاعتماد عليهما في تحديد سعر الفائدة.
2 – عند التقليديين تعتبر الفائدة ثمنا للادخار أو الامتناع. وقد رأى “كينز” أن هناك ادخار لا يدر فائدة، وهو يتمثل في المكتنزات. كما رأى أن هناك فائدة تتولد عن غير ادخار، ومثلها الفوائد التي تجنيها المصارف التجارية بمناسبة خلق نقود الودائع. كذلك فقد رأى “كينز” فيما يتعلق بمشكلة الربحية والسيولة الخاصة بالمصارف التجارية أن معدل العائد على أي أصل إنما يتناسب عكسيا مع درجة سيولته، وهو ما يعني اعتبار الفائدة ثمن السيولة، وليس ثمن الادخار.
3 – يرى التقليديون علاقة طردية بين سعر الفائدة وحجم المدخرات. بينما يرى “كينز” أن الادخار يتوقف على مستوى الدخل، وليس معدل الفائدة. ومن هنا خلص “كينز” إلى أنه:
أ – ليس ثمة ارتباط مباشر بين تغيرات الفائدة وتقلبات الادخار. فالمدخر الذي يوظف مدخراته إنما يتخذ قرارين منفصلين، الأول قرار الادخار، وهو يتوقف على حجم الدخلن والثاني في قرار توظيف الادخار، وهو يتوقف على معدل الفائدة المتولد عن مختلف أنواع الاستثمارات المتاحة. وتكون الخلاصة أن سعر الفائدة المتولد عن مختلف أنواع الاستثمارات المتاحة. وتكون الخلاصة أن سعر الفائدة لا يؤثر في حجم المدخرات، وإنما يؤثر فقط في شكل الاحتفاظ بهذه المدخرات.
ب – يؤكد “كينز” عكس العلاقة الطردية التي أنشاها التقليديون بين الفائدة والادخار. ذلك أن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى عرقلة الاستثمار. وهذا يؤدي بالتالي إلى انخفاض الدخل، وهو ما يتمخض بدوره عن تناقص المدخرات. وبهذا يبني “كينز” علاقة عكسية بين الفائدة والادخار. ويقلب بذلك منطق التقليديين.
4 – يرى “كينز” أن للتقليديين نظريتين فيما يتعلق بالفائدة. والأولى قالوا بها في إطار نظرية القيمة، حيث رأوا أن الفائدة تتحدد بعرض وطلب الادخار. والثانية كشفوا عنها في إطار النظرية النقدية، حيث لا حظوا علاقة عكسية بين كمية النقود وسعر الفائدة، إذ أن زيادة الكمية النقدية كانت تؤدي إلى خفض سعر الفائدة.
ومع ذلك فلم يبذل التقليديون جهدا لإزالة التعارض القائم بين النظريتين. بل إن التقليديين الجدد حينما أرادوا أن يزيلوا هذا التعارض أمعنوا في خطا أكبر حيث قالوا بوجود مصدرين رئيسيين لعرض الأرصدة للإقراض. الأول هو الادخار الأصلي والثاني هو الزيادة التي تحدث في الكمية الكلية المعروضة من النقود (ويطلقون عليها اسم الادخار الإجباري)، ثم قالوا بوجود سعر فائدة طبيعي أو محايد يحقق التوازن بين الادخار الأصلي وبين الاستثمار. وهذا يعني أن التقليديين قد أخذوا بفرض ثبات الكمية النقدية. ويعتقد “كينز” أن النظرية التقليدية تكون قد غرقت بذلك في مياه عميقة. ذلك أن فكرة الفائدة المحايدة هي من الأفكار التي لا تمت إلى الواقع بصلة، ولا تخدم علم الاقتصاد في قليل أو كثير.
5 – رأي “كينز” أن التقليدية قد فشلت في عزل المتغيرات المستقلة الأساسية للنموذج الاقتصادي. فهذه المتغيرات ليست هي الادخار والاستثمار، وإنما هي الطلب الفعال الذي يستمد استقلاله من توقفه على ثلاثة عوامل مستقلة وأساسية، وهي الميل للاستهلاك، والكفاية الحدية لرأس المال وسعر الفائدة.
6 – يرى التقليديون علاجا لمشكلة البطالةن تخفيض الاستهلاك، بما يزيد الادخار ويخفض سعر الفائدة ويحفظ الاستثمار. ولا شك في عدم صحة هذا المنطق، حيث أن انخفاض الاستهلاك يؤدي إلى انخفاض الاستثمار، ولكون الطلب الاستثماري مشتقا من الطلب الاستهلاكي الذي هو الطلب الأصلي. وليس من المعقول القول بتوسع الطلب المشتق حين انكماش الطلب الأصيل. إن هذه التعاليم قد أدت إلى زيادة مشكلة البطالة تعقيدا. وهنا يرى “كينز” أن أية سياسة رشيدة لرفع العمالة لا ينبغي لها أن ترفع أحد شقي الطلب الفعال (الاستهلاك والاستثمار) على حساب الشق الآخر.
7 – أن النظرية التقليدية للفائدة تقوم على إهمال الدور الهام الذي تأكد للمصارف المركزية في التأثير على معدل الفائدة، بما ينحو به نحو المستوى الملائم للظروف الاقتصادية السائدة، وذلك بإتباع العديد من السياسات المعروفة.
المطلب الرابع
الشيوعيون والفائدة
(1) الفائدة في الفكر الاشتراكي
إن البداية الحقيقة للتفكير الاشتراكي إزاء سعر الفائدة هي ما خلفه “ماركس” من آراء متناثرة حول هذا الموضوع، فقد كان التقليديون، الذي سبقوا “ماركس” يعيشون في ظل الآثار العظيمة للثورة الصناعية، تلك الآثار التي أدت إلى زيادة استخدام على شكل مصانع ومعدات وآلات وما إلى ذلك من السلع الرأسمالية. فلم يكن غريبا عليهم أن يحدثوا تأثيرا كبيرا في مضمون راس المال، فيعطوه أجره، كغيره من عوامل الإنتاج. ويعتبرون ذلك أمرا طبيعيا مسلما به. إلا أنهم كانوا في حيرة تجاه الأسباب والدوافع التي يستحق رأس المال من أجلها أجرا خاصا به، في حين أنه ليس عاملا أصيلا في العملية الإنتاجية فقال بعضهم بأن السبب هر الحرمان الذي يشعر به المقترض الذي يتنازل عن نقوده، وما ينشأ عن هذا الحرمان من مشقة وتضحية لا تقل أثرا عن المشقة والتضحية اللتين تبرران ما يحصل عليه العامل من أجر. وهناك من التقليديين من يبرر دفع الفائدة بتفاعل قوى عرض وطلب رأس المال.
أن هذه الآراء جميعها لم تحز القبول لدي الاقتصاديين الاشتراكيين الأوائل، وعلى رأسهم “ماكس” الذي يذهب إلى القول بأن صاحب رأس المال الغني لم يواجه أية حالة يمكن وصفها بالحرمان، ولذلك فهو لا يستحق ما يضيفه عليه المجتمع من آيات التقدير والاحترام. وأصحاب رؤوس الأموال، في رأيه، قد استغلوا العامل أسوأ استغلال فاستولوا على فائض الإنتاج كله الذي هو ناتج عمل العامل ومصدر رأس المال. ومعنى ذلك أن الرأسماليين يستولون على حق يجب أن يحصل عليه العمال. ومعنى ذلك أيضا أن الفائدة التي يستولى عليها أصحاب رأس المال يعتبرها “ماركس” نوعا من الاغتصاب والسرقة وذلك أن الفائدة هي أحد العناصر المكونة لفائض القيمة الذي يستولي عليه الرأسماليون، دون وجه حق، لأنه جزء من ناتج الطبقة الكادحة. وفي هذا المعنى يقول “ماركس”:
“إن ثروة المجتمع بأسرها تذهب إلى حوزة الرأسمالي أولا. فيدفع الإيجار لمالك الأرض، والأجور للعمال، والضريبة والعشور لمن يتولى جبايتها، ويحتفظ لنفسه بأعظم نصيب من المنتج السنوي. وهو نصيب يتزايد على الدوام. ويجوز أن نصف الرأسمالي الآن بأنه أول من يملك الثروة في الجماعة، برغم أنه ليس ثمة قانون قد أسبع عليه حق هذه الملكية. وقد حدث هذا التغيير عن طريق أخذ الفائدة عن رأس المال، ولذلك فلا عجب أن حاول كافة المشرعين في أوروبا أن يمنعوا هذا الحق عن طريق القوانين ضد الربا.
ولما كان العمال هم المنتجين الحقيقين، فإن نهب ثمرة جهدهم، بسبب إقراضهم المال اللازم للإنتاج، يعد جريمة. ومن ثم وجب أن تكون وسائل الإنتاج كلها مملوكة ملكية عامة للجماعة حتى لا يستغل القوى الضعيف.
(2) دور سعر الفائدة في التخطيط الاشتراكي
تتضح العلاقة بين الاستثمار والاستهلاك بشكل واضح، في اقتصاديات الدولية الاشتراكية، حيث تمتلك الدولة عناصر الإنتاج، ثم توزع هذه العناصر على الإنتاج الحاضر والإنتاج المستقبل. والسياسة المتبعة، في مثل هذه الأحوال، مرهونة بمشيئة مجلس التخطيط المركزي الذي يوزع الموارد لإنتاج الأنواع المختلفة من سلع الاستثمار وسلع الاستهلاك، دون أن يقوم سعر الفائدة بدور المرشد المباشر، كما هو الحال في النظار الرأسمالي. ولكن لا يعني ذلك أن هذا المجلس يوزع هذه الموارد اعتباطا. إذ أن تدبير ذلك كله يقوم على أساس من المفاضلة والاختيار. فهو يقرر أولا ما يخصص من الموارد لسد حاجات الحاضر، وما يخصص منها للاحتياط للمستقبل. أو بعبارة أخرى، فإن المجلس يحدد مقدار استهلاك المجتمع وادخاره. وهو، ثانيا، يوزع الموارد المدخرة للمستقبل على الأغراض المختلفة التي يرى أن المجتمع في احتياج لها مستقبلا. أي انه يوزع الموارد على فروع الإنتاج للمستقبل.
وإزاء هذه السياسة لا بد للمجلس أن ينشيء لنفسه سعرا للفائدة، بحيث يوازن بين العرض الكلي والمطلب الكلي لرأس المال، وعندئذ يتحتم عليه أن يضع قوائم بأسعار الفائدة بالنسبة للاستثمارات المستقبلة، ثم يدمج هذه القوائم في قائمة واحدة، تحدد الفائدة العام الذي يوازن بين عرض وطلب رأس المال. ولا يمكن تقرير ذلك كله إلا إذا توافرت للمجلس إحصاءات دقيقة وإلمام تام بالموقف الاقتصادي للدولة.
ورغم أن المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي هو الذي يقوم بتحديد سعر الفائدة، إلا أن العوامل الأساسية التي تسيره، ولو عن طريق غير مباشر، يجب أن تكون هي نفسها المتبعة في النظام الرأسمالي. فيجب أن يستمر تحديد سعر الفائدة عن طريق العرض والطلب والعوامل المواجهة لهما. كما أن الطلب على رأس المال يجب أن تحكمه تكلفة ونفع الأدوات الرأسمالية، وهذه بدورها، تتأثر دائما بالمخترعات الحديثة، وبالتغيرات التي تطرأ على عرض العمل.
غير أن العوامل التي تكمن وراء عرض رأس المال في النظام الاشتراكي تختلف عنها في نظام رأسمالي. فعرض رأس المال في النظام الأول يتحدد بواسطة التشريع القومي، أي بما تراه السلطات الاقتصادية والمصرفية في الدولة. أما في النظام الرأسمالي فيحدده المنظمون الفرديون واتجاهاتهم المستقبلة. وعندما تحدد هذه السلطات الاشتراكية مقدار المعروض من رأس المال، فإن ذلك يعني أنها تحدد حجم المدخرات في المجتمع. وهي غالبا ما تلجأ إلى إجبار العمال على ادخار جزء من دخلهم، سواء رغبوا في ذلك أم لا، فتقيد لكل عامل حسابا دوريا بمبلغ يتراوح ما بين 10% إلى 30% من دخله خلال فترة معينة.
ويتوقف الحجم الكلي للادخار في الدولة الاشتراكية على مقدرتها على الإنتاج. فكلما زادت هذه المقدرة أمكن توسيع مدى الادخار والاستثمار. ذلك أن الحاجات الحاضرة أشد إلحاحا من الحاجات المستقبلة. ولا يمكن التفكير في المستقبل ما لم تكن الموارد من الكثرة بحيث تقلل من إلحاح حاجات الحاضر، بدرجة يبدو معها إلحاح حاجات المستقبل اشد. وإذا كانت مقدرة المجتمع الاشتراكي على الإنتاج كبيرا، زاد ذلك الجزء من الموارد المخصصة للاحتياط للمستقبل، أي زاد الادخار. أما إذا كان مقدار الإنتاج قليلا، كما هو الحال في أي مجتمع أخذ في النمو، فلا بد أن تقل القدرة على الادخار، حيث يكون الجزء الأكبر من الموارد موجها لإشباع حاجات الاستهلاك الحاضرة.
وإذا انتهى المجلس الاقتصادي المركزي من تعيين حجم المدخرات، أي كمية عناصر الإنتاج التي سوف تخصص للإنتاج السلع الإنتاجية، كالمصانع والآلات والسكك الحديدية وما إذى ذلك، تعين عليه أن يوزعه على أنواع الاستثمار المختلفة. ولا بد أن تنشا هنا صعوبة عملية: فبأي دليل يمكن للمجلس أن يسترشد في هذا التوزيع؟، وكيف يفاضل بين بناء جسر وبين مد خط حديدي أو إنشاء مصنع؟.
عن سعر الفائدة الضمني لا بد أن يساعد في هذا السبيل، ولنفرض أن نقلد الأفراد والسلع البضائع عبر نهر معين يكلف الدولة سنويا نفقات معينة. ولنفرض أن بناء جسر يكلفها عشرة أمثال هذه النفقات السنوية، بمعنى أن بناءه يوفر على الدولة 1/10 تكاليفه سنويا. وإذا صرف النظر عن استهلاك الجسر، أمكن القول بأن هذا الجسر يعود بدخل 10% من تكاليفه، أو بعبارة أخرى، أن سعر الفائدة في هذا الفرع من فروع الاستثمار هو 10% سنويا. ومن الواضح أن عائد الاستثمار يختلف بين نمط استثماري وآخر. فبعض الأعمال توفر 30% من تكاليف إنشائها سنويا، بينما أعمال أخرى توفر 10%، وغيرها توفر 20% وهكذا. أي أن الفائدة تختلف أنواع الاستثمار. ومن هنا يمكن اعتبارها نبراسا يهتدي به المجلس الاقتصادي المركزي في توزيع الموارد المستثمرة على الأغراض المختلفة، حيث يبدأ بالأعمال التي توفر نسبة أكبر من تكليفها السنوية، أي تلك الأعمال التي تغل فائدة أعلى، ثم تتبعها الأعمال التي تعطي نسبة أقل. وهكذا حتى يتم توزيع كافة الموارد المتاحة. فإذا فرض أنه عند هذا الوضع كان معدل الفائدة 5%، فيكون هو معدل الفائدة في هذا المجتمع الاشتراكي. ومعنى ذلك أنه في مثل هذا المجتمع لا تقوم الدولة بالإنتاج الاشتراكي. ومعنى ذلك أنه في مثل هذا المجتمع لا تقوم الدولة بالإنتاج للمستقبل إلا إذا كان ذلك الإنتاج يوفر عليها 5% من تكاليفه على الأقل.
وعلى هذا يتوقف سعر الفائدة المجتمع الاشتراكي على عاملين: أولهما كمية المدخرات، والثاني هو عائد الاستثمار. ومن الواضح أنه كلما زادت كمية المدخرات كلما أمكن توجيهها نحو أغراض تأتي بعائد أقلن أي كلما قل سعر الفائدة.
ولكن ينبغي التأكيد على عدم وضوح الدور الذي يلعبه سعر الفائدة في النظام الاشتركاي وذلك على العكس من الدور الفعال الذي يقوم به في النظام الرأسمالي. ولا بد أن يكون لذلك أثره في قيام العقبات أمام مجلس التخطيط الاقتصادي، إزاء مشكلة توزيع الموارد. ومع ذلك فمن الممكن التغلب على هذه الصعاب إذا ما وضع المجلس لنفسه سعرا حسابيا افتراضيا للفائدة واستخدام هذا السعر التقريبي كمرشد له في توزيع الموارد وذلك بنفس الطريقة التي يوجه بها المنظم الرأسمالي استثماراته في أوجه النشاط المختلفة ولا بد أن يخضع هذا السعر الافتراضي لمبدأ التجربة والخطأ المعمول به في النظام الاشتراكي، وسيكون هو السعر الذي يؤدي بالصناعات المختلفة إلى التوازن السوقي دون حدوث عجز أو فائض في ذلك الجزء من الدخل القومي الموجه إلى الاستثمار. وبعد أن – تستقطع الدولة المبلغ الذي قررت استثماره في التسلح وغير ذلك من الأغراض العامة.
ولعل المثال العملي السابق ينطبق أكثر على نظام التخطيط السوفيتي.
(3) سعر الفائدة في الجهاز المصرفي السوفيتي
يوجد في الاتحاد السوفيتي ثلاثة أنواع من البنوك هي بنوك الاستثمار وبنوك الدولة وبنوك الادخار الحكومية.
أما بنوك الاستثمار فهمتها الأساسية القيام بعمليات الائتمان طويلة الأجل، أي تموي المشروعات الجديد في المرحلة الأولى لإنشائها. وتتكون موارد هذه البنوك من الضرائب وإبداعات هيئات الادخار والتأمين، وما يتجمع لديها من أرباح المشروعات وحصيلة سندات الحكومة. وعند إقامة مشروع جديد تتولى هذه البنوك عملية إنشائه. إما في شكل قرض يكون المشروع ملزما بسداده مع فوائده، خلال فترة طويلة. وإما في شكل إعانة أو هبة لا يكون المشروع ملزما بردها.
أما بنك الدولة فهو تابع لوزارة المالية، وله فروع تنتشر في جميع أنحاء البلاد. ومهمته الرئيسية تلقي إيرادات المنشآت ودفع نفقاتها، بالإضافة على ذلك يمنع بنك الدولة قروضا قصيرة الأجل، لا تزيد مدتها عادة عن ثلاثة أشهر، تسدد بفائدة تتراوح بين 2، 4%.
أما بنوك الادخار الحكومية فمهمتها الأساسية تلقي مدخرات الأفراد والهيئات. وقد تودع هذه الأموال في حساب جار، دون فائدة، كما تودع في حساب ادخاري بفائدة تتراوح بين 3، 5%.
المطلب الخامس
المدرسة النمساوية والفائدة
تعرف النظرية النمساوية للفائدة بنظرية “آجيو”. وهي في الغالب من وضع الاقتصادي “بوهم بافرك”.
والواقع أن عددا من المؤثرات قد أسهم في تكوين نظرية “بافرك” عن الفائدة اولها الرغبة في تطبيق أسلوب التحليل الحدي على مشكلة الفائدة. وثانيها الرغبة في إبراز النظريات التقليدية الجديدة، الإنجليزية والألمانية، عن الإنتاجية الحدية ورصيد الأجور. وثالثهما، وهو الأهم، الرغبة في تحطيم النظرية الماركسية التي كان قد تعاظم تأثيرها بدرجة بالغة في أوروبا.
وقبل عرض صلب النظرية، يحسن التمهيد لها بتقديم تعريف رأس المال وأسلوب دورة الإنتاج عند “بافرك”.
ففي رأيه أن رأس المال ليس إلا عنصرا إنتاجيا مركبا من بعض المنتجات والموسيطة، ومخصصا لتحقيق المزيد من الإنتاج. وبعبارة أوضح، فإن رأس المال ليس إلا عملا مدخرا وموارد طبيعية مدخرة.
وطريقة الإنتاج الرأسمالي عند “بافرك” هي التطور الأصلي. أما رأس المال ذاته فهو تصور ثانوي. والطابع الجوهري المميز للإنتاج الرأسمالي هو طابع استخدام الزمن. وهذا الطابع ينصرف إلى اختيار أساليب دورات إنتاج منتخبة بحكمة. ويتم اختيار أساليب الدورة الإنتاجية تبعا لمقدرتها الفائقة على الإنتاج. ومقارنتها بغيرها من الدورات الممكنة.
“في الإمكان إنتاج سلع أوفر أو أفضلن بطريقة رأسمالية مختارة بحكمة، بواسطة قوى إنتاجية أصيلة (عمل وقوى طبيعية ذات قيمة)، وبتكاليف مساوية لتكاليف الإنتاج المباشر غير المعان. إلا أنها أكثر إنتاجا من الطريقة الأخيرة”.
ويعني “بافرك” بما تقدم أن تقدم المدينة المضطرد إنما يسير في اتجاه تزايد أهمية عنصر رأس المال في إطار العملية الإنتاجية بهدف زيادة كفايتها. وطبقا لرأي “بافرك” ينحصر كل تقدم الحضارة، من جانبه المادي، في اقتباس أساليب “غير مباشرة” للإنتاج. فمن عمل العدد والأدوات البسيطة إلى استخدام أعظم الآلات الحديثة اتقانا، كان معنى التقدم هو الإقدام على حشد المراحل الإنتاجية الوسيطة بين العوامل الأصيلة وسلع الاستهلاك التامة الصنع.
إن الإسهام العظيم الذي قدمه “بافرك” في إطار نظرية الفائدة ورأس المال هو إدراكه للأسلوب الرأسمالي للإنتاج على أنه طريقة لاستهلاك الزمن. ورأيه في رأس المال أنه ليس سوى سلعة وسيطة.
ويقبل الباحث بذلك على جوهر النظرية. ويمكن، بلا مشقة، تقسيم النظرية إلى شطرين: الأول خاص بتبرير الفائدة، والثاني متعلق بتحديد معدلها.
وفيما يتعلق بتبرير الفائدة، يرى “بافرك” أن الإنتاج غير المباشر يخلق طلبا على رأس المال، كما تصبح وسائل العيش مطلوبة (إما بشكل مباشر أو في صورة نقدية) للإبقاء على ملاك العوامل خلال الوقت الذي يجب أن ينقضي قبل أن تتوفر سلع استهلاكية جديدة. والإنتاجية الكبيرة لأساليب اللإ،تاج (الرأسمالية الطابع) تجعل في الإمكان عرض ثمن حتى يتسنى التغلب على الفارق الزمني بين السلع الحاضرة والمستقبلة. وهذا هو مؤدى السبب الذي يتعين من أجله أداء الفائدة، وهو نفس السبب الذي يجعل في الإمكان أداءها. ولقد قدم “بافرك” هذا التفسير ليثبت أن الفائدة ظاهرة طبيعية، أي ضرورة لا يستطيع حتى الاقتصاد الاشتراكي الفرار منها.
فعند “بافرك” تعتبر الفائدة، قبل كل شيء، ظاهرة مقايضة. وهو يجد سبب الفائدة في حقيقة كون البشر يفضلون السلع الحالية على السلع المستقبلة المماثلة لها نوعا وعددا. ويترتب على هذا أن تكون القيمة الحقيقية للسلع الحالية أكبر من القيمة الحقيقية للسلع المستقبلة المماثلة لها نوعا وعددا. بمعنى أنه يوجد “فرق سعر” بين الطائفتين من السلع، يتحمله الشخص الذي يريد أن يضحي بالسلع المستقبلة في سبيل الحصول على السلع الحالية. وبالعكس، يحصل عليه الشخص الذي يتنازل عن السلع الحالية، ويقبل انتظار السلع المستقبلة. وفرق السعر هذا يعرف باصطلاح (Agio).
ويمكن تصوير هذا المعنى بمثالة مبسط، بافتراض أن شخصا قد اقترض مبلغ مائة جنيه وتعهد بسدادها مائة وعشرة بعد سنة. إن هذا المثال خاص بمقايضة مال حال بمال مستقبل ومؤدى المقايضة الساقة أن مائة جنيه حاضرة تساوي مائة وعشرة مستقبلة، تحين بعد سنة. وكأن الجنيهات العشرة الزائدة إنما تعادل الفرق بين قيمة المال الحالي وقيمة المال المؤجل لسنة، وذلك من الوجهة النفسية، لا من الوجهة الحسابية. وهذا الفرق هو “أجيو” (الفائدة). وبعبارة أخرى، فإن الفائدة هي فرق السعر لمبلغ معين من تاريخ إقراض لحين سداده. وهذا يعني أن قرضا يماثل تماما البيع بأقل من سعر السوق.
إن “بافرك” يقدم ثلاثة أسباب لتفسير تفضيل الناس للسلع الحالية على السلع المستقبلة، وهي:
1 – بخس تقدير قيمة المستقبل. وهذا يرجع إلى:
أ – انعدام التصور.
ب – ضعف الإرادة.
ج – عدم الاطمئنان إلى الحياة… الخ.
2 – الفوارق في الاحتياجات وشروطك الاحتياجات. فالمحتاجون حاليا يفضلون الثروة الحالية على الثروة المستقبلة.
3 – التفوق الفني للسلع الحالية، حيث يمكن استخدامها، في التو، لإنتاج مزيد من الثروة. مع مراعاة أن الإنتاجية الحدية للسلع الحالية أعظم من الإنتاجية الحدية للسلع المستقبلة.
ويقول الباحث بعدم صحة نمط الاختيار الخاص بتفضيل الأفراد للإشباع الحاضر على الإشباع المستقبل. ذلك النمط الذي يجعل منه “بافراك” اتجاها عاما لدي البشر، اتجاها يخول تقاضي الفائدة. فالواقع أن الأغلبية الساحقة من البشر يضيقون على أنفسهم في الحاضر لإشباع حاجاتهم المقبلة التي يكون تصورها الذهني أكبر وأهم من مجرد الأحوال الحاضرة، وذلك كيما يقضي الأفراد أيامهم الباقية من الحياة في طمأنينة وهناء، بأكثر من الحياة الحاضرة.
أما الشق الثاني للنظرية، (وهو الخاص بتحديد معدل الفائدة) فبصدده يرى “بافرك” أن هناك ثلاثة عوامل تؤثر في معدل الفائدة هي.
1 – المقدار المتوفر من الموارد الطبيعية، فضلا عن الأرصدة المالية المتاحة للإقراض.
2 – عدد المستثمرين (أي المقترضين) الذين يتزودون من الموارد السابقة.
3 – حالة بيع فائض العائد، حسب درجة الإنتاجية المتصلة بالتوسع المتزايد لطريقة الإنتاج الرأسمالي.
ويتحدد معدل الفائدة بالإنتاجية الحدية لرأس المال. وطالما أن هذه الإنتاجية تنخفض كلما طالت دورة الإنتاج، وطالما أن السمة الحاضرة لأسلوب دورة الإنتاج (طريقة الإنتاج الرأسمالي الحالي) هي أن مراحلها الوسيطة آخذة في الازدياد أكثر فأكثر، لهذا يجب أن يقل معدل الفائدة أكثر فأكثر.
والحقيقة أن النظرية التي قدمها “بافراك” وهي نظرية “الإنتاجية الحدية لرأس المال” تؤكد خطورة رأس المال تؤكد خطورة عنصر الزمن بالنسبة لأسلوب الإنتاج. وأغلب أتباع “بافرك” والمدرسة النمساوية اليوم، يتقبلون لدي فريق الاقتصاديين النمساويين.
ولقد أكمل النظرية التي قدمها “بافرك” اقتصادي سويدي بارز، هو “كنت فيكسل” حيث أثبت الأخير أن “الفائدة هي الفرق بين الإنتاجية الحدية للاستخدامات المباشرة وغير المباشرة لعوامل الإنتاج” وتوضيح ذلك أنه حين تحدث زيادة ما في رأس المال، فإن مختلف أنواع الاستثمارات الرأسمالية الموجودة لا تزيد بنسبة واحدة، ولكن تتغلب الاستثمارات الأطول نسبيا. وأنه من خلال هذا تتم مقاومة الزيادة في الأجور وأسعار الخدمات الأصلية الناتجة عن زيادة رأس المال.
إن أهم إسهام قدمه “فيكسل” في نظرية الفائدة ورأس المال، هو أنه حاول أن يبرهن على وجود علاقة بين معدل الفائدة ومستوى الأسعار. وكان بذلك أول من سلم بالصفة المالية لمعدل الفائدة.
المطب السادس
كينز ونظرية الفائدة
(1) كيفية تحديد سعر الفائدة
أخذ “كينز” الفائدة ثمنا للنزول على السيولة، أي ثمنا لإقراض النقود، وفي عبارة أكثر إيجازا أعتبر “كنيز” الائدة ثمنا للنقود. ومن ثم فهي تتحدد، وكأي ثمن، بعرض وطلب النقود أي بالكمية النقدية وتفضيل السيولة.
(أ) الكمية النقدية
يقصد بها وسائل الدفع بجميع أنواعها. وتتألف من البنكنوت الصادر عن المصرف المركزي والعملات المساعدة (المعدنية والورقية)، وتصدرها الخزانة العامة، ثم النقود المصرفية أو الكتابية، أو نقود الودائع، وتخلقها المصارف التجارية.
ويعود تحديد الكمية النقدية إلى السلطات النقدية، وهي ثلاثة: المصرف المركزي والخزانة العامة والمصارف التجارية.
ويمكن في ظل النظم المصرفية المعاصرة اعتبار الكمية النقدية عديمة المرونة بالنسبة لحركات سعر الفائدة، وهو ما يبرر رسم منحنى عرض النقود موازيا لمحور سعر الفائدة. ومعنى ذلك أن سياسة السلطات النقدية، في تحديد عرض النقود، إنما تستند أساسا إلى اعتبارات أخرى أقوى من سعر الفائدة مثل أثر الكمية النقدية على مستوى الأسعار، ومرحلة الدورة الاقتصادية (حالة النشاط الاقتصادي)، ومعدل النمو ومستوى الرفاه الاقتصاديين. وهذه كلها اعتبارات تبرز، بصفة أساسية، في حالة تملك الدولة للجهاز المصرفي.
(ب) تفضيل السيولة
يقصد “كينز” بتفضيل السيولة البواعث التي تحمل الفرد (أو المشروع) على الاحتفاظ بالثروة في شكل سائل. وقد حدد “كينز” هذه الدوافع بثلاثة، هي:
1 – دافع المعاملات
ويقصد به رغبة الأفراد في الاحتفاظ بنقود سائلة، لإجراء النفقات الجارية خلال فترة المدفوعات، أي الفترة التي تمر بين تلقي جرعتين من المدفوعات من نفس النوع. وكذلك رغبة المشروعات في الاحتفاظ بالنقود السائلة لدفع نفقات التشغيل، مثل ثمن المواد الأولية وأجور العمال، وإيجارات العقارات والضرائب وغير ذلك.
2 – دافع الحيطة
ويقصد به رغبة الأفراد (أو المشروعات) في الاحتفاظ بنقود سائلة لمقابلة الحوادث غير المتوقعة، مثل المرض، أو الإفادة من الفرص غير المتوقعة، مثل انخفاض أثمان بعض السلع.
ويطلق على الطلب على النقود بدافعي المعاملات والاحتياط، اصطلاح “الطلب على الأرصدة العاملة أو النشطة” (Demand For Active Balances)
باعث المضاربة
ويقصد به رغبة الأفراد والمشروعات في الاحتفاظ بالنقود السائلة للإفادة من تقلبات أسعار الأوراق المالية. ويطلق على هذا النوع من الطلب النقدي اصطلاح “الطلب على الأرصدة العاطلة أو الخاملة” (Demand For Idle Balances)
ويتوقف الطلب على الأرصدة العاملة (تفضيل السيولة بدافع المعاملات والاحتياطات) في الظروف العادية، على مستوى النشاط الاقتصادي، وعلى حجم الدخل الاسمي، وبالتالي على مستوى العمالة (مستوى الطلب الفعال) وعلى المستوى العام للأثمان. وهو ما يعني أن هذا الجزء من تفضيل السيولة غير مرن بالنسبة لتغيرات سعر الفائدة، ولا يقدم بالتالي أداة لإحداث التغييرات المطلوبة في سعر الفائدة. كما أن تغييره يتطلب وقتا طويلا عادة.
أما فيما يختص بالطلب على الأرصدة العاطلة (تفصيل السيولة بدافع المضاربة)، فقد خلص “كينز” بخبرته، إلى أنه يتأثر عادة، بصفة مستمرة، بحركة سعر الفائدة، كما تحددها أسعار السندات والديون. وهذا ما يفسر الأهمية التي خلعها “كينز” على باعث المضاربة، إذ أنه يعتبر الباعث الوحيد الذي يتغير تغيرات واسعة في الفترة القصيرة والذي يستطيع بذلك أن يؤثر على سعر الفائدة. أي أنه يشكل وحده، ودون غيره من بواعث تفضيل السيولة، أداة سهلة الاستخدام للتأثير في سعر الفائدة.
ويتحدد سعر الفائدة، عند كينز، بعلاقة الكمية النقدية بتفضيل السيولة. أي بنقطة تقاطع منحنى عرض النقود بمنحنى الطلب عليها.
(2) كينز ومشروعية الفائدة
يقف “كينز” موقفا معاديا من مبررات دفع الفائدة. ويتضح هذا الموقف من الملاحظات التالية:
1 – يرى “كينز” خطأ المذهب المارشالي القديم الذي يطلب بالمحافظة على سعر الفائدة مرتفعا بحجة خلق وتدعيم الحافظ على الإدخال. حيث يقرر “كينز”.
أ – أن حجم الإدخال إنما يتعدل وفقا لمعدل الاستثمار. وأن معدل الاستثمار يتناسب عكسيا مع سعر الفائدة. وينتج عن ذلك أن يكون من صالح الجماعة أن تهبط بسعر الفائدة بحيث يتعادل مع معدل الكفاية الحدية لرأس المال. وأن تستمر في المحافظة على هذا التعادل حتى تتحقق العمالة الكاملة. ولما كان الاتجاه الطبيعي لمعدل الكفاية الحدية هو الانخفاض بسبب تراكم الزيادات الرأسمالية المتتالية، فإن سعر الفائدة ينبغي له أن يهبط إلى مستوى لم يسبق له بلوغه من قبل، إذ ما أرادت الجماعة تحقيق العمالة الكاملة لمواردها (ما لم تحدث تغيرات كبيرة في الميل للاستهلاك، وحتى لو حدثت فإنها سوف تؤدي إلى زيادة مشكلة التشغيل تعقيدا، بسبب زيادة المدخرات مع اغتناء الجماعة كلما اقتربت من حالة العمالة الكاملة، وهو ما يستدعي ضرورة إحداث تخفيض أضخم في سعرا لفائدة لحفظ الاستثمار للتعادل مع القدرة المتزايدة على الادخار، في ظل الجماعة الغنية).
ب – يرفض “كينز” الزعم التقليدية القائل بأن الزيادة في المدخرات تعتبر عاملا ضروريا لنمو النشاط الاقتصادي. فهو يقول “أنه ما دام توقع الاستهلاك يكون سببا في توظيف رأس المال، فلا ينبغي أن يكون ثمة تناقض في استنتاج أن كفاءة الاستهلاك المتناقصة بسبب زيادة الميل للإدخال، لها أثر مثبط على توظيف رأس المال”.
ج – ويرى “كينز” أن ارتفاع سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة الادخار من “دخل معلوم” – أي يؤدي إلى ارتفاع الميل للادخار، ولكنه يخفض من الإجمالي الفعلي للمدخرات لأن الدخل سوف يهبط قصرا، بسبب انخفاض الحافز للاستثمار نتيجة لارتفاع سعر الفائدة.
ويدعم “كاسل” رأي “كينز” السابق بقوله “بينما يكون من غير المؤكد أن المبلغ المدخر من إيراد معلوم يزداد حتما بارتفاع معدل الفائدة، فإن أحدا لا يشك في أن قائمة طلبات الاستثمار تنكمش مع ارتفاع معدل الفائدة”.
2 – يرى “كينز” أن المبرر الوحيد لدفع الفائدة هو الندرة المصطنعة لرأس المال وهو يشبه الفائدة بالنسبة لعنصر رأس المال، في هذا الصدد، بالريع بالنسبة للأرض، حيث أن مالكي الأرض الزراعية يحصلون على ريع بسبب ندرتها. ومع التسليم بأن الفائدة هي ثمن ندرة رأس المال، وأن الريع هو ثمن ندرة الأرض، فإن هناك فارقا خطيرا بينهما. ذلك أن بينهما توجد أسباب ذاتية وحقيقية لندرة الأرض، فليس هناك أبدا من أسباب ذاتية لندرة رأس المال، ولا سيما في الفترة الطويلة. ولن يقوم سبب ذاتي لندرة رأس المال بحيث ينطوي إقراضه على تضحية حقيقية، إلا إذا كان الميل الفردي للاستهلاك في وضع يجعل الادخار الصافي صفرا، قبل ان يصبح رأس المال متوفرا بالدرجة الكافية لتحقيقي العمالة الكاملة. وحتى في هذه الحالة، فإنه يمكن للدولة أن تحتفظ بالادخار الجماعي عند المستوى الذي يسمح بنمو رأس المال إلى المستوى اللازم لتحقيق العمالة الكاملة.
وخلاصة رأي “كينز” في هذا الصدد، أن الأصول الرأسمالية تغل عائدا فوق تكاليفها بسبب الندرة المصطنعة من جانب أصحاب هذه الأصول، وبحيث أنه إذا انتفت هذه الندرة، وأصبحت الأصول متوفرة، فإن عائدها سوف ينخفض إلى الصفر، على الرغم من أنها لن تصبح بذلك أقل إنتاجية. والسبب والوحيد لبقاء الأصول الرأسمالية نادرة يكمن في أن سعر الفائدة على النقود يقوم بديلا مريحا لأصحاب رأس المال. بل إنه قد يصبح أكثر ربحية من معدل الكفاية الحدية المتوقع من تكوين الأصول الرأسمالية الجديدة. ولما كانت الفائدة نوعا من الاحتكار الذي يمارسه أصحاب الأموال، فإنها تؤدي إلى ندرة مصطنعة في الأصول، وتعقد مشكلات العمالة.
ويلمس الباحث بين طيات الأفكار السابقة نقدا أكيد للنظام الرأسمالي. حيث يرى “كينز” أن الفائدة، وهي تدفع مقابل استخدام النقود، تكون مكافأة لا تقابلها تضحية حقيقية ومن ثم فهي تعتبر دخلا تم اكتسابه بغير جهد وتشكل بذلك نوعا من الدخول الطفيلية الناشئة عن الاحتكار الوظيفي، حيث يجني مالكو النقود ثمار دخل لم يعملوا من أجله، وإنما سرق من مجتمع اقتصادي رتب بأسلوب رأسمالي، يجعل من أولئك الذي لديهم فائض من المال في وضع لا بد من رشوتهم ليتناولوا عنه إلى أولئك الذين لديهم فائض من المال في وضع لا بد من رشوتهم ليتنازلوا عنه إلى أولئك الذين سوف يستخدمونه استخداما يعود بالنفع الاجتماعي العام.
ومن هنا ينادي “كينز” بإلغاء الفائدة على رأس المال. وفي فترة الانتقال لا يرى إطلاقا ضرورة الإبقاء على سعر الفائدة مرتفعا، حيث لا علاقة البتة بين سعر الفائدة وحجم المدخرات.
3 – يسلم “كينز” بأن معدل الفائدة في مجتمع حسن الإدارة يمكن أن يكون صفرا. وهو يسلم في الوقت نفسه بأنه في وسع الناس أن يكسبوا المال من العمل.
“إن مجتمعا حسن الإدارة، مزودا بالموارد التكتيكية الحديثة، لا يتزايد فيه السكان بسرعة، ينبغي أن يكون قادرا على خفض معدل الكفاية الحدية في توازن مع سعر الفائدة إلى مستوى الصفر تقريبا خلال جيل واحد. حتى يمكن الوصول إلى ظروف مجتمع شبه مستقر، حيث لا يكون التغير والتقدم إلا نتيجة للتغيرات الفنية والذوقية والسكانية والمذهبية، مع بيع منتجات راس المال بسعر يتناسب مع العمل، وتكون متضمنة إياه على أساس من نفس المبادئ التي تحكم أسعار السلع التي لا تدخل رؤوس الأموال فيها بدرجة يؤبه لها..
“لو أنني على صواب في افتراض أنه من السهل نسبيا توفير السلع الرأسمالية لتكون الكفاية الحدية صفرا، فلعل هذه تكون أحكم الطرف للتخلص التدريجي من كثير من السمات الكريهة للرأسمالية. لأن قليلا من التفكير سوف يبين لنا أية تغيرات اجتماعية ضخمة تنتج عن الاختفاء التدريجي لمعدل العائد على الثروة المكدسة ومن الممكن أن يظل الإنسان حرا في أن يكدس دخله المكتسب، مع وجود فكرة إنفاقه في زمن لاحق، لكن تكديسه لن ينميه. سوف يكون ببساطة في موقف البابا حمل معه، لما اعتزل السبل صندوقا مليئا بالجنيات إلى داره في تويكنهام، وراح يدفع نفقات أهل منه حسب الحاجة..
“رغم أن ذوي الأملاك سوف ينقرضون، فإنه سيظل مع ذلك مكان للعمل وللمهارة في تقييم الريع المرجو، والذي يمكن أن تختلف حوله الآراء. إن ما سبق يتصل أصلا بمعدل الفائدة البحث على حدة. دون أي اعتبار لجعل المخاطرة وما شابهها. ولا يتصل بالريع الفاحش للأصول التي يشتمل عائدها على مقابل المخاطرة.
4 – يعتقد “كينز” أن أحد الأسباب الرئيسية لفقر الموارد في العالم، هو فرق السعر المرتفع المتعلق بالمال. وكون العالم سيظل، بعد عدة الآف من السنين من الدأب على الادخار الفردي، على درجة من الفقر كحالته الآن، مع وجود الأصول الرأسمالية المكدسة ينبغي في رأي “كينز” ألا يعلل بالنزعات البشرية الجزافية، ولا حتى بالآثار المدمرة للحروب. ولكنه يعلل بالفروق المرتفعة لأسعار السيولة المتعلقة بملكية الأرض سابقا، وبملكية المال حاليا.
إن بلدان عديدة قد قاست من الجشع المفرط في إقراض المال. إن تاريخ أسبانيا الاقتصادي في الجزء الأخير من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن السادس عشر يمدنا بمثال لبلد دمرت تجارته الخارجية بسبب تأثير الانسياب الشديد للمعدن النفيس على وحدة الأجر. وبريطانيا العظمى في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى تمدنا بمثال لبلد وقفت فيه تسهيلات الإقراض الأجنبي الهائلة، وشراء الممتلكات في الخارج، عائقا في وجه هبوط المعدل المحلي للفائدة، الأمر الذي كان مطلوبا لتأمين توظيف رأس المال بالكامل في الداخل. وتاريخ الهند في جميع العصور يزودنا بمثال لبلد أفقره تفضيل السيولة. تلك العاطفة التي بلغت أوج الاحتدام، حتى أنه لا يكفي حدوث تدفق هائل دائم من المعادن الثمينة، لكي ينخفض معدل الفائدة إلى مستوى يتفق مع نمو الثروة الحقيقية.
5 – ويناقش “كينز” الوسائل الكفيلة بإلغاء سعر الفائدة. وهذا، كما أشار، يمكن تنفيذه، بجعل المال يتحمل تكاليف حيازته. وهو يستعرض، بهذا الصدد، اقتراح الاقتصادي “جيسيل”. صفحة 56
فقد رأى “جيسيل” أن وجود معدل فائدة نقدي مرتفع إنما يعرقل تكوين رأس المال الحقيقي ويعوق نموه. وتفريعا عن هذا، فإنه لو أزيلت هذه العقبة، فإن تراكم رأس المال الحقيقي سوف يتحقق بمعدل أسرع. وهو لا يسلم بوجود ما يمنع من أن يصير معدل الفائدة صفرا، وفي وقت قصير. ولتحقيق هذا الهدف اقترح “جيسيل” الأخذ بفكرة جديدة تتصرف إلى إيجاد نقود يطلق عليها، Stamped- Money ووفقا لهذا الاقتراح يشترط، كي تحتفظ النقود الورقية بقيمتها، أن يلصق بها حائزوها شهريا طوابع خاصة بهذا الغرض تباع في مكاتب البريد. أما ثمن الطابع فيمكن تحديده عند المستوى المناسب.
وقد بارك “فيشر” هذا الاقتراح، كما أقر “كينز” بسلامته، وبإمكان تطبيقه عمليا في الحياة. ووفقا لنظرية “كينز” يجب أن يكون ثمن الطابع معادلا تقريبا للزيادة في معدل الفائدة النقدي عن الكفاية الحدية للاستثمارات الجديدة اللازمة لتحقيق العمالة الكالمة. وقد قدر “جيسيل” تكلفة الطابع بحوالي 5.2% سنويا. وإن نظر “كينز” إلى هذا الرقم على أنه مرتفع جدا في ظل الظروف المعاصرة له. وعلى أي حال فإنه يرى أن الرقم الصحيح لا يمكن تحديده بسهولة أو بدقة. بل إن هذا الرقم يتغير من فترة لأخرى، ومن مكان لآخر، حسب الظروف.
وأخيرا يأخذ “كينز” على اقتراح “جيسيل” أنه يسلب النقود أهم خاصية ذاتية لها، ألا وهي صفة السيولة، عن طريق نظام الطوابع، ومن ثم فإن سلسلة طويلة من بدائل النقود (كالنقود المصرفية والنقد الأجنبي، والديون تحت الطلب والمعادن النفسية والحلي) يجب أن تعامل بالمثل.